Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
ولقد كان المركز الذي ظهر فيه إصلاح نظام الأديرة هو دير كلوني
Cluny
الذي أسس عام 910م؛ فقد طبق في هذا الدير مبدأ جديد للتنظيم لأول مرة، بحيث أصبح الدير مسئولا أمام البابا وحده مباشرة، ومن جهة أخرى فإن رئيس الدير يمارس سلطته على المؤسسات التابعة لمنطقة كلوني، وكان الهدف من النظام الجديد هو تجنب الحالتين المتطرفتين؛ الترف والتقشف، واقتفى مصلحون آخرون أثر هذه البادرة، وأسسوا طرقا أخرى منها الكامالدوليز في 1012م، والكارثوزيون في 1084م، والسسترسيون الذين أعقبوا البندكتيين في 1098م، أما بالنسبة إلى البابوية ذاتها، فجاء الإصلاح في الأساس نتيجة للصراع على السيطرة بين الإمبراطور والبابا. وقد اشترى جريجوري السادس منصب البابوية من سلفه بندكت التاسع لكي يصلح نظامها، غير أن الإمبراطور هنري الثالث (1039-1056م) الذي كان هو ذاته مصلحا شابا متحمسا، لم يقبل مثل هذه الصفقة مهما كان نبل الدوافع التي أملتها. وهكذا زحف هنري في عام 1046م، وهو في الثانية والعشرين إلى روما وعزل جريجوري. ومنذ ذلك الحين ظل هنري يعين الباباوات، متوخيا الحكمة في ذلك، كما ظل يعزلهم إذا لم يحققوا ما يتوقع منهم، ولكن البابوية استردت قدرا من استقلالها خلال المدة التي كان فيها هنري الرابع (الذي حكم من 1056 إلى 1106م) تحت الوصاية، وقد صدر في عهد البابا نيكولاس الثاني مرسوم يضع الانتخابات البابوية في أيدي الأساقفة الكردينالات وحدهم تقريبا، بحيث استبعد الإمبراطور استبعادا تاما. كما أحكم نيكولاس قبضته على رؤساء الأساقفة؛ ففي عام 1059م أرسل بيتر ديمان، وهو أحد علماء الطريقة الكلملدوليزية، إلى ميلانو من أجل تأكيد السلطة البابوية وتأييد حركات الإصلاح المحلية. ولدميان هذا أهمية بوصفه صاحب النظرية القائلة إن الله غير مقيد بقانون التناقض، ويستطيع ألا يفعل ما فعل، وهو رأي رفضه توما الأكويني فيما بعد.
وفي رأي دميان أن الفلسفة خادمة للاهوت، كما أنه عارض الجدل.
والواقع أن الدعوة إلى أن يكون الله قادرا على تجاوز مبدأ التناقض تثير ضمنا صعوبة في مسألة القدرة الإلهية الشاملة؛ فمثلا ألن يستطيع الله بفضل قدرته الشاملة أن يخلق حجرا يبلغ من الثقل حدا لا يستطيع معه أن يرفعه؟ ومع ذلك فلا بد أن يكون قادرا على أن يرفعه، ما دامت قدرته شاملة. وعلى ذلك يبدو أنه يستطيع ولا يستطيع أن يرفعه. وهكذا تصبح القدرة الشاملة فكرة مستحيلة، ما لم يتخل المرء عن مبدأ التناقض، على أن الاستغناء عن مبدأ التناقض يجعل الحديث والتفاهم مستحيلا؛ ولهذا السبب كان من الضروري رفض نظرية دميان.
على أن انتخاب خليفة نيكولاس الثاني قد زاد من حدة الخوف بين البابوية والإمبراطور، مع ميل الكفة لصالح الكردينالات، وكان المرشح الجديد الذي انتخب عام 1073م هو هيلدبرانت
Hildebrand
الذي اتخذ لنفسه اسم جريجوري السابع. وفي عهده حدث أقوى صدام مع الإمبراطور حول مسألة الترسيم، التي دام الصراع حولها عدة قرون، فقبل ذلك كان الحاكم الزمني هو الذي يقدم إلى البابا الخاتم والعصا اللذين يخلعان على البابا المعين حديثا بوصفهما رمزا لمنصبه، ولكن جريجوري أخذ هذا الحق لنفسه، كيما يدعم السلطة البابوية. ووصلت الأمور إلى حد التصادم عندما عين الإمبراطور رئيسا جديدا لأساقفة ميلانو في 1075م، فهدد البابا بخلع الإمبراطور وحرمانه من بركة الكنيسة، وهنا أعلن الإمبراطور أنه هو السلطة العليا، وأعلن عزل البابا، فانتقم البابا بطرد الإمبراطور والأساقفة من الكنيسة، وأعلن عزلهم بدوره. وكانت الغلبة في البداية للبابا، واضطر هنري الرابع إلى الحضور للتوبة في كانوسا
Canossa
عام 1077م، غير أن هذه التوبة لم تكن إلا حركة سياسية.
Unknown page