Hilm Caql
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Genres
هذه الذرات تتحرك في الفضاء اللانهائي منفصلة عن بعضها ومختلفة في الشكل والحجم والمكان والترتيب، ثم تسبق إحداها الأخرى فتصطدم، ويساق بعضها إلى أي اتجاه عشوائي بينما يلتحم بعضها الآخر وفقا للاتفاق في الشكل والحجم والمكان والترتيب وتبقى كذلك؛ ومن ثم تتشكل في صورة أجسام مركبة.
ديموقريطس.
لقد اشتقت كلمة
atom (ذرة) من
atomos
بمعنى «لا يمكن قطعه»، وقد قال ديموقريطس وليوكيبوس إن الذرات صلبة جدا ولا يمكن تقسيمها أو تدميرها. وتموت الأشياء العادية أو تتفكك عندما تتناثر الذرات المكونة لها. ولذلك فإن النظرية الذرية التي نجدها عند إمبيدوكليس وأناكساجوراس تحاول تفسير التغيير والدمار اللذين اعتبرهما بارمنيدس من ضروب المستحيل، وذلك عن طريق طرح حل وسط. وتقول الحلول الوسط الثلاثة إن الأشياء العادية المتغيرة تتكون من مكونات لا تتغير في حد ذاتها ولكن قد يتغير تركيبها عندما تجتمع أو تتفرق، وهذه الأشياء التي أعيد تركيبها هي التي تنتج لنا العالم المتغير الذي نراه.
أما القوة التي تجمع الذرات معا فهي المبدأ الإغريقي القديم القائل إن المتماثلات تنجذب لبعضها. وفي ذلك يقول ديموقريطس: «تجتمع المخلوقات مع نوعها ... الحمام مع الحمام والكركي مع الكركي ... إلخ، والشيء نفسه يحدث مع الجماد، وهو ما نراه في تجمع الحبوب في المنخل والحصى على الشاطئ.» وتميل الذرات متشابهة الشكل إلى الالتصاق ببعضها، بل إن بعضها لديها خطافات صغيرة لتتعلق بها. وقد حاول ديموقريطس تفسير أقصى ما يمكنه من السمات التي نراها للأشياء العادية من حيث أشكال ذراتها المختلفة وأحجامها وتركيبها، فالأشياء حلوة الطعم تتكون من ذرات مستديرة وكبيرة، أما الأشياء حادة المذاق فتتكون من ذرات صغيرة ومدببة وغير مستديرة (ومن ثم وصفها ب «الحادة»)، والأشياء المالحة تتكون من ذرات كبيرة مدببة ومقوسة أضلاعها متساوية، أما الأشياء المرة فتتكون من ذرات مستديرة وناعمة لكن غير منتظمة، وتتكون الأشياء الزيتية من ذرات ملساء مستديرة وصغيرة (ومن ثم تشبه حبات الرمان التي تنزلق بسهولة واحدة تلو الأخرى، ويفترض أن هذا ما اعتقد ديموقريطس أنه يفسر لزوجة الزيت).
وبناء على نظرية ديموقريطس فإننا نتعرض لسيل من هذه المكونات الدقيقة طوال الوقت، فبما أن كل شيء لا بد له أن يتكون من ذرات تتحرك؛ فإن الإدراك في حد ذاته يفسر على أنه نتيجة خروج أعداد صغيرة من الذرات من الأشياء ودخولها أجسامنا من خلال الحواس. أما ما يحدث داخل الجسم عند إدراك الشيء فيظل غامضا لا يدرك كنهه. ويقال إن العقل هو مجموعة من الذرات الكروية تقبع في مكان ما بالجسم، أما التفكير فهو يتمثل في حركة ذرات العقل إذا ما هاجت بسبب التعرض لسيل الذرات المندفع. وقد استعار ديموقريطس في تفسيراته للظواهر الأكبر مثل الجو تفسيرات عصره المعهودة، فمثلا قال إن الرعد يحدث نتيجة توليفة غير منتظمة من الذرات مما يدفع السحابة التي تحملها للأسفل.
لقد أخذ ديموقريطس كل الأفكار التقليدية التي تناسبه وعدل فيها بالقدر اللازم ليتسنى له إدخال الذرات في الصورة؛ ولذلك فإن أقوى ما تتميز به النظرية الفيزيائية للذريين هو فكرة الذرات في حد ذاتها وإصرارهم على تفسير الطبيعة بأسرها، بل وإدراك الإنسان للطبيعة على أسس اقتصادية بحتة. وبإصرار ديموقريطس على أن حجم الذرات وشكلها وترتيبها هو كل ما يجب تناوله في التفسيرات الحقيقية نجح في الذهاب إلى ما هو أعمق وأبعد مما وصل إليه إمبيدوكليس وأناكساجوراس، حتى إن لم يحقق نجاحا هائلا. لقد رضي إمبيدوكليس وأناكساجوراس بالتوقف عن التعمق في نظرياتهما حال التوصل لتفسير السمات أو الأشياء المعتادة بطريقة أو بأخرى (بطريقة «عناصر» التراب والهواء والنار والماء لدى إمبيدوكليس، وطريقة الكميات الضئيلة من كل المواد العادية لدى أناكساجوراس).
ولكن من أين أتت فكرة الذرات؟ وما دليل ديموقريطس على ما قاله عن أشكالها في الأشياء الحلوة أو المالحة مثلا؟ ليس ثمة ما يشير إلى إجرائه تجارب على تلك الأفكار أو فحصها. وربما استرعت فكرة الجزيئات الدقيقة انتباه ديموقريطس أثناء تأمله للغبار الطائر؛ فقد قارن الذرات ذات مرة ب «ذلك الهباء الذي نراه محلقا في الهواء في أشعة الشمس عبر النافذة.» أما عن أشكال الذرات فيبدو تفسيره مقبولا لدى أصحاب المنطق السليم غير المتعلمين إذا ما تدبروه بحدسهم. وبعد مرور أكثر من 2000 عام وفي أواخر القرن السابع عشر كتب أحد الكيميائيين الفرنسيين في أحد الكتب الدراسية قائلا:
Unknown page