الحِكَم الجديرة بالإذاعة من قول النبي ﷺ "بعثت بالسيف بين يدي الساعة"
1 / 225
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبه نستعين
الحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَهْدِيهِ ونَسْتَغفرُهُ، وَنَعوذُ بالله مِنْ شُرورِ أَنفسِنا، وَمِنْ سَيِّئاتِ أَعْمَالنا، مَن يَهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فَلاَ هاديَ لَه، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحَدهُ لا شَريِكَ لَه، وَأَشْهَدُ أَن مُحَمّدا عَبْدهُ وَرَسُولُه، أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إِلَى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فهدى به من الضلالة وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي وفتح به أعينًا عميًا وآذانًا وقلوبًا غلفًا. صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أخرج الإمام أحمد (١) من حديث ابن عمر ﵄ عن النبي ﷺ قال: "بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهِ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ".
قوله ﷺ: "بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ" يعني: أن الله بعثه داعيًا إِلَى توحيده بالسيف بعد دعائه بالحجة، فمن لم يستجب إِلَى التوحيد بالقرآن والحجة والبيان دعي بالسيف، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ...﴾ (٢) الآية.
وفي بعض الكتب السالفة: وصف النبي ﷺ بأنه يبعث بقضيب الأَدب، وهو السيف.
ووصى بعض أحبار اليهود عند موته باتباعه وقال: إنه يسفك الدماء، ويسبي الذراري والنساء، فلا يمنعهم ذلك منه.
_________
(١) (٢/ ٥٠، ٩٢).
(٢) الحديد: ٢٥.
1 / 227
وروي أن المسيح ﵇ قال لبني إسرائيل في وصف النبي ﷺ: "إنه يسل السيف، فيدخلون في دينه طوعًا وكرهًا". وإنما أمر النبي ﷺ بالسيف بعد الهجرة لما صار له دار وأتباع وقوة ومنعة.
وقد كان النبي ﷺ يتهدد أعداءه بالسيف قبل الهجرة، وكان ﷺ يطوف
بالبيت وأشراف قريش قد اجتمعوا (في الحجر) (*) وقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل، قد سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا! لقد صبرنا منه عَلَى أمر عظيم. فلما مر بهم النبي ﷺ غمزوه ببعض القول، فعُرِفَ ذلك في وجهه ﷺ وفعلوا ذلك به ثلاث مرات، قال: "تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ؟ أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ" فأخذت القوم كلمته، حتى ما فيهم رجل إلا وكأنما عَلَى رأسه طير واقع، وحتى أن أشدهم عليه قبل ذلك ليلقاه بأحسن ما يجد من القول، حتى أنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشدًا، فواللَّه ما كنت جهولًا (١).
وقال محمد بن (الحسن) (**): بلغ رسول الله ﷺ أن أبا جهل يقول: إِنَّ محمدًا يزعم أنكم إِن بايعتموه عشتم ملوكًا، فَإِذَا متم بعثتم بعد موتكم، وكانت جنان خير من جنان الأردن، وأنكم إِن خالفتموه كان لكم منه الذبح.
ثم بعثتم بعد موتكم (وكان) (...) لكم نار تعذبون فيها، فبلغ ذلك النبي ﷺ فَقَالَ: "وأنا أقول ذلك إِنَّ لهم مني لذبحًا، وإنه لآخذهم".
وقد أمر الله -تعالى- بالقتال في مواضع كثيرة في القرآن قال تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ ...﴾ (٢)، وقال: ﴿فَإذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ ...﴾ (٣) الآية.
_________
(*) بالحجر: "نسخة".
(١) أخرجه البخاري (٣٦٧٨).
(**) كعب: "نسخة".
(٢) التوبة: ٥.
(...) كانت: "نسخة".
(٣) محمد: ٤.
1 / 228
ولهذا عوتبوا عَلَى أخذ الفداء منهم في أول قتال قاتلوه يوم بدر، وأنزل قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ...﴾ (١) الآية.
وكانوا قد أشاروا عَلَى النبي ﷺ بأخذ الفداء من الأسارى وإطلاقهم.
قال ابن عيينة: أُرسِلَ محمد ﷺ بأربعة سيوف: سيف عَلَى المشركين من العرب حتى يسلموا، وسيف عَلَى المشركين من غيرهم حتى يسلموا أو يسترقوا أو يفادى بهم، وسيف عَلَى أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وسيف عَلَى أهل القبلة من أهل البغي.
وفيما ذكره نزاع بين العُلَمَاء؛ فإن منهم من يجيز المفاداة والاسترقاق في العرب وغيرهم، وكذلك منهم من يجيز أخذ الجزية من الكفار جميعهم، والذي يظهر أن في القرآن أربعة سيوف: سيف عَلَى المشركين حتى يسلموا أو يُؤسروا، فإمَّا منًّا بعد وإما فداءًا، وسيف عَلَى المنافقين وهو سيف الزنادقة (٢)، وقد أمر الله بجهادهم والإغلاظ عليهم في سورة براءة وسورة التحريم وفي سورة الأحزاب، وسيف عَلَى أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وسيف عَلَى أهل البغي، وهو المذكور في سورة الحجرات.
