Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
ولقد كانت نفس النظرة المفتقرة إلى الروح النقدية تحول دون فهم القوانين التي تحكم سقوط الأجسام فهما سليما. فمن الأمور الواقعة فعلا أن الجسم الأكثر كثافة يسقط في الغلاف الجوي أسرع من الجسم الأخف ذي الكتلة المتساوية، ولكن في هذه الحالة بدورها ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار إعاقة الوسط الذي تسقط فيه الأجسام؛ فكلما أصبح هذا الوسط أكثر تخلخلا، اتجهت الأجسام إلى السقوط. بنفس السرعة، وفي المكان المفرغ تصبح هذه السرعة متساوية بدقة. وقد أثبتت الملاحظات المتعلقة بالأجسام الساقطة أن سرعة السقوط تزيد بمعدل اثنين وثلاثين قدما في كل ثانية؛ وعلى ذلك فما دامت السرعة غير متجانسة، وإنما تتسارع باطراد، فلا بد أن يكون هناك شيء يتدخل في الحركة الطبيعية للأجسام. هذا الشيء هو قوة الجاذبية التي تحدثها الأرض.
ولقد كانت لهذه الكشوف أهميتها في أبحاث جاليليو عن مسار المقذوفات، وهي مسألة كانت لها أهمية عسكرية بالنسبة إلى دوق تسكانيا، الذي كان يرعى جاليليو. فهنا طبق مبدأ هام للديناميكا على حالة ملفتة للنظر، فلو درسنا مسار قذيفة أمكننا أن ننظر إلى الحركة على أنها مركبة من حركتين جزئيتين منفصلتين ومستقلتين، إحداهما أفقية متجانسة، والأخرى رأسية، ومن ثم تحكمها قوانين سقوط الأجسام. أما الحركة التي تنتج بالجمع بين الاثنين فيتبين أنها تتبع مسارا على شكل قطع مكافئ. وهذه حالة بسيطة لتركيب مقادير كمية موجهة تخضع لقانون الجمع بين المتوازيات، وهنالك مقادير كمية أخرى يمكن معالجتها على هذا النحو ذاته، وهي السرعات العادية، والسرعات المعجلة، والقوى.
أما في ميدان علم الفلك فإن جاليليو أخذ بنظرية مركزية الشمس، وأضاف إليها بعض الكشوف الهامة. فقد عمل على تحسين منظار مقرب (تلسكوب) كان قد اخترع قبل ذلك بقليل في هولندا، ولاحظ به عددا من الظواهر التي قضت نهائيا على التصورات الأرسطية الباطلة للعالم السماوي؛ فقد تبين أن مجرة درب التبانة تتألف من عدد هائل من النجوم. وكان كبرنيكوس قد ذكر أن كوكب الزهرة لا بد أن تكون له أوجه، وفقا لنظريته، وقد أيد منظار جاليليو ذلك. وبالمثل كشف هذا المنظار عن أقمار المشترى، وتبين أنها تدور حول كوكبها الأصلي وفقا لقوانين كبلر. كل هذه الكشوف قلبت الأخطاء الراسخة منذ القدم رأسا على عقب، وأدت بالمدرسيين المتمسكين بحرفية العقيدة إلى إدانة المنظار المقرب الذي عكر صفو سباتهم الغارق في الأوهام. ونستطيع أن نستبق الأحداث فنقول إن مما يلفت النظر أن شيئا قريبا من هذا كل القرب قد حدث بعد ثلاثة قرون، ذلك لأن أوجست كونت قد أدان المجهر (الميكروسكوب) لأنه هدم الصورة البسيطة لقوانين الغازات. وبهذا المعنى نجد أنه كانت هنالك نقاط مشتركة كثيرة بين الوضعيين وأرسطو في تلك السطحية الهائلة التي اتسمت بها ملاحظاته في الفيزياء.
