197

Hikmat Gharb

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

Genres

ويري كيركجور أن النظريات الأخلاقية أشد عقلانية من أن تسمح للناس بأن ينظموا حياتهم وفقا لها. فليس في استطاعة أية نظرية منها أن تتفهم الطابع المميز لسلوك الفرد الأخلاقي بطريقة سليمة. وفضلا عن ذلك فمن الممكن الاهتداء دائما إلى أمثلة عكسية أو حالات استثنائية تخالف القاعدة، ومن أجل مثل هذه الأسباب، دعا كيركجور إلى اتخاذ المبادئ الدينية، لا الأخلاقية، أسسا لحياتنا، وهو موقف يتمشى مع التراث الأوغسطيني الذي ظل له تأثيره في البروتستانتية. فالإنسان لا يكون مسئولا إلا أمام الله وأوامره، وليس من حق أي كائن بشري آخر أن يتدخل لتغيير هذه العلاقة. فالدين عند كيركجور مسألة تفكير وجودي، ما دام ينبثق من داخل النفس.

لقد كان كيركجور مسيحيا شديد الإخلاص، ولكن كان من الطبيعي أن تؤدي به آراؤه إلى التصادم مع الكنيسة الرسمية الدنمركية بوصفها مؤسسة جامدة، فقد كان يعارض اللاهوت العقلاني على النحو الذي صاغه كبار المدرسيين؛ إذ إن وجود الله ينبغي أن يدرك وجوديا، ومن المستحيل إثبات هذا الوجود بأية براهين تنتمي إلى ميدان الماهيات. وهكذا يفصل كيركجور، كما قلنا من قبل، بين الإيمان والعقل.

إن نقد هيجل، الذي اتخذ منه فكر كيركجور نقطة انطلاقه، هو في أساسه نقد صحيح، غير أن الفلسفة الوجودية التي ظهرت بناء على هذا النقد، لا تتصف بنفس القدر من الصحة. ذلك لأن تضييقها لنطاق العقل يعرضها لمتناقضات لا حصر لها. ومن المعروف أن مثل هذا التناقض، على مستوى الإيمان، ليس أمرا متوقعا فحسب، بل يكاد يكون موضع ترحيب. فهناك شعار قديم يحترمه المؤمنون بالوحي هو «أومن لأن ما أومن به غير معقول ،

Cedro quia absurdum » ويمكن القول إنهم، بمعنى معين، على حق في ذلك، فإذا كنت تود ممارسة حريتك في الإيمان، فخير لك أن تتعلق بشيء غير متعارف عليه.

ولكن من الواجب أن نتذكر أن الإقلال من شأن العقل لا يقل خطورة عن المبالغة في تقديره، فهيجل نظر إلى العقل نظرة أرفع مما ينبغي، ومن هنا وقع في خطأ الاعتقاد بأن الكون كله يمكن أن يتولد عن العقل. أما كيركجور فقد تطرف في الاتجاه المضاد، وذهب إلى أن العقل عاجز عن مساعدتنا على إدراك النوعي والخاص، الذي هو وحده الجدير بالمعرفة. مثل هذا الرأي ينكر أية قيمة للعلم، وهو يتمشى مع جوهر المبادئ الرومانتيكية. وهكذا فإن كيركجور، على الرغم من انتقاده العنيف لأسلوب الحياة الرومانتيكي، على أساس أنه خاضع كلية لتقلبات المؤثرات الخارجية، كان هو ذاته رومانتيكيا بالمعنى الصحيح. بل إن نفس المبدأ الذي تقوم على أساسه أساليب التفكير الوجودية إنما هو تصور رومانتيكي يسوده الخلط.

هكذا كان رفض الوجودية لهيجل، في أساسه، إنكارا للفكرة القائلة إن العالم ذاته يكون نسقا. والواقع أن الوجودية تفترض نظرية واقعية في المعرفة، بالمعنى المضاد للنظرة المثالية، على الرغم من أن كيركجور ذاته لم يتطرق إلى هذا الموضوع صراحة. ومن الممكن أن ينشأ اعتراض آخر، مختلف كل الاختلاف، عن فلسفة هيجل إذا عدنا إلى نوع من الثنائية الكانتية المعدلة، وهو ما نجده في فلسفة شوبنهور.

كان آرتور شوبنهور

Arthur Schopenhauer (1789-1860م) ابنا لتاجر من دانتسج

Danzig

كان معجبا بفولتير، وكان يشارك هذا الأخير احترامه لإنجلترا، وعندما ضمت بروسيا مدينة دانتسج الحرة في عام 1793م، انتقلت الأسرة إلى هامبورج، وفي عام 1797م انتقل شوبنهور للإقامة في باريس، حيث أقام لمدة عامين كاد فيهما أن ينسى لغته الأصلية، وفي عام 1803م رحل إلى إنجلترا والتحق بمدرسة داخلية لمدة حوالي ستة أشهر وكان هذا كافيا لجعله كارها للمدارس الإنجليزية، ولكنه تعلم اللغة، وقد اعتاد في سنواته المتأخرة قراءة جريدة «التايمس» اللندنية، وعندما عاد إلى هامبورج، قام بمحاولة غير متحمسة للاشتغال بالتجارة، ولكنه تخلى عنها بمجرد أن مات أبوه، وعندئذ انتقلت أمه إلى فيمار، حيث أصبحت، بعد وقت قصير، صاحبة صالون أدبي يؤمه كثير من الشعراء والكتاب الكبار الذين كانوا يقيمون هناك. بل إنها هي ذاتها أصبحت فيما بعد كاتبة روائية، غير أن ابنها، الذي لم تكن تشاركه مزاجه الحاد، بدأ يثور على أسلوب حياتها الذي يتسم بقدر غير قليل من الاستقلال، وعندما بلغ الحادية والعشرين، حصل على ميراث بسيط، ترتب عليه تباعد تدريجي بين الابن والأم.

Unknown page