الجزء الأول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
الحمد لله وحده لا شريك له، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، وبعد؛ فكتاب الحيوان لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ هو من الكتب التي كتب لها البقاء والذيوع والانتشار قديما وحديثا.
وقد طبع الكتاب غير ما مرة، وتولى خدمته غير واحد من أهل العلم، بيد أنه- على تعدد طبعاته، وجلالة بعض من خدمه- يحتاج إلى طبعة علمية محققة، ففيه ما فيه من نقصان وتحريف ليس منه.
وقد أفدت من جهود من تقدمني في خدمة هذا الكتاب، وحرصت على تخريج ما فيه من آيات وأحاديث وأخبار وأشعار وأمثال، وعلى ربطه بكتب الجاحظ الأخرى: البيان والتبيين؛ والبخلاء؛ والرسائل؛ والبرصان والعرجان.
وقدمت للكتاب بمقدمة عرفت فيها بالجاحظ وكتابه، اقتضبتها لأن ناشري كتبه قد كتبوا لها مقدمات وافية ضافية.
وبعد أرجو أن يكون التوفيق قد حالفني في إخراج الكتاب على نحو يرضاه العلماء، والله أسأل أن يهدينا للحق وإلى ما فيه مرضاته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
دمشق ١٩/٤/١٩٩٨ م.
محمد باسل عيون السود
1 / 3
حياته:
من المتفق عليه أن ولادته كانت سنة (١٤٨ هـ) وأقتطف سيرة حياته الموجزة من شذرات الذهب ٢/١٢١- ١٢٢ [سنة خمسين ومائتين.
وفيها [توفي] عمرو بن بحر الجاحظ أبو عثمان البصري المعتزلي، وإليه تنسب الفرقة الجاحظية من المعتزلة، صنف الكثير في الفنون. كان بحرا من بحور العلم؛ رأسا في الكلام والاعتزال، وعاش تسعين سنة؛ وقيل بقي إلى سنة خمس وخمسين.
أخذ عن القاضي أبي يوسف وثمامة بن أشرس وأبي إسحاق النظام. قال في المغني: عمرو بن بحر الجاحظ المتكلم صاحب الكتب. قال ثعلب: ليس بثقة ولا مأمون؛ انتهى. وقال غيره: أحسن تآليفه وأوسعها فائدة كتاب الحيوان وكتاب البيان والتبيين، وكان مشوّه الخلق، استدعاه المتوكل لتأديب ولده؛ فلما رآه رده وأجازه؛ وفلج في آخر عمره، فكان يطلي نصفه بالصندل والكافور لفرط الحرارة ونصفه الآخر لو قرض بالمقاريض ما أحس به لفرط البرودة، وسمي جاحظا لجحوظ عينيه؛ أي لنتوئهما. وكان موته بسقوط مجلدات العلم عليه] .
مضمون الكتاب وقيمته:
يوهم العنوان الذي وسم به الكتاب أنه مقصور على الحيوان، إلا أن الكتاب يتضمن علوما ومعارف أكبر من العنوان، فقد أطنب المؤلف في ذكر آي القرآن الكريم، وحديث نبينا محمد ﷺ، وفيه صورة للعصر العباسي وما انطوى عليه من ثقافة متشعبة الأطراف، وعادات كانت سائدة حينذاك، كما تحدث فيه عن الأمراض التي تعترض الإنسان والحيوان؛ وطرق علاجها، وتطرق إلى المسائل الكلامية التي عرف بها المعتزلة، وتحدث عن خصائص كثيرة من البلدان، وعرض لبعض قضايا التاريخ.
كل هذه الأنواع من العلوم كانت تتخللها الفكاهة التي بثها الجاحظ بين الفينة والأخرى، مما جعل كتابه بغية كل قارئ، فإن أراد الشعر وجده من أغنى الكتب الحافلة بالشعر، وإن أراد معرفة معلومات دقيقة عن البشر أو أحد الحيوانات وجد ضالته في تضاعيف هذا الكتاب.
1 / 4
وإن أراد الاطلاع على ما قالته العرب من أمثال وجد الكمّ الوافر منها، وإن حثته نفسه على مطالعة فكاهة وجدها مبثوثة في صفحات متعددة من هذا الكتاب الضخم، وهذا ما يجعل كتاب الحيوان مجموعة كتب ضمها كتاب واحد.