ولم يسل رسول الله ﷺ هذا السيف في حياته، وإنما سلَّهُ علي- ﵁ في خلافته. وكان يقول: "أنا الَّذِي علمت الناس قتال أهل القبلة".
وله ﷺ سيوف أُخر، منها: سيفه عَلَى أهل الردة وهو الَّذِي قال فيه: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (٣) وقد سله أبو بكر الصديق ﵁ من بعده في خلافته عَلَى من ارتد من قبائل العرب.
_________
(١) الأنفال: ٦٧.
(٢) الزنديق: من لا يؤمن بالآخرة والربوبية، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان. ترتيب القاموس (٣/
٤٨١).
(٣) أخرجه البخاري (٦٩٢٢) من حديث ابن عباس، وأحمد (٥/ ٢٣١) من حديث معاذ بن جبل.
1 / 229
ومنها: سيفه عَلَى المارقين، وهم أهل البدع كالخوارج.
وقد ثبت عنه الأمر بقتالهم مع اختلاف العُلَمَاء في كفرهم. وقد قاتلهم عَلَى ﵁ في خلافته مع قوله: "إنهم ليسوا كفار".
وقد روي عن النبي ﷺ أمره بقتال المارقين والناكثين والقاسطين.
وقد أحرق عليٌّ طائفة من الزنادقة، فصوب ابن عباس قتلهم، وأنكر عليه تحريقهم بالنار، فَقَالَ علي: "ويح ابن عباس، إنه لبَحَّاث عن الهنات".
قوله ﷺ: "بين يدي الساعة" يعني: أمامها، ومراده أنه بُعِثَ قدام الساعة قرييًا منها، ومن أسمائه ﷺ الحاشر والعاقب، كما صح عنه ﷺ أنه قال:
"أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ، وَأَنَا المَاحِي، الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الكُفْرَ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا العَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيّ" (١).
وقد جعل اللَّه انشقاق القمر من علامات اقتراب الساعة كما قال تعالى:
﴿اقْتَرَيَتِ السَّاعَهُ وانشَقَ القَمَرُ﴾ (٢) وكان يرى انشقاقه بمكة قبل الهجرة.
وصح عنه ﷺ أنه قال: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» -وَأَشَارَ بإصْبعه: السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى، أخرجاه في " الصحيحين " (٣).
وخرج الإمام أحمد (٤) من حديث بريدة: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ جَمِيعًا وَإِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي» وللترمذي (٥): «بُعِثْتُ فِي نَفَسِ السَّاعَةِ/ فَسَبَقْتُهَا كَمَا سَبَقَتْ
_________
(١) أخرجه البخاري (٤٨٦٩)، ومسلم (٢٣٥٤).
(٢) القمر: ١.
(٣) أخرجه البخاري (٦٥٠٤)، ومسلم (٢٩٥١) من حديث أنس.
وأخرجه البخاري (٦٥٠٣)، ومسلم (٢٩٥٠) من حديث سهل بن سعد.
وأخرجه البخاري (٦٥٠٥) من حديث أبي هريرة.
وأخرجه مسلم (٨٦٧) من حديث جابر بن عبد الله.
(٤) (٥/ ٣٤٨).
(٥) برقم (٢٢١٣).
1 / 230
هَذِهِ هَذِهِ» -السبابة والوسطى- ليس بينهما أصبع أخرى" والصحيح أنه يدل من ذلك عَلَى القرب من الساعة.
وكان قتادة يشير إِلَى أن المراد أن بينه وبين الساعة كمقدار فضل السبابة عَلَى الوسطى، وقد قيل: إِنَّ بينهما من الفضل مقدار نصف سبع.
وأخذوا من هذا أن بقاء أمته مقدار ألف سنة، وهو سبع الدُّنْيَا. وفيه ورد ذلك مرفوعًا من حديث ابن زيد، ولكن إسناده لا يصح.
وقد رجح ذلك ابن الجوزي والسهيلي، وقال: إِن لم يصح فيه الحديث المرفوع فقد صح عن ابن عباس وغيره، وهو عند أهل الكتاب كذلك.
ومما يدل عَلَى أن بعثة محمد ﷺ من علامات الساعة أنه أخبر عن خروج الدجال في حديث الجساسة (١).
قوله ﷺ: "حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ" هذا هو المقصود الأعظم من بعثته ﷺ، بل من بعثة الرسل من قبله كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (٢) وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ (٣) بل هذا هو المقصود من خلق الخلق وإيجادهم كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (٤) فما خلقهم إلا ليأمرهم بعبادته، وأخذ عليهم العهد لما استخرجهم من صلب آدم عَلَى ذلك كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ...﴾ (٥) الآية.
وقد تكاثرت الأحاديث المرفوعة والأخبار الموقوفة في تفسير هذه الآية أنه
_________
(١) أخرجه مسلم (٢٩٤٢).
(٢) الأنبياء: ٢٥.
