175

Hikmat Gharb

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

Genres

على أن من الأخطاء الخطيرة التي وقعت فيها نظرية لوك، رأيه في الأفكار المجردة، وهذا الرأي إنما كان بالطبع محاولة لمعالجة مشكلة الكليات، التي تركتها نظرية المعرفة عند لوك دون حل. والصعوبة هي أننا لو جردنا من أمثلة محددة، لما تبقى في النهاية شيء على الإطلاق. ويضرب لوك لذلك مثلا بالفكرة المجردة للمثلث، وهي الفكرة التي لا ينبغي أن تكون منحرفة أو قائمة، ولا متساوية الأضلاع ولا متساوية الساقين ولا حادة، وإنما كل هذه الأفكار ولا أحد منها في آن معا، ومن هنا كان نقد نظرية الأفكار المجردة هو نقطة البدء في فلسفة باركلي.

ولد جورج باركلي (1685-1753م) في إيرلندا عام 1685م، لأسرة إيرلندية إنجليزية، وقد التحق وهو في الخامسة عشرة بكلية ترينتي، في دبلن، حيث بدأت تزدهر المعارف الجديدة التي جاء بها نيوتن، وكذلك فلسفة لوك، إلى جانب الموضوعات التقليدية. وفي عام 1707م اختير زميلا في كليته، وخلال السنوات التالية نشر الأعمال التي قامت عليها شهرته بوصفه فيلسوفا. فهو قد وصل إلى أوج شهرته ولما يبلغ الثلاثين. أما في السنوات التالية فقد كرس طاقاته لقضايا أخرى. وفيما بين 1713م و1721م عاش باركلي وسافر في إنجلترا وفي القارة الأوروبية. وعندما عاد إلى كلية ترينيف عين في منصب زمالة قيادي، ثم أصبح في عام 1724م عميدا لكلية دري

Dery . وعندما وصل إلى هذه المرحلة بدأ يعمل من أجل تشييد كلية للتبشير في برمودا، فرحل إلى أمريكا عام 1728، حاملا معه تأكيدات بأن الحكومة سوف تسانده، وأخذ ينشر دعوته بين سكان نيو إنجلند طالبا تأييدهم. ولكنه لم يتلق العون الذي وعدته به الحكومة، واضطر إلى التخلي عن خططه. وفي عام 1732م عاد إلى لندن، وبعد عامين عين أسقفا لكلوين

Cloyne ، وظل يشغل هذا المنصب حتى وفاته؛ إذ كان قد ذهب في زيارة إلى أكسفورد عام 1752م، وهناك توفي في أول العام التالي.

إن القضية الأساسية في فلسفة باركلي هي أن وجود أي شيء يساوي كونه مدركا. وقد بدت له هذه الصيغة واضحة بذاتها إلى درجة أنه لم يتمكن أبدا من أن يشرح لمعاصريه، الذين كانوا أقل منه اقتناعا، ما الذي كان يحاول أن يقوله. ذلك لأن هذه الصيغة تبدو للوهلة الأولى متعارضة بشدة مع ما يراه الحس الطبيعي للإنسان. فلا أحد يعتقد عادة كما يتطلب هذا الرأي على ما يبدو أن الأشياء التي يدركها توجد في ذهنه. ولكن المسألة هي أن باركلي يقول بصورة ضمنية إن الرأي التجريبي الذي دعا إليه لوك وإن لم يكن قد طبقه دائما بصورة متسقة، يجعل من فكرة الموضوع باطلة. ومن هنا فإن الادعاء بأن باركلي يمكن تفنيده عن طريق ضرب الأحجار بالأرجل، كما فصل الدكتور جونسون، هو ادعاء لا يحقق أي هدف. وبالطبع فإن مسألة ما إذا كانت نظرية باركلي هي في النهاية علاج للصعوبات التي يواجهها لوك، هي مسألة أخرى، ولكن ينبغي أن نذكر أن باركلى لا يحاول أن يربكنا بألغاز محيرة، وإنما يسعى إلى تصحيح بعض الأفكار غير المتسقة عند لوك. وفي هذا على الأقل، نجح نجاحا تاما؛ إذ لا يمكن الاحتفاظ بالتمييز بين عالم داخلي وعالم خارجي في ظل نظرية المعرفة التي قال بها لوك. ومن المستحيل أن نتمسك في آن واحد بنظرية للأفكار كتلك التي قال بها لوك، وبنظرية تمثيلية أو تصويرية

representative

للمعرفة. وقد واجه التفسير الذي قدمه «كانت» لهذه المشكلة ذاتها صعوبة مشابهة تماما فيما بعد.

