178

Hikmat Gharb

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

Genres

إذا استخدمنا لفظا لاتينيا كان في الأصل يدل على هذا المعنى نفسه. وهو يطلق على مجموع التجربة، سواء في الإحساس وفي التخيل، اسم الإدراك

perception .

هنا ينبغي علينا أن نلاحظ عدة نقاط هامة. فهيوم يسير في طريق لوك عندما يذهب إلى أن الانطباعات منفصلة ومتميزة بمعنى ما. وهكذا يرى هيوم أن من الممكن تفكيك تجربة معقدة إلى انطباعاتها البسيطة المكونة لها، ويترتب على ذلك أن الانطباعات هي أحجار البناء لكل تجربة؛ ومن ثم يمكن تصويرها على نحو منفصل. وفضلا عن ذلك فلما كانت الأفكار نسخا باهتة للانطباع، فإن كل ما يمكننا تصويره لأنفسنا في التفكير يمكن أن يكون موضوعا لتجربة ممكنة. كذلك نستطيع أن نستنتج من هذه الأسس نفسها أن ما لا يمكننا تخيله لا يمكن بالمثل تجربته. وهكذا فإن نطاق التخيل الممكن يمتد بقدر مدى التجربة الممكنة. وهذا أمر ينبغي أن نذكره جيدا إذا ما شئنا فهم حجج هيوم. ذلك لأنه يدعونا على الدوام إلى أن نحاول تخيل شيء أو آخر. وعندما يتصور أننا مثله لا نستطيع أن نفعل ذلك، يؤكد أن الشيء المفترض لا يمكن أن يكون موضوعا للتجربة. وهكذا فإن التجربة عنده تتألف من إدراكات متعاقبة.

وخارج هذا التعاقب، لا يمكننا أن نتصور أي ارتباط آخر بين الإدراكات. وهنا يكمن الفرق الأساسي بين مذهب ديكارت العقلي وتجريبية لوك وأتباعه. فالعقليون يرون أن هناك ارتباطات وثيقة بين الأشياء، وهي ارتباطات يمكن معرفتها، أما هيوم فينكر أن تكون هناك ارتباطات كهذه، أو على الأصح يذهب إلى أنها، حتى لو كانت موجودة، فمن المؤكد أننا لا نستطيع معرفتها. وكل ما يمكننا معرفته إنما هو تعاقبات للانطباعات أو الأفكار، ومن ثم فإن مجرد التفكير في مسألة وجود أو عدم وجود ارتباطات أخرى أعمق، إنما هو مضيعة للوقت.

في ضوء هذه السمات العامة لنظرية المعرفة عند هيوم، نستطيع الآن أن ننظر بمزيد من الإمعان في الحجج الخاصة التي أتى بها لإثبات بعض المسائل الرئيسية في فلسفته. ولنبدأ بمسألة الهوية الشخصية، التي ناقشتها «الدراسة» عند نهاية الكتاب الأول، وعنوانه «في الفهم». يبدأ هيوم بالقول إن «هناك فلاسفة يتصورون أننا في كل لحظة واعون بوضوح بما نسميه «ذاتنا»، وأننا نشعر بوجودها واستمرارها في الوجود. وهم واثقون إلى حد يتجاوز شهادة البرهان العقلي، من هويتها وبساطتها الكاملة. غير أن التجربة تثبت أن جميع الأسباب التي تساق للقول بأن الذات تكمن من وراء التجربة، لا تصمد أمام النقد. ولكن من سوء الحظ أن كل هذه التأكيدات القاطعة تتعارض مع نفس التجربة التي يستندون إلى شهادتها؛ إذ ما هو الانطباع الذي يمكن أن تستمد منه هذه الفكرة؟» ويبين لنا هيوم أنه لا يمكن أن يوجد انطباع كهذا، ومن ثم لا يمكن أن تكون هناك فكرة للذات.

