Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
ولما كانت كل مونادة جوهرا، فإنها كلها تختلف فيما بينها كيفيا، فضلا عن أنها تحتل وجهات نظر مختلفة. ولو شئنا الدقة لما أفادنا القول إن لها موانع مختلفة، ما دامت ليست بالكيانات التي تشغل مكانا وتقع في زمان. فالمكان والزمان ظاهرتان حسيتان، وهما ليسا حقيقيين. أما الحقيقة الكامنة من ورائهما فهي تنظيم المونادات بحيث تكون لكل منها وجهة نظرها المختلفة. فكل مونادة تعكس الكون على نحو مختلف قليلا، بحيث لا يكون أي اثنين من هذه الانعكاسات متشابهين من جميع الأوجه. ولو وجدت مونادتان متماثلتان في كل شيء لكانتا في الحقيقة واحدة، وهذا هو معنى مبدأ هوية اللامتميزات
identity of the indescernibles
13
عند ليبنتس.
وهكذا فلا معنى لقولنا، بغير تدقيق، إن من الممكن أن تختلف مونادتان في الموقع وحده.
ولما كانت جميع المونادات مختلفة، فإن في استطاعتنا ترتيبها وفقا لدرجة الوضوح التي تعكس بها العالم . فكل شيء يتألف من حشد هائل من المونادات، والأجسام البشرية بدورها منظمة على هذا النحو، غير أننا نجدها هنا مونادة مسيطرة تتميز عن الباقين بوضوح رؤيتها. هذه المونادة المميزة هي ما نطلق عليه، تخصيصا، اسم النفس الإنسانية، وإن كانت جميع المونادات، بمعنى معين، نفوسا، وكلها لا مادية، غير فانية، ومن ثم كانت خالدة، ولا تتميز المونادة المسيطرة أو النفس بالوضوح الزائد في إدراكها فحسب، وإنما تتميز أيضا بأنها تضم في داخلها الغايات التي تستهدفها المونادات التابعة لها بطريقتها التي يسودها الانسجام المقدر سلفا، فكل شيء في الكون يحدث من أجل سبب كاف، غير أن للإرادة الحرة مجالها، من حيث إن الأسباب التي يسلك من أجلها الكائن البشري لا تتسم بذلك الإلزام الصارم الذي تتسم به الضرورة المنطقية. كذلك فإن الله يملك هذا النوع من الحرية، وإن كانت هذه الحرية لا تخرق قوانين المنطق. والواقع أن نظرية حرية الإرادة هذه، التي جعلت ليبنتس مقبولا لدى الأوساط التي لم تكن راضية عن اسبينوزا، كانت خارجة إلى حد ما عن ذلك التفسير المذهبي الذي قدمه ليبنتس من خلال فكرة المونادة، بل هي تتعارض معه في الواقع كما سنرى فيما بعد.
أما عن مسألة وجود الله، التي تثار على الدوام في الفلسفة فإن ليبنتس يقدم عرضا كاملا لأهم البراهين الميتافزيقية التي رأيناها من قبل. وأول برهان من براهينه الأربعة هو البرهان الأنطولوجي عند القديس أنسلم، والثاني شكل من أشكال برهان العلة الأولى كما نجده عند أرسطو. ثم يأتي برهان قائم على فكرة الحقيقة الضرورية، التي يقول ليبنتس إنها تتطلب عقلا إلهيا توجد فيه. وأخيرا، نجد برهانا قائما على فكرة الانسجام المقدر سلفا، وهو في الواقع شكل من أشكال برهان النظام والغائية في الكون. وقد تناولنا هذه البراهين جميعا من قبل في مواضع أخرى، وأوضحنا المآخذ التي يمكن أن تؤخذ عليها. وسرعان ما أنكر «كانت» إمكان تقديم براهين ميتافيزيقية من هذا النوع بوجه عام. أما بالنسبة إلى اللاهوت، فينبغي أن نذكر أن التصور الميتافيزيقي لله إنما هو اللمسة النهائية في نظرية عن طبيعة الأشياء. وفي هذا التصور لا تكون للألوهية علاقة بمشاعرنا وعواطفنا، ومن ثم فهي مختلفة عن الألوهية كما نجدها في الكتب المقدسة، وهكذا فإن رجال اللاهوت، في عمومهم، باستثناء التوماويين الجدد، لم يعودوا يعولون على تلك الألوهية النظرية التي قدمتها إلينا الفلسفة التقليدية.
