وأضاف وهو ينهض من مجلسه: «هلم. أريد أن أعرفك ببعض الشباب في الشلة.»
وقف «عمار» شاردا يرمق طائرة هليكوبتر حربية تحلق من بعيد، وهو يفكر في تلك الفتاة، بينما ما زالت رائحة عطرها تفوح في المكان وتدغدغ دواخله بلطف. قال «إبراهيم» مخاطبا «ميري» شيئا ما عن إضافة قيمة الشاي إلى حسابه معها. غمغمت «ميري» بعدم رضا شيئا ما عن عدم سداده لدينه القديم معها منذ شهور، ورد «إبراهيم» ضاحكا بشيء ما عن ظروف الطلبة وحنان الأم.
لم يكن «عمار» يعي ما يدور حوله. شعر للحظة بدقات قلبه تتزايد، وكأنه على وشك فقدان الوعي. الأرض تميد تحت قدميه وبرودة قاسية تسري في أطرافه.
لا يدري كم استمر على هذا الحال، لكنه وجد نفسه فجأة على الأرض، بينما «إبراهيم» يهزه من كتفيه في عنف، وهو يقول شيئا ما.
وفي لحظة انتهى كل شيء، وسمع صوت «إبراهيم» الجزع يسأله عما أصابه.
استند على الحائط ونهض، وهو ينفض التراب عن سرواله، وقال: «لا شيء أنا بخير.» - «ماذا تعني أنك بخير، تجلس على الأرض فجأة، وترمقني بعينين مذهولتين زجاجيتين، ثم تنهض وتقول لي إنك بخير؟» - «صدقني أنا بخير، لا بد أنها ضربة شمس، أو شيء من هذا القبيل. لا شيء يخيف.»
نظر له «إبراهيم» في شك، ثم راح يتواصل حديثه الذي انقطع، وبينما كان «عمار» يتظاهر بالاستماع والاهتمام، كان خياله يجرفه إلى ما بعد لحظات من رؤية «هبة». ثم يغمض عينيه، ويسترجع رائحة عطرها التي علقت في ذاكرته للأبد.
الآن تقفز بنا التسجيلات الصوتية للجلسات قفزة هائلة إلى مطلع العام الدراسي الثاني. عندما بدأ يتحدث فيها عن بداية نشاطه السياسي بالجامعة، بتردده بداية على أركان النقاش في الكلية، ثم مشاركته فيها خطيبا، وهو ما كان يفتخر به على نحو خاص. فبعد الحادثة الأخيرة التي حدثت في يونيو قبل أشهر، عندما قامت الشرطة بمحاصرة الكلية واعتقال بعض الطلاب الناشطين سياسيا، وبسرعة البرق وبتأثير تلك الأحداث وموجة الغضب التي عمت الطلاب، ظهرت عشرات الحلقات السياسية، وأركان النقاش في كليات الجامعة. كان خطيبا حماسيا، ويمتلك قدرة عالية على أسر انتباه الحضور وتهييج العواطف، يسوق الحديث سهلا بلا تعقيد أو إسفاف، ويتحدث بلهجة هادئة بدون صراخ وانفعال عن جيفارا والمهاتما غاندي وسالابوس وعروة بن الورد، ويضرب الأمثال للناس شارحا ومفسرا ومقارنا بين التجربة المحلية، وتجارب دول العالم المختلفة.
وقليلا قليلا بدأ نجمه يسطع، وتحول إلى اسم معروف في الكلية ثم الكليات المجاورة ثم الجامعة ثم الجامعات المجاورة.
وبالتوازي مع نشاطه السياسي وازدياد شعبيته في الجامعة، كانت العلاقة تتطور بينه وبين «هبة» بسرعة.
Unknown page