فهز رأسه موافقا فواصلت: وتساءلت طويلا إلى من يحسن بي أن ألجأ، حتى هداني التفكير إليك. - أستغفر الله.
وتريثت لحظات ثم قالت: إنك لا تعرفني إلا كزميلة في إدارة السكرتارية. - بلى. - فعلي أن أقدم لك نفسي الحقيقية. - أهلا بها. - هي نفس مقضي عليها بالسجن المؤبد في شقاء دائم. - أرجو أن تتكشف بعد تبادل الرأي عن مغالاة عاطفية. - بل هي حقيقة واقعية.
تجلى الاهتمام في عينيه وهو يقول: إني مصغ إليك.
فقالت وهي تتنهد: حسبي أن أعرض عليك الفصل الأخير من المأساة.
فتجلى الاهتمام بصورة أوضح. - إني يتيمة الأبوين، لي إخوة ثلاثة صغار، نقيم في بيت زوج المرحومة أمنا. - وضع معقد. - وأبعد ما يكون عن الراحة. - لا يمكن إنكار ذلك. - وهو رجل عنيد متعجرف. - زوج المرحومة؟ - دون غيره. - أهو عجوز مثلي؟ - بل أكبر، وهو لا يحبنا! - هل أنجب لكم إخوة؟ - كلا، إنه عقيم! - ذلك مدعاة لحب الأطفال. - ولكنه شاذ، وقد أفهمني عقب وفاة والدتي بأنني المسئولة وحدي عن إخوتي.
وساد الصمت مليا حتى استطردت قائلة: لعله بقراره لم يجاوز العقل! - بلى ولكنه جاوز الرحمة. - على أي حال أنا لا أطمع في رحمته! - مفهوم. - وهو يمن علينا بالمأوى وببعض المساعدات وإن يكن يحتسبها ديونا مؤجلة.
هز الكهل رأسه دون أن ينبس فقالت متنهدة: لعلك تخيلت الصورة التي أعيش في إطارها، والحق أني لا أملك النقود اللازمة لملابس فتاة موظفة. - وشابة في عز شبابها! - هكذا تمضي الأيام في قسوة ومرارة، تحت رعاية عنيفة لا تعرف الرحمة، بلا أمل، أي أمل في غد أفضل!
فقال الكهل كالمحتج: لا يجوز أن ننظر إلى الحياة بهذه العين. - ولو كانت بالحال التي ذكرت؟ - ولو كانت!
ثم تساءل وكأنه يناجي نفسه: من ذا يقطع بما يخبئه الغد؟!
فرفعت منكبيها زهدا في مناقشة فكرته وقالت وهي تتنهد: وإذا بي أشعر بزحف الزمن، من خلال حياة التقشف والمرارة أخذ الزمن يطاردني. - ولكنك ما زلت في مطلع الشباب! - إني في الرابعة والعشرين من عمري. - عز الشباب! - ولكنه في مثل حالتي يعد مرحلة من الشيخوخة. - لا داعي للمبالغة، إن وضعك ليس الوحيد من نوعه في بلادنا، ما أكثر أشباهه وإن اختلفت الظروف والأسباب.
Unknown page