عملي في الكتاب:
قسم الجاحظ كتابه إلى عدة أبواب، وهي أبواب طويلة، يكاد يصل عدد صفحات بعضها إلى حوالي مئتي صفحة، ولما رأيت الأمر كذلك رأيت أن أحافظ على تقسيمه، وإشفاع هذا التقسيم بعناوين فرعية تعطي فكرة عن مضمون الفقرة، واقتبست العناوين من مضمون كلام الجاحظ؛ وجعلتها بين قوسين معكوفتين، كما جعلت لها رقما متسلسلا؛ كنت أحيل إليه إذا تكرر شيء من هذه الفقرة في موضع آخر من الكتاب، وتركت العناوين التي وضعها الجاحظ بدون أقواس أو أرقام، وجعلتها في منتصف الصفحة، لأميزها عن العناوين التي استحدثتها.
وقد تبين لي أن الكتاب بكافة طبعاته يعتريه السقط والخلل، فأضفت إليه ما وجدته ساقطا؛ وسددت الثلم الذي اكتنف المتن، وكان من أهم المصادر التي أعانتي في استدراك السقط كتاب «ثمار القلوب» للثعالبي، وحصرت ما أضفته بين قوسين.
وخرجت الآيات والأحاديث والأقوال والآثار، وقدمت تخريجا وافيا للأشعار والأمثال والأخبار، فلم أدع قولا أو أثرا أو مثلا أو بيتا من الشعر إلا نقبت عنه في المظان المتوفرة، وهو جهد جشمني الكثير من العناء الذي رافقه الصبر والروية للتحقق مما أكتب.
ويتضح حجم الجهد الذي بذلته في سبيل إخراج هذا الكتاب من خلال الحواشي التي ذيلت بها متن الكتاب، ومن خلال المصادر التي أشفعتها بنهاية الكتاب.
وبعد.. فأرجو أن أكون قد أصبت المراد من عملي هذا.
محمد باسل عيون السود
1 / 5
(بسم الله الرّحمن الرّحيم) وبه ثقتي
١-[مؤلفات الجاحظ والرد على من عابها]
جنّبك الله الشّبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة نسبا، وبين الصدق سببا، وحبّب إليك التثبّت، وزيّن في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عزّ الحقّ، وأودع صدرك برد اليقين وطرد عنك ذلّ اليأس، وعرّفك ما في الباطل من الذلّة، وما في الجهل من القلّة.
ولعمري لقد كان غير هذا الدعاء أصوب في أمرك، وأدلّ على مقدار وزنك، وعلى الحال التي وضعت نفسك فيها، ووسمت عرضك بها، ورضيتها لدينك حظّا، ولمروءتك شكلا، فقد انتهى إليّ ميلك على أبي إسحاق، وحملك عليه، وطعنك على معبد، وتنقّصك له في الذي كان جرى بينهما في مساوي الديك ومحاسنه، وفي ذكر منافع الكلب ومضارّه، والذي خرجا إليه من استقصاء ذلك وجمعه، ومن تتبّعه ونظمه، ومن الموازنة بينهما، والحكم فيهما. ثم عبتني بكتاب حيل اللصوص «١»، وكتاب غشّ الصناعات، وعبتني بكتاب الملح والطّرف «٢»، وما حرّ من النوادر وبرد، وما عاد بارده حارّا لفرط برده حتى أمتع بأكثر من إمتاع الحارّ، وعبتني بكتاب احتجاجات البخلاء، ومناقضتهم للسّمحاء، والقول في الفرق بين الصدق إذا كان ضارّا في العاجل، والكذب إذا كان نافعا في الآجل، ولم جعل الصدق أبدا محمودا، والكذب أبدا مذموما، والفرق بين الغيرة وإضاعة الحرمة، وبين الإفراط في الحميّة والأنفة، وبين التقصير في حفظ حقّ الحرمة، وقلّة الاكتراث لسوء القالة، وهل الغيرة اكتساب وعادة، أم بعض ما يعرض من جهة الديانة، ولبعض التزيّد فيه
1 / 7
والتحسن به، أو يكون ذلك في طباع الحريّة، وحقيقة الجوهريّة، ما كانت العقول سليمة، والآفات منفيّة والأخلاط معتدلة.