ولقد كان من العناصر التي استلهمتها ميتافيزيقا ليبنتس، تلك الكشوف الجديدة التي كانت تتراكم بمساعدة المجهر (الميكروسكوب). فقد اكتشف ليفنهوك
Leeuwenhoek (1632-1723م) الكائنات المجهرية الدقيقة، وتبين أن قطرة الماء مليئة بكائنات عضوية صغيرة. وكان ذلك أشبه بعالم كامل على نطاق أصغر من عالمنا اليومي. وقد أدت عوامل كهذه إلى فكرة الذرة الروحية (الموناد) بوصفها آخر ما نصل إليه من نقاط نفسية ميتافيزيقية غير ممتدة. وبدا أن حساب اللامتناهيات الجديد يشير إلى هذا الاتجاه العام نفسه. والواقع أن ما يهم ليبنتس هنا هو الطبيعة العضوية لهذه المكونات النهائية. فهو في هذا يفرق عن تلك النظرة الآلية التي أكدها جاليليو والديكارتيون. وعلى الرغم من أن هذا قد خلق صعوبات في وجه ليبنتس، فإنه أدى به إلى كشف مبدأ بقاء الطاقة في واحد من أشكاله المبكرة، وكذلك إلى كشف مبدأ الفعل الأدنى (least action) . غير أن تطور الفيزياء في عمومه قد سار وفقا للمبادئ التي وضعها جاليليو وديكارت.
وأيا كان الأمر، يظل من الصحيح أن ليبنتس قد قدم في مذهبه المنطقي عددا كبيرا من التلميحات التي تجعل ميتافيزيقاه أسهل فهما على الأقل حتى لو لم تكن مقبولة. ولنبدأ بالقول إن ليبنتس تقبل منطق الموضوع والمحمول عند أرسطو، وهو يتخذ لنفسه بديهيتين أساسيتين من مبدأين منطقيين عامين: أولهما مبدأ التناقض، الذي ينص على أنه إذا تناقضت قضيتان وجب أن تكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة، وثانيهما مبدأ السبب الكافي الذي تحدثنا عنه من قبل، والذي ينص على أن أية واقعة حاضرة تلزم عن أسباب سابقة كافية، فلنطبق هذين المبدأين على حالة القضايا التحليلية بالمعنى الذي حددها به ليبنتس، أعني القضايا التي يكون فيها الموضوع متضمنا للمحمول، كالقضية «كل العملات المعدنية مصنوعة من المعدن.» عندئذ يتضح من مبدأ التناقض أن كل هذه القضايا صادقة، على حين أن مبدأ السبب الكافي يؤدي إلى القول بأن جميع القضايا الصادقة نظرا إلى أنها تقوم على أسس كافية، هي من النوع التحليلي، وإن كان الله وحده هو الذي يراها على هذا النحو، أما بالنسبة إلى العقل البشري فإن هذه الحقائق تبدو طارئة. وهنا، كما هي الحال عند اسبينوزا، نجد محاولة لمعالجة البرنامج المثالي للعلم. ذلك لأن ما يفعله العالم عند وضعه للنظريات إنما هو محاولة التوصل إلى العرض ثم تقديمه على نحو يبدو فيه نتيجة لشيء آخر، ومن ثم يبدو ضروريا بهذا المعنى. ولما كان الله وحده هو الذي يملك العلم الكامل، فإنه يرى كل شيء في ضوء الضرورة.
Unknown page