Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
الكاتب والكتاب
تقديم
تصدير
1 - «قبل سقراط»
2 - أثينا
3 - الهلينية
4 - المسيحية المبكرة
5 - الحركة المدرسية
الكاتب والكتاب
تقديم
Unknown page
تصدير
1 - «قبل سقراط»
2 - أثينا
3 - الهلينية
4 - المسيحية المبكرة
5 - الحركة المدرسية
حكمة الغرب (الجزء الأول)
حكمة الغرب (الجزء الأول)
عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي
والسياسي
Unknown page
تأليف
برتراند رسل
ترجمة
فؤاد زكريا
الكاتب والكتاب
ليس الفيلسوف أفضل من يكتب عن تاريخ الفلسفة، مثلما أن الفنان ليس خير من يحكم على فن الآخرين؛ فللفيلسوف موقفه الخاص الذي تتلون به أحكامه على الفلسفات الأخرى، وهو في أغلب الأحيان لا ينظر إلى التاريخ السابق للفلسفة إلا على أنه مجموعة من علامات الطريق التي تشير إلى فكره هو، أو التي تتلاقى كلها في نقطة واحدة؛ هي ما يدور في رأسه من أفكار. هذا ما فعله أرسطو مع الفلاسفة السابقين، وهو أيضا ما رآه الفيلسوف الألماني الكبير «كانت» في المذاهب التي سبقته، كما أنه تمثل بأكثر الصور وضوحا وصراحة في ذلك العرض الطويل الذي قدمه هيجل، فيلسوف المثالية الأكبر، لتاريخ الفلسفة، فضلا عن عشرات الأمثلة لدى فلاسفة آخرين لهم أهميتهم، وإن لم تكن لهم تلك المكانة العليا التي كانت لهؤلاء الثلاثة.
ومع ذلك فإن كتابة الفيلسوف عن تاريخ الفلسفة تجربة فكرية شيقة، تحتشد باللمحات الذكية والملاحظات المتعمقة، والقدرة على كشف الروابط والعلاقات التي يعجز عن إدراكها الذهن العادي. وعلى هذا النحو يبدو لنا بالفعل هذا الكتاب الذي نقدمه ها هنا مترجما إلى العربية، والذي ألفه شيخ الفلاسفة المعاصرين، برتراند رسل؛ فهو رؤية شاملة للفلسفة الغربية منذ بداياتها الأولى في العصر اليوناني حتى النصف الثاني من القرن العشرين. وهو يزيد كثيرا عن أن يكون عرضا منهجيا للأفكار؛ لأنه يحرص على وضع الأفكار في سياقها التاريخي والاجتماعي، وقد بلغ حرصه هذا حدا جعل رسل يعبر عن هذا المعنى بوصفه عنوانا فرعيا للكتاب بأكمله، ولقد كان هذا الحرص على الربط بين الفكر الفلسفي والإطار الذي ظهر فيه هو الذي يميز هذا الكتاب عن كتاب رسل المشهور في الموضوع نفسه، والذي كان قد ألفه قبل الكتاب الحالي، وأعني به «تاريخ الفلسفة الغربية»؛ إذ كان الكتاب الأخير، الذي تبلور خلال محاضرات ألقاها رسل في مؤسسة بارنز
Barnes
في فيلادلفيا بالولايات المتحدة فيما بين عامي 1941 و1943م، معنيا بالتاريخ الفلسفي البحت، أكثر مما كان مهتما بتقديم السياق العيني الذي تظهر فيه الأفكار الفلسفية.
وفي اعتقادي أن أهم ما تتميز به شخصية مؤلف هذا الكتاب هو أنه قد يكون الفيلسوف الوحيد الذي عاش قرنا كاملا أو كاد (1872-1970م). هذه الحقيقة الرقمية البسيطة يمكن أن تفسر لنا الكثير عن برتراند رسل، وعن تقلباته وتحولاته التي وصلت في رأي البعض إلى حد العشوائية والمزاجية، مع أنها كانت في واقع الأمر نتيجة طبيعية لتلك الحياة النادرة في طولها؛ ذلك لأن الإنسان الذي يعيش قرنا كاملا في فترة حاسمة من فترات التاريخ البشري، ويظل فيه محتفظا بوعيه وحدة ذهنه وروحه النقدية كاملة؛ لا بد أن تكون تجربته في فكره وحياته أخصب وأشد تلونا وتنوعا بكثير مما يستطيع الذهن العادي استيعابه، لقد بدأ رسل حياته في النصف الثاني من العصر الفكتوري الإنجليزي، في وقت كانت فيه الإمبراطورية البريطانية في أوج مجدها وطموحها، وكانت سيدة العالم بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وانتهت حياته في وقت كانت فيه صورة العالم قد تغيرت تغيرا حاسما، وانقسم إلى معسكرين أيديولوجيين تحتل إنجلترا مكانة غير رئيسية في واحد منهما. وحين بدأت حياة رسل كان الناس لا يزالون يستخدمون الخيول في اتصالاتهم، وفي حروبهم، وحين انتهت كان العالم قد دخل عصر الذرة والعقول الإلكترونية، وقبل عام من وفاته كان الإنجليزي قد وصل إلى القمر. وحين يشهد هذه التحولات الضخمة فيلسوف ناقد حاد الذكاء، ظل محتفظا بيقظته الذهنية وحاسته العملية حتى اللحظة الأخيرة من حياته؛ فلا بد أن تكون النتيجة تجربة شديدة الخصوبة لا تكاد تتكرر في تاريخ الفكر الإنساني.
Unknown page
وعلى هذا النحو نستطيع أن نفسر تلك التقلبات الهائلة التي طرأت على حياة رسل وأفكاره؛ فقد كان كل شيء في حياته الأولى يؤهله لأن يكون سياسيا مرموقا يتولى مناصب تنفيذية هامة في بلاده ؛ إذ كان ينتمي إلى واحدة من أعرق الأسر البريطانية يحمل الكبار فيها لقب «إيرل»، وكان جده رئيسا للوزراء في الثلث الأول من القرن، كما كان يقصد بيته عدد من المشاهير، على رأسهم جون استورت مل، الذي كان صديقا حميما لوالديه، ولكن ربما كان الشيء الوحيد الذي تأثر به رسل من بيئته المنزلية، إلى جانب إعجابه العقلي بمل، هو تلك النزعة التحررية الجريئة، التي تكاد تقترب من الفوضوية، والتي كان يتصف بها أبوه. وقد تلقى رسل تعليما خاصا راقيا، ثم التحق بكلية ترينيتي في جامعة كيمبردج، وأحرز فيها تفوقا ملحوظا في الرياضيات وفي العلوم الإنسانية. وكان أول كتاب له، بعد أن عمل فترة في السلك الدبلوماسي في ألمانيا، عن «الحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا» (عام 1896م). ومنذ ذلك الوقت المبكر اطلع رسل على الأعمال الرائدة في المنطق الرمزي عند العالم الإيطالي «بيانو
» والعالم الألماني «فريجه
Frege »، ثم ألف وهو في الثامنة والعشرين (عام 1950م) كتابا عن ليبنتس يعد من أهم ما كتب عن هذا الفيلسوف.
وقد بدأت حياة رسل الفلسفية بفترة كان فيها متأثرا بالمذهب المثالي، الذي كان مزدهرا في إنجلترا بفضل أعمال الفيلسوفين برادلي وماكتجارت، ولكن هذه الفترة لم تطل، وسرعان ما تخلى رسل عن المثالية، وعادت الفلسفة الإنجليزية كلها معه إلى التراث التجريبي المميز لها، وكان أهم عوامل تحوله هو تأثره باتجاه ج. أ. مور، أبو الواقعية الإنجليزية وعدو المثالية اللدود.
وكانت أهم المراحل الفلسفية في حياة رسل هي الفترة الواقعة بين بداية القرن العشرين وعام 1916م، التي كان اهتمامه الأكبر فيها منصبا على بحث الأسس المنطقية للرياضيات، وإلى هذه الفترة ينتمي كتابه الأكبر، الذي اشترك فيه مع «وايتهد
A. N. Whitehead »، وهو كتاب «المبادئ الرياضية
» (1910-1913م). وبفضل هذا الكتاب أصبح رسل واحدا من أبرز الشخصيات الفلسفية في القرن العشرين، بل لقد وصفه البعض بأنه أهم المناطقة منذ أرسطو.
وفي هذه الفترة نمت صداقة قوية بينه وبين لود فيج فتجنشتين
L. Wittgenstein
الذي كان في البداية تلميذا لرسل، ثم أصبح زميلا وصديقا له ، بل إن رسل قد اعترف في المقدمة التي كتبها لمؤلف فتجنشتين: «دراسة منطقية فلسفية» أن هذا الأخير رغم كونه تلميذه، قد أفاده وأثر في تفكيره بقوة. ولما كان فتجنشتين واحدا من أهم رواد الفلسفة التحليلية، ومؤسسا للوضعية المنطقية، فإن من السهل أن يدرك المرء التأثير القوي الذي مارسه رسل في هذه الاتجاهات المميزة لفلسفة القرن العشرين في العالم الأنجلوسكسوني، وفي بعض المدارس الألمانية والبولندية والإيطالية.
Unknown page
على أن نشوب الحرب العالمية الأولى قد حول اتجاه رسل بقوة إلى التفكير في المشكلات السياسية والاجتماعية للإنسان؛ إذ كانت هذه الحرب، بما جلبته من دمار إنساني ومادي شامل، وبما أثبتته من نزوع إلى الهدم متأصل في النفس البشرية، صدمة أليمة له، قللت من رغبته في متابعة المسائل الأكاديمية التجريدية في الوقت الذي كان يرى فيه ملايين البشر يساقون إلى المجزرة. وهكذا وقف رسل يدافع بقوة عن السلام ويهاجم الحرب في وقت كانت فيه بلاده متورطة في تلك الحرب بكل ما تملك من طاقات. وهكذا حوكم رسل على نزعته السلامية، وحكم عليه بالسجن ستة أشهر في عام 1918م.
وتوزعت اهتمامات رسل بعد الحرب الأولى بين المشاكل الفلسفية ذات الطابع الأعم، وخاصة مشكلة المعرفة، وبين المسائل الاجتماعية والأخلاقية والتربوية، وقد أبدى في هذا المجال الأخير آراء غير مألوفة أثارت عليه غضب الكثيرين من ذوي الميول المحافظة، ولكنه من جهة أخرى أعلن عداءه للبلشفية إثر زيارة قام بها للاتحاد السوفيتي بعد سنوات قليلة من ثورته الشيوعية، وقابل خلالها لينين وتروتسكي وجوركي، وعاد ليعيب على النظام الجديد شموليته وتسلطه. أما في ميدان التربية فقد تبنى رسل اتجاهات تحررية جديدة، حاول تطبيقها عمليا، فأنشأ لهذا الغرض مدرسة حرة في عام 1927م، بمساعدة زوجته (الثانية)، ثم أغلقت المدرسة بعد بضع سنوات عندما انفصل عن زوجته بالطلاق.
