فحسب، أي تجريد انتمائها إلى العالم المكاني الزماني فحسب. «ولكن استخلاص فيلسوف الظاهريات لتجريداته عن طريق البدء بما هو موجود، هو الذي يجعل الظاهريات تتخلى عن فكرة وجود أي تعارض أساسي بين الواقع والإمكان.»
4
فعالم الإمكان عند الظاهريات هو ذاته عالم الواقع وقد أعيد ترديده على مستوى آخر. ومن هنا كان الطابع الوصفي الذي تتسم به الظاهريات عيبا يفرضه عليها منهجها، وليس ميزة كما تصور هوسرل؛ إذ إن هذا الوصف الظاهرياتي، وإن كان قد احتفظ بالتمييز بين الماهية والوجود، قد أزال عن هذا التمييز أهم وظيفة له، ألا وهي الوظيفة التي تؤدي إلى الوقوف من الواقع موقفا نقديا.
ومن هنا كان حكم ماركيوز القائل إن «مفهوم الماهية في مذهب الظاهريات يذهب في ابتعاده عن أية دلالة نقدية إلى حد أنه ينظر إلى الأساسي وغير الأساسي، وموضوع الخيال فضلا عن موضوع الإدراك الحسي، على أنها جميعا «وقائع». ومن هنا فإن الخصومة الإبستمولوجية التي يبديها هذا المذهب للفلسفة الوضعية لا تكاد تنجح في إخفاء اتجاهه الخاص الذي كان بالفعل وضعيا.»
5 •••
وكما أعاد ماركيوز تفسير مفاهيم فلسفية رئيسية، فقد كان له رأيه الخاص، المتميز، في فهم المذاهب الفلسفية السابقة. ونستطيع القول إنه ما من مذهب فلسفي عرض له ماركيوز إلا وألقى عليه ضوءا جديدا مستمدا من طريقته الأصيلة في تفسير التاريخ السابق للفلسفة. ولقد أشرنا من قبل، بصورة ضمنية، إلى موقف ماركيوز من فلسفة أفلاطون وبعض الفلسفات الحديثة، وبخاصة فلسفة الظاهريات. ولو شاء المرء أن يقدم عرضا لطريقته في فهم المذاهب الفلسفية لاقتضى ذلك منه جهدا شاقا، وشغل حيزا كبيرا؛ إذ إن هناك دائما ما هو جديد، وما هو شائق، في هذا الفهم. ولكنا سوف نكتفي ها هنا بمثلين؛ أحدها تفسيره لهيجل، والآخر تفسيره للفلسفة الوضعية. أما تفسيره لماركس وفرويد فإن بقية أجزاء هذا البحث سوف تتضمن عرضا أوسع له، وذلك من خلال مناقشة رأي ماركيوز في المشكلات التي حدد هذان المفكران إطارها العام.
لقد استطاع هيجل - كما يفسره ماركيوز - أن ينقل المذهب المثالي من مرحلة الاستسلام للأمر الواقع والدفاع عنه إلى مرحلة النقد المكافح الذي يعتمد أساسا - في مجال الفكر - على مفهوم السلب؛ ذلك لأن الكثيرين يعرفون عن هيجل أنه جعل للفكر مسارا ديالكتيكيا، تحتل فيه فكرة السلب مكانة رئيسية، ويعلمون أن من صميم فلسفة هيجل القول باستحالة فهم، أو تحقيق أي تطور فيها، إلا إذا أصبح السلب جزءا لا يتجزأ من كيانها ومن طبيعتها الباطنة. فكل شيء لا يكون له معنى حقيقي إلا من خلال السلب الكامن فيه، هذا كله معروف، وهو من بدهيات فلسفة هيجل. ولكن القليلين فقط هم الذين تساءلوا عن دلالة هذا الاهتمام بالسلب عند هيجل وعن أثره في تحويل مجرى المثالية من فلسفة تتجاهل الواقع وتغمض عينيها عنه، وتدعو إلى تركيز آمال الإنسان في عالم مفارق منقطع الصلة بعالم الحياة النابضة، إلى فلسفة تسهم بدور إيجابي، لا في فهم الواقع فحسب، بل في محاولة تغييره، بالفكر على الأقل. وإنها لمفارقة عجيبة أن تكون فكرة السلب هي وسيلة الفلسفة المثالية في الانتقال إلى اتخاذ موقف إيجابي من العالم المحيط بنا، غير أن العجب يزول إذا أدركنا أن السلب هنا هو النبض المحرك للفكر والواقع معا، وهو الذي يضفي عليهما القدرة على اتخاذ مواقع جديدة تزيد من ثراء الحياة وامتلائها.
ذلك لأن المثالية تكتفي عادة بتركيز جهدها على عالم الفكر، وتصل في تعمقها لذلك العالم إلى أبعاد يعجز أي مذهب آخر عن بلوغها. ولكنها خلال ذلك لا تبدي اهتماما كبيرا بالتناقض الذي يولده جهدها هذا بين الفكر والواقع. إنها تتصور الواقع معقولا؛ لأن العقل هو الذي يضفي على الواقع طابعه وقالبه، بل هو الذي يكون بناء الواقع ذاته. غير أن بعض مجالات الواقع، على الأقل، تظل متحدية لتنظيم العقل، وتلك بعينها هي المجالات التي تتجاهلها المذاهب المثالية التقليدية. أما مثالية هيجل فإنها تتخذ نقطة بدايتها من هذه المجالات بعينها. ففي كتابات هيجل عود دائم إلى عالم التجربة، ومحاولة لا تكل من أجل إيجاد دور للعقل في تنظيم هذا العالم. ولكن هيجل كان يؤكد، في الوقت ذاته، أن كل وضع لعالم التجربة يكون فيه ذلك العالم متناقضا مع العقل إنما هو وضع مؤقت، ومن ثم يتعين رفضه وتجاوزه. وهكذا تكون المثالية الهيجلية، كما فسرها ماركيوز،
6
مرتبطة بنزعة الرفض والسلب - رفض للواقع القائم في لا معقوليته، وسعي دائم إلى إقرار حكم العقل في عالم التجربة.
Unknown page