قال هذا وسكر التلفون، ثم تطلع بماري تطلعة جد كسرت قلبها، فأرخت رأسها على صدره وسألته والغصة ملء صدرها: «أصحيح أنك ستتركني يا خليل، رجلي ورجلك، لا أفارقك حتى الموت.»
قالت هذا والدمعة قد قاربت الانحدار من عينيها، ولكن خليلا صد دموع امرأته بضحكة طويلة أتبعها بقبلة قوية على عينيها التي قاربت التدميع.
ثم انتبه فجأة وقال: «قربت الساعة، فبعد قليل لا بد أن يحضر أبوك وجميع أهلك، فماذا نعمل؟»
بعد تردد قليل اتفقا على أن يكملا الدور الذي رفع خليل الستار عنه، فتم بينهما أن تتمسك بأذياله بشدة عندما يسمع وقع خطوات أهلها قرب الباب، وهكذا كان، فلما دخل الأب ووراءه امرأته وابنتهما الكبرى شاهد الجميع ابنتهم ممسكة بخليل وهي تهدده بقولها: «لا يمكنك أن تخطو خطوة من هنا ما لم يأت أهلي ويروك.»
وكان أن مرادا سمع العبارة التي قالتها ابنته للذي خطفها فلم يقل شيئا البتة، ولكنه أسرع خطاه إلى محل الحادثة، فجذب ابنته عن خليل، ودفعها إلى جانب وقال لها: «ابعدي أنت عنه.» ثم أمسك بيد خليل وخاطبه بصوت حاد متكسر بالغصات التي كانت قد انزرعت في طريق رئته إلى حلقه: «ماذا تريد أن تعمل الآن؟ إما حياتك وإما شرفي؟ عملت معنا هذا الفصل ومرادك الآن أن تنهيه على حسابي أنا؟ ما هذا الأمل منك يا خليل.»
وكان أن امرأة مراد قد اقتربت من خليل وبين عينيها سيف لامع من الغضب، فأبعدها زوجها وأشار إليها أن تخفض صوتها لئلا يأتي سكان النزل ومعهم البوليس فتكون الضلالة الأخيرة شرا من الأولى.
عندئذ نهض خليل ونظره إلى الأرض وقال: «لا تغضبوا ولا تحمقوا، فأنا ما قصدت أن أغضبكم، فقد ظننت أنكم تريدون ابنتكم فأخبرتكم أين تجدونها، وأما وأنتم تريدونني معها فهذا كل ما كنت أشتهيه وأتمناه.»
ولم يخرج القوم من تلك الغرفة إلا وتبدلت الحالة من سخط إلى فرح، وكل من الحزبين يظن نفسه الظافر على الآخر. وقد ذهب الجميع إلى بيت مراد البسيط، حيث اجتمع عدد من الأهل والمعارف، وفي اليوم التالي ضجت السمعة في المدينة أن مرادا رضي عن صهره وابنته، وأنهما اكتريا الطابق الأعلى في المنزل الذي يسكنه؛ لتكون ماري قريبة من بيت أبويها.
خليل عساف كان مشغوفا بحب ماري البسيط، وكان أبوها عارفا بذلك، ولم يكن ما يجعله يميل عنه إلا خلوه من المال، ومعلوم أن الزواج يكلف نفقات مالية كثيرة؛ ولهذا أبعد أمله إلى سنة أو سنتين لعل في هذه المدة يقوى على توفير المبلغ الكافي. إلا أن خليلا لم يرق له التأجيل، وكذلك ماري، ولكنهما كانا أيضا عارفين تمام العرف بالنفقات اللازمة وأهمها ثمن الخاتم الماسي، وبعد البحث مرارا بينهما في هذا الأمر اقترحت ماري نفسها على حبيبها أن يهربا وينجوا من المصاريف فيحصلان على متمناهما دون كلفات لا معنى لها، وهكذا فإنهما هربا دون علم أحد ودون أن يعرفا تماما إذا كان الأب يمانع بتاتا عند الساعة الأخيرة.
وعاش خليل وامرأته عيشة هنيئة، وقد نسي الناس كيف كان عرسهما، وبعد سنتين جاء بكرهما فسمياه وليم، وكان صورة بالجمال كأنه هبة من ملائكة الله.
Unknown page