وفي عام 1938م انتقل رسل إلى الولايات المتحدة، حيث قام بتدريس الفلسفة في عدة جامعات في وسط أمريكا وغيرها، وعندما انتقل إلى التدريس في نيويورك هبت ضده عاصفة عاتية أثارتها آراؤه الاجتماعية والأخلاقية غير المألوفة، وشاركت فيها الصحافة والأجهزة السياسية والكنيسة، ولكنه كسب في النهاية حكما قضائيا ضد المعترضين عليه.
ولقد كان موقف رسل من الحرب العالمية الثانية مضادا لموقفه من الحرب الأولى؛ فقد كان يرى أن هذه حرب تستحق التضحية؛ لأنها موجهة ضد قوى شريرة لا إنسانية. غير أنه أعرب بعد الحرب مباشرة عن رأي لا يتمشى مع الاتجاهات التي ظل يدافع عنها طيلة حياته؛ إذ ألح على الولايات المتحدة، خلال الفترة التي كانت فيها محتكرة للسلاح الذري، أن تستخدم القنبلة الذرية ضد الاتحاد السوفياتي.
ولكن رسل سرعان ما تراجع بعد عام 1949م عن آرائه المتطرفة هذه، وأصبح منذ ذلك الحين من دعاة نزع السلاح النووي في العالم كله. وازداد اقتناعا بالموقف الجديد، حتى أصبح يشتهر عالميا بالدور الإيجابي الذي يلعبه من أجل ضمان عالم متحرر من سباق التسلح الجنوني، وعندما نشبت حرب فيتنام، لم يتردد رسل، حتى بعد أن تجاوز عمره التسعين، في أن يسير في مظاهرات، ويعقد اجتماعات شعبية حاشدة، ويؤلف لجانا عالمية للتفاهم بين الشرق والغرب، ويقيم محكمة للضمير العالمي، تحاكم مجرمي الحروب في كل مكان، وما زالت موجودة إلى يومنا هذا تحمل اسم مؤسسها العظيم، ولا أدل على إيجابيته الهائلة من أنه دخل السجن عام 1961م، وهو في التاسعة والثمانين، لمدة أسبوع بسبب نشاطه في محاربة التسلح النووي. وبموت رسل في عام 1970م، انتهى عهد أحد النماذج النادرة في تاريخ الفلسفة، وطويت صفحة قرن كامل من الكفاح الفكري والعملي الذي لا يمل.
ماذا تبقى لنا أن نقوله عن هذا الفيلسوف الكبير؟ لقد كان نمطا فريدا في ذاته؛ نشأ أرستقراطيا، ولكنه عمل الكثير من أجل الجماهير. وبدأ أكاديميا، ولكنه اندمج في نشاط عملي لا يجاريه فيه كبار الساسة المحترفين، وحارب أقوى المؤسسات القائمة في عصره، ولكنه فرض نفسه على ثقافة عصره إلى الحد الذي منح فيه جائزة نوبل للآداب عام 1950م، وهي الحالة الأولى التي تمنح فيها هذه الجائزة لفيلسوف (باستثناء كامي
Camus
الذي كان أديبا بقدر ما كان فيلسوفا)، وتربى تربية محافظة، ولكنه تزوج أربع مرات، واستفز مشاعر الناس بآرائه في الحب والزواج ، وكتب أعظم المؤلفات المنطقية والرياضية وأشدها صعوبة وجفافا في العصر الحديث، ولكنه كان يؤلف بكل اليسر والسلاسة والأسلوب المرح والجذاب في المسائل الاجتماعية والتربوية والسياسية والأخلاقية.
لقد كان أفلاطون، أعظم الفلاسفة أجمعين، هو الذي بدأ أسطورة فيلسوف البرج العاجي، حين سخر من ذلك الفيلسوف الذي يسير في الطريق محلقا بعيونه في السماء، فيسقط في أول حفرة تصادفه على الأرض، ولو تأمل المرء في نظرة واحدة شاملة حياة رسل الخصبة وكتاباته الشديدة التنوع، لبدت له من بدايتها إلى نهايتها، محاولة جبارة لتفنيد هذه الأسطورة.
بقيت لنا كلمة عن الكتاب الذي نقدم ها هنا ترجمته؛ ففي الطبعة الإنجليزية لهذا الكتاب بذلت محاولة لتقديم عدد كبير من الصور والأشكال التي اختارها أحد زملاء رسل من أجل تقديم إيضاح ملموس لأفكاره الفلسفية. ولم يكن رسل ذاته على ثقة من أن هذه المحاولة ستنجح، ولذا أشار إليها في المقدمة على أنها تجربة أولى فحسب، وفي رأيي الخاص، الذي يرتكز على سنوات طويلة من الخبرة في تعليم الفلسفة، أن هذه المحاولة لا تستحق الجهد الذي بذل من أجلها، وأن الكتاب قادر على توصيل أفكاره دون الاستعانة بمثل هذه الرسوم الملموسة، ومن هنا فقد آثرت الاستغناء عن الجانب الأكبر منها، وحذف السطور التي أشارت إليها في مقدمة المؤلف.
Unknown page
ولا بد أن يضع القارئ في ذهنه أن الكتاب يحمل عنوان «حكمة الغرب»، أي إنه يتحدث عن الفلسفة أو الحكمة كما ظهرت في الحضارة الغربية. وهذه الحقيقة تفسر بعض السمات التي تميز هذا الكتاب، والتي قد يعترض عليها الكثيرون، ومنهم كاتب هذه السطور.
ذلك لأن رسل يمجد الحضارة اليونانية تمجيدا مفرطا، ويرجع ظهور الفلسفة والرياضيات ومنهج الفكر المنطقي الاستدلالي إلى عبقرية الشعب اليوناني وحده. ولا شك أن المقام لا يتسع هنا لمناقشة تلك المشكلة المتشابكة؛ مشكلة العلاقة بين الحضارة اليونانية والحضارات الشرقية السابقة لها، ولكن رسل يميل إلى الإقلال من أهمية ما تعلمه اليونانيون من الشعوب السابقة، على الرغم من أن كثيرا من الأبحاث الحديثة، المبنية على آخر ما وصل إليه علم الآثار والتاريخ القديم، تؤكد على نحو متزايد ضخامة الدين الذي كان يدين به اليونانيون للحضارات القديمة، مع عدم الإقلال بطبيعة الحال من عظمة الإنجاز اليوناني، وخاصة في الميدان النظري.
ومن ناحية أخرى، فإن موضوع الكتاب نفسه قد فرض على المؤلف ألا يعرض بأي قدر من التوسع للفكر العربي الإسلامي، فاكتفى بإشارات موجزة تخدم أغراضه في التركيز على «حكمة الغرب»، ولكن مما يحمد له أن هذه الإشارات جاءت منصفة لهذا الفكر ومقدرة للدور الذي قامت به الحضارة الإسلامية إلى حد بعيد. وربما لمس القارئ من آن لآخر قدرا من التعاطف مع الجماعات اليهودية، ولكن هذا شيء لا مفر منه في الجيل الذي ينتمي إليه رسل، والذي عانى من ويلات النازية، فكان رد الفعل الطبيعي لديه هو أن يتعاطف مع أعدائها، وعلى أية حال فإن المرء حين يقرأ ملاحظاته القليلة في هذا الصدد بتعمق يحس بأن المسألة ليست في الواقع تعاطفا مع اليهودية بقدر ما هي انتقاد لذلك الأسلوب الذي تكرر مرارا في تاريخ الغرب، وهو اضطهاد الأقليات الدينية بوصفه وسيلة لتنفيس عقد الحكام أو لإلهاء الشعوب.
وربما لاحظ المرء في بعض مواضع الكتاب اهتماما زائدا بالجوانب المنطقية والرياضية في الفلسفة، ولكن تعليل ذلك أمر ميسور إذا تذكرنا أن علاقة رسل الرئيسية بالفلسفة جاءت من جانب المنطق والرياضة، وعلى أية حال فإن هذا الاهتمام يؤدي إلى بعض الأحكام التي قد لا يوافقه عليها بعض مؤرخي الفلسفة، مثل تمجيده المفرط لأفلاطون وإقلاله من قيمة أرسطو؛ ذلك لأن رسل يبدي في هذا الكتاب انبهارا بالجوانب الرياضية في فكر أفلاطون، على حين أن أرسطو لم يكن يهتم أصلا بالرياضيات. وربما كان في هذا مثل ملموس لما قلته من قبل عن طريقة الفيلسوف في كتابة تاريخ الفلسفة، وكيف أن موقفه الخاص يتحكم أحيانا في رؤيته للفكر الفلسفي السابق. وعلى أية حال فيبدو لي أن حكمه هذا يتناقض مع ما قاله في دراسته المشهورة «التصوف والمنطق» وهي أول دراسة في الكتاب الذي يحمل هذا الاسم، حين صنف الفلاسفة إلى أصحاب ميول صوفية وأصحاب اتجاهات منطقية، وأدرج أفلاطون ضمن الفئة الأولى وأرسطو ضمن الفئة الثانية. ولكن يبدو أن رسل قد اكتشف دلالات أعمق للتفكير الرياضي في محاورات أفلاطون في الفترة التي ألف فيها كتابه هذا، والتي يفصلها عن كتاب «التصوف والمنطق» عدد كبير من السنين.