(٣) النحل: ٣٦.
(٤) الذاريات: ٥٦.
(٥) الأعراف: ١٧٢.
1 / 231
تعالى استنطقهم حينئذٍ، فأقروا كلهم بوحدانيته، وأشهدهم عَلَى أنفسهم وأشهد عليهم أباهم آدم والملائكة.
ثم إنه تعالى تعهدهم في كل زمان بإرسال رسله، وإنزال الكتب يذكرهم بالعهد الأول، ويجدد عليهم العهد والميثاق عَلَى أن يوحدوه ويعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وأشار في خطاب آدم وحواء عند هبوطهما من الجنة إِلَى هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿قُلْنَا اهبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ...﴾ (١) الآيتين، وفي سورة طه نحو هذا، فما وفى بنو آدم كلهم بهذا العهد المأخوذ عليهم؛ بل نقضه أكثرهم وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، فبعث الله الرسل تجدد ذلك العهد الأول وتدعوا إِلَى تجديد الإقرار بالوحدانية.
فكان أول رسول بعث إِلَى أهل الأرض يدعوهم إِلَى التوحيد وينهاهم عن الشرك نوح ﵇ فإن الشرك قد فشا في الأرض في بني آدم قبل نوح، فبعث الله نوحًا في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعو إِلَى الله وإلى عبادته وحده لا شريك له، كما ذكره سبحانه في سورة نوح عنه أنه قال لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ وأَطِيعُونِ﴾ (٢) وأخبر فى موضع آخر عنه أنه قال لهم: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (٣) فما استجاب له إلا قليل منهم، وأكثرهم أصروا عَلَى الشرك ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتِكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ ودًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ ويَعُوق ونَسْرًا﴾ (٤) فلما أصروا عَلَى كفرهم أغرقهم الله بالطوفان ونَجَّى نوحًا ومن معه في الفلك ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ (٥).
ثم إِنَّ الله تعالى بعث خليله إبراهيم فدعا إِلَى توحيده وعبادته وحده لا شريك له، وناظر عَلَى ذلك أحسن مناظرة، وأبطل شبه المشركين بالبراهين
_________
(١) البقرة: ٣٨ - ٣٩.
(٢) نوح: ٣.
(٣) المؤمنون: ٢٣.
(٤) نوح: ٢٣.
(٥) هود: ٤٠.
1 / 232
الواضحة، وكسر أصنام قومه حتى جعلهم جذاذًا (١) فأرادوا تحريقه فنجّاه الله من النار وجعلها عليه بردًا وسلامًا ووهب الله له إسماعيل وإسحاق، فجعل عامة الأنبياء من ذرية إسحاق؛ فإن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق، وأنبياء بني إسرائيل كلهم من ذرية يعقوب، كيوسف وموسى وداود وسليمان ﵈ وآخرهم المسيح ابن مريم ﵇ وإنما دعاهم إِلَى التوحيد كما قال: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ (٢).
ثم طبق الشرك الأرض بعد المسيح؛ فإن قومه الذين ادعوا اتباعه والإيمان به أشركوا غاية الشرك، فجعلوا المسيح هو الله أو ابن الله، وجعلوا الله ثالث ثلاثة.
وأما اليهود فإنهم -وإن تبرءوا من الشرك- فالشرك فيهم موجود؛ فإن فيهم من عبد العجل في حياة موسى ﵇ وقال فيه أنه الله، وأن موسى نسي ربه وذهب يطلبه، ولا شرك أعظم من هذا.
ومنهم طائفة قالوا: العزير ابن الله، وهذا من أعظم الشرك. وأكثرهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، فأحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم؛ لأنّ من أطاع مخلوقًا في معصية الخالق أو اعتقد جواز طاعته ووجوبها؛ أقد أشرك بهذا الاعتبار، حيث جعل التحريم والتحليل لغير الله.
وأما المجوس فشركهم ظاهر؛ فإنهم يَقُولُونَ إلهين قديمين أحدهما: نور.
والآخر: ظلمة، فالنور خالق الخير، والظلمة خالق الشر. وكانوا يعبدون النيران.
وأما العرب والهند وغيرهم من الأم فكانوا أظهر الناس شركًا يعبدون مع الله آلهة كثيرة ويزعمون أنها تقرب إِلَيْهِ زلفى.
فلما طبق الشرك أقطار الأرض، واستطار شررُهُ في الآفاق من المشرق إلى المغرب، بعث الله محمدًا ﷺ بالحنيفية المحضة والتوحيد الخالص -دين
_________
(١) أي: قِطَعًا وكِسَرًَا، واحدها: جذٌّ -انظر "النهاية" (١/ ٢٥٠).
(٢) المائدة: ١١٧.
