ويحافظ شيكسبير على الحقائق التاريخية في تصويره للمحاكمة، ولكنه لا يظهر التيارات الاجتماعية والفكرية التي أدت إلى نشوء هذا الموقف، فهو يصوره من وجهة نظر الشخصيات العليا، متبعا في ذلك المذهب الكلاسيكي في الدراما، وهو يصور المأساة الإنسانية للملكة، وإن كان يحذف أنها أقسمت أنها كانت عذراء عندما تزوجها الملك، حتى لا يجعل كفة الحكم تميل في صالحها، وضد الملك، وربما لم يجد «المساحة الزمنية» الكافية لرصد كل هذه العوامل.
فالمسرحية تبدأ زمنيا في عام 1520م، وتنتهي بمولد إليزابيث في عام 1533م؛ أي إن الفترة الزمنية تنتهي بنا إلى بداية الهجوم على الكهنوت والقضاء على سلطان الكنيسة الكاثوليكية الرومانية التي كان وولزي رمزها الواضح بل وقوتها الجبارة. ويقول لنا البروفسور بولارد صاحب ترجمة وولزي إن وولزي كان يمتطي دائما صهوة جواد جامح، وإنه استغل السلطة البابوية في إنجلترا استغلالا شديدا فجنح الفرس به وأودى به وبها! أي إن انتهاء المسرحية هو بداية لا نهاية، وإن كانت نهاية وولزي هي بداية التحول الذي لم تكن أحوال الملك الشخصية إلا مظاهره البادية، بينما كانت جذوره تضرب في تربة الشعب على أوسع نطاق. ويضيف بولارد قائلا: «كان الخلاف الأساسي بين وولزي وهنري ينحصر في أن الكاردينال يناصر سلطة الكهنوت، بينما كان الملك يناصر سلطة الدولة، وهذا هو الذي كان يميز الكنيسة الرومانية عن الكنيسة الإنجليكانية، لا أي مسألة أخرى من مسائل اللاهوت، فالسلطة الأولى في أيدي القس والسلطة الثانية في يدي الملك ... ولقد أدى سلوك وولزي إلى أن أصبحت الكنيسة سلطة مستبدة، وكان سلطانها يتمثل في تحكمها في أبناء الشعب لا في طاقتها على حكم نفسها، وهكذا فإن انتصار هنري وضمه الأديرة إلى الدولة أنقذ الكنيسة الإنجليكانية من السقوط في الهوة التي تردت فيها الكنيسة وفقا لمفهوم وولزي؛ أي الكنيسة البابوية المستبدة التي تتناقض مع روح حق تقرير المصير، وهي الروح التي كانت تتغلغل في وجدان الأمية وتعيد تشكيلها.» (
369-370 )
وعندما تنتهي المسرحية بمولد إليزابيث تكون إنجلترا قد دخلت مرحلة تحول بطيء يصطرع فيها دعاة السلفية مع دعاة التجديد والإصلاح، على مدى عقد كامل سجل أحداثه مؤرخو الفترة، ولنا في كتاب رحلات، ليلاند
The Itinerary of John Leland
شاهد حي على التحول الاجتماع الذي شهدته إنجلترا في هذه الفترة، والذي بدأ يتخذ صورة بارزة بعد سقوط وولزي؛ فزواج الملك هنري الثامن من آن بولين كان يرتبط في نظره وفي نظر الشعب باستقلال إنجلترا كدولة ذات سيادة عن سلطة روما، ولا يمكن أن يكون الاستقلال كاملا طالما كان في الدولة ممثل للبابا (القاصد الرسولي) بفرض آراءه على رجال الدين في البلد. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن موقف هنري الثامن من مسألة الطلاق والأزمة الشخصية لم تكن إلا عرضا من أعراض التحول، أما التحول الحقيقي فهو ما يرصده المؤرخون في موقف الشعب من الكهنوت وانتشار روح التنوير الجديدة، التي ولدت في ألمانيا بترجمة مارتن لوثر للكتاب المقدس، وكانت قد بذرت بذورها كما قلنا بترجمة ويكليف في القرن السابق، ثم بلغت أوجها في الصدام بين الملك وبين الكهنوت، والذي انتهى بتأميم الأديرة ثم حل الأوقاف في عهد خليفته إدوارد السادس.
ومن ثم فإن تركيز شيكسبير على المشكلة الشخصية للملك هو تركيز على العرض لا على الجوهر، والجوهر هو روح التنوير التي كان الملك يرفع لواءها مهما يكن من تمسكه بأهداب العقيدة السلفية، وقد تجاهل شيكسبير قضية ترجمة الكتاب المقدس إلى الإنجليزية التي قام بها وليام تيندال
William Tyndale
في الفترة التي تغطيها أحداث المسرحية، وهي الترجمة التي بدأها بإصدار العهد الجديد في عامي 1525-1526م، معتمدا على الأصل العبري والأصل اليوناني لا على النسخة اللاتينية، وكان يرمي بذلك إلى توعية الشعب من غير المتعلمين (ومن غير رجال الكنيسة بطبيعة الحال) بما جاء في الكتاب المقدس، حتى يستطيع كل من يعرف الإنجليزية أن يقرأ الكتاب المقدس وأن يفهمه (ولو قرأه عليه آخرون). وقد طبع الكتاب في ألمانيا وتخاطف الشعب النسخ عند وصولها، وكان من الطبيعي أن يثور عليه كبار السلفيين بحجة أخطاء الترجمة أو لتأثره الواضح بأفكار مارتن لوثر، ولكن هذه الحجة مردود عليها، بل إن المترجم نفسه قد رد على انتقادات توماس مور
Thomas More
Unknown page