كذلك قد يختلف كثير من مؤرخي الفلسفة مع رسل في رأيه القائل إن سقراط كان صاحب نظرية المثل أو الصور، وإن محاورات أفلاطون التي كان سقراط هو المتحدث الرئيسي فيها كانت تعبر عن أفكار سقراط بالفعل، وإن أفلاطون لم يهتد إلى نفسه ويعبر عن فكره بطريقة مستقلة إلا في المحاورات الأخيرة التي لا تحتل فيها شخصية سقراط مكانة رئيسية، أو لا تظهر فيها على الإطلاق، فهذا رأي لم يدافع عنه إلا قلة من مؤرخي الفلسفة، على رأسهم «برون بيرنت
J. Burnet » الذي يبدو أن رسل كان متأثرا به في هذه المسألة إلى حد بعيد.
تلك بعض النقاط الخلافية في هذا الكتاب، الذي كان مؤلفه ذاته من أكبر الشخصيات الخلافية في هذا القرن، ولكن يظل من الصحيح مع ذلك أن كتاب رسل هذا عن تاريخ الفلسفة، بكل ما يتضمنه من لمحات ذكية وأحكام عميقة ودعابات لاذعة، هو نتاج فكري ناضج يعبر عن آخر مراحل تفكير رسل في هذا الموضوع (طبع الكتاب لأول مرة في عام 1959م، حين كان رسل في السابعة والثمانين). وإذا كان الجزء الأول يقدم عرضا للفكر اليوناني وفكر العصور الوسطى الغربية في سياقهما الحضاري والاجتماعي، فإن الجزء الثاني الذي نأمل أن تظهر ترجمته في هذه السلسلة قريبا، يكمل الصورة بعرض لأهم ملامح الفلسفات الغربية الحديثة والمعاصرة، وبذلك يكتسب القارئ العربي رؤية ناضجة شاملة لأهم معالم تلك المغامرات الفكرية الشيقة التي امتدت عبر خمسة وعشرين قرنا.
الكويت، سبتمبر 1982م
أ.د. فؤاد زكريا
تقديم
Unknown page
قال الشاعر الإسكندري كاليماخوس
Callimachus : «إن الكتاب الكبير شر كبير!» وإني لأميل بوجه عام إلى مشاركته في هذا الرأي. وعلى ذلك إذا كنت أجازف بتقديم هذا الكتاب إلى القارئ؛ فذلك لأن هذا الكتاب، من حيث الشر، أهون من غيره. ومع ذلك فإن كتابي هذا يستدعي تفسيرا خاصا؛ ذلك لأني كنت منذ وقت ما قد ألفت كتابا في هذا الموضوع نفسه. غير أن «حكمة الغرب» كتاب جديد كل الجدة، وإن كان من المحال بالطبع أن يكون قد ظهر لو لم يسبقه كتابي «تاريخ الفلسفة الغربية».
إن ما أحاوله ها هنا إنما هو إلقاء نظرة شاملة على الفلسفة الغربية منذ طاليس حتى فتجنشتين، مع بعض الإشارات إلى الظروف التاريخية التي حدثت فيها وقائع هذه القصة. أما عن ظهور كتاب آخر في تاريخ الفلسفة، يضاف إلى كل الكتب السابقة، فمن الممكن تبريره بعاملين؛ فمن الملاحظ أولا أن قلة من الكتب هي التي استطاعت أن تجمع بين الإيجاز وقدر معقول من الشمول. وبالطبع فإن هناك تواريخ كثيرة أوسع نطاقا، تعالج كل موضوع بإسهاب أكبر بكثير. ومن الواضح أن هذه الكتب لا يعتزم كتابنا هذا أن يدخل معها في منافسة، ولا شك في أن من يتولد لديهم اهتمام أعمق بالموضوع سيرجعون إليها في الوقت المناسب، بل ربما رجعوا إلى النصوص الأصلية. أما العامل الثاني فهو أن الاتجاه الراهن إلى الإغراق المتزايد في التخصص يؤدي بالناس إلى أن ينسوا ما يدينون به عقليا لأسلافهم. والهدف من هذه الدراسة هو تعويض هذا النسيان؛ فالفلسفة الغربية كلها هي - بمعنى حقيقي ما - الفلسفة اليونانية، وإنه لمن العبث أن نمارس التفكير الفلسفي في الوقت الذي نكون فيه قد فصمنا كل الروابط التي تربطنا بالمفكرين العظام في الماضي. لقد كان من الشائع أن يقال في وقت مضى إن على الفيلسوف أن يلم من كل شيء بطرف، ولعل هذا لم يكن بالقول الصائب، وهكذا كانت الفلسفة تعتقد أن مجال اهتمامها يضم المعرفة كلها. ولكن أيا كان الأمر فإن الرأي السائد الآن، والقائل إن الفلاسفة ليسوا بحاجة إلى معرفة أي شيء عن أي شيء، هو بالقطع رأي باطل ؛ فأولئك الذين يعتقدون أن الفلسفة بدأت «حقا» عام 1921م،
1
أو على أية حال في وقت ليس أسبق من ذلك بكثير، لا يدركون أن المشكلات الفلسفية الراهنة لم تنشأ فجأة من فراغ، ومن ثم فإننا لا نرى أنفسنا بحاجة إلى الاعتذار عن إفاضتنا نسبيا في معالجة الفلسفة اليونانية.
إن أي عرض لتاريخ الفلسفة يمكن أن يسير على إحدى طريقتين؛ فإما أن يتبع طريقة إلى السرد البحت، مبينا ما قاله هذا الفيلسوف والعوامل التي أثرت في ذاك، وإما أن يجمع بين السرد وقدر معين من الحكم النقدي؛ لكي يبين كيف تسير المناقشة الفلسفية، وقد اتبعت هنا الطريقة الثانية. على أنني أود أن أضيف أنه لا ينبغي أن يستنتج القارئ من ذلك أن من الممكن استبعاد أي مفكر بسهولة لمجرد كون آرائه قد بدت لنا ناقصة؛ فلقد قال «كانت» ذات مرة إنه لا يخشى أن يفند بقدر ما يخشى أن يساء فهمه.
ومن هنا وإن علينا أن نفهم ما يحاول الفلاسفة قوله، قبل أن نتركهم جانبا. ومع ذلك فلا بد من الاعتراف بأن هذا الفيلسوف بدا لنا أحيانا غير متناسب مع النتائج التي توصل إليها. على أن هذا الأمر في النهاية مسألة تقديرية يتعين على كل إنسان أن يتوصل فيها إلى رأيه الخاص.
إن مجال الموضوع وطريقة معالجته قد اختلفا في هذا الكتاب عما كانا عليه في كتابي السابق؛ فالمادة الجديدة تدين بالكثير للدكتور بول فولكس
Foulkes
الذي ساعدني في كتابة النص. ولقد كان الهدف هو تقديم عرض عام لبعض المسائل الأساسية التي ناقشها الفلاسفة؛ فإذا ما أحس القارئ بأن اطلاعه على هذه الصفحات قد أغراه بالمزيد من متابعة الموضوع، فسوف يكون الهدف الرئيسي من تأليف هذا الكتاب قد تحقق.
Unknown page
برتراند رسل
تصدير
ما الذي يفعله الفلاسفة حين يمارسون مهمتهم؟ هذا بالفعل سؤال غريب، وربما كان في إمكاننا أن نحاول الإجابة بأن نبين أولا ما لا يفعلونه؛ ففي العالم المحيط بنا أشياء عديدة نفهمها جيدا، منها مثلا طريقة عمل الآلة البخارية، وهي تدخل في نطاق الميكانيكا والديناميكا الحرارية. كما أننا نعرف الكثير عن تركيب الجسم البشري، وطريقة أدائه لوظائفه، وهي أمور يدرسها علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء. أو لنتأمل أخيرا حركة النجوم التي نعرف عنها الكثير، وهي تندرج ضمن علم الفلك، أي إن كلا من ميادين المعرفة هذه تنتمي إلى علم أو لآخر.
غير أن جميع ميادين المعرفة تحف بها منطقة محيطة من المجهول. وحين يصل المرء إلى مناطق الحدود ويتجاوزها، فإنه يغادر أرض العلم ويدخل ميدان التفكير والتأمل. هذا النشاط التأملي نوع من الاستكشاف أو الاستطلاع، وهو يشكل واحدا من مقومات الفلسفة. والواقع أن ميادين العلم المختلفة قد بدأت كلها - كما سنرى فيما بعد - بوصفها استطلاعا فلسفيا بهذا المعنى، ولكن ما إن يصبح العلم مرتكزا على أسس متينة، حتى يسير في طريقه على نحو مستقل، إلا فيما يتعلق بالمشكلات الواقعة على الحدود، أو بمسائل المنهج، ولكن لا يمكن القول إن عملية الاستطلاع هذه تحرز تقدما بالمعنى المألوف لهذه الكلمة، وإنما هي تستمر في طريقها فحسب، وتتجدد وظيفتها بلا انقطاع.
وفي الوقت ذاته يتعين علينا أن نميز الفلسفة من ضروب التأمل الأخرى؛ فالفلسفة في ذاتها لا تأخذ على عاتقها مهمة حل المشكلات التي نعاني منها، أو إنقاذ أرواحنا، وإنما هي - على حد تعبير اليونانيين - نوع من المغامرة الاستكشافية (أو من السياحة الفكرية) التي نقوم بها لذاتها، ومن ثم فليس في الفلسفة من حيث المبدأ عقائد راسخة، أو طقوس، أو كيانات مقدسة من أي نوع، على الرغم من أنه قد يحدث - بطبيعة الحال - أن يصبح أفراد من الفلاسفة عقائديين جامدين. والواقع أن ثمة موقفين يمكن اتخاذهما إزاء المجهول؛ أحدهما: قبول أقوال الناس الذين يقولون إنهم يعرفون، من كتب معينة أسرارا أو مصادر أخرى للوحي، والآخر: هو أن يخرج المرء ويرى الأمور بنفسه، وهذا هو طريق العلم والفلسفة.
وأخيرا، يجدر بنا أن نشير إلى سمة خاصة تتميز بها الفلسفة، فلو سأل شخص: ما هي الرياضيات؟ فإننا نستطيع أن نعطيه تعريفا قاموسيا، فنقول على سبيل المثال: إنها علم العدد، هذا التعريف لا يشكل في ذاته عبارة يمكن الاختلاف عليها، وهو فضلا عن ذلك عبارة يسهل على السائل فهمها، حتى لو كان جاهلا بالرياضيات. وعلى هذا النحو ذاته يمكن تقديم تعريفات لأي ميدان توجد فيه مجموعة محددة من المعلومات. أما الفلسفة فيستحيل تعريفها على هذا النحو؛ ذلك لأن أي تعريف لها يثير الجدل والخلاف، وينطوي في ذاته على موقف معين من الفلسفة. وسوف يكون الهدف الأكبر الذي يضعه هذا الكتاب نصب عينيه هو تبيان الطريقة التي كان الناس يمارسون بها الفلسفة حتى الآن.
إن ثمة أسئلة عديدة يتساءل عنها الناس الذين يفكرون في وقت أو آخر، ولا يستطيع العلم أن يقدم إجابة عنها. كما أن أولئك الذين يحاولون أن يفكروا في الأمور بأنفسهم لا يمكنهم أن يكتفوا بالإجابات الجاهزة التي يقدمها إليهم العرافون. مثل هذه الأسئلة هي التي تقع على عاتق الفلسفة مهمة استطلاعها، وأحيانا التخلص منها.