1 / 233
إبراهيم ﵇ وأمره أن يدعو الخلق كلهم إِلَى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فكان يدعو إِلَى ذلك سرًّا ثلاث سنين، فاستجاب له طائفة من الناس، ثم أمر بإعلان الدعوة وإظهارها، وقيل: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ (١) فدعا إِلَى الله وإلى توحيده وعبادته وحده لا شريك له جهرًا، وأعلن الدعوة، وذم الآلهة التي تعبد من دون الله، وذم من عبدها وأخبر أنه من أهل النار، فثار عليه المشركون، واجتهدوا في إيصال الأذى إِلَيْهِ وإلى أتباعه، وفي إطفاء نور الله الَّذِي بعثه به، وهو لا يزداد إلا إعلانًا بالدعوة وتصميمًا عَلَى إظهارها وإشهارها والنداء بها في مجامع الناس.
وكان يخرج بنفسه في مواسم الحج إِلَى من يقدم إِلَى مكة من قبائل العرب، فيعرض نفسه عليهم، ويدعوهم إِلَى التوحيد، وهم لا يستجيبون له، بل يردون عليه قوله ويُسْمِعُونه ما يكره، وربما نالوه بالأذى. وبقي عشر سنين عَلَى ذلك يقول: "من يمنعني حتى أؤدي رسالات ربي؟ فإن قريشًا منعوني أن أُبَلِّغَ رسالات ربي".
وكان يشق أسواقهم في المواسم وهم مزدحمون بها، كسوق ذي المجاز، ينادي يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا" ووراءه أبو لهب يؤذيه ويرد عليه وينهى الناس عن اتباعه.
واجتمع المشركون مرة عند عمه أبي طالب يشكونه إِلَيْهِ ويَقُولُونَ: شتم آلهتنا وسفه أحلامنا وسب آباءنا، فمُرْهُ فلْيَكُفَّ عن آلهتنا. فَقَالَ أبو طالب للنبي ﷺ: "أجب قومك فيما سألوا. فَقَالَ: أنا أدعوهم إِلَى خير من ذلك: أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكوا بها العجم. فَقَالَ أبو جهل: نعطكها وعشر أمثالها. فَقَالَ: تقولون لا إله إلا الله. فنفروا عند ذلك وتفرقوا وهم يَقُولُونَ: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ (٢) " وفي رواية أنه ﷺ قال لعمه: "يا عم، لو وضعوا الشمس عن يميني والقمر عن
_________
(١) الحجر: ٩٤.
(٢) ص: ٥.
1 / 234
يساري عَلَى أنْ أتركَ هذا الأمر حتى يظهرَه الله أو أهلك في طلبه ما تركتُه" (١).
وقال ﷺ: "لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون -من يوم وليلة- وما لي طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال" (٢).
وفي رواية عنه ﷺ قال: «مَا أُوذِيَ أَحَدٌ فِي اللهِ مَا أُوذِيتُ» (٣).
كان العدو يجهد له في نيل الأذى، والصديق يلوم عَلَى هذا الاحتمال إذا كان كذا، والمحبة تقول:
حبذا هذا الشقاء في رضى ... الحبيب والدعوة إِلَى توحيده حبذا
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبًّا لذكرك فليلمني اللوم
ثم إِنَّ أبا طالب لما توفى وتوفيت بعده خديجة اشتد المشركون عَلَى رسول الله ﷺ حتى اضطروه أن خرج من مكة إِلَى الطائف، فدعاهم إِلَى عبادة الله وحده لا شريك له، فلم يجيبوه وقابلوه بغاية الأذى، وأمروه بالخروج من أرضهم، وأغروا به سفهاءَهم، فاصطفوا له صفين وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أَدْمَوْهُ، فخرج هو ومعه مولاه زيد بن حارثة، فلم يمكنه دخول مكة إلا بجوار، وطلب من جماعة من رؤساء قريش أن يُجيرُوه حتى يدخل مكة، فلم يفعلوا حتى أجاره المطعم بن عدي، فدخل في جواره، وعاد إِلَى ما كان عليه من الدعاء إِلَى توحيد الله وعبادته.
_________
(١) انظر "سيرة ابن هشام" (١/ ٢٥٧).
(٢) أخرجه أحمد (٣/ ١٢٠، ١٨٦)، والترمذي (٢٤٧٢)، وابن ماجه (١٥١) من حديث أنس.
(٣) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (٧/ ١٥٥) من حديث جابر، وأبو نعيم في "الحلية" (٦/ ٣٣٣) من حديث أنس.
1 / 235
وكان يقف بالمواسم عَلَى القبائل فيقول لهم قبيلة قبيلة: "يَا بَنِي فُلَانٍ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ، يأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوه وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا" ولا يقبلون منه، وأبو لهب خلفه يقول: لا تطيعوه. وكان ﷺ ينادي: "مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ " (١) فلا يجيبه أحدٌ حتى بعث الله له الأنصارَ من المدينة فبايعوه.
هذا، وهو صابر عَلَى الدعوة إِلَى الله ﷿ عَلَى هذا الوجه راضٍ بما يحصل له فيها من الأذى، منشرح الصدر بذلك، غير متضجرٍ منه ولا جزع. كان إذا اشتكى أحدٌ من أصحابه شيئًا يقول: "إني عبد الله وأنه لن يضيعني" (٢).
