أما الهدف الذي ينبغي أن تسعى إليه الإنسانية، وهو السعي إلى الأمن وطمأنينة النفس، ونشدان قيم الحب والجمال؛ فهو هدف لا يشكل أي إغراء لمجتمعات الفقر والجوع. إن البحث عن الحب والجمال أمر مفهوم في مجتمع غني ابتعد الإنسان فيه عن جذوره الطبيعية في زحمة الإنتاج العقلاني المنظم الصارم. أما المجتمع الذي ينشد الحد الأدنى من وسائل العيش، والذي تعد الوفرة الإنتاجية بالنسبة إليه حلما بعيدا، فمن العبث أن نغريه بالدعوة إلى «تجاوز» حياة الوفرة، والكف عن الاهتمام بزيادة الإنتاج.
والإنسان الذي لم يزل - بحكم الجهل المستحكم - يفكر تفكيرا أقرب إلى الأسطورة اللاعقلية، والذي لم يستطع أن يتباعد عن حياة الطبيعة ليخلق لنفسه مجتمعا صناعيا كاملا، لن يفهمنا لو دعوناه إلى الحد من سيطرة العقل والعودة إلى منابع الحياة الطبيعية. والإنسان الذي لا يزال في أول طريق السيطرة على مقدراته، والذي يحتاج إلى خوض معارك ضارية (بالمعنى المادي والمعنوي) لكي يتخلص من الاستغلال ومن آثار الاستعمار والقوى الغاضبة، لن يسير وراءنا لو قلنا إن هدفنا النهائي هو الوصول إلى عالم يسوده الهدوء والأمان والحياة والمسالمة.
إن ما يبحث عنه ماركيوز هو مجتمع ما بعد الوفرة وما بعد التقدم التكنولوجي، وهذا هدف لا يغري سوى مجتمعات محدودة، هي المجتمعات التي تنشد استعادة إنسانيتها التي فقدتها في غمرة الانشغال بالإنتاج والاهتمام بالتوسع الاقتصادي. ومن هنا كانت صورة العالم الجديد التي يقدمها إلينا ماركيوز لا تعني شيئا، ولا تشكل إغراء، بالنسبة إلى مجتمع يريد أن ينقذ نفسه من الفقر والجوع، وينتشل نفسه من الجهل والمرض، أما الحب والجمال ففي استطاعتهما الانتظار!
وربما بدا للقارئ أن كل هذا النقد الذي نوجهه إلى ماركيوز لا محل له؛ لأنه اعترف صراحة بأنه إنما يتحدث عن المجتمع الصناعي المتقدم، ولم يزعم أنه يصف أحوال البلاد المتخلفة. ولكن هذا الرد، مع صحته، لا يعفي ماركيوز من النقد؛ ذلك لأنه عندما دعا إلى الثورة كان يردد على الدوام أن تلك ثورة إنسانية شاملة تسري على جميع الشعوب، بينما هي، في مفهومها ذاته لا معنى لها إلا بالنسبة إلى مجتمعات بشرية محدودة. ومع ذلك فحتى لو تصورنا أن هذه الثورة قامت في المجتمعات الصناعية المتقدمة وحدها، فإن الصورة ستصبح عندئذ أشد غرابة؛ إذ إن هذه المجتمعات ستكون عندئذ قد انتقلت إلى تحقيق أقصى غاياتها، وعاشت في جنة الحب والجمال والسلام، على حين أن الجزء الأكبر من البشرية لا يزال يكافح من أجل لقمة العيش. ومما يزيد الموقف سوءا، أن نفس القيم التي يدعو ماركيوز إلى سيادتها في مجتمعه السعيد، تساعد على زيادة حدة التناقض، بل وتحبط نفسها بنفسها؛ ذلك لأن «الحياة الراضية» لن تعود راضية على الإطلاق إذا شعر المرء بأن أقرانه يتضورون جوعا ويعانون شتى ألوان الحرمان وحتى لو اكتفى من يعيش في مثل هذا المجتمع بتنمية مواهبه وقدراته الخاصة، دون اكتراث بغيره (وهو أمر غير مستبعد ما دام المثل الأعلى للمرء هو أن يعيش في هدوء ويستمتع بالحب والجمال)، فإن دلالة القيم التي يعيش وفقا لها ستتحول عندئذ إلى عكس المقصود منها، وستصبح قيما للأنانية واللامبالاة.
