185

Hikmat Gharb

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

Genres

كان له تأثيره في أسلوب حياته العام وفي كتابته الأخلاقية. وقد درس كانت في جامعة كونجزبرج، بادئا باللاهوت، ومنتهيا بالفلسفة التي شعر بأن اهتماماته الحقيقية إنما تكمن فيها. وقد ظل بضع سنوات يرتزق من العمل مدرسا خصوصيا لأبناء الأرستقراطيين من ملاك الأرض الزراعية، إلى أن حصل في عام 1775م على وظيفة محاضر للفلسفة في كونجزبرج. وفي عام 1770م رقي إلى وظيفة أستاذ كرسي المنطق والميتافيزيقا، وهي الوظيفة التي ظل يشغلها حتى وفاته. وعلى الرغم من أن كانت لم يكن مفرطا في الزهد، فإنه عاش حياة شديدة التنظيم والدأب والمثابرة، وبلغ من انتظام عاداته أن أهل مدينته كانوا يضبطون ساعاتهم على لحظات مروره أمامهم. ولم يكن كانت رجلا متين البنيان، ولكنه أفلت من الأمراض بفضل أساليب حياته المستقرة. وكان في الوقت ذاته محدثا بارعا، يلقى الترحيب دائما إذا ما حضر مناسبات اجتماعية. أما في المسائل السياسية فكان ليبراليا كأحسن ما يكون المفكر في عصر التنوير، وفي ميدان الدين كان موقفه يمثل نوعا من البروتستانتية غير التقليدية. وقد رحب بالثورة الفرنسية، وأيد المبادئ الجمهورية. وقد أكسبته مؤلفاته الفلسفية العظيمة شهرة واسعة، ولكنها لم تجلب له أية ثروة. وفي سنوات حياته الأخيرة تدهورت ملكاته الذهنية، ولكن أهل مدينة كونجزبرج كانوا فخورين به. وعندما مات شيعت جنازته في موكب مهيب، وهو شرف لم يحظ به من الفلاسفة إلا أقل القليل.

كانت أعمال «كانت» تشمل موضوعات شديدة التنوع، كان يحاضر فيها جميعا في وقت ما، والقليل من هذه الأعمال هو الذي ظل محتفظا بأهميته حتى يومنا هذا، إذا استثنينا نظرية في نشأة الكون بنيت بأكملها على أساس فيزياء نيوتن، وأبدى فيها آراء قال بها فيما بعد لابلاس بصورة مستقلة، ولكن الذي يهمنا هنا بوجه خاص هو فلسفة كانت النقدية. والواقع أن لوك كان أول من طرح المشكلة النقدية، رغبة منه في تطهير الأرض، ولكن مسار الأفكار بعد لوك أدى بطريقة حتمية إلى مذهب الشك عند هيوم. أما كانت فقد استحدث ما أسماه «ثورة كوبرنيكية» في هذا الميدان؛ ذلك لأنه بدلا من أن يحاول أن يفسر المفاهيم العقلية على أساس التجربة، كما فعل هيوم، شرع في تفسير التجربة على أساس المفاهيم العقلية. ويمكن القول بمعني معين إن فلسفته كانت تقيم توازنا بين الموقف المتطرف للتجريبية الإنجليزية من جهة، والمبادئ الفطرية التي قال بها المذهب العقلي الديكارتي من جهة أخرى. وعلى الرغم من أن نظريته كانت صعبة ومعقدة وقابلة للنقد في كثير من جوانبها، فإن من واجبنا أن نحاول استيعاب خطوطها العامة إذا ما شئنا أن نفهم ذلك التأثير الهائل الذي مارسته على التطور الفلسفي اللاحق.

لقد اتفق كانت مع هيوم والتجريبيين في القول إن كل معرفة إنما تبدأ من التجربة، ولكنه أضاف، على خلافهم، ملاحظة هامة إلى هذا الرأي، هي أن من الواجب التمييز بين ما ينتج المعرفة بالفعل، والصورة التي تتخذها تلك المعرفة. وعلى ذلك، فرغم أن المعرفة تنشأ عن طريق التجربة، فإنها لا تستمد منها وحدها. ويمكننا التعبير عن هذه الفكرة على نحو مختلف بالقول إن التجربة الحسية شرط ضروري للمعرفة، ولكنها ليست شرطا كافيا لها؛ فالصورة التي تتخذها المعرفة، ومبادئ التنظيم التي تحول المادة الخام للتجربة إلى معرفة، هي ذاتها لا تستمد، في رأي كانت، من المعرفة. ومن الواضح أن هذه المبادئ فطرية بالمعنى الذي قال به ديكارت، وإن لم يكن كانت قد قال بذلك.