وهناك صعوبة أخرى هي أننا لا نستطيع أن نرى كيف ترتبط إدراكاتنا الجزئية بالذات. وهنا يلجأ هيوم إلى طريقته المميزة في تقديم الحجج، فيقول عن الإدراكات «إن هذه كلها تختلف فيما بينها، ويمكن بحثها مستقلة كما يمكن وجودها مستقلة، ولا حاجة بها إلى أي شيء يدعم وجودها. فعلى أي نحو إذن تنتمي إلى الذات وكيف ترتبط بها؟ إنني من جانبي، عندما أتعمق إلى أقصى حد فيما أسميه «ذاتي»، أصادف على الدوام إدراكا معينا من هذا النوع أو ذاك؛ إدراكا للحرارة أو البرودة، للنور أو الظل، للحب أو الكراهية، للألم أو اللذة. ولكن يستحيل علي في أي وقت أن أمسك «بذاتي» هذه بغير إدراك أو أن ألاحظ أي شيء ما عدا الإدراك.» ثم يضيف بعد قليل: «لو اعتقد أي شخص بناء على تفكير جاد نزيه، أن لديه فكرة مختلفة عن ذاته، فلا مناص لي من الاعتراف بأنني لا أستطيع التفاهم معه أبعد من ذلك. وكل ما يمكنني أن أقوله هو أنه قد يكون على حق مثلي، وأننا مختلفان اختلافا أساسيا في هذه النقطة.» ولكن من الواضح أنه ينظر إلى أمثال هؤلاء الناس على أنهم مرضى، ويواصل كلامه قائلا: «إنني لأتجاسر وأؤكد، فيما يتعلق ببقية البشر، أنهم ليسوا إلا حزمة أو مجموعة من الإدراكات المختلفة، التي تتعاقب بعضها وراء بعض بسرعة لا يمكن تصورها، وتظل في صيرورة أو حركة دائمة.» «إن الذهن نوع من المسرح الذي تظهر فيه إدراكات عديدة على التعاقب .» ولكنه يعود فيجعل هذا التشبيه مشروطا: «إن التشبيه بالمسرح ينبغي ألا يضللنا؛ فما يؤلف الذهن هو الإدراكات المتعاقبة وحدها، وليست لدينا أدنى فكرة عن المكان الذي تعرض فيه هذه المناظر، أو المواد التي تتألف منها.» أما سبب الاعتقاد الباطل لدى الناس بالهوية الشخصية، فهو أننا نميل إلى الخلط بين الأفكار المتعاقبة وبين فكرة الهوية التي نكونها عن شيء يظل على ما هو عليه طوال فترة من الزمن. وهذا يؤدي بنا إلى فكرة «النفس» و«الذات»، و«الجوهر»، من أجل إخفاء التنوع الذي يوجد بالفعل في تجاربنا المتعاقبة. وهكذا فإن الجدل الذي يدور حول الهوية ليس جدلا حول الألفاظ فحسب، ذلك لأننا عندما نعزو الهوية، بمعنى غير صحيح، إلى موضوعات متنوعة أو متقطعة، لا يكون الخطأ الذي نرتكبه خطأ في التعبير فحسب، بل يكون مصحوبا في العادة باعتقاد بشيء وهمي، إما ثابت غير متقطع، وإما غامض يستحيل تفسيره. أو يكون على الأقل مصحوبا باستعداد لتقبل مثل هذه الأوهام. ثم ينتقل هيوم ليبين كيف يعمل هذا الاستعداد، ويقدم من خلال علم النفس الترابطي تفسيرا للطريقة التي تطرأ بها على أذهاننا تلك الفكرة التي نعتقد أنها فكرة الهوية الشخصية.

وسوف نعود بعد قليل إلى مبدأ الترابط، أما التجاؤنا إلى اقتباس نصوص مطولة من هيوم، فيكفينا عذرا فيه رشاقة أسلوبه، هذا فضلا عن أنه ليس ثمة طريقة أفضل وأوضح لعرض المشكلة من طريقة هيوم ذاته. والواقع أن هذا الوضوح ذاته قد استن سنة حميدة في الكتابة الفلسفية في بريطانيا، وإن كان من الجائز أن أحدا لم يستطع أن يجاري هيوم في كمال أسلوبه.

أما المسألة الثانية التي يتعين علينا بحثها فهي نظرية العلية عند هيوم. فالعقليون يرون أن الرابطة بين العلة والمعلول سمة كامنة في طبيعة الأشياء؛ مثال ذلك ما رأيناه عند اسبينوزا من اعتقاده بأن من الممكن، إذا ما تأملنا الأشياء بقدر كاف من الرحابة والاتساع، أن نثبت بطريقة استنباطية أن كل الظواهر ينبغي أن تكون على ما هي عليه، وإن كان من المعترف به عادة أن الله وحده هو القادر على رؤية الأشياء من هذا المنظور. أما في نظرية هيوم فإن مثل هذه الروابط السببية لا يمكن معرفتها، وذلك لسبب مشابه جدا لذلك الذي قدمناه عند نقد فكرة الهوية الشخصية. أما مصدر نظرتنا الباطلة إلى طبيعة هذه الرابطة فيكمن في استعدادنا لأن ننسب الارتباط الضروري للأطراف التي تكون تعاقبات معينة من الأفكار.

على أن الأفكار تتجمع بالترابط القائم على ثلاث علاقات، هي التشابه

resemblance

Unknown page