Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
Irenne
هي التي تجلس عندئذ على عرش بيزنطة، فقال شرلمان إن هذا أمر لا يسمح به العرف الإمبراطوري، ومن ثم فقد اعتبر المنصب شاغرا. وبعد أن جعل البابا يتوجه أصبح في إمكانه أن يضطلع بمهمة خليفة القياصرة.
وفي الوقت ذاته أصبحت البابوية بفضل هذا الإجراء وثيقة الارتباط بالسلطة الإمبراطورية، ومن ثم أصبح من الضروري أن يقوم البابا بالتصديق على تعيين الإمبراطور في منصبه عن طريق وضع التاج على رأسه، حتى في الحالات التي كان فيها بعض الأباطرة العنيدين يعينون البابا أو يعزلونه وفق هواهم. وهكذا ارتبطت السلطتان الروحية والزمنية ارتباطا وثيقا في اعتماد متبادل كان له تأثيره المصيري. وكان الخلاف محتدما بالطبع، وهكذا أخذ البابا والإمبراطور يتشابكان في حروب لا تتوقف، تفاوت فيها حظ كل منهما. وقد أثير أحد الأسباب الرئيسية للنزاع بسبب موضوع تعيين كبار رجال الكنيسة، وهو الموضوع الذي سنقول عنه المزيد فيما بعد.
وبحلول القرن الثالث عشر وجدت الأطراف المتنازعة أن التوفيق بينها مستحيل، فنشب على إثر ذلك صراع خرجت منه البابوية منتصرة، غير أنها فقدت هذه الميزة التي كسبتها بشق النفس؛ بسبب تدهور المستوى الأخلاقي للباباوات في أوائل عصر النهضة. وفي الوقت نفسه أطلق ظهور نظم ملكية قومية في إنجلترا وفرنسا وأسبانيا قوى جديدة قوضت تلك الوحدة التي كانت قد حافظت عليها الزعامة الروحية للكنيسة، واستمرت الإمبراطورية إلى أن غزا نابليون أوروبا، أما البابوية فما زالت باقية إلى يومنا هذا، وإن كان نفوذها المسيطر قد انتهى منذ حركة الإصلاح الديني.
لقد ظل شرلمان طوال حياته يقدم الحماية طواعية للباباوات، الذين حرصوا من جانبهم على ألا يقفوا في وجه أهدافه، ولقد كان شرلمان ذاته أميا لا يعرف التقوى، ولكنه لم يكن ضد تعلم الآخرين أو تقواهم. وقد شجع حركة إحياء أدبي ورعا العلماء، رغم أن أساليبه في الترويح عن نفسه كانت بعيدة عن هذا الطابع الثقافي. أما عن السلوك المسيحي القويم، فقد رآه مفيدا لرعاياه، ولكن لا ينبغي السماح له بأن ينغص حياة البلاط أكثر مما ينبغي.
وفي عهد خلفاء شرلمان تدهورت سلطة الإمبراطورية، ولا سيما حين عمل الأبناء الثلاثة «للويس الورع» على اقتسام أقاليمها فيما بينهم. ومن هذا التقسيم ظهر ذلك الانشقاق الذي جعل الألمان يقفون في وجه الفرنسيين في العصور اللاحقة. وخلال ذلك اكتسبت البابوية من القوة بقدر ما فقدت الإمبراطورية نتيجة لنزاعاتها الدنيوية، وفي الوقت ذاته كان على روما أن تفرض سلطتها على الأساقفة الذين كانوا - كما رأينا من قبل - مستقلين بدرجات متفاوتة في مناطق نفوذهما، وخاصة في الحالات التي كانوا فيها بعيدين عن مقر السلطة المركزية. وفيما يتعلق بموضوع التعيينات كان البابا نيكولاس الأول (858-867م) ناجحا على وجه العموم في المحافظة على سلطة روما. ومع ذلك فقد ظلت هذه المسألة بأسرها مثار نزاع، لا من السلطات الدنيوية فحسب، بل في داخل الكنيسة ذاتها. وكان في استطاعة الأسقف الذكي القوي الإرادة أن يصمد في وجه البابا الذي يفتقر إلى هذه الصفات. ونتيجة لذلك بدأت السلطة البابوية تتدهور مرة أخرى عندما مات نيكولاس.
فقد شهد القرن العاشر البابوية تخضع لتحكم الأرستقراطية المحلية في روما، وكانت المدينة قد غرقت في حالة من الهمجية والفوضى نتيجة للتخريب المستمر الذي أحدثته الصراعات بين الجيوش البيزنطية واللومباردية والفرنجية. وانتشر في جميع أرجاء الغرب أقنان مستقلون يعيثون في الأرض فسادا، ولا يستطيع سادتهما الإقطاعيون كبح جماحهم. كما عجز الإمبراطور وملك فرنسا عن فرض أي نوع من الرقابة الفعلية على باروناتهم المتمردين. وتعدى الغزاة الهنغاريون على الأرض الإيطالية في الشمال، على حين أن المغامرين من الفايكنج أشاعوا الرعب والفوضى في جميع سواحل أوروبا وأراضيها النهرية. وخلال ذلك نال النورمنديون شريطا من الأرض في فرنسا، واعتنقوا المسيحية في المقابل. أما التهديد العربي بالسيطرة من الجنوب، الذي ظل يتصاعد طوال القرن التاسع، فقد أمكن تجنبه عندما هزمت روما الشرقية الغزاة على نهر جاريليانو بالقرب من نابولي في عام 915م، ولكن قوى الإمبراطورية كانت أضعف من أن تحكم الغرب مرة أخرى، كما حاولت في عهد جستينيان. وفي هذه الفوضى الشاملة التي اضطرت فيها البابوية إلى تلبية نزوات أشراف روما ذوي النوايا السيئة، فقدت البابوية ما كان يمكن أن يتبقى لها من النفوذ في إدارة شئون الكنيسة الشرقية، بل إنها وجدت قبضتها تتراخى على رجال الدين في الغرب، في الوقت الذي أكد فيه الأساقفة المحليون مرة أخرى استقلالهم. غير أنهم لم ينجحوا في ذلك، إذ إن ضعف الروابط مع روما قد اقترن بتقوية الصلات مع القوى الدنيوية المحلية، كما أن أخلاق الكثيرين ممن اعتلوا عرش القديس بطرس (أي من الباباوات) في تلك الفترة لم تكن من النوع الذي يضمن الوقوف ضد تيار الانحلال الاجتماعي والأخلاقي.
ومع مجيء القرن الحادي عشر، أخذت تنتهي الحركة الكبرى للشعوب، كما أمكن تجنب الخطر الخارجي الذي كان يهدد أوروبا من الغزو الإسلامي، ومنذ ذلك الحين أخذ الغرب ينتقل إلى موقع الهجوم.
كانت المعرفة الإغريقية قد ظلت باقية في أيرلندا النائية، في الوقت الذي كانت قد نسيت فيه في معظم أرجاء الغرب، وازدهرت ثقافة أيرلندا في نفس الوقت الذي كان فيه الغرب في عمومه يعاني تدهورا. غير أن قدوم الغزاة الدنمركيين هو الذي أدى في النهاية إلى القضاء على هذا الجيب الحضاري.
وعلى ذلك لم يكن من المستغرب أن تكون أعظم الشخصيات بين أهل المعرفة في ذلك العصر هي شخصية رجل أيرلندي، هو يوحنا سكوتس إريجينا
Unknown page