64

Hilm Caql

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

Genres

طبقا لما قلت سيبدو أن لدي فما أقبح من فم الحمار.

كريتوبيولوس :

لم أعد أطيق مجادلتك، دعهم يوزعوا أوراق التصويت.

بالطبع خسر سقراط التحدي؛ فقد علم أنه لا يمكن أن يوصف بحسن الهيئة، وكان الأمر كله محض مزاح. ولم يكن هذا النقاش (المأخوذ من محاورة لأحد المعجبين الآخرين وهو زينوفون) ليبكي ألسيبيادس إلا ضاحكا، كما لا يظهر النقاش سقراط وهو في قمة تعقيده، بل على العكس من ذلك تماما فهذا سقراط المبتدئ. ولكن اللافت أن هذا المزاح يظهر فيه الكثير من شخصية سقراط الذي يراه الناس في المناقشات الفلسفية الأعمق والأشهر التي رواها أفلاطون في محاوراته.

في البداية نتناول أسلوب الاستجواب المميز لسقراط، فبدلا من تقديم أطروحته يترك سقراط منافسه ليفعل ذلك وعندها يستنبط النتائج. وكعادة سقراط تبدأ المناقشة بطلب تعريف مبين لما تجري مناقشته، وهو الجمال في هذه الحالة. ويبتلع كريتوبيولوس الطعم ويقدم تعريفه قائلا «(الأشياء) جميلة وجيدة إذا ما أحسن صنعها للأغراض التي نمتلكها لأجلها أو إذا ما كانت مهيأة بطبيعتها لتلبية احتياجاتنا.» وعندئذ يسحب سقراط خيط الموضوع تجاهه فلا يجد أية صعوبة في إثبات أنه إذا كان هذا هو الجمال فهو نفسه جميل، فحيلة سقراط في لعبة الجدل هي تفنيد ادعاءات الآخرين.

وتوضح تلك المنافسة أيضا سخرية سقراط المركبة؛ فهو يعلم أنه دميم الوجه ويعلم أن تعريف كريتوبيولوس للجمال خاطئ ولكنه يتابع المناقشة وكأن أيا من هاتين الحقيقتين لم يكن، فهو يبدو سعيدا بتبني هذا التعريف وتوظيفه لإثبات أنه في الحقيقة حسن الهيئة. ولا يحاول سقراط استغلال كلمات كريتوبيولوس للفوز بمسابقة الجمال بطريقة غير نزيهة فحسب، بل لا يحاول الفوز جديا بالمنافسة على الإطلاق. وبينما ادعى سقراط المنافسة فقد كان في الحقيقة يفعل شيئا آخر، فبتبنيه تعريف كريتوبيولوس بمهارة يثبت سقراط أنه لم يصل إلى المستوى الأدنى من تعريف الجمال؛ فلا يمكن تعريف الجمال بالملاءمة أو المنفعة وحدهما؛ لأن ذلك يعني أن ملامح سقراط جميلة والجميع يعرف أنها ليست كذلك، وبذلك فإن سقراط في تظاهره بإقناع كريتوبيولوس بجماله كان في الحقيقة يثبت النتيجة السلبية التي تعني أن الجمال لا يمكن أن يكون كما عرفه كريتوبيولوس.

لقد أنكر سقراط مرارا معرفته أي شيء عن الجمال أو الفضيلة أو العدل أو أيا كان ما يناقش، وقد كان هذا الجهل المعلن علامته المميزة. وكما كان ادعاؤه الماكر بأنه جميل كان ذلك الإنكار ساخرا إلى حد ما رغم أنه كان لغرض أهم. وبينما كان سقراط دائم الادعاء أنه ليس لديه ما يدرسه؛ فقد بدت أنشطته أنشطة تدريسية بشكل كبير، حتى إنه كان يستدعى أمام المحاكم بصفته معلما ذا تأثير خبيث. وسنتناول الآن محاكمة سقراط ودفاعه عن نفسه الذي يبين سبب عدم اشتهاره في بعض أوساط أهل أثينا المحافظين واشتهاره في أوساط من أتى بعده من الفلاسفة. •••

جرت محاكمة سقراط عام 399ق.م. عندما كان في السبعين من عمره تقريبا، وكان متهما برفض الاعتراف بالآلهة الرسمية للدولة وبالدعوة لآلهة جديدة على دينها وبإفساد الشباب فيها. وكانت هناك خلفية سياسية قوية للقضية، ولكن ذلك لا يعني أن التهم كانت زائفة وأن المحاكمة كانت سياسية في حقيقتها؛ فقد تداخلت السياسة والدين والتعليم في الأمر. ومهما اختلفت الآراء فلا بد من الاعتراف أن سقراط كان ينطق بالأشياء الخاطئة في التوقيت غير المناسب.

في عام 404ق.م. - أي قبل المحاكمة بخمسة أعوام - انتهت الحرب التي دارت رحاها على مدار سبعة وعشرين عاما بين أثينا وإسبرطة بهزيمة أثينا، وسقطت الديمقراطية في أثينا وحل محلها مجموعة من الرجال عينتهم إسبرطة أطلق عليهم لاحقا اسم «الطغاة الثلاثين». ولتكوين سمعة لهم بين الناس قتل «الطغاة» نفرا كثيرا من الناس لدرجة أنهم لم يستمروا إلا لعام واحد، رغم أنه لم تستعد الديمقراطية بشكل كامل حتى عام 401ق.م. ومن الواضح أن الديمقراطيين كانوا لا يزالون يشعرون أنهم مزعزعون نسبيا عام 399ق.م. وكانت هناك أسباب عديدة تشعرهم بعدم الارتياح لوجود سقراط في المدينة.

لقد تورط اثنان من رفاق سقراط السابقين في الطغيان: أولهما هو كريتياس قائد الطغاة الثلاثين، وكان على وجه الخصوص متعطشا للدماء، والآخر هو كارميدس أحد ممثليهم (وكان كلا الرجلين بالمصادفة من أقارب أفلاطون). كما تبين أن ألسيبيادس كان عائقا في طريقهم، وحيث إنه كان أرستقراطيا عنيدا ومتعجرفا فقد اتهم بأداء تعاويذ وأعمال مدنسة ارتكبت حينما كان «مغلوبا». وقد سمع ألسيبيادس بهذه الاتهامات أثناء وجوده في حملة عسكرية في صقلية، وبدلا من أن يرجع ليواجهها انشق وحارب في صفوف جيش إسبرطة، إلا أن أيا من أفعال هؤلاء الرجال لم يرق لمعلمهم السابق سقراط.

Unknown page