ولقد كان من المحتم أن يقع، عاجلا أو آجلا، صدام بين جاليليو ورجال الدين المحافظين، وبالفعل أدين في عام 1616م، في جلسة ملفتة لمحاكم التفتيش، غير أن سلوكه بدا بعد ذلك بعيدا عن الخضوع والامتثال بحيث سيق مرة أخرى إلى المحكمة في عام 1633م، ولكن المحكمة كانت في هذه المرة علنية. ولكي يهدئ الحملة عليه، تراجع، ووعد بأن يتخلى من الآن فصاعدا عن كل الأفكار المتعلقة بحركة الأرض. وتقول الروايات المتداولة على الألسن إنه فعل ما أمر به، ولكنه تمتم لنفسه قائلا، «ومع ذلك فإنها تتحرك.» أما تراجعه فكان بالطبع مظهرا خارجيا، غير أن محكمة التفتيش نجحت في استئصال البحث العلمي في إيطاليا لعدة قرون.
وكانت الخطوة الأخيرة في طريق وضع نظرية عامة في الديناميكا هي تلك التي خطاها إسحق نيوتن (1642-1727م). وكانت معظم المفاهيم التي تتضمنها تلك النظرية العامة قد استخدمت من قبل أو أشير إليها تلميحا بطريقة منفصلة. ولكن نيوتن كان أول من أدرك المغزى الكامل للإشارات التي توصل إليها السابقون له. وفي كتابه المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية، الذي صدر عام 1687م، عرض ثلاثة قوانين للحركة، ثم طور، على طريقة اليونانيين، تفسيرا استنباطيا للديناميكا. كان أول قانون تعبيرا تعميميا عن مبدأ جاليليو، فقال إن جميع الأجسام، إذا لم يعقها شيء تتحرك بسرعة ثابتة في خط مستقيم؛ أي إذا شئنا الدقة، بسرعة متجانسة. أما القانون الثاني فيعرف القوة بأنها سبب الحركة غير المتجانسة، وتكون القوة متناسبة مع حاصل ضرب الكتلة في عجلة السرعة. وأما القانون الثالث فهو المبدأ القائل إن لكل فعل رد فعل مساويا له ومضادا له في الاتجاه. وفي ميدان الفلك قدم التفسير النهائي الذي كان كبرنيكوس وكبلر قد اتخذا الخطوات الأولى في سبيله، وهو القانون العام للجاذبية، الذي ينص على أن هنالك، بين أي جزأين من المادة، قوة جذب تتناسب طرديا مع حاصل ضرب كتلتهما وتتناسب عكسيا مع مربع المسافة بينهما. وعلى هذا النحو أصبح من الممكن تفسير حركة الكواكب وأقمارها ومذنباتها حتى أدق تفاصيلها المعروفة. بل إنه لما كان كل جزء من المادة يؤثر في كل جزء آخر، فإذن هذه النظرية جعلت من الممكن حساب انحرافات المدارات التي تسببها الأجسام الأخرى بدقة تامة، وهو ما لم تتمكن أية نظرية أخرى من تحقيقه من قبل. أما عن قوانين كبلر فقد أصبحت الآن مجرد نتائج لنظرية نيوتن. وهكذا بدا أن المفتاح الرياضي للكون قد اكتشف أخيرا، والصورة النهائية التي تعبر بها الآن عن هذه الحقائق هي المعادلات التفاضلية للحركة، التي خلت من أية تفاصيل دخيلة عارضة متعلقة بالواقع المحسوس الذي تنطبق عليه. وهذا الشيء نفسه يصدق على تفسير آينشتين، الذي كان أعم حتى من هذا، ومع ذلك فإن نظرية النسبية ما زالت موضوعا للجدل حتى يومنا هذا، وتكتنفها صعوبات داخلية، ولكن، لنعد إلى نيوتن، فنقول إن الأداة الرياضية للتعبير عن الديناميكا هي حساب التفاضل، الذي اكتشفه ليبنتس
Leibniz
أيضا بطريقة مستقلة. ومنذ ذلك الحين أخذت الرياضة والفيزياء تتقدمان بقفزات هائلة.
وقد شهد القرن السابع عشر كشوفا أخرى هائلة. فقد نشر بحث جلبرت
Gilbert
عن المغناطيسية عام 1650م. وفي أواسط القرن عرض هوجنز
Unknown page