فقلت لساعتي: «ولعل عمك الذي كانت امرأته في مستشفى روزفلت عام 1917؟»
فأجاب: «نعم، في مستشفى روزفلت، وكيف عرفت؟!»
فضحكت ضحكة طويلة، وصحت بنجيب: «الآن وجدتها، الآن عرفت أين شاهدت عمك، نعم نعم الآن عرفت، اسمع يا نجيب، في ذلك الزمان شاهدت عمك صدفة عند الخوري، وكان يطلب إليه أن يعطيه ورقة بإمضائه وشهادته أنه - أي عمك - من فقراء الحال؛ ليكسب ثقة أرباب المستشفى فلا يتقاضونه مالا، وقد كبس يد الخوري بشيء لقاء ذلك، أما أنا فلما شاهدته على ما كان عليه من التلبك حزنت لحاله، واقتربت منه سائلا عما أصابه، فأجابني بأن بيته قد خرب، فإنه لم يكفه الله أجور الأطباء والمستشفى؛ فقد خسر شغل شهرين لامرأته، وأنها لا بد أن تمكث شهرين آخرين بعدما تخرج من المستشفى، فيكون التعطيل أربعة أشهر. أما أنا فلما سمعت حكايته أحببت أن أخفف عنه، وأعزيه بحديث معه، فقلت له إن الخسارة المالية لا ينظر إليها طالما المرأة قد تعافت، وإن خسارة المال لا شيء أمام خسارة الحياة. وقد زاد عمك حزني عليه في تلك الساعة؛ لأنه لم يرق له ما نطقت به، بل تناوله كأنه خال من كل معنى مفهوم. لم يعجبه رأيي. أسمعت؟»
فهز نجيب رأسه، وقال لي وقد انتهينا إلى مفرق الطريق بيني وبينه: «نعم، لم يعجبه رأيك؛ لأن المال عنده يسوى أكثر من امرأة؛ فإنه لم تكد تخرج امرأة عمي من المستشفى حتى استأنفت الشغل ببيع الجزدان بالرغم من إنذارات الأطباء، ولكن شكرا لقوتها البدنية، فإنها غلبت الضعف وهزئت بالعوارض، وها هي اليوم كالنمرة كما رأيتها، ولو لم تكن أنت معي في هذه الزيارة التي لم يكن لي بد منها لأسمعني عمي قوارص الكلام؛ لأني لا أسمح لأمي أن تشتغل كامرأته بالبيع، ولأننا نعيش في بروكلن بين مساكن الناس.»
وكنت إذ ذاك قد افترقت خطوتين عن صديقي نجيب، فودعته ثم ابتسمت، وقلت له وأنا أبتعد عنه: «الحمد لله، قد عرفت أين شاهدت عمك أخيرا، ليس في مرسيليا المشهورة بضخامة أحصنتها، بل في نيويورك.»
في بيت الميت
عندما مات طانيوس المر ظل بيت الفقيد مقصد المعزين أسبوعا كاملا ليل نهار، وقد خيف أن يكون بلاء أهل الفقيد من كثرة المعزين أكثر من فقدهم الفقيد المرحوم، ولكن هي العادة السورية في هذه الأحوال تأخذ مأخذها وهذا التقليد يجري مجراه، ولو تقطعت القلوب وتفتت الأكباد وتحطم إناء الصبر.
أهل الميت يسمعون تعازي من أفواه المعزين، كأنها أمثولات تعلمها قائلوها من جملة الصلوات التي تقال كل يوم، وإني أنا كاتب هذه الحكاية أشعر بكل ما في من العواطف مع الفاقدين ليس على ما يفقدون بل على جلادتهم في استماع فلسفة التعازي.
إلا أنه من نعم المولى أن الاصطلاح في التعزية أن يكون وقتها قصيرا جدا، فالمعزي يبقي قبعته بيده، وإذا كان في الشتاء يظل لابسا سترته العليا، وما الداعي إلى هذا الاختصار ميل من القوم إلى التخفيف عن أهل الميت؛ بل كثرة القادمين حتى يضيق عنهم المكان، وإذ ذاك يخرج فوج ليعطي مكانا للفوج القادم جديدا.
أما أهل الميت فجلوس بلا حراك، وآذان بلا ألسنة، وعيون تنظر أحضانها، وشفاه تتمتم كلمتين لكل قادم وكل مودع، وهما «وراسك سالم» جوابا على التحية في التعزية لدى الدخول والخروج، وهي «عوضنا الله بسلامة رءوسكم.»
Unknown page