وعبتني بكتاب الصّرحاء والهجناء «١»، ومفاخرة السّودان والحمران «٢»، وموازنة ما بين حقّ الخؤولة والعمومة «٣»، وعبتني بكتاب الزرع والنخل والزيتون والأعناب «٤»، وأقسام فضول الصناعات، ومراتب التجارات «٥»؛ وبكتاب فضل ما بين الرجال والنساء «٦»، وفرق ما بين الذكور والإناث، وفي أيّ موضع يغلبن ويفضلن، وفي أي موضع يكنّ المغلوبات والمفضولات، ونصيب أيّهما في الولد أوفر، وفي أيّ موضع يكون حقّهنّ أوجب، وأيّ عمل هو بهنّ أليق، وأيّ صناعة هنّ فيها أبلغ.
وعبتني بكتاب القحطانيّة وكتاب العدنانيّة في الردّ على القحطانية «٧»، وزعمت أنّي تجاوزت الحميّة إلى حدّ العصبيّة، وأنّي لم أصل إلى تفضيل العدنانيّة إلا بتنقّص القحطانيّة، وعبتني بكتاب العرب والموالي «٨»، وزعمت أنّي بخست الموالي حقوقهم، كما أنّي أعطيت العرب ما ليس لهم. وعبتني بكتاب العرب والعجم، وزعمت أنّ القول في فرق ما بين العرب والعجم «٩»، هو القول في فرق ما بين الموالي والعرب، ونسبتني إلى التكرار والترداد، وإلى التكثير، والجهل بما في المعاد من الخطل، وحمل الناس المؤن.
وعبتني بكتاب الأصنام «١٠»، وبذكر اعتلالات الهند لها، وسبب عبادة العرب إيّاها، وكيف اختلفا في جهة العلّة مع اتّفاقهما على جملة الديانة، وكيف صار عبّاد البددة «١١» والمتمسكون بعبادة الأوثان المنحوتة، والأصنام المنجورة، أشدّ الديّانين
1 / 8
إلفا لما دانوا به، وشغفا بما تعبّدوا له، وأظهرهم جدّا، وأشدّهم على من خالفهم ضغنا، وبما دانو ضنّا، وما الفرق بين البدّ والوثن، وما الفرق بين الوثن والصنم، وما الفرق بين الدّمية والجثّة، ولم صوّروا في محاريبهم وبيوت عباداتهم، صور عظمائهم ورجال دعوتهم، ولم تأنّقوا في التصوير، وتجوّدوا «١» في إقامة التركيب، وبالغوا في التحسين والتفخيم، وكيف كانت أوّليّة تلك العبادات، وكيف اقترفت تلك النّحل، ومن أيّ شكل كانت خدع تلك السدنة «٢»، وكيف لم يزالوا أكثر الأصناف عددا، وكيف شمل ذلك المذهب الأجناس المختلفة.
وعبتني بكتاب المعادن «٣»، والقول في جواهر الأرض، وفي اختلاف أجناس الفلزّ والإخبار عن ذائبها وجامدها، ومخلوقها ومصنوعها، وكيف يسرع الانقلاب إلى بعضها، ويبطئ عن بعضها، وكيف صار بعض الألوان يصبغ ولا ينصبغ، وبعضها ينصبغ ولا يصبغ، وبعضها يصبغ وينصبغ، وما القول في الإكسير والتلطيف.
وعبتني بكتاب فرق ما بين هاشم وعبد شمس «٤»، وكتاب فرق ما بين الجنّ والإنس «٥»، وفرق ما بين الملائكة والجنّ «٦»، وكيف القول في معرفة الهدهد واستطاعة العفريت «٧»، وفي الذي كان عنده علم من الكتاب «٨»، وما ذلك العلم، وما تأويل قولهم: كان عنده اسم الله الأعظم «٩» .