وهكذا قد نشعر بالرغبة في أن نتساءل: ما معنى الحياة، إن كان لها معنى على الإطلاق؟ هل للعالم غاية؟ وهل يؤدي مسار التاريخ إلى نتيجة؟ أم أن هذه الأسئلة لا معنى لها؟
وهناك أيضا مشكلات مثل: هل الطبيعة تحكمها بالفعل قوانين، أم أننا نعتقد أن الأمر كذلك؛ لأننا نحب أن نرى في الأشياء نظاما؟ وهناك أيضا ذلك التساؤل الشائع: هل العالم منقسم إلى جزأين منفصلين؛ عقل ومادة؟ وإن كان الجواب: لا. يجاب: فكيف يرتبطان؟
وماذا نقول عن الإنسان؟ أهو ذرة من الغبار تزحف بلا حول ولا قوة على كوكب صغير ضئيل الشأن كما يراه الفلكيون؟ أم أن الإنسان - كما قد يقول الكيميائيون - حفنة من المواد الكيميائية ركبت بطريقة بارعة؟ وأخيرا، فهل الإنسان هو، كما يبدو في نظر هاملت، رفيع العقل، لا نهاية لملكاته؟ أم أنه قد يكون هذا كله في آن معا؟
Unknown page
إلى جانب الأسئلة السابقة، هناك الأسئلة الأخلاقية عن الخير والشر؛ فهل ثمة طريق صائب وخير للحياة، وآخر باطل، أم أن الطريقة التي نحيا بها محايدة بين الخير والشر؟ أهناك شيء يمكننا أن نسميه حكمة، أم أن ما يبدو حكمة إنما هو جنون محض؟
هذه كلها أسئلة محيرة، ومن المحال أن يبت فيها المرء بإجراء تجارب في معمل، كما أن أصحاب التكوين الذهني المستقل لا يقبلون أن يرتدوا إلى ما يقوله أولئك الذي يوزعون النبوءات الشاملة يمينا ويسارا. مثل هذه الأسئلة هي التي يقدم إلينا تاريخ الفلسفة ما يمكن تقديمه من إجابات عنها.
وهكذا فإننا حين ندرس هذا الموضوع الصعب، نعرف ما فكر فيه الآخرون في أزمنة أخرى عن هذه الأمور، فيؤدي بنا ذلك إلى فهم أفضل لهؤلاء الناس؛ إذ إن طريقتهم في معالجة الفلسفة كانت مظهرا هاما من مظاهر أسلوب حياتهم، وقد يؤدي بنا ذلك آخر الأمر إلى أن يبين لنا كيف نظل نحيا على الرغم من أننا لا نعرف إلا القليل.
الفصل الأول
«قبل سقراط»
تبدأ الفلسفة حين يطرح المرء سؤالا عاما، وعلى النحو ذاته يبدأ العلم. ولقد كان أول شعب أبدى هذا النوع من حب الاستطلاع هو اليونانيون؛ فالفلسفة والعلم - كما نعرفهما - اختراعان يونانيان. والواقع أن ظهور الحضارة اليونانية، التي أنتجت هذا النشاط العقلي العارم، إنما هو واحد من أروع أحداث التاريخ، وهو حدث لم يظهر له نظير قبله ولا بعده؛ ففي فترة قصيرة لا تزيد عن قرنين، فاضت العبقرية اليونانية في ميادين الفن والأدب والفلسفة بسيل لا ينقطع من الروائع التي أصبحت منذ ذلك الحين مقياسا عاما للحضارة الغربية.
إن الفلسفة والعلم يبدآن بطاليس الملطي
Thales of Miletus
في أوائل القرن السادس قبل الميلاد، ولكن على أي نحو سارت الأحداث قبل ذلك، حتى تهيئ لهذا الظهور المناجي للعبقرية اليونانية؟ سنحاول، بقدر استطاعتنا، أن نهتدي إلى إجابة عن هذا السؤال. وسوف نستعين بعلم الآثار، الذي خطا خطوات عملاقة منذ بداية هذا القرن، من أجل جمع شتات الصورة التي تكشف لنا، إلى حد معقول، عن الطريقة التي وصل بها العالم اليوناني إلى ما هو عليه.
إن الحضارة اليونانية حضارة متأخرة بالقياس إلى حضارات العالم الأخرى؛ إذ سبقتها حضارتا مصر وبلاد ما بين النهرين بعدة ألوف من السنين. ولقد نما هذان المجتمعان الزراعيان على ضفاف أنهار كبرى، وكان يحكمهما ملوك مؤلهون، وأرستقراطية عسكرية، وطبقة قوية من الكهنة كانت تشرف على المذاهب الدينية المعقدة التي كانت تعترف بآلهة متعددين. أما السواد الأعظم من السكان، فكانوا يزرعون الأرض بالسخرة.
Unknown page
ولقد توصلت مصر القديمة وبابل إلى بعض المعارف التي اقتبسها الإغريق فيما بعد، ولكن لم تتمكن أي منهما من الوصول إلى علم أو فلسفة. على أنه لا جدوى من التساؤل في هذا السياق عما إذا كان ذلك راجعا إلى افتقار العبقرية لدى شعوب هذه المنطقة، أم إلى أوضاع اجتماعية؛ لأن العاملين معا كان لهما دورهما بلا شك، وإنما الذي يهمنا هو أن وظيفة الدين لم تكن تساعد على ممارسة المغامرة العقلية.
ففي مصر كان الدين معنيا إلى حد بعيد بالحياة بعد الموت؛ فالأهرامات كانت صروحا جنائزية، ولقد كان الإلمام ببعض المعارف الفلكية لازما من أجل الوصول إلى تنبؤ دقيق بفيضان النيل، كما أن طبقة الكهنة في ممارستها للحكم الإداري استحدثت شكلا من أشكال الكتابة بالصور، ولكن لم تتبق بعد ذلك موارد تكفي للتطور في الاتجاهات الأخرى.
أما في بلاد ما بين النهرين، فقد حلت الإمبراطوريات السامية الكبرى محل السومريين الأسبق منها، الذين اقتبس أولئك عنهم الكتابة المسمارية. وفي الناحية الدينية كان الاهتمام الرئيسي منصبا على السعادة في هذا العالم، وكان تسجيل حركات النجوم وما صاحبه من ممارسات للسحر والتنجيم موجها من أجل هذه الغاية.
وبعد فترة ما، بدأت تنمو مجتمعات تجارية، كان أهمها سكان جزيرة كريت، وهي مجتمعات لم يتم إلقاء الضوء عليها من جديد إلا في وقت قريب. والأرجح أن الكريتيين جاءوا من الأراضي الساحلية لآسيا الصغرى، وأصبحت لهم الغلبة بسرعة على جميع جزر بحر إيجه، وفي أواسط الألف الثالثة قبل الميلاد أدت موجة جديدة من المهاجرين إلى نمو غير عادي للثقافة الكريتية. فشيدت قصور فخمة في كنوسوس
Cnossus
وفايستوس
، وأخذت السفن الكريتية تجوب البحر المتوسط من أقصاه إلى أقصاه.
ومنذ عام 1750ق.م. أدت سلسلة متكررة من الزلازل والثورات البركانية إلى إطلاق موجة هجرة من كريت إلى المناطق المجاورة في اليونان وآسيا الصغرى. وأدت مهارة الكريتيين في الحرف اليدوية إلى تغيير ثقافة سكان المناطق القارية. وأفضل موقع يكشف عن هذا التأثير في اليونان هو ميسناي
Mycenae
في الأرجوليد
Unknown page
Arogolid ، وهو الموطن التقليدي لأجاممنون
Agamemnon . كما أن الذكريات التي يرويها الشاعر هوميروس تتعلق بالعصر الكريتي، وحوالي 1450ق.م. ضرب كريت زلزال عنيف وضع حدا مفاجئا للسيطرة الكريتية.
ولقد كانت أرض اليونان الأصلية قد استوعبت من قبل موجتين متتاليتين من الغزاة؛ أولاهما كانت موجة الأيونيين، الذي أتوا من الشمال حوالي عام ألفين ق.م، ويبدو أنهم اندمجوا تدريجيا في السكان الأصليين، وبعد ثلاثمائة عام جاء غزو الأخاي
Achaean
الذين كونوا هذه المرة طبقة حاكمة. وكانت سادة ميسناي (الكريتيون) وإغريق هوميروس ينتمون بوجه عام إلى هذه الفئة الحاكمة.
ولقد كانت تربط الكريتيين-الآخيين روابط تجارية بجميع أرجاء البحر المتوسط، ولم تؤد كارثة عام 1455ق.م. في كريت إلى قطع هذه الروابط، وهكذا نجد الكريتيين من بين «شعوب البحر» التي هددت مصر حوالي عام 1205ق.م، وكان المصريون يطلقون عليهم اسم «بليست
»، وكان هؤلاء هم الفلسطينيون
الأصليون الذين استمد هؤلاء منهم اسم الأرض التي استقروا فيها، وهو «فلسطين».
وحوالي 1100ق.م. أدى غزو آخر إلى تحقيق ما عجزت عنه كوارث الطبيعة؛ ذلك لأن الغزوات الدورية
Dorian
Unknown page
جعلت اليونان ومنطقة بحر إيجه بأكملها فريسة في أيدي قبائل همجية غازية شديدة البأس، وكان الآخيون قد استنفدوا طاقتهم قبل ذلك في حروب طروادة في أوائل القرن الثاني عشر ق.م، فلم يستطيعوا الصمود أمام تلك الهجمة، كما أصبح الفينيقيون هم أسياد البحر، ودخلت اليونان عندئذ مرحلة من الظلام. وفي هذه الفترة تقريبا اقتبس الإغريق الحروف التي كانت قد عرفت لدى التجار الفينيقيين من قبل، بإضافة حروف متحركة إليها.
والواقع أن اليونان الأصلية بلد خشن في مظهره وفي مناخه؛ إذ توجد سلاسل من الجبال القاحلة تقسم الأرض، مما يجعل الانتقال البري من واد إلى واد أمرا عسيرا .
ومن ثم فقد نمت في السهول الخصبة مجتمعات محلية منفصلة، وحين كانت الأرض تعجز عن إعاشة الجميع كان البعض منهم يشد عصا الترحال عبر البحر لإنشاء مستوطنات. وهكذا تناثرت المدن اليونانية على سواحل صقلية وجنوب إيطاليا والبحر الأسود منذ أواسط القرن الثامن حتى أواسط القرن السادس ق.م، ومع نشوء المستوطنات ازدهرت التجارة، وعاد اليونانيون إلى الاتصال بالشرق.
