Hilm Caql
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Genres
الفصل العاشر
شهيد الفلسفة: سقراط
والسقراطيات
سقراط هو قديس الفلسفة وشهيدها؛ فلم يكن أي من الفلاسفة الكبار مهتما بالحياة المستقيمة التي تغلفها التقوى بقدر ما كان سقراط مهووسا بها. وكحال العديد من الشهداء اختار سقراط ألا يحاول إنقاذ حياته حينما كان ذلك ممكنا عن طريق تغيير أساليبه. ووفقا لرواية أفلاطون الذي عاش في الفترة نفسها؛ فإن سقراط قال للقضاة في محاكمته: «إنكم مخطئون في ظنكم أن الإنسان ذا القيمة العالية عليه أن يقضي حياته في حساب احتمالات الحياة والموت؛ فليس على الإنسان أن يضع في اعتباره إلا شيئا واحدا عند قيامه بأي عمل وهو ما إذا كان هذا العمل صوابا أم خطأ.» ولكن على عكس الكثير من القديسين كان سقراط يتمتع بروح الدعابة والفكاهة، وكان هذا يظهر في صورة ظرف ومزاح تارة وفي صورة سخرية حافلة بالمعاني تارة أخرى. وعلى عكس القديسين في كل الأديان، لم يكن إيمان سقراط في الاعتماد على الوحي أو الأمل الأعمى، وإنما في التفرغ للمنطق الجدلي، ولم يكن ليستجيب لأقل من ذلك.
وقد روى أصدقاء سقراط قصصا عن مدى غرابته؛ ففي إحدى الليالي بعد العشاء - كما في أحد أحاديث أفلاطون - حكى أحد الفتيان، وكان قد قضى خدمته العسكرية مع سقراط، موقفا له فقال:
واجه سقراط مشكلة تتعلق بشروق الشمس في أحد الأيام وظل واقفا مستغرقا في تفكيره، ولما لم يصل إلى حل ظل واقفا يفكر وقد رفض الاستسلام. ومر الوقت، وبحلول منتصف النهار أخذ الجنود يتناقلون بينهم قصة وقوف سقراط في مكانه يفكر منذ مطلع الفجر، وفي النهاية قبل أن يسدل الظلام ستاره أخرج بعض الأيونيين فرشهم بعد العشاء ليروا ما إذا كان سيبقى طوال الليل، وقد ظل واقفا حتى نشر الصباح ضياءه، وعندما طلعت الشمس تلا صلواته لها وذهب.
وعلى الرغم من استغلاله وقت فراغه بهذا الشكل، روت جميع المصادر أن سقراط كان له سجل عسكري مشرف.
وفي الطريق إلى حفل العشاء الذي رويت فيه القصة السابقة، وصف صديق آخر كيف «وقع سقراط في نوبة من التفكير المجرد وبدأ يتلكأ في مشيته»، وبعدها انسل إلى عتبة أحد الجيران ليستمر في تفكيره، فقال الراوي: «إنها عادة متأصلة فيه أن يذهب بعيدا ويقف أينما كان.» ولم تتضمن عاداته المنتظمة الأخرى أن يغتسل، فحتى أقرب أصدقائه أقروا أنهم لم يعتادوا رؤيته مغتسلا وقد ارتدى نعليه. لقد كان رث الثياب أشعث، ولم يكن أبدا من أصحاب المال ولم يهتم من أين سيحصل على وجبته القادمة. وقد أقر سقراط أمام المحكمة قائلا: «لم أعش يوما حياة عادية هادئة، ولم أهتم يوما بما يهتم به معظم الناس؛ كجمع المال، وامتلاك منزل مريح، والحصول على رتبة عسكرية أو مكانة مدنية مرموقة، وجميع الأنشطة الأخرى التي يقوم بها الناس في مدينتنا.» ولكن سقراط لم ير أن أيا من زخارف الحياة الناجحة بشكل تقليدي كان سيئا في ذاته، كما لم يكن هو نفسه زاهدا بالمعنى المعروف للكلمة، فلم يدع يوما إلى التقشف (ويقول أصدقاؤه إنه قد يزيد عليهم كثيرا في شرب الخمر، وإن كان لم يره أحد ثملا قط)، كما لم يدع شخصا قط أن يحيا حياة بسيطة مثله. ولأنه قوي الاحتمال منشغل الذهن فقد كان لا يعير اهتمامه لأشياء مثل الملبس والطعام والمال.
سقراط.
لقد كان سقراط منشغلا معظم الوقت بمحاورة الآخرين وليس بالتأمل وحده فحسب. ويبدو أن مناقشاته كانت محتدمة وشديدة مثل نوباته التجردية الانفرادية. وقد قال أحد القادة المعروفين كان على معرفة بسقراط:
Unknown page