وعبتني بكتاب الأوفاق والرياضات «١٠»، وما القول في الأرزاق والإنفاقات
1 / 9
وكيف أسباب التثمير والترقيح، وكيف يجتلب التجار الحرفاء، وكيف الاحتيال للودائع، وكيف التسبّب إلى الوصايا، وما الذي يوجب لهم حسن التعديل، ويصرف إليهم باب حسن الظن، وكيف ذكرنا غشّ الصناعات والتجارات «١»، وكيف التسبّب إلى تعرف ما قد ستروا وكشف ما موّهوا؛ وكيف الاحتراس منه والسلامة من أهله.
وعبتني برسائلي «٢»، وبكلّ ما كتبت به إلى إخواني وخلطائي، من مزح وجدّ، ومن إفصاح وتعريض، ومن تغافل وتوقيف، ومن هجاء لا يزال ميسمه باقيا، ومديح لا يزال أثره ناميا ومن ملح تضحك، ومواعظ تبكي.
وعبتني برسائلي الهاشميّات «٣»، واحتجاجي فيها، واستقصائي معانيها، وتصويري لها في أحسن صورة، وإظهاري لها في أتمّ حلية، وزعمت أنّي قد خرجت بذلك من حدّ المعتزلة إلى حد الزيديّة، ومن حدّ الاعتدال في التشيّع والاقتصاد فيه، إلى حدّ السرف والإفراط فيه. وزعمت أنّ مقالة الزيدية خطبة مقالة الرافضة، وأنّ مقالة الرافضة خطبة مقالة الغالية «٤» . وزعمت أنّ في أصل القضيّة والذي جرت عليه العادة. أن كلّ كبير فأوّله صغير، وأنّ كلّ كثير فإنما هو قليل جمع من قليل، وأنشدت قول الراجز: [من الرجز]
قد يلحق الصغير بالجليل ... وإنّما القرم من الأفيل
وسحق النخل من الفسيل «٥»
وأنشدت قول الشاعر: [من الرجز]
ربّ كبير هاجه صغير ... وفي البحور تغرق البحور «٦»
وقلت: وقال يزيد بن الحكم: [من م. الكامل]
فاعلم بنيّ فإنّه ... بالعلم ينتفع العليم «٧»
1 / 10
إنّ الأمور دقيقها ... مما يهيج له العظيم
وقلت: وقال الآخر: [من المديد]
صار جدّا ما مزحت به ... ربّ جدّ ساقه اللعب «١»
وأنشدت قول الآخر: [من الكامل]
ما تنظرون بحقّ وردة فيكم ... تقضى الأمور ورهط وردة غيّب «٢»
قد يبعث الأمر الكبير صغيرة ... حتّى تظلّ له الدماء تصبّب
وقالت كبشة بنت معد يكرب: [من الطويل]
جدعتم بعبد الله آنف قومه ... بني مازن أن سبّ راعي المحزّم «٣»
وقال الآخر: [من السريع]
أيّة نار قدح القادح ... وأيّ جدّ بلغ المازح «٤»
وتقول العرب: «العصا من العصيّة، ولا تلد الحيّة إلا حيّة» «٥» .