صرت لهم عبدًا وما ... للعبد أن (يعترضا) (٣)
من لمريض لا يرى ... إلا الطبيب المُمْرضا؟
وفي "الصحيح" (٤) عن عائشة قالت: قلت، يا رسول الله، هل من يوم كان أشد من يوم أحد؟ فَقَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ (٥) فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ لَكَ مَلَكَ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَأَنَا مَلَكَ الجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنَِي إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ وَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ
_________
(١) أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند (٣/ ٤٩٢).
ووقع في مطبوع "مسند أحمد": "أن هذا الحديث من رواية أحمد، والصواب أنه من زيادات ابنه عبد الله. وانظر "المسند الجامع" (٥/ ٤١٧).
(٢) هناك بياض قدر كلمة.
(٣) في "الأصل": يتعرض وبعدها بياض قدر كلمة.
(٤) البخاري (٣٢٣١)، ومسلم (١٧٩٥).
(٥) قرن الثعالب: هو ميقات أهل نجد تلقاء مكة. "معجم البلدان" (٤/ ٣٧٧).
1 / 236
الأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: بَلْ أَرْجُو أَنْ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُه لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا".
ما مقصود النبي ﷺ إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له، وما يبالي -إذا حصل ذلك- ما أصابه في الدعوة، إذا وُحِّدَ مَغْبُودُهُ حصلَ مقصودهُ، إذا عُبدَ محبوبُه حصل مطلوبه، إذا ذكر ربَّه رضي قلبُه، وأما جسمه فلا يبالي ما أصابه في سبيل الله ما يؤلمه، أو ما يلائمه.
إن كان سَرَّكم ما قد بليت به ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وحَشبُ سلطان الهوى أنه ... يألف فيه كل ما يؤلم
وكان كلما آذاه الأعداء إذا دعاهم إِلَى مولاهم رجع إِلَى مولاه، فتسلى بعلمه ونظره إِلَيْهِ وقربه منه، واشتغل بمناجاته، وذكره ودعائه وخدمته، فنسي كل ما أصابه من الألم من أجله، وقد أمره الله بذلك في القرآن في مواضع كثيرة نحو قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾ (١)، وقوله: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾ (٢) وقوله: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (٣).
وكان ﷺ إذا حزبه أمر قام إِلَى الصلاة؛ لأنّ الصلاة صلة، وكان يقول: «جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» (٤).
سروري من الدهر لقياكم ... ودار سلامي مغناكم
وأنتم منتهى أملي ما حَيِيتُ ... وما طاب عيشي لولاكم
_________
(١) الطور: ٤٩.
(٢) ق: ٣٩.
(٣) الحجر: ٩٧ - ٩٩.
(٤) أخرجه أحمد (٣/ ١٢٨، ٨٥، ١٩٩)، والنسائي (٧/ ٦١) من حديث أنس.
1 / 237
إذا [ازدادت] (١) في فؤادي الهموم ... أروح قلبي بذكراكم
وأستنشق الريحَ في أرضكم ... لعلي أحظى برؤياكم
فلا تنسوا العهد فيما مضى ... فلسنا مدى الدهر ننساكم
فلم يزل ﷺ يدعو إِلَى الله وإلى توحيده وعبادته وحده لا شريك له حتى ظهر دين الله وعلا ذكره وتوحيده في المشارق والمغارب، وصارت كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، وتوحيده هو الشائع، وصار الدين كله لله، والطاعة كلها له، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. جعل ذلك علامة عَلَى قرب أجله وَأُمِرَ حينئذٍ بالتهيؤ للقاء الله والنقلة إِلَى دار البقاء.
وكأن المعنى أن قد حصل المقصود من إرسالك، وظهر توحيدي في أقطار الأرض وزال منها ظلام الشرك، وحصلت عبادتي، وحدي لا شريك لي، وصار الدين كله لي، فأنا أستدعيك إِلَى جواري لأجزيك أعظم الجزاء ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ (٢).
وفي صفته ﷺ في التوراة: "وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى أُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَفْتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا".
وكان ﷺ إِنَّمَا يقاتل عَلَى دخول الناس فى التوحيد كما قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ» (٣).
وكان إذا بعث سرية للغزو يوصي أميرهم بأن يدعو عدوه عند لقائه للتوحيد، وكذلك أمر معاذًا لما بعثه إِلَى اليمن أن يدعوهم إِلَى شهادة
_________
(١) في "الأصل" ازداد. والمثبت أنسب للمعنى. وفي "نسخة": ازدحمت.
(٢) الضحى:٤ - ٥.
(٣) أخرجه البخاري (٢٥)، ومسلم (٢٢) من حديث ابن عمر.
وأخرجه البخاري (٢٩٤٦)، ومسلم (٢٠) من حديث أبي هريرة.
وأخرجه البخاري (٣٩١) من حديث أنس.
وأخرجه مسلم (١/ ٥٣) من حديث جابر.
1 / 238
التوحيد (١)، وكذلك أمر علي بن أبي طالب حين بعثه لقتال أهل خيبر.
