215

Hikmat Gharb

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

Genres

F. C. S. Schiller ، الذي كان يقول بآراء شبيهة بهذه حول هذا الموضوع، أطلق على نظريته الخاصة اسم «النزعة الإنسانية

Humanism ». ولكن المشكلة في هذا المذهب هي أن نطاقه أضيق من أن يتسع لواحدة من المهام الرئيسية التي كان العلم دائما، وكذلك النظرة العادية للإنسان، يضطلعان بها، فلا بد للباحث أن ينظر إلى نفسه بوصفه جزءا من عالم يمتد على الدوام خارج نطاقه الخاص به، وإلا لما كان هنا معنى للبحث في أي شيء، فإذا كانت حدودي تمتد بالضرورة إلى أي مدى يمكن أن يعنيه العالم، فعندئذ يكون خيرا لي أن أسكت وأستريح. وهكذا فعلى الرغم من أن جيمس كان على حق في نقده للنظريات الثنائية القديمة عن الذهن والجسم، فإن نظريته الخاصة في التجربة الخالصة لا يمكن اعتناقها.

أما بالنسبة إلى المسالة العامة المتعلقة بالمذهب العقلي في مقابل التجريبي، فينبغي أن نشير إلى تمييز مشهور يقول به جيمس. ذلك لأن المذاهب العقلية تميل إلى تأكيد الذهني على حساب المادي. وهي تفاؤلية الطابع، تنشد الوحدة وتفضل التفكير الانعكاسي على حساب التجربة. ويصف جيمس من يميلون إلى الأخذ بمثل هذه النظريات بأنهم «أصحاب عقول رقيقة». أما النظريات التجريبية، فهي أكثر ميلا إلى الاهتمام بالعالم المادي، وهي متشائمة، تعترف بالانفصال في العالم، وتفضل إجراء التجارب على التأمل والتدبر، والذين يؤيدون هذه الآراء هم «أصحاب العقول الصلبة». ولكن من الواجب بالطبع ألا نسير في هذا التشبيه أبعد مما ينبغي، وعلى أية حال فإن البرجماتية تنتمي قطعا، في هذه الثنائية، إلى الجانب ذي العقل الصلب. وقد شرح جيمس نظريته في بحث بعنوان «البرجماتية» (1907م)، موضحا أن لها جانبين: فالبرجماتية من جهة منهج يراه جيمس معادلا للموقف التجريبي، وهو يحرص على أن يؤكد أن البرجماتية، من حيث هي منهج، لا تفرض مقدما أية نتائج بعينها، وإنما هي مجرد وسيلة للتعامل مع العالم، وقوام هذا المنهج بوجه عام، هو أن التمييزات التي لا تنطوي على فوارق عملية، لا معنى لها. ويقترن بهذا رفض للنظر إلى أية مسألة على أنها يمكن أن تنتهي في أي وقت بصورة قاطعة. هذا كله مستمد مباشرة من بيرس، ولا بد بالفعل أن يتحمس له أي باحث تجريبي. ولو كان الأمر لا ينطوي إلا على هذا، لكان جيمس على حق تماما في قوله إن البرجماتية ما هي إلا اسم جديد لأساليب قديمة في التفكير.

غير أن جيمس ينزلق تدريجيا من هذه المبادئ الرائعة إلى موقف أكثر اهتزازا وأقل منها استقرارا بكثير. فالمنهج البرجماتي يؤدي به إلى الرأي القائل إن النظريات العلمية هي أدوات لسلوك في المستقبل، لا إجابات مقبولة نهائيا عن أسئلة حول الطبيعة. فمن الواجب ألا نرى في النظرية تعاويذ سحرية من الكلمات التي تتيح للساحر أن يحكم قبضته على الطبيعة. بل إن البرجماتي يصر على فحص كل لفظ بدقة مطالبا بما أسماه جيمس «قيمته النقدية

Cash Value ».

4

ولا تتبقى بعد هذا إلا خطوة واحدة نحو التعريف البرجماتي للحقيقة بأنها ما له نتائج مثمرة. وإلى مثل هذا الموقف ينتهي تصور جيمس الوظيفي للحقيقة.

عند هذه النقطة تصبح البرجماتية ذاتها مذهبا ميتافيزيقيا من نوع مشكوك فيه إلى أبعد حد ، ونستطيع عندئذ أن نفهم السبب في الحرص الشديد الذي أبداه بيرس من أجل التبرؤ منها. فالمشكلة الأولى هي الصعوبة التي نجدها عندما نريد أن نحدد، في هذه اللحظة وهذا المكان، نتائج رأي معين، وهل ستكون مثمرة أم لا. وتبقي مشكلة أخرى تترتب على ذلك، هي أن أية مجموعة معينة من النتائج إما أن تكون مثمرة أو لا تكون، وهذا أمر يتحدد بطريقة عادية، لا بطريقة برجماتية. ولا جدوى من تجنب هذه المشكلة بالقول إن النتائج ستكون مثمرة بقدر غير محدد، إذ إن هذا يؤدي بنا إلى قبول أي شيء على إطلاقه. وعلى أية حال يبدو أن جيمس لديه قدر من الوعي بهذه الصعوبة، لأنه يعترف بحرية الإنسان في الأخذ بمعتقدات معينة إذا كان ذلك يؤدي إلى سعادته. والمثل الواضح على ذلك هو حالة الإيمان الديني. ولكن الواقع أن هذه ليست على الإطلاق الطريقة التي يعتنق بها الشخص المتدين آراءه. فهو لا يؤمن بهذه الآراء بسبب الرضا الذي يعتقد أنها ستجلبه له، بل إن ما يحدث هو العكس: فمعتقداته هي التي تجعله سعيدا.

لقد كان الفلاسفة يبدون على الدوام اهتماما خاصا بموضوع الرياضيات، منذ أول عهود الفلسفة في اليونان. وإن التقدم الذي حدث خلال الأعوام المائتين الأخيرة لدليل بالغ على ذلك. فقد أدى حساب اللامتناهيات (التفاضل والتكامل)، الذي صاغه ليبنتس ونيوتن في القرن الثامن عشر إلى قفزة هائلة إلى الأمام في ميدان الإبداع الرياضي، ولكن الأسس المنطقية للرياضة لم تكن مفهومة فهما صحيحا، وكانت هناك مفاهيم لا أساس لها، تستخدم على نطاق واسع.

كان التحليل الرياضي في تلك الأيام يعتمد اعتمادا كبيرا على مفهوم «اللامتناهيات في الصغر

Unknown page