وعبت كتابي في خلق القرآن «٦»، كما عبت كتابي في الردّ على المشبّهة «٧»؛ وعبت كتابي في القول في أصول الفتيا والأحكام «٨»، كما عبت كتابي في الاحتجاج لنظم القرآن وغريب تأليفه وبديع تركيبه «٩» . وعبت معارضتي للزيديّة وتفضيلي الاعتزال على كلّ نحلة «١٠»، كما عبت كتابي في الوعد والوعيد «١١»، وكتابي على
1 / 11
النصارى واليهود «١» ثمّ عبت جملة كتبي في المعرفة والتمست تهجينها بكلّ حيلة، وصغّرت من شأنها، وحططت من قدرها، واعترضت على ناسخيها والمنتفعين بها، فعبت كتاب الجوابات «٢»، وكتاب المسائل «٣»، وكتاب أصحاب الإلهام «٤»، وكتاب الحجّة في تثبيت النبوّة «٥»، وكتاب الأخبار، ثمّ عبت إنكاري بصيرة غنام المرتدّ «٦»، وبصيرة كلّ جاحد وملحد، وتفريقي بين اعتراض الغمر «٧»، وبين استبصار المحقّ، وعبت كتاب الردّ على الجهميّة في الإدراك «٨» . وفي قولهم في الجهالات. وكتاب الفرق ما بين النبيّ والمتنبي «٩» . والفرق ما بين الحيل والمخاريق «١٠» . وبين الحقائق الظاهرة والأعلام الباهرة. ثمّ قصدت إلى كتابي هذا بالتصغير لقدره والتهجين لنظمه، والاعتراض على لفظه، والتحقير لمعانيه، فزريت على نحته وسبكه، كما زريت على معناه ولفظه، ثمّ طعنت في الغرض الذي إليه نزعنا، والغاية التي إليها قصدنا. على أنّه كتاب معناه أنبه من اسمه، وحقيقته آنق من لفظه، وهو كتاب يحتاج إليه المتوسط العامي، أما الرّيض فللتعلّم والدربة، وللترتيب والرياضة، وللتمرين وتمكين العادة، إذ كان جليله يتقدم دقيقه، وإذا كانت مقدّماته مرتبة وطبقات معانيه منزّلة. وأما الحاذق فلكفاية المؤنة، لأن كلّ من التقط كتابا جامعا، وبابا من أمّهات العلم مجموعا، كان له غنمه، وعلى مؤلّفه غرمه، وكان له نفعه، وعلى صاحبه كدّه، مع تعرّضه لمطاعن البغاة، ولاعتراض المنافسين، ومع عرضه عقله المكدود على العقول الفارغة، ومعانيه على الجهابذة، وتحكيمه فيه المتأوّلين والحسدة.
ومتى ظفر بمثله صاحب علم، أو هجم عليه طالب فقه، وهو وادع رافه، ونشيط جامّ، ومؤلّفه متعب مكدود، فقد كفي مؤونة جمعه وخزنه، وطلبه وتتبّعه، وأغناه
1 / 12
ذلك عن طول التفكير، واستفاد العمر وفلّ الحدّ، وأدرك أقصى حاجته وهو مجتمع القوّة. وعلى أنّ له عند ذلك أن يجعل هجومه عليه من التوفيق، وظفره به بابا من التسديد.
وهذا كتاب تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم، لأنه وإن كان عربيّا أعرابيا، وإسلاميّا جماعيّا، فقد أخذ من طرف الفلسفة، وجمع بين معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرك بين علم الكتاب والسنة، وبين وجدان الحاسّة، وإحساس الغريزة. ويشتهيه الفتيان كما تشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعب ذو اللهو كما يشتهيه المجدّ ذو الحزم، ويشتهيه الغفل كما يشتهيه الأريب، ويشتهيه الغبيّ كما يشتهيه الفطن.
وعبتني بحكاية قول العثمانيّة والضّرارية «١»، وأنت تسمعني أقول في أوّل كتابي: وقالت العثمانية والضراريّة، كما سمعتني أقول: قالت الرافضة والزيدية «٢»، فحكمت عليّ بالنصب لحكايتي قول العثمانية، فهلّا حكمت عليّ بالتشيّع لحكايتي قول الرافضة!! وهلا كنت عندك من الغالية لحكايتي حجج الغالية، كما كنت عندك من الناصبة لحكايتي قول الناصبة!! وقد حكينا في كتابنا قول الإباضيّة والصّفرية، كما حكينا قول الأزارقة والزيدية. وعلى هذه الأركان الأربعة بنيت الخارجية، وكلّ اسم سواها فإنما هو فرع ونتيجة، واشتقاق منها، ومحمول عليها.
وإلّا كنّا عندك من الخارجية، كما صرنا عندك من الضّراريّة والناصبة. فكيف رضيت بأن تكون أسرع من الشيعة، أسرع إلى إعراض الناس من الخارجية، اللهم إلّا أن تكون وجدت حكايتي عن العثمانيّة والضّراريّة أشبع وأجمع، وأتمّ وأحكم، وأجود صنعة، وأبعد غاية. ورأيتني قد وهّنت حقّ أوليائك، بقدر ما قوّيت باطل أعدائك! ولو كان ذلك كذلك، لكان شاهدك من الكتاب حاضرا، وبرهانك على ما ادعيت واضحا.
