Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
ومجمل القول إن من واجبنا أن نسلك سبيل الحرص والاعتدال بهدف بلوغ حالة من التوازن الذي لا يعكره شيء، وهو أرفع اللذات، ومن ثم فهو الخير الأسمى.
على أن الأبيقورية، على خلاف المدارس الأخرى، لم تصنع تراثا علميا، وقد ظلت اتجاهاتها الفكرية التحررية، ومعارضتها للممارسات الخرافية، تلقى احتراما بين صفوة مختارة من الطبقات العليا في أوائل عهد الإمبراطورية الرومانية، على الرغم من أن الرواقية أخذت تحل محلها بالتدريج، حتى على المستوى الأخلاقي، ولا يظهر بعد ذلك في التراث الأبيقوري إلا اسم واحد مشهور هو اسم الشاعر الروماني لوكريتيوس
Lucretius ، الذي عاش من عام 99 حتى عام 55ق.م؛ إذ قدم لوكريتيوس عرضا للمذهب الأبيقوري في كتاب شعري مشهور اسمه «في طبيعة الأشياء
De rerum natural »، أما أقوى الحركات الفلسفية تأثيرا من بين المذاهب التي ازدهرت في العصر الهلينستي فهي الرواقية. ولقد كانت الرواقية مذهبا أضعف ارتباطا بأرض اليونان الأصلية من المدارس الأثينية الكبرى؛ ولذلك كان البعض من أشهر ممثليها شرقيين، وفيما بعد كانوا من الرومان الغربيين، وكان مؤسس الحركة فينيقيا قبرصيا اسمه زينون، لا نعرف تاريخ مولده بالضبط، ولكنه يقع خلال النصف الثاني من القرن الرابع ق.م، وقد انتقل في شبابه أولا إلى أثينا؛ لمتابعة الأعمال التجارية لأسرته، وهناك ظهرت ميوله الفلسفية، فتخلى عن التجارة وأنشأ بعد مدة مدارسة خاصة به، وكان من عادته أن يحاضر في رواق بويكيلي
Stoa Poikile ، وهو ممر مسقوف ومصبوغ بألوان متعددة، ومن هنا جاء اسم المذهب الرواقي
Stoicism
استمرت الفلسفة الرواقية زهاء خمسة قرون، وخلال هذه المدة طرأت على تعاليمها تغيرات كبيرة، غير أن ما يجمع الحركة كلها هو تعاليمها الأخلاقية التي ظلت على ما هي عليه طوال الوقت. ويرجع أصل هذا الجانب في الرواقية إلى الطريقة السقراطية في الحياة، وهكذا كانت الفضائل التي يقدرها الرواقيون هي الشجاعة في مواجهة الخطر والألم، وعدم الاكتراث بالأوضاع المادية. وكان هذا التأكيد لأهمية قوة التحمل والتنزه هو الذي أضفى على كلمة «الرواقي» معناها الحديث.
إن الرواقية - من حيث هي نظرية أخلاقية - تبدو نظاما صارما لا لون له، إذا ما قورن بنظريات العصر الكلاسيكي، غير أنها نجحت من حيث هي مذهب في اجتذاب محدد من الأتباع يفوق ما اجتذبه مذهب أفلاطون وأرسطو، ومن الجائز أن تأكيد أفلاطون للمعرفة بوصفها الخير الأسمى لم يكن يقبل بسهولة بين أناس كانوا منغمسين في الحياة العملية. وعلى أية حال فقد كان الذهب الرواقي هو الذي استحوذ على خيال الملوك والحكام الهلينستيين. أما مسألة إن كان هذا يكفي لتحقيق آمال سقراط في أن يصبح الفلاسفة ملوكا والملوك فلاسفة، فهذا أمر مشكوك فيه.
ولم يتبق لنا شيء من أعمال الرواقيين الأوائل إلا على شكل شذرات، وإن كان من الممكن تكوين فكرة معقولة عن تعاليمهم عن طريق تجميعها، ويبدو أن اهتمام زينون كان أخلاقيا في المحل الأول، ومن المسائل الرئيسية التي ظلت تشغل الاهتمام طوال عهد الفلسفة الرواقية مشكلة الحتمية وحرية الإرادة، وهي مسألة فلسفية كبرى ظلت تحتفظ بقدر من الحيوية جعلها موضوعا لاهتمام الفلاسفة عبر العصور حتى يومنا هذا؛ ففي رأي زينون أن الطبيعة خاضعة بدقة لحكم القانون، ويبدو أن نظريته الكونية قد استلهمت آراء الفلاسفة السابقين لسقراط أساسا؛ فقد كان زينون يرى، مثل هرقليطس، أن المادة الأصلية هي النار، ومنها تنفصل العناصر الأخرى بمضي الوقت، وذلك على نحو يشبه نظريات أنكساجوراس إلى حد ما. وفي النهاية يحدث حريق شامل، ويعود كل شيء إلى النار الأصلية، وتبدأ الأمور كلها سيرتها من جديد، كما في نظرية الدورات عند أنبادقليس، أما القوانين التي يسير العالم في مجراه وفقا لها فتصدر عن سلطة عليا تحكم التاريخ في كافة تفاصيله؛ فكل شيء يحدث من أجل هدف معين على نحو مقدر مقدما. أما الفاعلية العليا أو الإلهية فلا تعد شيئا خارجا عن العالم، وإنما هي تسري فيه كالماء حين يتسرب في الرمال. وهكذا فإن الله قوة كامنة يحيا جزء منها داخل كل كائن بشري، وقد أصبح هذا الاتجاه في التفكير مشهورا في العصر الحديث بفضل الكتابات الفلسفية لاسبينوزا الذي تأثر بالتراث الرواقي.
وأسمى خير هو الفضيلة التي يكون قوامها هو العيش في وحدة مع العالم، ولكن ينبغي ألا نتصور هذه الفكرة على أنها تحصيل حاصل، على أساس أن كل ما يوجد لا بد أن يكون في وحدة مع العالم، بل إن المقصود هنا هو توجيه إرادة الشخص، بحيث تمتزج بالطبيعة بدلا من أن تعارضها، أما النعم الدنيوية فلا تعد ذات قيمة كبيرة؛ فقد يحرم طاغية إنسانا من كل الأشياء الخارجية التي يملكها، بل حتى من الحياة، ولكنه لا يستطيع أن يسلبه فضيلته، التي هي ملك له متأصل فيه، يستحيل انتزاعه منه، وهكذا نصل إلى النتيجة القائلة إن الإنسان حين يرفض المطالب الزائفة للخيرات الخارجية تصبح حريته كاملة؛ لأن فضيلته التي هي وحدها الشيء الجدير بالاهتمام، لا يمكن أن يؤثر فيها أي ضغط خارجي.
Unknown page