أما من الناحية السياسية، فقد مرت اليونان بعد غزو «الدوريين» بسلسلة من التغيرات، كان أولها سيادة النظام الملكي، ثم انتقلت السلطة تدريجا إلى أيدي الأرستقراطية، التي أعقبتها فترة من حكم الملوك غير الوارثين، أو الطغاة
Tyrants ، وفي النهاية انتقلت السلطة السياسية إلى المواطنين، وهذا هو المعنى الحرفي للفظ «الديمقراطية». ومنذ ذلك الحين أخذ حكم الطغاة والديمقراطية يتناوبان، وكان في استطاعة الديمقراطية المباشرة أن تظل قائمة ما دام المواطنون جميعا قادرين على التجمع في ساحة السوق، وهو نوع من الديمقراطية لم يعد له في عصرنا وجود إلا في بعض المقاطعات الصغيرة من سويسرا.
ولقد كان أقدم وأعظم أثر أدبي للعالم اليوناني هو أعمال هوميروس، وهو رجل لا نعرف عنه شيئا مؤكدا، بل إن البعض يعتقدون أنه كانت هناك مجموعة متعاقبة من الشعراء أطلق عليها هذا الاسم في وقت لاحق. وعلى أية حال، فإن ملحمتي هوميروس العظيمتين، الإلياذة والأوديسية، قد تم تأليفهما على ما يبدو حوالي عام 800ق.م، أما حرب طروادة، التيتدور حولها الملحمتان، فقد نشبت بعد عام 1200ق.م. بقليل، هكذا تقدم الملحمتان وصفا جاء بعد الغزو «الدوري
Dorian » لحدث وقع قبل الغزو الدوري، ومن هنا كانتا تنطويان على قدر من عدم الاتساق.
وترتد الملحمتان في صورتهما الراهنة إلى الصيغة المعدلة التي ترجع إلى عهد بيزستراتوس
، الطاغية الأثيني في القرن السادس ق.م، ولقد عمل هوميروس على تخفيف الكثير من وحشية العصر السابق، وإن كانت آثار من هذه الوحشية قد ظلت باقية، بل إن الملحمتين تعكسان الموقف العقلي لطبقة حاكمة متحررة؛ فالجثث فيها تحرق ولا تدفن، كما نعرف أنه كان يحدث في عصور الحضارة الميسينية (الكريتية). أما مجمع الآلهة في جبل أولمب فهو حشد صاخب من السادة الذين يعيشون حياة خشنة قاسية. والعقيدة الدينية في هاتين الملحمتين تكاد تكون بلا فاعلية، على حين تظهر فيها بوضوح عادات راقية، مثل إكرام الضيوف الغرباء. وقد تتسرب من آن لآخر عناصر أكثر بدائية، كالتضحية بالبشر على صورة قتل الأسرى في مواسم أو طقوس معينة، ولكن ذلك لا يحدث إلا في أوقات نادرة جدا، أي إن لهجة هاتين الملحمتين تخلو - على وجه الإجمال - من التطرف.
والحق أن هذا يرمز، على نحو ما، لتوتر الروح اليونانية؛ فهذه الروح يتنازعها عنصران؛ أحدهما: عقلي منظم، والآخر: غريزي أهوج. من الأول جاءت الفلسفة والفن والعلم، ومن الثاني العقيدة الأكثر بدائية، المرتبطة بطقوس الخصوبة. وعند هوميروس يبدو هذا العنصر خاضعا للسيطرة إلى حد بعيد، أما في العصور اللاحقة، وخاصة مع تجدد الاتصالات بالشرق، فإنه يعود فيحتل مكان الصدارة، وهو يرتبط بعبادة ديونيزوس أو باخوس، الذي كان في الأصل واحدا من آلهة تراقية، على أن هذا الضرب من الوحشية التي ترقى إلى مرتبة التقديس قد خضع لمؤثرات هذبته، وخففت من غلوائه بفضل شخصية أسطورية هي شخصية أورفيوس، الذي يقال إن جماعة من عباد باخوس السكارى قد مزقوه إربا. وتتجه التعاليم الأورفية إلى الزهد، وتؤكد النشوة العقلية، آملة بذلك أن تصل إلى حالة من «الوجد» أو الاتحاد بالإله، وبذلك تكتسب معرفة صوفية يستحيل التوصل إليها على أي نحو آخر. ولقد كان للعقيدة الأورفية - في صورتها الأرقى هذه - تأثير عميق في الفلسفة اليونانية، ويظهر هذا التأثير أولا عند فيثاغورس، الذي يوفق بينها وبين نزعته الصوفية الخاصة. ومن هذا المصدر الأول وجدت عناصر منها طريقها إلى أفلاطون، والجانب الأكبر من الفلسفة اليونانية، بقدر ما كانت هذه الفلسفة بعيدة عن الطابع العلمي البحت.
Unknown page
غير أن العناصر الأكثر بدائية ظلت باقية حتى في التراث الأورفي، والواقع أنها هي مصدر التراجيديا اليونانية؛ ففي هذه التراجيديا نجد الكاتب يتعاطف دائما مع أولئك الذين تنتابهم عواطف وانفعالات عنيفة. ولقد كان أرسطو على حق حين وصف التراجيديا بأنها عملية تطهر
Catharsis ، أي تطهير للانفعالات.
هذا الطابع المزدوج للشخصية اليونانية هو الذي أتاح لها في النهاية أن تغير العالم بصورة حاسمة. وقد أطلق «نيتشه» على هذين العنصرين اسم العنصر الأبولوني والديونيزي، وهما عنصران لم يكن في استطاعة أي واحد منهما بمفرده أن يفجر الطاقة العجيبة للحضارة اليونانية؛ ففي الشرق كان العنصر الصوفي يسيطر بلا منازع، ولكن ما أنقذ اليونانيين من الوقوع في براثن هذا العنصر وحده، هو ظهور المدارس العلمية في أيونية. ومع ذلك ينبغي أن نلاحظ، من جهة أخرى، أن الدقة العلمية وحدها كانت - شأنها شأن التصوف - عاجزة عن إحداث ثورة عقلية؛ إذ يحتاج الأمر إلى سعي متحمس ومنفعل وراء الحقيقة والجمال، وهذا بالضبط ما جلبه التأثير الأورفي. لقد كانت الفلسفة عند سقراط طريقا للحياة، ولنذكر في هذا الصدد أن كلمة «النظرية»
Theory
في اليونانية كانت تعني في البداية شيئا أشبه «بتأمل منظر طبيعي»، وبهذا المعنى استخدمها هيرودوت. وهكذا يمكن القول إن ما أعطى الإغريق القدماء مكانتهم الفريدة في التاريخ هو ميلهم إلى حب الاستطلاع الذي لا يرتوي، والذي يدفع المرء إلى القيام ببحث مشبوب بالانفعال، يكون مع ذلك موضوعيا نزيها.
إن حضارة الغرب التي انبثقت من مصادر يونانية، مبنية على تراث فلسفي وعلمي بدأ في ملطية
Miletus
منذ ألفين وخمسمائة عام، وهي في هذا تختلف عن سائر حضارات العالم الكبرى؛ فالمفهوم الرئيسي الذي يسري عبر الفلسفة اليونانية بأسرها هو مفهوم «اللوجوس
Logos »، وهو لفظ يدل على معان كثيرة، من بينها «الكلام» و«النسبة أو المقياس». وهكذا توجد رابطة وثيقة بين اللغة الفلسفية والبحث العلمي، ويترتب على هذا الارتباط مذهب في الأخلاق يرى الخير في المعرفة، التي هي تطهير للانفعالات حصيلة البحث المجرد عن الهوى.
لقد قلنا من قبل إن طرح أسئلة عامة هو بداية الفلسفة والعلم. فما شكل هذه الأسئلة إذن؟ يمكن القول - بأوسع معنى ممكن - إنها بحث عن النظام فيما يبدو للعين غير المدربة سلسلة من الأحداث العشوائية المتخبطة. ومن المفيد أن نتنبه إلى الأصل الذي استمدت منه فكرة النظام لأول مرة؛ ففي رأي أرسطو أن الإنسان حيوان سياسي، لا يعيش بمفرده، بل في مجتمع. ويقتضي ذلك، حتى على أكثر المستويات بدائية، نوعا من التنظيم، ومن هذا المصدر استمدت فكرة النظام؛ فالنظام هو أولا وقبل كل شيء نظام اجتماعي، وبطبيعة الحال فقد اكتشفت في الطبيعة، منذ أقدم العصور، تغيرات منتظمة؛ كتعاقب الليل والنهار، ودورة الفصول، ومع ذلك فإن هذه التغيرات لم تفهم لأول مرة إلا في ضوء تفسير بشري ما؛ فالأجرام السماوية آلهة، وقوى الطبيعة أرواح، صنعها الإنسان على صورته.
Unknown page
وإن مشكلة البقاء لتعني في المحل الأول أن على الإنسان أن يحاول تشكيل قوى الطبيعة وفقا لإرادته، ولكن قبل أن يتحقق ذلكم بطرق نستطيع اليوم أن نصفها بأنها علمية، مارس الإنسان السحر. والواقع أن الفكرة العامة الكامنة من وراء العلم والسحر كانت واحدة؛ ذلك لأن السحر إنما هو محاولة للحصول على نتائج خاصة على أساس طقوس محددة بدقة. وهو مبني على الاعتراف بمبدأ السببية، أي المبدأ القائل إنه إذا توافرت نفس الشروط المسبقة، ترتبت عليها نفس النتائج. وهكذا فإن السحر شكل أولي للعلم
. أما الدين فينبثق من مصدر آخر؛ ففيه تبذل محاولة للوصول إلى نتائج مضادة للتعاقب المنتظم أو معاكسة لها، فهو يمارس عمله في نطاق المعجزات، التي تنطوي ضمنا على إلغاء السببية، وهكذا فإن طريقتي التفكير هاتين مختلفتان كل الاختلاف، برغم أننا كثيرا ما نجدهما ممتزجتين في الفكر البدائي.
ومن خلال الأنشطة المشتركة التي تمارسها الجماعات سويا، تنمو وسيلة الاتصال التي نطلق عليها اسم اللغة، والتي تنحصر مهمتها الأساسية في أن تتيح للناس العمل من أجل هدف مشترك؛ فالفكرة الأساسية فيها هي فكرة الاتفاق، وهذه الفكرة ذاتها يمكن أن ينظر إليها بالمثل على أنها نقطة بداية المنطق. وهي تنشأ من أن الناس عند تبادل الاتصال بينهم يصلون آخر الأمر إلى اتفاق، حتى لو اكتفوا بأن يتفقوا على الاختلاف، ولكن أجدادنا كانوا عندما يصلون إلى مثل هذا الطريق المسدود، يسوون المسألة بممارسة القوة، فعندما تجهز على محدثك، يستحيل أن يناقضك. غير أنهم كانوا أحيانا يلجئون إلى بديل آخر، هو متابعة المسألة بالمناقشة، إن كانت تقبل المتابعة على الإطلاق ، وهذا هو طريق العلم والفلسفة.