وعبتني بكتاب العباسية «٣»، فهلّا عبتني بحكاية مقالة من أبى وجوب الإمامة، ومن يرى الامتناع من طاعة الأئمة الذين زعموا أنّ ترك النّاس سدى بلا قيّم أردّ عليهم، وهملا بلا راع أربح لهم، وأجدر أن يجمع لهم ذلك بين سلامة العاجل، وغنيمة الآجل، وأنّ تركهم نشرا لا نظام لهم، أبعد من المفاسد، وأجمع لهم على المراشد!! بل ليس ذلك بك، ولكنّه بهرك ما سمعت، وملأ صدرك الذي قرأت، وأبعلك
1 / 13
وأبطرك، فلم تتّجه للحجّة وهي لك معرضة، ولم تعرف المقاتل وهي لك بادية، ولم تعرف باب المخرج إذ جهلت باب المدخل، ولم تعرف المصادر إذ جهلت الموارد.
رأيت أنّ سبّ الأولياء أشفى لدائك، وأبلغ في شفاء سقمك، ورأيت أن إرسال اللسان أحضر لذّة، وأبعد من النّصب، ومن إطالة الفكرة ومن الاختلاف إلى أرباب هذه الصناعة.
ولو كنت فطنت لعجزك، ووصلت نقصك بتمام غيرك، واستكفيت من هو موقوف على كفاية مثلك، وحبيس على تقويم أشباهك كان ذلك أزين في العاجل.
وأحقّ بالمثوبة في الآجل، وكنت إن أخطأتك الغنيمة لم تخطك السلامة، وقد سلم عليك المخالف بقدر ما ابتلي به منك الموافق. وعلى أنّه لم يبتل منك إلا بقدر ما ألزمته من مؤنة تثقيفك، والتشاغل بتقويمك. وهل كنت في ذلك إلّا كما قال العربي:
«هل يضرّ السّحاب نباح الكلاب» «١»، وإلّا كما قال الشاعر: [من الرمل]
هل يضرّ البحر أمسى زاخرا ... أن رمى فيه غلام بحجر «٢»
وهل حالنا في ذلك إلّا كما قال الشاعر: [من الكامل]
ما ضرّ تغلب وائل أهجوتها ... أم بلت حيث تناطح البحران «٣»
وكما قال حسّان بن ثابت: [من الخفيف]
ما أبالي أنبّ بالحزن تيس ... أم لحاني بظهر غيب لئيم «٤»
وما أشكّ أنّك قد جعلت طول إعراضنا عنك مطيّة لك، ووجّهت حلمنا عنك إلى الخوف منك، وقد قال زفر بن الحارث لبعض من لم ير حقّ الصفح، فجعل العفو سببا إلى سوء القول: [من الطويل]
فإن عدت والله الذي فوق عرشه ... منحتك مسنون الغرارين أزرقا «٥»
فإنّ دواء الجهل أن تضرب الطّلى ... وأن يغمس العرّيض حتى يغرّقا
1 / 14
وقال الأوّل: [من الكامل]
وضغائن داويتها بضغائن ... حتّى شفيت وبالحقود حقودا
وقال الآخر: [من البسيط]
وما نفى عنك قوما أنت خائفهم ... كمثل وقمك جهّالا بجهّال «١»
فاقعس إذا حدبوا واحدب إذا قعسوا ... ووازن الشّرّ مثقالا بمثقال
فإنّا وإن لم يكن عندنا سنان زفر بن الحارث، ولا معارضة هؤلاء الشرّ بالشرّ، والجهل بالجهل، والحقد بالحقد، فإن عندي ما قال المسعوديّ: [من الطويل]
فمسّا تراب الأرض منه خلقتما ... وفيه المعاد والمصير إلى الحشر «٢»
ولا تأنفا أن ترجعا فتسلّما ... فما كسى الأفواه شرّا من الكبر
فلو شئت أدلى فيكما غير واحد ... علانية أو قال عندي في السّرّ
فإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما ... ضحكت له كيما يلجّ ويستشري
وقال النّمر بن تولب: [من الطويل]
جزى الله عنّي جمرة ابنة نوفل ... جزاء مغلّ بالأمانة كاذب «٣»
بما خبّرت عنّي الوشاة ليكذبوا ... عليّ وقد أوليتها في النوائب
يقول: أخرجت خبرها، فخرج إلى من أحبّ أن يعاب عندها.
