Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
لقد قدمت فلسفة كانت، كما رأينا، نوعا من الإجابة عن مشكلة هيوم، ولكن على حساب إدخال فكرة الأشياء في ذاتها. ولذلك بادر خلفاء كانت في الحركة المثالية الألمانية إلى الكشف عن نقاط الضعف في هذا التصور، وإن كانت التطورات التي أدخلوها هم أنفسهم على نظرية المعرفة تتعرض بدورها للنقد.
لقد كان فكر الماديين وسيلة من وسائل تجنب الثنائية؛ إذ نظروا إلى العقل على أنه ظاهرة ناتجة عن أشكال معينة لتنظيم المادة العضوية. أما الوسيلة الأخرى فهي أن تقلب الآية، وتنظر إلى العالم الخارجي على أنه نتاج للعقل بمعنى ما، ولقد كان إصرار كانت على الأشياء في ذاتها تعبيرا عن عدم رغبته في اتخاذ هذه الخطوة الأخيرة. أما فشته
Fichte
فقد اتخذها عن وعي.
ولد فشته (1762-1814م) في ظروف عائلية يغلب عليها الفقر، وتعهده راع كريم طوال فترة تعليمه المدرسي والجامعي، وفيما بعد أصبح مدرسا خصوصيا يعيش على حافة الفقر. وحين وقعت في يده كتابات كانت توجه على الفور للبحث عن الفيلسوف الكبير، الذي ساعده على نشر دراسة نقدية عن الوحي، وقد أحرزت هذه الدراسة نجاحا فوريا، وأصبح فشته أستاذا في يينا
Jena
غير أن آراءه في الدين لم تلق القبول لدى السلطات، فغادر هذه المدينة إلى برلين، والتحق بالسلك الحكومي. وفي عام 1808م أصدر كتابه الشهير «نداءات إلى الأمة الألمانية»، الذي ناشد فيه الألمان ككل أن يقاوموا نابليون. وقد اتخذت القومية الألمانية في هذه النداءات صورة حادة بقدر ما. ففي رأي فشته أن «كون المرء أخلاقيا وكونه ألمانيا هما شيء واحد». وليس من الواضح تماما إن كان قد اعتقد أن هذه حقيقة تجريبية أم أنها تعريف لفظي صحيح. ولكن الأولى مسألة فيها نظر، أما إن كانت تعريفا فسوف يتفق معي القارئ على أن في هذا التعريف قدرا من الشذوذ!
وعندما أسست جامعة برلين في عام 1810م، أصبح فشته أستاذا فيها، وظل محتفظا بهذا المنصب حتى وفاته. وحين نشبت حروب التحرير عام 1813م، أرسل تلاميذه ليحاربوا ضد الفرنسيين. والواقع أنه شأنه شأن الكثيرين، كان متحمسا للثورة الفرنسية، ولكنه كان معاديا للتشويه الذي طرأ عليها على يد نابليون.
ولقد استبق فشته، في تفكيره السياسي، بعض المفاهيم الماركسية المتعلقة ببناء اقتصاد اشتراكي تسيطر فيه الدولة على الإنتاج والتوزيع، ولكن الأمر الذي له أهمية فلسفية أكبر، من وجهة نظرنا ها هنا، هو مذهبه في الأنا، الذي كان الهدف منه الرد على ثنائية كانت، فالأنا، الذي يناظر في جوانب معينة فكرة وحدة الوعي الذاتي عند كانت، هو كيان فعال يتسم بالاستقلال الذاتي بالمعنى الذي حدده كانت، أما عالم التجربة فهو نوع من الإسقاط اللاواعي للأنا، يسميه باللاأنا، ونظرا إلى أن هذا الإسقاط غير واع، فإننا نتصور خطأ أن هناك عالما خارجيا مفروضا علينا، أما عن الأشياء في ذاتها فإن مشكلتها لا يمكن أن تنشأ أصلا، لأن ما نعرفه ليس إلا ظواهر. والواقع أن الكلام عن الأشياء في ذاتها مناقض لذاته، وهو أشبه بمعرفة ما لا يمكن - حسب تعريفه - أن يعرف. غير أن عملية الإسقاط ليست غير واعية فحسب، بل هي أيضا غير مشروطة. ولما كانت لا تدخل في نطاق تجربتنا، فإنها لا تتحدد بمقولة السببية. إنها تنبثق، بوصفها عملية حرة، من الطبيعة العملية والأخلاقية للأنا، حيث ينبغي أن تفهم كلمة العملية، بمعناها الاشتقاقي. فبهذه الطريقة يكون للمبدأ الفعال الذي يشيع في الأنا مهام يقوم بها في التعامل مع إسقاطه الخاص.
هذه النظرية التي تتسم بقدر من الروح الخيالية تتجنب بالفعل صعوبات مذهب الثنائي، وكما سنرى فيما بعد، فإنها استبقت المذهب الهيجلي، ومن نتائج هذه النظرية أنها تجعل من الممكن نسج العالم من الأنا، وهذا ما حاوله بالفعل شلنج
Unknown page