وقد أطلق كانت اسم «المقولات» - وهو مصطلح أرسطي - على المبادئ العامة للعقل، التي يضفيها الذهن من عنده من أجل تشكيل التجربة في صورة معرفة. ولما كانت المعرفة تتخذ شكل قضايا، فلا بد أن تكون هذه المقولات مرتبطة بصورة القضايا. ولكن علينا قبل أن نبين كيف استمد كانت مقولاته، أن نتوقف لبحث مسألة هامة متعلقة بتصنيف القضايا. فقد كان «كانت» يتابع ليبنتس في قبوله للمنطق الأرسطي التقليدي، منطق الموضوع والمحمول، بل إنه أعتقد أن هذا المنطق كامل يستحيل إدخال تحسين عليه. وعلى هذا الأساس، فمن الممكن التمييز بين قضايا يكون الموضوع فيها متضمنا للمحمول، وأخرى لا تكون كذلك. فالقضية «كل الأجسام ممتدة» من النوع الأول، لأنها تعبر عن الطريقة التي يتم بها تعريف مفهوم «الجسم» ومثل هذه القضايا تسمى تحليلية، وكل ما تفعله هو أنها تشرح الألفاظ أو توضحها. أما القضية «كل الأجسام لها وزن» فهي من النوع الثاني؛ ذلك لأن فكرة الجسم لا تنطوي في ذاتها على وجود صفة الوزن؛ ولذا فإن هذه قضية تركيبية ومن الممكن إنكارها دون الوقوع في تناقض ذاتي.

وقد أدخل كانت أساسا آخر للتصنيف إلى جانب هذه الطريقة في التمييز بين القضايا. فهو يطلق على المعرفة المستقلة من حيث المبدأ عن التجربة اسم المعرفة القبلية

a Priori

أما تلك التي تستمد من التجربة فيسميها بعدية

a Posteriori . ولكن الشيء الهام هو أن هذين التصنيفين يتقاطعان. وعلى هذا النحو بعينه يتخلص كانت من الصعوبات التي تواجه التجريبيين مثل هيوم، الذين كانوا خليقين بأن ينظروا إلى التصنيفين على أنهما يعبران عن شيء واحد، بحيث يكون التحليلي مساويا لكل ما هو قبلي، والتركيبي مساويا لكل ما هو بعدي. أما كانت فعلى الرغم من أنه وافق على الشطر الأول، فقد أكد أن من الممكن وجود قضايا قبلية وتركيبية في آن معا. والهدف العام من كتاب «نقد العقل الخالص» هو إثبات كيف تكون الأحكام التركيبية القبلية ممكنة. أما الهدف الأخص فهو إمكان قيام الرياضة البحتة أو الخالصة؛ لأن القضايا الرياضية في رأيه قبلية تركيبية. والمثل الذي يضربه مستمد من الحساب، وهو حاصل جمع الخمسة والسبعة وهو مثل مستمد بلا شك من محاورة «تيتاتوس» لأفلاطون، حيث استخدم الرقمان ذاتهما، فالقضية 5 + 7 = 12 قبلية، لأنها لا تستمد من التجربة بينما هي في الوقت ذاته تركيبية لأن مفهوم 12 ليس متضمنا في تصوري 5 و7 ورمز الجمع، وعلى هذا الأساس يرى كانت أن الرياضة قبلية تركيبية.

وهناك مثل آخر هام هو مبدأ السببية. فقد تعثر التفسير الذي قدمه هيوم أمام عقبة الارتباط الضروري، الذي يبدو مستحيلا في إطار نظرية الانطباعات والأفكار. أما عند كانت فإن السببية مبدأ تركيبي قبلي، وليس وصف السببية بأنها قبلية إلا تأكيدا لرأي هيوم القائل إنها لا يمكن أن تستمد من التجربة، ولكن كانت لم يصفها بأنها عادة تتحكم فيها شروط خارجية، وإنما نظر إليها على أنها مبدأ معرفي، وهي تركيبية لأننا نستطيع إنكارها دون أن نقع في تناقض ذاتي لفظي، ومع ذلك فإنها مبدأ قبلي تركيبي يستحيل بدونه قيام المعرفة، كما سنرى بعد قليل.

ولنعد الآن إلى نظرية المقولات عند كانت. إن هذه المقولات تصورات قبلية للفهم، تختلف عن تصورات الرياضة. ولا بد من البحث عنها، كما أشرنا من قبل، في صورة القضايا. وهكذا يصبح من الممكن، في إطار نظرة كانت إلى المنطق، استنتاج قائمة المقولات بطريقة طبيعية، بل إن كانت قد اعتقد أنه اهتدى إلى طريقة لاستنباط القائمة الكاملة للمقولات، فبدأ بالتمييز بين سمات صورية تقليدية معينة للقضايا هي الكم

Unknown page