وللقارئ أن يحكم بنفسه على مدى تقدمنا في هذه الناحية منذ عصور ما قبل التاريخ.
إن فلسفة اليونانيين تكشف طوال مراحلها عن تأثير عدد من الثنائيات. وقد ظلت هذه الثنائيات، في صورة أو أخرى، تشكل حتى اليوم موضوعات يكتب عنها الفلاسفة أو يتناقشون حولها. وأساس هذه الثنائيات جميعا التمييز بين الصواب والخطأ، أو الحقيقة والبطلان. ويرتبط بها ارتباطا وثيقا، في الفكر اليوناني، ثنائيتا الخير والشر، والانسجام والتنافر أو النزاع، ثم تأتي بعد ذلك ثنائية المظهر والحقيقة، التي ما تزال حية إلى حد بعيد في يومنا هذا. وإلى جانب هذه نجد مسألتي العقل والمادة، والحرية والضرورة. وهناك فضلا عن ذلك مسائل كونية تتعلق بكون الأشياء واحدة أم كثيرة، بسيطة أم معقدة، وأخيرا ثنائية الفوضى والنظام، والحد واللامحدود.
والحق إن الطريقة التي عالج بها الفلاسفة الأوائل هذه المشكلات هي طريقة ذات دلالة بالغة؛ فقد تنحاز إحدى المدارس إلى أحد طرفي الثنائية، ثم تظهر بعدها مدرسة أخرى تثير اعتراضات وتتخذ وجهة النظر المضادة. وفي النهاية تأتي مدرسة ثالثة، وتقوم بنوع من الحل الوسط الذي يتجاوز الرأيين الأصليين. والواقع أن هيجل قد توصل أول الأمر إلى فكرته عن الجدل (الديالكتيك) عن طريق ملاحظة «معركة الأرجوحة» هذه بين المذاهب المتنافسة لدى الفلاسفة السابقين لسقراط.
وهناك صلات متبادلة - على أنحاء ما - بين كثير من هذه الثنائيات، على أننا سوف نتجاهل هدف الدقة التامة فنعزل كلا منها عن الأخريات حتى نكشف عن مختلف أنواع المشكلات التي كانت تعالجها الفلسفة؛ فثنائية الصواب والخطأ قد نوقشت في المنطق. أما مسائل الخير والشر، والانسجام والتنافر، فتنتمي إلى الأخلاق. وأما مشكلات المظهر والحقيقة، والعقل والمادة، فيمكن النظر إليها على أنها هي المشكلات التقليدية لنظرية المعرفة أو الإبستمولوجيا.
وأخيرا فإن الثنائيات المتبقية تنتمي - بدرجات متفاوتة - إلى مبحث الوجود (الأنطولوجيا). وبطبيعة الحال فليس في هذه التقسيمات فواصل قاطعة، بل إن الحدود الفاصلة بينها قد تعبر، وربما كان عبور الحدود هذا من السمات المميزة للفلسفة اليونانية.
لقد ظهرت أول مدرسة للفلاسفة العلماء في ملطية
Miletus ، وهي مدينة كانت تقع على ساحل أيونية، وكانت مركزا نشطا للتبادل التجاري، توجد في جنوبها الشرقي قبرص وفينيقيا ومصر. وفي شمالها بحر إيجه والبحر الأسود، وإلى الغرب عبر بحر إيجه توجد أرض اليونان الأصلية وجزيرة كريت. ولقد كانت ملطية تتصل اتصالا وثيقا في الشرق بإقليم ليديا
Unknown page
Lydia ، وعن طريقه تتصل بإمبراطوريات ما بين النهرين. ومن ليديا تعلم أهل ملطية سك عملات ذهبية تستخدم نقودا، وكان ميناء ملطية يزخر بأضرعة من بلاد متعددة، كما كانت مخازنه تمتلئ سلعا من كافة أرجاء العالم. ومع وجود النقود بوصفها وسيلة عالمية لاختزان القيمة ومبادلة سلعة بأخرى، لم يكن من المستغرب أن نجد الفلاسفة الملطيين يطرحون أسئلة عن الأصل الذي جاءت منه الأشياء جميعا.
ولقد نسب إلى طاليس
Thales
الملطي قوله: «إن الأشياء جميعا جاءت من الماء.» وعلى هذا النحو بدأت الفلسفة والعلم، ولقد كان طاليس في نظر التراث اليوناني واحدا من الحكماء السبعة، ويذكر لنا هيرودوت أنه تنبأ بكسوف للشمس، وقد حسب الفلكيون موعد هذا الكسوف فوجدوا أنه حدث في عام 585ق.م؛ ومن ثم فقد اعتبر ذلك التاريخ فترة نضوج هذا الفيلسوف، وليس من المرجح أن يكون طاليس قد كون نظرته عن الكسوف الشمسي، بل لا بد أنه كان على دراية بالسجلات البابلية المتعلقة بهذه الظاهرة، ومن ثم فقد عرف متى يبحث عن الكسوف، ومن حسن الحظ أن ذلك الكسوف بالذات كان من الممكن رؤيته في ملطية؛ مما ساعد على تحديد عصر طاليس بدقة، كما ساعد بلا شك على ذيوع شهرته. وبالمثل فإن من المشكوك فيه جدا أن يكون قد تمكن من أن يثبت هندسيا نظريات تطابق المثلثات، ولكنه تمكن بلا شك من تطبيق القاعدة العملية التي كان يستخدمها المصريون القدماء في قياس ارتفاع الهرم لكي يهتدي بواسطتها إلى المسافة التي تبعد بها السفن في البحر، ومسافة الأشياء الأخرى التي يستحيل الوصول إليها. وهكذا كانت لديه فكرة عن إمكان تطبيق القواعد الهندسية على نطاق عام، وفكرة التعميم هذه فكرة يونانية أصيلة .
كذلك نسب إلى طاليس قوله إن للمغناطيس نفسا؛ لأنه يحرك الحديد، أما عبارته الأخرى القائلة إن الأشياء كلها مليئة بالآلهة، فليست مؤكدة بالقدر نفسه، ومن الجائز أنها نسبت إليه على أساس عبارته السابقة، ولكن يبدو أنها تجعل العبارة الأولى غير ذات موضوع؛ لأن القول بأن للمغناطيس نفسا لا يكون له معنى إلا إذا لم تكن للأشياء الأخرى نفوس.
ولقد ارتبط اسم طاليس بقصص كثيرة، ربما كان بعضها صحيحا؛ فقد قيل إنه عندما ووجه بتحد في إحدى المناسبات، أبدى عبقريته العلمية بالتحكم في سوق زيت الزيتون؛ ذلك لأن معرفته بالأرصاد الجوية قد دلته مقدما على أن المحصول سيكون وفيرا، فاستأجر كل المعاصر التي أمكنه أن يضع يده عليها، وعندما حان الوقت أجرها بالسعر الذي يريد، فربح بذلك مالا وفيرا، وأثبت للساخرين أن الفلاسفة يمكنهم لو شاءوا أن يكسبوا المال بوفرة.
على أن أهم آراء طاليس هو قوله إن العالم يتألف من الماء، وهي عبارة ليست مسرفة إلى الحد الذي تبدو عليه للوهلة الأولى، ولا هي مجرد نتاج للخيال المنفصل عن المشاهدة، فقد تبين في عصرنا هذا أن الهيدروجين، الذي هو العنصر المولد للماء، هو العنصر الكيمائي الذي يمكن تخليق جميع العناصر الأخرى منه.
1
والواقع أن الرأي القائل إن المادة كلها واحدة، هو فرض علمي جدير بالاحترام. أما عن الملاحظة فإن وجود المرء قريبا من البحر ييسر عليه ملاحظة عملية تبخر المياه بواسطة الشمس، وتجمع بخار الماء على السطح لكي تكون سحبا تتحلل مرة أخرى على صورة أمطار. ووفقا لهذا الرأي تكون الأرض نوعا من الماء المركز، صحيح أن تفاصيل هذا قد تبدو عندئذ مسرفة في الخيال، غير أن من الإنجازات التي تدعو إلى الإعجاب أن يكتشف مفكر أن هناك مادة تظل على ما هي عليه برغم اختلاف الحالات التي تتجمع بها.
ولقد كان الفيلسوف الملطي التالي هو أنكسيمندر، الذي يبدو أنه ولد حوالي عام 610ق.م. ولقد كان مثل طاليس مخترعا ومتمرسا في المسائل العلمية؛ فهو أول راسم للخرائط، وهو زعيم مستوطنة من المستوطنات الملطية على ساحل البحر الأسود.
Unknown page
وقد انتقد أنكسيمندر نظرية طاليس الكونية، فما الداعي إلى اختيار الماء؟ إن المادة الأصلية التي صنعت منها الأشياء لا يمكن أن تكون واحدة من الصور المحددة لهذه المادة؛ ومن ثم ينبغي أن تكون شيئا مختلفا عن هذه كلها، شيئا أساسيا أسبق منها؛ ذلك لأن أشكال المادة المختلفة تتنازع فيما بينها بلا انقطاع، فيتنازع الحار ضد البارد، والرطب ضد الجاف؛ فهي تتعدى دواما كل على الأخرى، أو ترتكب «ظلما» بالمعنى اليوناني الذي تدل فيه هذه الكلمة على اختلال التوازن. ولو كان أي من هذه الأشكال هو المادة الأساسية لتغلب على الأشكال الأخرى منذ وقت طويل. إن المادة الأصلية هي ما يسميه أرسطو بالعلة المادية، وقد أطلق عليها أنكسيمندر اسم «اللامحدود»، أي إنها تجمع لانهائي للمادة يمتد في كل الاتجاهات، ومن هذا الأصل ينشأ العالم، وإليه سيعود آخر الأمر.
ولقد كانت الأرض في رأي أنكسيمندر أسطوانة تطفو بلا قيود، نوجد نحن على وجه أحد طرفيها، وهو يفترض فضلا عن ذلك أن عالمنا محاط بعدد لا نهاية له من العوالم الأخرى. ولفظ «عالم» يدل هنا على ما نسميه الآن باسم «المجرة». وتتحكم في الوظيفة الداخلية لكل عالم حركة محورية تجذب الأرض نحو المركز، أما الأجرام السماوية فهي حلقات من نار يحجبها الهواء إلا في نقطة واحدة، ويمكننا تشبيهها بإطار العجلة الذي لا يظهر منه إلا الصمام. وبطبيعة الحال فمن الواجب أن نتذكر أن الهواء كان في نظر اليونانيين في ذلك الحين قادرا على حجب الأشياء وإخفائها.