وروي عنه ﷺ أنه كان إذا بعث بعثًا قال: «تَأَلَّفُوا النَّاسَ وَتَأَنُّوا بِهِمْ، فَلَا تُغِيرُوا عَلَيْهِمْ حَيٍّ تَدْعُوهُمْ، فَمَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلاَّ أَنْ تَأْتُونِي بِهِمْ مُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَأْتُونِي بِنِسَائِهِمْ وَأَوْلاَدِهِمْ وَتَقْتُلُوا رِجَالَهُمْ» «٢).
قوله ﷺ: "وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي" أشار إِلَى أن الله لم يبعثه بالسعي في طلب الدُّنْيَا، ولا لجمعها واكتنازها، ولا الاجتهاد بالسعي في أسبابها، وفإنما بعثه داعيًا إِلَى توحيده بالسيف، ومن لازم ذلك أن يقتل أعداءه الممتنعين عن قبول التوحيد، ويستبيح أموالهم، ويسبي نساءهم وذراريهم، فيكون رزقه مما أفاء الله من أموال أعداله، فإن المال إِنَّمَا خلقه الله لبني آدم يستعينون به عَلَى طاعة الله وعبادته، فمن استعان به عَلَى الكفر بالله والشرك به سلط اللهُ عليه رسولَه وأتباعه فانتزعوه منه وأعادوه إلى من هو أولى به من أهل عبادة الله وتوحيده وطاعته، ولهذا يسمى الفيء فيئًا؛ لرجوعه إلى من كان أحق به ولأجله خلق.
وكان في القرآن المنسوخ: "إِنَّمَا أنزل المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة".
فأهل التوحيد والطاعة لله أحق بالمال من أهل الكفر به والشرك، فلذلك سلط الله رسوله وأتباعه عَلَى من كفر به وأشرك، فانتزعوا أموالهم، وجعل رزق رسوله من هذا المال؛ لأنه أحل الأموال كما قال: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ (٣) وهذا مما خص الله به محمدًا ﷺ وأمته؛ فإنه أحل لهم الغنائم.
وقد قيل: إِنَّ الَّذِي خصت بحله هذه الأمة هو الغنيمة المأخوذة بالقتال دون الفيء المأخوذ بغير قتال، فإنه كان حلًاّ مباحًا لمن قبلنا، وهو الَّذِي جعل
_________
(١) انظر البخاري (١٣٩٥)، ومسلم (١٩).
(٢) أخرجه مسدد في "مسنده" كما في "المطالب العالية" (٢٠٣٥/ ١) من حديث عبد الرحمن بن عائذ والحارث في "مسنده" كما في البغية (٦٣٩) من حديث شريح بن عبيد.
(٣) الأنفال: ٦٩.
1 / 239
رزق رسوله منه، وإنما كان أحل لغيره لوجوه: منها: أنه انتزع ممن لا يستحقه؛ لأنّه يستعين به عَلَى معصية الله والشرك به، فَإِذَا انتزعه ممن يستعين به عَلَى غير طاعته وتوحيده والدعوة إِلَى عبادته؛ كان ذلك أَحَبّ الأموال إِلَى الله تعالى وأطيب وجوه اكتسابها عنده.
ومنها: أنه ﷺ إِنَّمَا يجاهد لتكون كلمة الله هي العليا [ودينه] (١) هو الظاهر لا لأجل الغنيمة؛ فيحصل له الرزق تبعًا لعبادته وجهاده في الله، فلا يكون فَرَّغَ وقتًا من أوقاته لطلب الرزق محضًا، وإنما عبد الله في جميع أوقاته وَوَحَّدَهُ فيها وأخلص له، فجعل الله له رزقه ميسرًا له في ضمن ذلك، من غير أن يقصده ولا يسعى فيه.
وجاء في حديث مرسل أنه ﷺ قال: "أَنَا رَسُولُ الرَّحْمَةِ، أَنَا رَسُولُ الْمَلْحَمَةِ، إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي بِالجِهَادِ وَلَمْ يَبعَثنِي بِالزَّرْعِ" (٢) وخرج البغوي في "معجمه" حديثًا مرفوعًا: "إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ وَلَمْ يَجْعَلَنِي زراعًا ولا تاجرًا، ولا سخابًا بالأسواق، وجعل رزقي في رمحي" وإنما ذكر الرمح ولم يذكر السيف لئلا يقال أنه ﷺ يرزق من مال الغنيمة، إِنَّمَا كان يرزق مما أفاء الله عليه من خيبر وفدك.
والفيء ما هرب أهله منه خوفًا وتركوه، بخلاف الغنيمة؛ فإنها مأخوذة بالقتال بالسيف، وذكر الرمح أقرب إِلَى حصول الفىء؛ لأنّ الرمح يراه العدو من بعيد فيهرب، فيكون هرب العدو من ظل الرمح، المأخوذ به هو مال الفيء، ومنه كان رزق النبي ﷺ بخلاف مال الغنيمة؛ فإنه يحصل من قتال السيف، والله أعلم.