كان أول كتاب انتقد فيه باركلي نظرية الأفكار هو «محاولة في سبيل نظرية جديدة للإبصار»، وفي هذا الكتاب يبدأ بمناقشة بعض مظاهر الخلط التي كانت شائعة في عصره حول موضوع الإدراك الحسي، وهو يقدم بوجه خاص الحل الصحيح للغز الذي يبدو محيرا، وهو أننا نرى الأشياء معقولة على الرغم من أن الصورة المنطبعة على عدسة العين تكون مقلوبة. وقد كان هذا اللغز شائعا في ذلك الحين، ولكن باركلي أثبت أنه مبني على مغالطة بسيطة غاية البساطة. فالمسألة هي أننا نرى بأعيننا، وليس بالنظر إلى الأشياء من الخلف وكأننا ننظر إلى شاشة. وهكذا فإن سبب سوء الفهم هذا هو الإهمال الذي يجعلنا ننزلق من البصريات الهندسية إلى لغة الإدراك البصري. وينتقل باركلي بعد ذلك إلى وضع نظرية في الإدراك الحسي تقدم تمييزا أساسيا بين الأشياء التي تسمح لنا مختلف الحواس أن نقولها عن موضوعاتها.

فالإدراكات البصرية ليست في رأيه إدراكا لأشياء خارجية، وإنما هي أفكار في الذهن فحسب. وعلى الرغم من أن الإدراكات اللمسية توجد في الذهن بوصفها أفكارا للإحساس، فإنه يصفها بأنها تتعلق بموضوعات فيزيائية، وإن كان قد أزال هذا التمييز في أعماله اللاحقة، وأصبحت كل الإدراكات تزودنا بأفكار عن الحس فقط. والسبب الذي يجعل الحواس منعزلة على هذا النحو، كلا عن الأخرى، هو أن جميع الإحساسات نوعية. وهذا بدوره يعلل رفض باركلي لما يسميه بالمادية. ذلك لأن المادة ما هي إلا حامل ميتافيزيقي لصفات هي وحدها التي تؤدي إلى تجارب تشكل مضامين ذهنية. أما المادة الخالصة فلا يمكن تجربتها، ومن ثم فإنها تجريد لا تدعو إليه الحاجة. وينطبق هذا الوصف ذاته على الأفكار المجردة عند لوك. فلو نزعت عن المثلث مثلا كل ما فيه من سمات نوعية، لما بقي في النهاية شيء بالمعنى الدقيق، ومن المحال أن تكون لدينا تجربة باللاشيء.

وفي كتاب «مبادئ المعرفة البشرية» الذي نشر عام 1710م، أي بعد عام من الكتاب السابق، يعرض باركلي صيغته بلا تحفظ أو مهادنة: فأن يكون الشيء، معناه أن يكون مدركا. هذه هي النتيجة النهائية لتجريبية لوك لو أخذت بجدية؛ إذ إن كل ما نستطيع أن نقوله هو إن لدينا تجارب بإحساسات أو انعكاسات معينة عندما تكون هذه لدينا بالفعل ، لا في أوقات أخرى. وهكذا فإننا لا نقتصر فقط على التجارب التي تسجل في الذهن، بل إننا نضطر إلى التسليم بهذه التجارب وحدها عندما تكون لدينا. ويمكن القول بمعنى معين إن هذا ليس شيئا غريبا على الإطلاق؛ إذ إن التجارب تكون لديك عندما تكون موجودة، لا في أي وقت آخر، والقول إن أي شيء موجود، لا يكون له معنى إلا في التجربة ومن خلالها، ومن ثم فإن وجود الشيء وكونه مدركا هما شيء واحد. ووفقا لهذا الرأي لا يكون هناك معنى للكلام عن تجربة غير مجربة، أو عن فكرة غير مدركة، وهو موقف لا زال يقول به فلاسفة معاصرون يقولون بنظريات ظاهرية

Unknown page