Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
الفصل الثالث
عصر التنوير والرومانتيكية
كان من أبرز سمات الحركة التجريبية الإنجليزية، موقفها الذي كان في عمومه متسامحا، تجاه أولئك الذين يتبعون اتجاهات فكرية مخالفة. وهكذا أكد لوك أن التسامح ينبغي أن يمتد بلا تمييز، حتى إلى الكاثوليك.
1
وعلى الرغم من أن هيوم لم يكن يتمسك بالدين عامة، وكان يستخف بالكاثوليكية الرومانية بوجه خاص، فقد كان معارضا لتلك الحماسة التي هي شرط ضروري للقمع. وقد أصبح هذا الموقف المستنير في عمومه ممثلا للمناخ العقلي للعصر، واكتسب خلال القرن الثامن عشر موطئ قدم في فرنسا أولا، ثم في ألمانيا. والواقع أن حركة التنوير
Enlightenment (أو
Aufklarung
كما أصبح يسميها الألمان فيما بعد) لم تكن مرتبطة ارتباطا دائما بأية مدرسة فلسفية معينة، وإنما كانت نتيجة الصراعات الدينية الدموية غير الحاسمة التي شهدها القرنان السادس عشر والسابع عشر. فمبدأ التسامح الديني كان، كما رأينا، مستحبا عند لوك بقدر ما كان عند اسبينوزا. وفي الوقت ذاته كان لهذا الموقف الجديد في مسائل الإيمان نتائج سياسية بعيدة المدى. ذلك لأنه كان لا بد أن يقف في وجه السلطة الجامحة في أي ميدان . فحقوق الملوك الإلهية لا تتمشى مع التعبير الحر عن الآراء حول الدين. وكان الصراع الديني قد بلغ ذروته في إنجلترا قبل نهاية القرن السابع عشر. وبالرغم من أن الدستور الذي انبثق عنه لم يكن ديمقراطيا، فإنه كان متحررا من بعض التطرفات السيئة التي كانت تميز حكم النبلاء ذوي الامتيازات في البلاد الأخرى. ومن هنا لم يكن من المتوقع حدوث قلاقل عنيفة. أما في فرنسا فكان الوضع مختلفا. فهناك بذلت قوى التنوير جهودا كبيرة من أجل تمهيد الأرض لثورة 1789م. وفي ألمانيا ظل التنوير مسألة إحياء ثقافي إلى حد بعيد. فمنذ حروب الأعوام الثلاثين، التي ظلت ألمانيا فترة طويلة تضمد جراحها بالتدريج، كانت ألمانيا خاضعة للسيطرة الثقافية لفرنسا. ولم يبدأ الألمان في التحرر من خضوعهم للثقافة الفرنسية إلا بعد ظهور بروسيا في عهد فردريك الأكبر، وإحياء الآداب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
ولقد كانت حركة التنوير مرتبطة أيضا بانتشار المعرفة العلمية. فعلى حين كان الناس في الماضي يسلمون بأمور كثيرة ارتكازا إلى سلطة أرسطو والكنيسة، أصبح الاتجاه الجديد هو الاقتداء بآراء العلماء. وكما أن البروتستانتية قد طرحت، في الميدان الديني، الفكرة القائلة إن كل شخص ينبغي أن يتصرف حسب تقديره هو، فكذلك أصبح من واجب الناس الآن، في الميدان العلمي، أن يتطلعوا إلى الطبيعة بأنفسهم، بدلا من أن يضعوا ثقتهم العمياء في أقوال أولئك الذين كانوا يدافعون عن النظريات البالية. وهكذا بدأت كشوف العلم تغير وجه الحياة في أوروبا الغربية.
وعلى حين أن الثورة الفرنسية سحقت النظام القديم، آخر الأمر، في فرنسا، فإن ألمانيا كانت خاضعة طوال معظم سنوات القرن الثامن عشر، لمستبدين «عادلين». كانت حرية الرأي مكفولة بقدر ما، وإن كانت قد اعترضتها معوقات كثيرة. وعلى الرغم من كل ما كانت تتسم به بروسيا من طبيعة عسكرية، فإنها ربما كانت تمثل أفضل حالة لبلد بدأ يظهر فيه شكل من أشكال الليبرالية، في الميدان الثقافي على الأقل. فقد كان فردريك الأكبر يصف نفسه بأنه الخادم الأول للدولة، وسمح لكل شخص بحرية البحث عن الخلاص لنفسه على طريقته الخاصة، داخل حدود الدولة.
Unknown page