قال عمر بن عبد العزيز: إِنَّ الله تعالى بعث مُحَمَّدًا هاديًا ولم يبعثه جابيًا، فكان ﷺ شغله بطاعة الله والدعوة إِلَى توحيده، وما يحصل في خلال ذلك
_________
(١) في "الأصل": ودنيه. وهو سبق قلم من الناسخ، والصواب ما أثبتناه.
(٢) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (٣/ ٣١٢).
1 / 240
من الأموال من الفيء والغنائم، فيحصل تبعًا لا قصدًا أصليًّا، ولهذا ذم من ترك الجهاد واشتغل عنه باكتساب الأموال. وفي ذلك نزل قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلًا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (١) لا عزم الأنصار عَلَى ترك الجهاد والاشتغال بإصلاح أموالهم وأراضيهم.
وفي الحديث الَّذِي خرجه أبو داود (٢) وغيره (٣): «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لًا يَنْزِعُهُ اللهُ مِنْ رِقَابِكُمْ حَتَّى ترَاجِعُوا دِينِكُمْ» ولهذا كره الصحابة- ﵃ الدخول في أرض الخراج للزراعة؛ فإنها تشغل عن الجهاد.
قال مكحول: إِنَّ المسلمين لما قدموا الشام ذكر لهم زرع الحولة فزرعوا، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب ﵁ فبعث إِلَى زرعهم وقد ابيضَّ وأدرك فحرقه بالنار، ثم كتب إليهم: إِنَّ الله جعل أرزاق هذه الأمة في أسنة رماحها، وتحت أزجتها (٤)، فَإِذَا زرعوا كانوا كالناس. خرَّجه أسد بن موسى.
وروى أيضًا بسند له عن عمر أنه كتب: من زرع زرعًا واتبع أذناب البقر ورضي بذلك وأقر به جعلت عليه الجزية.
وقيل لبعضها: لو اتخذت مزرعة للعيال؟ فَقَالَ: والله ما جئنا زارعين، ولكن جئنا لنقتل أهل الزرع ونأكمل زرعهم.
فأكمل حالات المؤمن أن يكون اشتغاله بطاعة الله والجهاد في سبيله، والدعوة إِلَى طاعته، لا يطلب الدُّنْيَا، ويأخذ من مال الفىء ونحوه قدر الكفاية، كما كان النبي ﷺ يأخذ لأهله قوت سنة من مال الفيء ثم يقسم
_________
(١) البقرة: ١٩٥.
(٢) برقم (٣٤٦٢).
(٣) وأخرجه أحمد (٢/ ٢٨، ٤٢، ٨٤).
(٤) أزجتها: الزج: الحديدة التي تركب فى أسفل الرمح. "اللسان" (٢/ ٢٨٥).
1 / 241
باقيه، وربما رأى محتاجًا بعد ذلك فيقسم عليه قوت أهله فيبقى أهله بلا شيء.
وكذلك (من) (١) يشتغل بالعلم؛ لأنّه أحد نوعي الجهاد، فيكون اشتغاله بالعلم كالجهاد في سبيل الله والدعوة إِلَيْهِ، فإن أخذ من مال الفيء أو الوقف أخذ منه قدر الكفاية يتقوى به عَلَى الاستعانة به عَلَى جهاده، ولا ينبغي أن يأخذ أكثر من مقدار كفايته من ذلك.
وقد نص أحمد عَلَى أن مال بيت المال كالخراج لا يؤخذ منه أكثر من الكفاية، فمال الوقف أضيق.
ومن اشتغل بطاعة الله تكفل الله برزقه، كما في حديث زيد بن ثابت المرفوع: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه (٢).
وخرجه الترمذي (٣) من حديث أنس مرفوعًا: "إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَيْكَ شُغْلًا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ".
وخرَّج ابن ماجه (٤) من حديث ابن مسعود مرفوعًا: «مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا: هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ».
_________
(١) تكررت بالأصل.
(٢) في "المسند" (٥/ ١٨٣)، وابن ماجه (٤١٠٥) من حديث زيد بن ثابت.
(٣) برقم (٢٤٦٥، ٢٤٦٦).
وأخرجه ابن ماجه (٤١٠٧)، وأحمد (٢/ ٣٥٨) من حديث أبي هريرة.
(٤) برقم (٢٥٧، ٤١٠٦).
1 / 242
وفي الآثار الإسرائيلية يقول الله: "يا دنيا، أخدمي من خدمني، وأتبعي من خدمك".
قوله ﷺ: "وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري" هذا يدل على أن العز والرفعة في الدنيا والآخرة بمتابعة أمر رسول الله ﷺ لامتثال متابعة أمر الله، كما قال تعالى: ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾ (١) وقال تعالى: ﴿ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين﴾ (٢) وقال تعالى: ﴿من كان يريد العزة فلله العزة جميعًا﴾ (٣).