ومجمل القول إن ماركيوز تجاهل العالم الثالث ولم يترك له مكانا في مشروعه الذي لا يخاطب به إلا مجتمعا يعاني من مشكلات التقدم الزائد، لا من مشكلات التخلف؛ ولذلك فإن الثورة التي يدعو إليها لا يمكن أن توصف بأنها إنسانية، بل هي ثورة محدودة ببيئة معينة لا يكون لها خارجها أي معنى. فإذا نادى بعد ذلك بأن حركات التحرير في العالم المتخلف هي التي ستنقذ العالم المترف ذاته من عيوبه، كان نداؤه هذا منطويا على قدر غير قليل من المغالطة، بل من النفاق. ذلك لأنه يطالب البلاد المتخلفة بأن تواصل استنزاف دمها ببطء - كما تفعل فيتنام - لا من أجل تحررها الخاص فحسب، بل من أجل إصلاح الفساد داخل المجتمعات المتقدمة ذاتها. إنه يطالبها بأن تكون المسيح الذي يفتدي خطايا الآخرين وهو يقطر دما على صليبه. وبدلا من أن يدعو إلى الكفاح داخل هذه المجتمعات المتقدمة، من أجل تخليصها من عيوبها، نراه يؤكد أن حركات السخط في داخلها ليست فعالة إلا بقدر ما تتحالف مع حركات التحرير في البلاد المتخلفة، وكأنه بذلك يعلن أن إصلاح أحوال المتقدم من داخله أمر ميئوس منه. والحق أن المرء لو وصف موقفه هذا من البلاد المتخلفة بأنه رومانتيكية فكرية تطالب هذه البلاد بأن تكون هي الشهيدة التي تفتدي المترفين الفاسدين، لكان في هذا الوصف قدر غير قليل من حسن الظن، وربما كان الوصف الأدق هو أن هذا الموقف ينطوي على تواطؤ موضوعي (بغض النظر عن النوايا المعلنة) مع النظم القائمة في البلاد المتقدمة صناعيا، ما دام المعنى الضمني فيه هو أنه لا توجد داخل هذه البلاد قوى ثورية تستطيع تغيير الأوضاع فيها. (د) هل كان ماركيوز عدوا للرأسمالية؟
لا جدال في أن هذا النقد الأخير يثير، من الجذور، مسألة موقف ماركيوز من الرأسمالية. ذلك أن ماركيوز قد اكتسب شهرته، في السنوات الأخيرة من حياته، بوصفه ناقدا جادا للرأسمالية، التي عاش في أعظم بلادها وأقواها، وهي الولايات المتحدة، فترة طويلة من عمره استطاع خلالها أن يراقب الأمور فيها عن كثب، ويقدم تحليلا دقيقا وعميقا لكثير من الظواهر السائدة فيها، وهو تحليل يزداد المرء إيمانا بدقته إذا مر بتجربة معايشة هذا المجتمع.
ولعل أول الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن في هذا الصدد، هو السؤال عن المنهج الذي اتبعه ماركيوز في تحليل المجتمع الرأسمالي. ولا شك أن الإجابة عن هذا السؤال ليست بالأمر اليسير؛ لأن ماركيوز لم يعلن عن رأيه في منهج البحث الاجتماعي، بل لم يقدم آراءه أصلا بوصفه عالم اجتماع، وإنما قدمها بوصفه فيلسوفا متأملا للمجتمع، وكانت نظرته العامة إلى المجتمع، كما عرضناها من قبل، مزيجا من الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع. ومع ذلك ففي استطاعتنا أن نهتدي إلى إجابة معقولة عن هذا السؤال بالرجوع إلى موقفه من علم الاجتماع في نشأته الأولى ؛ ذلك لأن النشأة الأولى ارتبطت بالفلسفة الوضعية التي كان أوجست كونت رائدا لها. والوضعية في رأي ماركيوز مذهب فلسفي يقف من النظم القائمة موقف القبول والدفاع والتبرير. ومن هنا كان البحث الاجتماعي التقليدي متجها في معظم الأحيان إلى تأييد الأوضاع القائمة أو السكوت عليها على الأقل، وكان من المستحيل أن يتخذ العلماء الاجتماعيون التقليديون موقف الرفض من المجتمع السائد؛ لذلك كان ماركيوز حريصا كل الحرص على تجنب كل منهج وضعي رغبة منه في إفساح مجال لفكرته في السلب والرفض وفي ترك المجال مفتوحا للتجاوز والتمرد والخيال الثوري الذي يسهم في تغيير الواقع.
ولقد رفض ماركيوز أساليب البحث المتبعة في المجتمع الأمريكي، على التخصيص؛ لأنها تبنى على نظرة «ذرية» أو تفتيتية إلى المجتمع، وتغوص في تحليل التفاصيل، وفي الجداول والإحصائيات والأرقام دون أن تبذل أي جهد لإدراك الصورة العامة، ولمناقشة الأسس الأولى للمجتمع. هذه العملية الزائفة، التي يتعلل بها الباحث كيما يتجنب إصدار أي حكم عام، تقف حائلا بين العقل وبين فهم المجتمع. ومما يزيد هذا الفهم صعوبة، تلك اللغة الاصطلاحية الشديدة التعقيد، التي يصطنعها باحثو المجتمع ويتوارثونها، بعد إضافة المزيد من التعقيدات عليها، جيلا بعد جيل، وهي لغة تشكل حاجزا يربك العقول ويخفي الصورة الحقيقية القبيحة للمجتمع. إن الروح السائدة في مثل هذا البحث الاجتماعي هي روح الرضوخ والامتثال والمسايرة
Conformisme ؛ إذ إن البحث لا يزيد عن أن يكون معرفة بالوقائع على ما هي عليه، وبدور كل فرد ووظائفه، لا بأهداف المجتمع ككل. والواقع أن هذا النوع من المعرفة يخدم أهداف الترشيد الوظيفي لكل العمليات الفردية في الجهاز المعقد الذي يضعه المجتمع الرأسمالي، ولكنه لا يفيد في معرفة المسار الكلى للجهاز الكامل، ويتستر على اللامعقولية الكامنة في حياة المجتمع؛ إذ يخفيها في خضم التفصيلات الجزئية. ومن هنا كان ماركيوز على حق حين سمى الوضعية والإجرائية
Operationalisme
Unknown page