أما رأي أنكسيمندر في أصل الإنسان فكان «حديثا» إلى حد بعيد؛ ذلك لأن ملاحظته أن الإنسان يحتاج في صغره إلى فترة طويلة من الرعاية والحماية جعلته يستنتج أنه لو كان الإنسان دائما على ما هو عليه الآن، لما تمكن من البقاء. وعلى ذلك فلا بد أنه كان فيما مضى مختلفا، أي لا بد أنه تطور من حيوان يستطيع أن يرعى نفسه في وقت أسرع. وهذه حجة في الإثبات يطلق عليها اسم «برهان الخلف
Reduction ad absurdum » وفيها تستدل من افتراض معين على نتيجة واضحة البطلان، وهي في هذه الحالة أن الإنسان لم يستطع البقاء، فيترتب على ذلك ضرورة رفض ذلك الافتراض. ولو كانت هذه الحجة سليمة؛ أعني لو أن الإنسان كان دائما على ما هو عليه الآن، يترتب عليه أنه ما كان يستطيع أن يستمر في البقاء - وهي نتيجة أعتقد أنها صحيحة - لأصبح في استطاعة هذه الحجة، دون أي برهان آخر، أن تثبت أن هناك بالفعل نوعا من العملية التطورية المستمرة.
غير أن أنكسيمندر لم يكتف بهذه الحجة، بل مضى إلى القول إن الإنسان يرجع أصله إلى أسماك البحر، وأيد ذلك بملاحظات عن حفريات باقية، كما أيده بملاحظة الطريقة التي تطعم بها أسماك القرش صغارها. وبناء على هذه الأسباب كان من الطبيعي أن ينصحنا أنكسيمندر بالامتناع عن أكل الأسماك. أما مسألة ما إذا كان إخوتنا في أعماق البحار يبادلوننا نفس هذه المشاعر الرقيقة، فتلك مسألة لم يقم عليها دليل!
أما ثالث المفكرين المشاهير في ملطية فهو أناكسيمنيس
Anascimenes
الذي لا نعرف شيئا محددا عن الزمن الذي عاش فيه، سوى أنه كان آخر الفلاسفة الثلاثة زمنيا. وتعد نظرياته في نواح معينة خطوة إلى الوراء بالقياس إلى أنكسيمندر، ولكن على الرغم من أن تفكيره كان أقل ميلا إلى المغامرة، فإن آراءه في مجملها كانت أقدر على الاستمرار. إنه يرى مثل أنكسيمندر أن هناك مادة أساسية، غير أن هذه في نظره مادة محددة، هي الهواء؛ فأشكال المادة المختلفة التي نراها حولنا تنشأ من الهواء عن طريق عمليتي التكاثف والتخلخل. ولما كانت هذه طريقة أخرى للتعبير عن الفكرة القائلة إن جميع الاختلافات إنما هي اختلافات في الكم أو المقدار، فلا بأس على الإطلاق عندئذ من أن نقول بمادة واحدة تكون هي الأساس. وهو يرى أن الهواء هو قوام النفس، وهو يحفظ للعالم حياته مثلما يحفظ لنا حياتنا، وهذا رأي سيقول به الفيثاغوريون فيما بعد. أما في نظريته الكونية فقد سار أناكسيمنيس في الطريق الخطأ. ومن حسن الحظ أن الفيثاغوريين قد اقتفوا أثر أنكسيمندر في هذه الناحية، ولكنهم في بقية النواحي كانوا أميل إلى التأثر بأناكسيمنيس، وهو بمعنى ما أمر له ما يبرره؛ فقد كان أناكسيمنيس آخر ممثل لهذه المدرسة، وهو الذي حمل تراثها كله.
وفضلا عن ذلك، فإن نظريته في التكاثف والتخلخل كانت هي التي ختمت بحق نظرة المدرسة الملطية إلى العالم.
لقد كان فلاسفة ملطية رجالا ذوي مزاج يختلف عن أولئك المتخصصين الذين نطلق عليهم الفلاسفة في أيامنا هذه؛ فقد كانوا منهمكين في الشئون العملية للمدينة، وكانوا قادرين على مواجهة كافة الاحتمالات. ولقد رأى البعض أن نظريات أنكسيمندر قد عرضت في ثنايا دراسة عن الجغرافيا بالمعنى الواسع، وكانت العناوين الباقية لدينا من دراسات أصبحت الآن مفقودة تعني «تفسيرات للطبيعة المادية للأشياء». وهكذا كان نطاق اهتمامهم واسعا، وإن لم تكن طريقة المعالجة على الأرجح شديدة العمق. ولا شك أن احتجاج الفيلسوف هرقليطس فيما بعد إنما كان منصبا على هذا النوع من «الإلمام من كل شيء بطرف».
Unknown page
غير أن الأسئلة التي تطرح، في الفلسفة، تفوق في أهميتها الإجابات التي تقدم، ومن هذه الزاوية كانت مدرسة ملطية جديرة بالشهرة التي أحرزتها. كذلك لم يكن المستغرب أن تكون أيونية، التي أنجبت هوميروس، هي أيضا مهد العلم والفلسفة؛ ذلك لأن الدين عند هوميروس كما رأينا كان ذا طابع أوليمبي، وظل محتفظا بهذا الطابع. وفي مثل هذا المجتمع الذي لا تثقل عليه النزعة الصوفية كثيرا، تتوافر للنظر العلمي فرصة أكبر، وعلى حين أن كثيرا من مدارس الفلسفة اليونانية التالية كان لها من الصوفية نصيب، فينبغي أن نذكر دائما أنها كانت جميعا مدينة بالفضل للملطيين.
إن المدرسة الملطية لم تكن مقيدة بأية حركة دينية، بل إن من السمات الملفتة للنظر في الفلاسفة السابقين لسقراط أنهم كانوا جميعا على خلاف مع التراث الديني السائد. وهذا يصدق حتى على مدارس كالفيثاغورية ، التي لم تكن في ذاتها معارضة للدين. ولقد كانت الممارسات الدينية لليونانيين ككل مرتبطة بالأعراف السائدة في «دول المدينة» المختلفة، ومن هنا فإن الفلاسفة عندما كانوا يسيرون في طرق خاصة بهم، لم يكن من المستغرب أن يدخلوا في نزاع مع عقائد الدولة في مدنهم، وهو مصير يتعرض له جميع أصحاب العقول المستقلة في كل زمان ومكان.
وعلى مسافة قريبة من ساحل أيونية تقع جزيرة ساموس
Samos ، ولكن على الرغم من القرب المكاني، فإن تقاليد الجزر كانت في نواح هامة أكثر محافظة من تقاليد المدن الواقعة في قلب البلاد ذاتها؛ ففي الجزر يبدو أن بقايا حضارة بحر إيجه الغابرة ظلت تمارس تأثيرها طويلا، وهذا فارق ينبغي أن نأخذه في حسباننا في بحوثنا التالية. فعلى حين أن أيونية التي أنجبت هوميروس ومدرسة ملطية القديمة لم تكن على وجه الإجمال ميالة إلى أن تأخذ الدين بجدية، فإن عالم الجزر كان منذ البداية أكثر استعدادا لتقبل التأثير الأورفي الذي انطبع على ما تبقى من معتقدات حضارات كريت وبحر إيجه.
لقد كانت الديانة الأولمبية مسألة قومية لا تنطوي على عقائد دينية راسخة بالمعنى الدقيق، أما الأورفية فكانت لها نصوصها المقدسة، وكانت تربط بين معتنقيها برباط من المعتقدات المشتركة، وفي هذه الحالة تصبح الفلسفة طريقا للحياة، وموقفا منها بالمعنى الذي سيعتنقه سقراط فيما بعد.
ولقد كان رائد هذه الروح الجديدة في الفلسفة هو فيثاغورس، الذي كان مواطنا لجزيرة ساموس، ونحن لا نعرف الكثير عن تاريخ حياته وتفاصيلها، ولكن يقال إن فترة ازدهاره كانت حوالي عام 532ق.م، أيام حكم الطاغية بوليكراتيس
. ولقد كانت مدينة ساموس منافسة لملطية وغيرها من مدن الأرض اليونانية الأصلية التي سقطت في أيدي الغزاة الفرس بعد أن استولوا على سارديس
Saradis
في عام 544ق.م، وكان بوليكراتيس لوقت ما حليفا وثيقا لأمازيس
Amasis ، ملك مصر، وهذا هو بالطبع أصل الرواية القائلة إن فيثاغورس سافر إلى مصر، ومنها استمد معارفه الرياضية، وأيا كان الأمر فإن فيثاغورس قد رحل عن ساموس؛ لأنه لم يستطع أن يتحمل حكم بوليكراتيس الاستبدادي، واستقر في كروتون
Unknown page
Croton ، وهي مدينة يونانية في جنوب إيطاليا، حيث أنشأ الجماعة التي تنسب إليه، وقد عاش في كروتون عشرين عاما حتى سنة 510ق.م، وبعد أن قامت ثورة ضد مدرسته انسحب إلى ميتابونتيون
Metapontion ، حيث عاش حتى وفاته.
لقد كانت الفلسفة عند مفكري ملطية - كما رأينا من قبل - مسألة عملية إلى حد بعيد، وكان في استطاعة الفلاسفة أن يكونوا رجال عمل، بل كانوا بالفعل كذلك. أما في التراث الفيثاغوري فقد برزت وجهة النظر المضادة، فهنا أصبحت الفلسفة تأملا منعزلا للعالم، ويرتبط ذلك بالتأثير الأورفي الذي يتجسد في النظرة الفيثاغورية إلى الحياة؛ ففي هذه النظرة يتوزع الناس بين ثلاث شعاب في الحياة، وكما أن هناك ثلاثة أنواع من الناس يحضرون الألعاب الأولمبية، فكذلك توجد في المجتمع ثلاثة أنواع من الناس، أدناها هم أولئك الذين يبيعون ويشترون، ويليهما المشتركون في المسابقات، وأخيرا المتفرجون الذين يحضرون لكي يشاهدوا، أي «الناظرون» بالمعنى الحرفي (المستمد من النظر).
