Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
كذلك أنجبت الأندلس فيلسوفا مسلما مرموقا، هو ابن رشد (1129-1198م)، الذي ولد في قرطبة لأسرة توارث رجالها مهنة القضاء. وقد درس هو ذاته الشريعة من بين ما درس، وكان قاضيا في إشبيلية، ثم في قرطبة، وفي عام 1184م أصبح طبيب البلاط، ولكنه نفي آخر الأمر إلى المغرب لاعتناقه آراء فلسفية بدلا من أن يكتفي بالإيمان، ولقد كان إسهامه الأكبر في تحرير الدراسات الأرسطية من تحريفات الأفلاطونية الجديدة. وكان يعتقد كما سيعتقد توما الأكويني من بعده أن من الممكن إثبات وجود الله على الأسس العقلية وحدها. أما عن النفس فهو يذهب مع أرسطو إلى أنها ليست خالدة، وإن كان العقل الفعال خالدا. ولما كان هذا العقل المجرد موحدا، فإن بقاءه لا يعني الخلود الشخصي، وقد كان من الطبيعي أن يرفض الفلاسفة المسيحيون هذه الآراء. على أن ابن رشد في ترجماته اللاتينية لم يؤثر في المدرسيين الغربيين فحسب، بل كان يستهوي كافة المفكرين الخارجين عن حرفية العقيدة ممن كانوا يرفضون فكرة الخلود، وهم الذين أصبحوا يعرفون باسم الرشديين.
لقد بدا في وقت موت جريجوري السابع عام 1085م أن سياسته قد انتزعت من الحبر الأعظم سلطته وتأثيره في شئون الإمبراطورية، ولكن تبين فيما بعد أن المعركة بين السلطتين الروحية والزمنية لم تنته على الإطلاق، بل إن البابوية لم تكن قد وصلت بعد إلى ذروة قدرتها السياسية. وخلال ذلك قويت سلطة البابا في المسائل الروحية بفضل تأييد المدن الناشئة في لومبارديا، على حين أن الحروب الصليبية دعمت نفوذه في البداية.
وقد استؤنف الصراع حول الترسيم في عهد البابا إيربان الثاني (1088-99م) الذي عاد إلى استرداد هذه الحقوق لنفسه، وعندما تمرد كونراد، ابن هنري الرابع، على أبيه التمس العون لدى إيربان الذي رحب بتقديم هذا العون. وكانت المدن الشمالية مؤيدة للبابا، بحيث كان من السهل غزو لومبارديا كلها. وكذلك أمكن عقد اتفاق مع فيليب ملك فرنسا، واستطاع إيربان في عام 1094م أن يبدأ مسيرة ظافرة نحو لومبارديا وفرنسا. وهناك في مجمع كليرمون في العام التالي دعا إلى الحرب الصليبية الأولى.
وقد واصل خليفة إيربان وهو باسكال الثاني السياسة البابوية في موضوع الترسيم بنجاح حتى موت هنري الرابع عام 1106م.
وبعد ذلك أصبحت السيادة للإمبراطور الجديد هنري الخامس، وذلك في الأراضي الألمانية على الأقل، وقد اقترح الباب ألا يتدخل الأباطرة في الترسيم مقابل تنازل رجال الدين عن الملكية الدنيوية. غير أن أهل اللاهوت كانوا أكثر حرصا على أمور الدنيا مما يقتضيه هذا الاقتراح الورع. وهكذا فإن رجال الدين الألمان عندما عرفوا بنصوصه هبوا ثائرين، ووجه هنري الذي كان عندئذ في روما، إنذارا إلى البابا كيما يستسلم، وتوج نفسه إمبراطورا، غير أن انتصاره لم يعمر طويلا؛ فبعد أحد عشر عاما، أي في سنة 1122م استعاد البابا كاليكستوس
Calixtus
الثاني سلطته في موضوع الترسيم عن طريق اتفاق ورمز
Worms .
وخلال حكم الإمبراطور فردريك بارباروسا (1152-1195م) دخل الصراع مرحلة جديدة، ففي عام 1154م انتخب هادريان الرابع، وهو إنجليزي في منصب البابا، وفي البداية تحالفت قوات البابا والإمبراطور ضد مدينة روما التي كانت تتحداهما معا، وكان يقود أهل روما في حركتهما الاستقلالية أرنولد من برشيا
Berscia ، وهو رجل قوي شجاع خرج على تعاليم الكنيسة وثار على البذخ الدنيوي الذي كان يعيش فيه رجال الدين، فكان يرى أن رجال الكنيسة الذين يحوزون ممتلكات دنيوية لا يدخلون الجنة، وهو رأي لم يكن يروق لأمراء الكنيسة، ومن هنا فقد هوجم أرنولد بعنف على هرطقته هذه. وكانت هذه الاضطرابات قد بدأت في عهد البابا السابق، ولكنها بلغت أشدها عندما انتخب هادريان، فعاقب أهل روما على عصيانهم المدني بأن فرض عليهم مرسوم تحريم. وفي النهاية ضعفت روحهم الاستقلالية، ووافقوا على إبعاد زعيمهم الخارج على تعاليم الكنيسة، وعاش أرنولد مختبئا، ولكنه وقع في أيدي قوات بارباروسا، فأعدم حرقا. وفي عام 1155م توج الإمبراطور، وسحقت المظاهرات الشعبية التي خرجت في وقت التتويج بقسوة. غير أن البابا اختلف مع الإمبراطور، بعد سنتين وتلا ذلك عقدان من الحرب بين الطرفين؛ فحاربت عصبة اللومبارد في صف البابا، أو على الأصح ضد الإمبراطور. وقد تفاوتت نتائج الحرب؛ إذ اكتسحت ميلانو عام 1162م، ولكن بارباروسا والبابا البديل الذي عينه لحقت بهما كارثة في أخريات ذلك العام نفسه، عندما انتشر الطاعون في جيشهما أثناء سيرهما نحو روما. وأسفرت آخر محاولة بذلها بارباروسا لكسر شوكة البابا عن هزيمته في لينيانو
Unknown page