وفي بعض الآثار: يقول الله تعالى: "أنا العزيز فمن أراد العز فليطع العزيز" قال الله تعالى: ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ (٤) فالذل والصغار يحصل بمخالفة أمر الله ورسوله. ومخالفة الرسول على قسمين:
أحدهما: مخالفة من لا يعتقد طاعة أمره كمخالفة الكفار، وأهل الكتاب الذين لا يرون طاعة الرسول، فهم تحت الذل والصغار، ولهذا أمر الله بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وضرب على اليهود الذلة والمسكنة؛ لأن كفرهم بالرسول عنادًا.
والثاني من يعتقد طاعته ثم يخالف أمره بالمعاصي وهذا نوعان:
أحدهما: من يخالف أمره بالمعاصي التي يعتقد أنها معصية فله نصيب من الذلة والصغار، قال الحسن: إنهم وإن (طقطقت) (٥) بهم البغال، و(هملجت) (٦) بهم البراذين فإن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذل
_________
(١) النساء: ٨٠.
(٢) المنافقون: ٨.
(٣) فاطر: ١٠.
(٤) الحجرات: ١٣.
(٥) الطقطقة: صوت قوائم الخيل على الأرض الصلبة. "اللسان" (١/ ٢٢٥).
(٦) الهملجة: فارسي معرب وهو حسن سير الدابة في سرعة. "اللسان" (٢/ ٣٩٣).
1 / 243
من عصاه. كان الإمام أحمد يدعو: اللهم أعزنا بعز الطاعة ولا تذلنا بذل المعصية. قال أبو العتاهية:
ألا إنما التقوى هي العز والكرم ... وحبك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة ... إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
فأهل هذا النوع خالفوا الرسول من أجل داعي الشهوات.
النوع الثاني: من خالف أمره من أجل الشبهات وهم أهل الأهواء والبدع، فكلهم لهم نصيب من الذلة والصغار بحسب مخالفتهم لأوامره، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ...﴾ الآية (١).
وأهل الأهواء والبدع كلهم مفترون عَلَى الله، وبدعتهم تتغلظ بحسا كثرة افترائهم عليه، وقد جعل الله من حرم ما أحله الله أو حلل ما حرمه الله مفتريًا عليه بالكذب، ومن نسب إِلَى الله ما لا يجوز فنسبته إِلَيْهِ من تمثيل أو تعطل، أو كذَّب بأقداره فقد افترى عَلَى الله الكذب.
قال الله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (٢) قال سفيان: الفتنة أن يطبع الله عَلَى قلوبهم.
فهذا تغلظت عقوبة المبتدع عَلَى عقوبة العاصي؛ لأنّ المبتدع مفترٍ عَلَى الله، مخالفٌ لأمر رسوله لأجل هواه.
فأما مخالفة بعض أوامر الرسول ﷺ خطأ من غير عمد، مع الاجتهاد عَلَى متابعته، فهذا قد يقع [فيه] (٣) كثير من أعيان الأمة من علمائها وصلحائها،
_________
(١) الأعراف: ١٥٢.
(٢) النور: ٦٣.
(٣) ليست بالأصل، وأثبتها لمراعاة السياق.
1 / 244
ولا إثم فيه، بل صاحبه إذا اجتهد فله أجر عَلَى اجتهاده، وخطؤه موضوع عنه، ومع هذا فلم يمنع ذلك من علم أمر الرسول الَّذِي خالفه هذا: أن يبين للأمة أن هذا مخالف لأمر الرسول، نصيحة لله ولرسوله ولعامة المسلمين.
وهب أن هذا المخالف عظيم له قدر وجلالة، وهو محبوب للمؤمنين؛ إلا أن حق الرسول مقدم عَلَى حقه، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
فالواجب عَلَى كل من بلغه أمر الرسول وعرفه أن بيينه للأمة وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة، فإن أمر الرسول ﷺ أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي معظم، قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ.
ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم من العُلَمَاء عَلَى كل من خالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد، لا بغضًا له؛ بل هو محبوب عندهم، معظم في نفوسهم؛ لكن رسول الله ﷺ أَحَبّ إليهم، وأمره فوق أمر كل مخلوق. فَإِذَا تعارض أمر الرسول ﷺ وأمر غيره فأمر الرسول ﷺ أولى أن يقدم ويتبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره لأنّ كان مغفورًا له؛ بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول ﷺ بخلافه؛ بل يرضى بمخالفة أمره ومتابعة أمر رسول الله ﷺ إذا ظهر أمره بخلافه. كما أوصى الشافعي -إذا صح الحديث في خلاف قوله- أن يتبع الحديث ويترك قوله.
وكان يقول: ما ناظرت أحدًا فأحببت أن يخطئ، وما ناظرت أحدًا فباليت أظهرَ الحقُّ عَلَى لسانه أو عَلَى لساني.
لأنّ تناظرهم كان لظهور أمر الله ورسوله، لا لظهور نفوسهم ولا الانتصار لها. وكذلك المشايخ والعارفون كانوا يوصون بقبول الحق من كل من قال الحق صغيرًا أو كبيرًا، وينقادون لقوله.
قيل لحاتم الأصم: أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما ناظرت أحدًا إلا قطعته، فبأي شيء تغلب خصمك؟ قال: بثلاث: أفرح إذا أصاب خصمي،
1 / 245