سئل حاتم الطائي عن أي الناس أعظم منه كرما، وأفضل نفسا، وأحسن شيما، فقال: ذبحت يوما أربعين حلوبة للأضياف، ثم سرت في البيداء أريد أمرا، فبلغت أجمة فيها رجل يحتطب، فقلت له: أما سمعت بكرم حاتم طيء وسماحته؟ قال : بلى، قلت: هلا استضافك؟ قال: ثكلتني أمي لو أنه استضافني وقبلت ضيافته، ودعاني فأجبت دعوته؛ فإنني ما دمت أستطيع الكسب بعرق جبيني، وتعب يميني، فمن العار أن يكون لكريم علي يد أغضي لها حين يغضب:
ولا خير في مال عليه ألية
ولا في يمين عوقدت بالمآثم
فقلت للمحتطب: أنا حاتم طيء، وأنت ورب الكعبة أعلى كعبا مني في الكرم، وأقرب إلى المروءة، وأسبق إلى محاسن الشيم.
فضيلة الصمت
سألني صديق عن طول صمتي وملازمتي للسكوت، فقلت له: إنني اخترتهما لأن الحديث يستلزم امتزاج طيب الكلام بخبيثه، وأذن العدو لا تسمع إلا المساوئ، فقال لي صاحبي: إن في ترقب العدو لما تقول وتفعل نعمة كبرى؛ فهو يغض الطرف عن الحسنات ويأخذنا بالسيئات، فيدعونا هذا إلى التنصل عنها والخلاص منها، قلت: لئن اتقى أحدنا الغرق كان اغتباطه به أعظم من اغتباطه بالنجاة منه.
كان سحبان وائل أخطب العرب، وأقواهم جنانا، وأفصحهم لسانا، وأبلغهم بيانا، يخطب في قومه عاما فلا يعيد لفظا مرتين، وإذا عرض له معنى كان ذكره احتال على البلاغة حتى تدله على قالب جديد يفرغ فيه المعنى القديم، وهذه صفة لازمة لمن يعاشرون الأمراء، ويخطبون في الناس، ويبتغون الكمال في فن الكلام.
سمعت كليما يقول: ما رأيت رجلا يعرض على الناس جهله، ويعرفهم بمقدار نقصه كمن يقطع الحديث على رجل، أو يسرع في القول ولما يفرغ مخاطبه، وقد قالت الحكماء: إن الأريب من كانت ألفاظه منظمة متناسقة متناسبة كالوشي في الثوب المطروز، والبليد من خلط الإصابة بالغلط، فإذا قال قولا عجز عن تبيين قصده، فلا يصيب ذهن محدثه سوى الاضطراب والتشويش؛ فهو كمن يملأ حفرة لا يدري أي الحجارة يقذف أولا.
الخطيب المزعج
كان لخطيب من الخطباء صوت يزعج النفوس، ويؤلم الأسماع إذا استأذن عليها، وكان إذا خطب أن الناس ألما، وتميزوا غيظا، فكان يظن أنينهم إعجابا بصوته، وأنهم يطربون لوقعه، فكأنه لم يتل قوله تعالى:
Unknown page