Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
وبعد ذلك ينبئ سقراط المحكمة بأن الواجب يقضي عليه بأن يلبي الأمر الإلهي بالبحث في دخيلة نفسه وفي الآخرين، حتى ولو كان في ذلك يخاطر بعداوة الدولة. ويذكرنا موقف سقراط هذا بأن مشكلة الولاء المنقسم أو الموزع هي من المحاور الرئيسية للتراجيديا اليونانية. ويصف بعد ذلك نفسه بأنه داعية ونذير للدولة، ويتحدث عن صوت داخلي يوجهه على الدوام. هذا الصوت يوجه إليه النواهي، ولكنه لا يأمره بأن يفعل شيئا، ولقد كان هذا الصوت هو الذي منعه من الاشتغال بالسياسة، التي لا تسمح لأحد بأن يحافظ على نزاهته وقتا طويلا، ولقد امتنع الادعاء عن الاستشهاد بأحد من تلاميذه السابقين الموجودين في قاعة المحكمة. وأخيرا أكد سقراط أنه لن يتوسل إليهم مسترحما ويأتي بأطفاله باكين، بل إن من واجبه أن يقنع القضاة، لا أن يلتمس عطفهم.
وعندما جاء الحكم بالإدانة، ألقى سقراط خطابا ساخرا لاذعا، واقترح أن يدفع غرامة مقدارها ثلاثون درهما، ولم يكن هناك مفر من رفض هذا الطلب، وبذلك تأكدت عقوبة الإعدام. وفي خطاب أخير حذر سقراط أولئك الذين أدانوه بأنهم سينالون بدورهم أشد العقاب جزاء على جرمهم، ثم توجه بالحديث إلى أصدقائه قائلا: إن ما حدث لم يكن شرا. فليس لأحد أن يخاف الموت؛ لأنه إما أن يكون نوما بلا أحلام، وإما أن يكون حياة في عالم آخر يستطيع فيه أن يتحدث بحرية مع أورفيوس وموزايوس وهزيود وهوميروس، وفي ذلك العالم لا يمكن أن يكون جزاء من يطرح الأسئلة هو القتل.
ولقد قضى سقراط شهرا في السجن قبل أن يشرب السم، فلم يكن من الممكن إعدام أحد قبل عودة سفينة الدولة، التي أخرتها العواصف في رحلتها الدينية السنوية إلى «ديلوس»، وقد رفض سقراط أن يهرب، وتعرض علينا محاورة «فيدون» لحظاته الأخيرة التي قضاها مع أصدقائه ومريديه يتحاورون عن الخلود.
إن القارئ لو قلب صفحات هذا الكتاب فلن يجد فيه فيلسوفا واحدا يشغل حيزا يعادل ذلك الذي يشغله أفلاطون أو أرسطو، ومرد ذلك إلى موقعهما الفريد في تاريخ الفلسفة؛ فهما أولا قد ظهرا بوصفهما وريثين للمدارس السابقة لسقراط ومنظرين منهجيين لها، طورا ما تلقياه منها، وألقيا الضوء على الكثير مما ترك بصورة ضمنية لدى المفكرين السابقين. وفضلا عن ذلك فقد كان لهما طوال العصور تأثير هائل على مخيلة البشر، فحيثما ازدهر التفكير النظري في الغرب، كانت ظلال أفلاطون وأرسطو محلقة في خلفية هذا التفكير، وأخيرا فإن إسهامهما في الفلسفة أهم على الأرجح من إسهام أي فيلسوف آخر قبلهما أو بعدهما؛ إذ لا تكاد توجد مشكلة فلسفية لم يقولا عنها شيئا له قيمته، وكل من يتصور في أيامنا هذه أنه يستطيع أن يأتي بشيء أصيل دون أن يكون قد استوعب تلك الفلسفة الأثينية عليه أن يتحمل عواقب مغامرته.
لقد امتدت حياة أفلاطون طوال الفترة الواقعة بين انهيار أثينا وبين صعود مقدونيا؛ فقد ولد عام 428ق.م. بعد عام من وفاة بريكليز، وبذلك يكون قد نشأ خلال الحرب البلوبنيزية، وقد عاش ما يربو على ثمانين عاما، ومات سنة 348ق.م، وكانت أصوله العائلية أرستقراطية، وكذلك كانت تربيته؛ فقد كان أبوه أريستون
Ariston
ينحدر من سلالة الملوك الأثينيين القدماء، على حين أن أمه بركتيوني
تنتمي إلى أسرة كان لها نشاط سياسي قديم العهد، وقد مات أبوه أريستون حين كان أفلاطون لا يزال في صباه، وتزوجت أمه بعد ذلك من عمها بريلامبيس
الذي كان صديقا ونصيرا لبريكليز، ويبدو أن أفلاطون قد أمضى سنوات تعليمه في بيت زوج أمه، وبمثل هذه الخلفية لا يعجب المرء حين يراه يقول بآراء هامة عن الواجبات السياسية للمواطن. وهو لم يكتف بعرض هذه الآراء، كما فعل في محاورة «الجمهورية»، وإنما مارسها بنفسه، ويبدو أنه كشف في سنواته المبكرة عن استعداد ليكون شاعرا، كما كان من المفهوم أنه سيشتغل بالعمل السياسي، ولكن هذا الطموح قد وضع له حد مفاجئ عندما حكم على سقراط بالموت؛ ذلك لأن هذا التآمر السياسي والحقد المخيف قد ترك في نفس أفلاطون الشاب أثرا لا يمحى، وأدرك أنه ليس في وسعه أن يظل محتفظا باستقلاله ونزاهته في إطار السياسة الحزبية. ومنذ ذلك الحين قرر أفلاطون، بصفة نهائية، أن يكرس حياته للفلسفة.
كان سقراط صديقا قديما لأسرة أفلاطون، وقد عرفه أفلاطون منذ طفولته، وبعد إعدام سقراط التجأ أفلاطون، مع بعض أتباع سقراط الآخرين إلى ميغارا
Unknown page