230

Hikmat Gharb

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

Genres

وهكذا فإن القضايا، نظرا لكونها متعلقة بشيء آخر، توصف بأنها غير مطابقة، وينبغي أن يلاحظ أن القضية تعد هنا غير مطابقة حسب طبيعتها ذاتها، وليس لأنها - كما تقول المثالية - تنعزل عن مجموعة القضايا الأخرى التي تكتسب القضية في داخلها معناها الكامل.

وفي رأي ياسبرز أن الفلسفة تنتمي إلى ميدان الوجود المتعالي، أو الوجود في ذاته، أو لنقل على الأصح إن الفلسفة هي الجهد الذي يبذله الفرد في محاولته أن يصل إلى التعالي، أما الحياة الأخلاقية للفرد فتقع ضمن دائرة الوجود الشخصي، ففي هذا المستوى يتفاهم الناس ويمارسون الشعور بالحرية. ولما كانت الحرية تقع خارج الإطار العقلي، فإننا لا نستطيع أن نقدم تفسيرا عقليا لها، وعلينا أن نكتفي بالاعتراف بمظاهرها في أحوال معينة، وهكذا يقول ياسبرز - مستعيرا تعبيرا من كيركجور - إن شعورنا بأننا أحرار يرتبط بحالة معينة من الجزع أو القلق، ونستطيع أن نقول، بوجه عام، إنه إذا كان العقل هو الذي يسود على مستوى الوجود - هناك فإن الأحوال الداخلية هي التي تسوء على مستوى الوجود الشخصي.

وعلى حين أن وجودية ياسبرز، على المستوى المتعالي، تعمل حسابا للدين، كما كانت الحال في وجودية كيركجور، فإن أعمال هيدجر (ولد عام 1889م)،

3

التي كانت الميتافيزيقا تحتل فيها موقعا أهم، تسير في اتجاه مختلف كل الاختلاف، والواقع أن فلسفة هيدجر، التي استخدمت مصطلحات غاية في الغرابة، تتسم بالغموض الشديد، بل إن المرء يضطر إلى القول إن اللغة هنا تسير بلا ضابط. ومن النقاط الطريفة في تأملاته، تأكيده أن العدم شيء إيجابي، وتلك ملاحظة نفسية حورت بحيث تبدو قضية منطقية، كما يحدث في حالات كثيرة بين الوجوديين.

وفي فرنسا كانت الحركة الوجودية أوثق ارتباطا بالأدب، وكان أشهر ممثليها هو سارتر (ولد عام 1905م)،

4

الذي كتب روايات إلى جانب دراسة فلسفية كبرى، وقد عرض في رواياته قدرا كبيرا من أفكاره الوجودية من خلال شخصيات تواجه ذلك النوع من الدعوة إلى الفعل، الذي هو جانب عظيم الأهمية من جوانب الوجودية. ويتيح الشكل الروائي الأدبي أفضل وسيلة لعرض التأملات المتعلقة بمحنة الإنسان.

ويسير سارتر إلى نهاية الشوط في الفكرة الوجودية المتعلقة بالحرية الإنسانية. فالإنسان يختار مصيره على الدوام. وليس في حياة الفرد أي ارتباط بالتراث الماضي أو الأحداث السابقة. وهكذا يبدو كل قرار جديد وكأنه يقتضي نوعا من الالتزام الشامل. أما الذين يخافون من هذه الحقيقة الأليمة فإنهم يحاولون الاحتماء بالتبريرات التي يضفونها على العالم، وهو أمر يشترك فيه رجل العلم مع المؤمن بالدين: فكلاهما يحاول الهروب من الواقع، ولكنهما معا يرتكبان، في رأي سارتر، خطأ مؤسفا. فالعالم ليس على النحو الذي يصوره به العلم، أما الرب فهو في رأي سارتر قد مات منذ عصر نيتشه.

5

Unknown page