هؤلاء الآخرون هم الذين يعادلون الفلاسفة. وطريقة الحياة الفلسفية هي الوحيدة التي تحمل قدرا من الأمل في التغلب على تقلبات الحياة، وتتيح لنا الخلاص من دوامة الميلاد من جديد؛ ذلك لأن الفيثاغوريين كانوا يؤمنون بأن الروح تمر بسلسلة متعاقبة من حالات التناسخ.
هذا الجانب من التراث كان يرتبط بعدد من المحرمات والنواهي البدائية، أما التقسيم الثلاثي لأنماط الحياة، فسوف نجده مرة أخرى في جمهورية أفلاطون، بل سنجد فيها بالفعل قدرا كبيرا من التعاليم الفيثاغورية، وآراء المدارس السابقة لسقراط؛ ذلك لأن من الممكن القول إن أفلاطون يقدم إلينا مركبا جامعا للصراعات المذهبية بين الفلاسفة الأوائل.
ومن جهة أخرى، فإن المدرسة الفيثاغورية قد أدت إلى ظهور تراث علمي، ورياضي على وجه التخصيص؛ إذ كان علماء الرياضة هم الورثة الحقيقيون للفيثاغورية، وعلى الرغم من العنصر الصوفي الناشئ عن حركة الأحياء الأورفية، فإن هذا الجانب العلمي للمدرسة لم يلحقه أي تشويه من جراء هذه الأفكار الدينية الأورفية، ولهذا يصبح العلم نفسه عندهما مصطبغا بالصبغة الدينية، على الرغم من أن اتخاذ الأسلوب العلمي في الحياة هو ذاته أمر ذو مغزى ديني.
ولقد كانت الموسيقى من العوامل الهامة في الجانب التطهيري لأسلوب الحياة هذا، ومن الجائز جدا أن اهتمام الفيثاغوريين بالموسيقى كان راجعا إلى تأثيرها التطهيري هذا. وأيا كان الأمر فقد اكتشف فيثاغورس العلاقات العددية البسيطة لما نسميه الآن بالمسافات الموسيقية. فالوتر المشدود يصدر الصوت الثامن (الأوكتاف) إذا قسم طوله إلى النصف، وبالمثل فإذا أنقص الطول إلى ثلاثة أرباع، حصلنا على الصوت الرابع، وإذا أنقص إلى الثلثين حصلنا على الخامس. والصوتان الرابع والخامس معا يصنعان الثامن (الأوكتاف)، أي × = . إن هذه المسافات تناظر النسب القائمة في العلاقة التوافقية 2: 4 / 3: 1. ولقد حاول البعض أن يربط بين المسافات الثلاث للوتر المشدود وبين طرق الحياة الثلاثة. ومع أن هذا لا بد أن يظل ضربا من التخمين، فمن المؤكد أن الوتر المشدود سيلعب منذ الآن دورا أساسيا في الفكر الفلسفي اليوناني؛ ذلك لأن فكرة الانسجام، بمعنى التوازن، والتوفيق بين الأضداد؛ كالمرتفع والمنخفض، والجمع بينها عن طريق الضبط الصحيح للنغم، ومفهوم الوسط أو الطريق الأوسط في الأخلاق، ونظرية الأمزجة الأربعة، كل هذه ترجع في النهاية إلى الاكتشاف الذي توصل إليه فيثاغورس، وسوف نجد الكثير من هذه الأفكار عند أفلاطون.
ومن المحتمل جدا أن الكشوف في ميدان الموسيقى هي التي أدت إلى الفكرة القائلة إن الأشياء كلها أعداد، بحيث يتحتم علينا، من أجل فهم العالم المحيط بنا، أن نهتدي إلى العدد في الأشياء. وما أن ندرك البناء العددي، حتى تتحقق لنا السيطرة على العالم، وتلك فكرة عظيمة الأهمية، وعلى حين أن دلالتها قد ضاعت مؤقتا بعد العصر الهلينستي، فقد عاد الاعتراف بها مرة أخرى بعد أن أدت حركة إحياء المعرفة إلى بعث اهتمام متجدد بالمصادر القديمة، وقد أصبحت هذه الفكرة من السمات الرئيسية في النظرة الحديثة إلى العلم. كذلك فإننا نجد لدى فيثاغورس لأول مرة اهتماما بالرياضيات لا ينبعث أساسا من الاحتياجات العملية، صحيح أنه كانت لدى المصريين القدماء بعض المعارف الرياضية، ولكن هذه المعارف لم تتجاوز ما كانوا يحتاجون إليه لبناء أهراماتهم أو لقياس مساحة حقولهم. أما اليونانيون فهم الذين بدءوا بدراسة هذه المسائل «حبا في البحث ذاته» على حد تعبير هيرودوت، وكان فيثاغورس واحدا من أسبقهم في هذا الميدان.
وقد استحدث فيثاغورس طريقة لتصوير الأعداد بوصفها تنظيمات من النقط أو الحصى، وتلك في الواقع طريقة في الحساب ظلت باقية، بصورة أو بأخرى، وقتا طويلا من بعده، بل إن الكلمة اللاتينية التي تدل على عملية الحساب
Calculation
Unknown page
تعني «التعامل مع الحصى».
2
وترتبط بذلك دراسة سلاسل حسابية معينة؛ فإذا رتبنا صفوفا من الحصى، بحيث يحتوي كل صف منها على واحدة تزيد عما قبله، بادئين بالواحد؛ عندئذ نحصل على عدد «مثلث». وقد أوليت أهمية خاصة إلى هذا العدد المثلث
Tetraktys
الذي يتألف من أربعة صفوف، والذي يثبت أن 1 + 2 + 3 + 4 = 10، وبالمثل فإن مجموع الأعداد الفردية المتعاقبة يساوي عددا «مربعا»، ومجموع الأعداد الزوجية المتعاقبة يساوي عددا «مستطيلا».
وفي الهندسة اكتشف فيثاغورس النظرية المشهورة القائلة إن المربع المقام على وتر المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين، وإن لم نكن نعرف طبيعة البرهان الذي أثبتها به، وهنا نجد مثلا آخر لمنهج التعميم والبرهان، على عكس القواعد العملية المكتسبة بالخبرة. على أن اكتشاف هذه النظرية قد أدى إلى إشكال هائل في المدرسة الفيثاغورية؛ ذلك لأن من نتائجها أن المربع المقام على وتر المربع يساوي ضعف المربع المقام على ضلعه، ولكن أي عدد «مربع» لا يمكن تقسيمه إلى عددين مربعين متساويين؛ ولذا فإن المشكلة لا يمكن حلها عن طريق ما نسميه الآن بالأعداد الجذرية
Rational . فالوتر لا يتناسب قياسا مع الضلع، ولا بد لحل هذه المشكلة من نظرية في الأعداد الصماء
Irrational ، وهي النظرية التي وضعها فيثاغوريون متأخرون. ومن الواضح أن اسم «الصماء» في هذا السياق يرجع إلى هذا الإشكال الرياضي المبكر. وتقول إحدى الروايات إن واحدا من أعضاء الجماعة الفيثاغورية قد أغرق في البحر لأنه باح بهذا السر.
ولقد ارتكز فيثاغورس في نظريته عن العالم على تعاليم الفلاسفة الملطيين مباشرة، وجمع بينها وبين نظرياته الخاصة في الأعداد. فالأعداد في الترتيبات التي ذكرناها من قبل تسمى «أحجار الحدود»، وهي تسمية ترجع قطعا إلى الأعداد، إن هذا المفهوم كان مرتبطا بقياس الحقول، أهمية «الهندسة» قياس الأرض
geometry
Unknown page
بالمعنى الحرفي للكلمة ؛ ففي رأي فيثاغورس أن الهواء اللامحدود هو ما يحافظ على تميز الوحدات، والوحدات هي التي تجعل اللامحدود قابلا للقياس. وفضلا عن ذلك فاللامحدود هو ذاته الظلمة، والحد هو النار، وهو تصور نابع، كما هو واضح من رؤية السماء والنجوم. وقد اعتقد فيثاغورس شأنه شأن الملطيين أن هناك عوالم كثيرة، وإن كان من غير المحتمل، تبعا لنظرته إلى العدد، أن يكون قد وصفها بأنها عوالم لا تعد ولا تحصى. وقد توسع فيثاغورس في فكرة أنكسيمندر، فذهب إلى أن الأرض كرة، وتخلى عن نظرية الدوامة التي قال بها الملطيون. غير أن القول بنظرية في مركزية الشمس كان لا بد أن ينتظر مجيء فيلسوف لاحق، كان بدوره من سكان ساموس.
ولقد كان اهتمام الفيثاغوريين بالرياضيات هو الذي أدى إلى ظهور نظرية سنصادفها فيما بعد، هي نظرية المثل أو نظرية الكليات
universals . فحين يبرهن الرياضي على نظرية خاصة بالمثلثات، فإنه لا يتحدث عن أي شكل محدد مرسوم في مكان ما، وإنما يتحدث عن شيء يراه بعين العقل، ومن هنا ينشأ التمييز بين المعقول والمحسوس، وفضلا عن ذلك فإن النظرية التي يتم إثباتها تكون صحيحة بلا قيد أو شرط، وتظل صحيحة في كل زمان. وحسبنا أن نسير خطوة واحدة بعد ذلك لنصل إلى الرأي القائل إن المعقول وحده هو الحقيقي والكامل والأزلي، على حين أن المحسوس ظاهري، ناقص، زائل، فتلك إذن نتائج مباشرة للفيثاغورية ظلت مسيطرة على الفكر الفلسفي، فضلا عن الفكر اللاهوتي، منذ ذلك الحين.
ولنذكر أيضا أن الإله الرئيسي عند الفيثاغوريين كان أبولو، على الرغم مما في معتقداتهم من عناصر أورفية، ولقد كان التيار الأبولوني هو الذي ميز اللاهوت العقلاني في أوروبا من صوفية الشرق.
وهكذا تزعزعت أركان العقيدة الأولمبية القديمة تحت تأثير الفيثاغوريين الأوائل، وظهرت محلها نظرة دينية جديدة، على أن زينوفان
Xenophanes
قد شن هجوما أعنف بكثير على الآلهة التقليدية. وقد ولد زينوفان هذا على الأرجح في عام 565ق.م. في أيونية، وهرب إلى صقلية عندما جاء الغزو الفارسي في عام 545ق.م، ويبدو أن هدفه الرئيسي كان استئصال مجموعة آلهة الأوليمبي التي اتخذ كل منها صورة الإنسان، كما أنه عارض النزعة الصوفية التي سادت حركة الأحياء الأورفية، وتهكم على فيثاغورس.
أما الشخصية التالية في ذلك التراث الفلسفي فهي شخصية هرقليطس
Heracleitus
الذي كان ينتمي إلى مدينة إفسوس
Unknown page