وإذا فكرنا في التاريخ العسكري رأينا عباقرته يسيرون الإنسانية في سبل جديدة فيخلق مرعى للقلم يدر اللبن.
فهذا أبو تمام تخلده بائيته العسكرية، وهذا المتنبي سيفياته الخالدة فيخلد ويخلد أميره.
لا تبنى (القومية) ولا تقوم (التربية الوطنية) على الأدب وحده، فللسيف قصائد رنانة ومقالات طنانة كما حدثنا أبو تمام. وإذا طلبنا المواد الأولية التي نؤلف منها تربية وطنية في أمتنا المتضاربة الآراء فلا نجدها في شعر الشعراء، ولا في علم العلماء، ولا في القضايا الحسابية والهندسية، فتلك (العقدة) لم يفكها إلا سيف الإسكندر عندما وقف المفكرون تلقاءها حائرين.
قد كنت زعمت أن تربيتنا الوطنية لا تستقيم إلا تحت سماء الثكنة العسكرية، وها قد أعارت حكومتنا هذه القضية انتباها، فأوجبت التدريب العسكري على صفوف المدارس العليا، فسمعنا صدى خطوات الفتيان المتزنة، وشاهدنا صفوفهم ونفوسهم التي تكاد تقفز من صدورهم. ولكن فليسمح لي أن أقول: إن التدريب المدرسي والنظام الكشافي والترتيب الحزبي لا يشفي نفس الوطن المهدد، فلا ينهضنا من هذه الكبوة إلا التجنيد الإجباري.
إن الميل العسكري ضعيف فينا. فشبابنا، ولا أقول كلهم، يهربون من الجندية حيلة. فكأنهم درسوا علم الحيل على أبي دلامة بل فكأن هذا الشاعر قد نفخ فيهم من روحه، وإليك ما روى لنا عن نفسه كما جاء في الأغاني:
قال أبو دلامة: أتى بي المهدي وأنا سكران، فحلف ليخرجني في بعث حرب، فأخرجني مع روح بن حاتم المهلبي لقتال الشراة. فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك، لأثرت في عدوك اليوم أثرا ترتضيه. فضحك وقال: والله العظيم لأدفعن إليك ذلك، ولآخذك بالوفاء بشرطك. ونزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفعهما إلي ودعا بغيرهما فاستبدل به. فلما حصل ذلك في يدي وزالت عني حلاوة الطمع قلت له: أيها الأمير، هذا مقام العائد بك، وقد قلت بيتين فاسمعهما. قال هات. فأنشدته:
إني استجرتك أن أقدم للوغى
لتطاعن وتنازل وضراب
فهب السيوف رايتها مشهورة
فتركتها ومضيت في الهراب
Unknown page