ولو شئت أن نعارضك لعارضناك في القول بما هو أقبح أثرا وأبقى وسما، وأصدق قيلا، وأعدل شاهدا. وليس كلّ من ترك المعارضة فقد صفح، كما أنّه ليس من عارض فقد انتصر، وقد قال الشاعر قولا، إن فهمته فقد كفيتنا مؤونة المعارضة، وكفيت نفسك لزوم العار، وهو قوله: [من السريع]
إن كنت لا ترهب ذمّي لما ... تعرف من صفحي عن الجاهل «٤»
1 / 15
فاخش سكوتي إذ أنا منصت ... فيك لمسموع خنا القائل
فالسامع الذمّ شريك له ... ومطعم المأكول كالآكل
مقالة السّوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل
ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل
فلا تهج إن كنت ذا إربة ... حرب أخي التجربة العاقل
فإنّ ذا العقل إذا هجته ... هجت به ذا خيل خابل
تبصر في عاجل شدّاته ... عليك غبّ الضرر الآجل
وقد يقال: إنّ العفو يفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم، وقد قال الشاعر: [من البسيط]
والعفو عند لبيب القوم موعظة ... وبعضه لسفيه القوم تدريب
٢-[لا تزر وازرة وزر أخرى]
فإن كنّا أسأنا في هذا التقريع والتوقيف، فالذي لم يأخذ فينا بحكم القرآن ولا بأدب الرسول ﵊، ولم يفزع إلى ما في الفطن الصحيحة، وإلى ما توجبه المقاييس المطّردة، والأمثال المضروبة، والأشعار السائرة، أولى بالإساءة وأحقّ باللائمة، قال الله ﷿: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى
«١» . وقد قال النبيّ ﵊: «لا يجن يمينك على شمالك» .
وهذا حكم الله تعالى وآداب رسوله والذي أنزل به الكتاب ودلّ عليه من حجج العقول.
٣-[المفقأ والمعمى]
فأمّا ما قالوا في المثل المضروب «رمتني بدائها وانسلّت» «٢»، وأمّا قول الشعراء، وذمّ الخطباء لمن أخذ إنسانا بذنب غيره، وما ضربوا في ذلك من الأمثال،
1 / 16
كقول النابغة حيث يقول في شعره: [من الطويل]
وكلّفتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع «١»
وكانوا إذا أصاب إبلهم العرّ «٢» كووا السليم ليدفعه عن السقيم، فأسقموا الصحيح من غير أن يبرئوا السقيم.
وكانوا إذا كثرت إبل أحدهم فبلغت الألف، فقؤوا عين الفحل، فإن زادت الإبل على الألف فقؤوا العين الأخرى، وذلك المفقّأ والمعمّى اللذان سمعت في أشعارهم «٣» .
قال الفرزدق: [من الوافر]
غلبتك بالمفقئ والمعنّى ... وبيت المحتبي والخافقات «٤»
وكانوا يزعمون أن المفقأ يطرد عنها العين والسواف «٥» والغارة، فقال الأوّل:
[من الطويل]
فقأت لها عين الفحيل عيافة ... وفيهنّ رعلاء المسامع والحامي «٦»
الرعلاء: التي تشقّ أذنها وتترك مدلّاة، لكرمها.
٤-[ذبح العتيرة]
وكانوا يقولون في موضع الكفّارة والأمنيّة، كقول الرجل: إذا بلغت إبلي كذا وكذا وكذلك غنمي، ذبحت عند الأوثان كذا وكذا عتيرة «٧» . والعتيرة من نسك الرّجبيّة والجمع عتائر- والعتائر من الظباء- فإذا بلغت إبل أحدهم أو غنمه ذلك
1 / 17
العدد، استعمل التأويل وقال: إنّما قلت إنّي أذبح كذا وكذا شاة، والظباء شاء كما أنّ الغنم شاء، فيجعل ذلك القربان شاء كلّه ممّا يصيد من الظباء، فلذلك يقول الحارث ابن حلّزة اليشكريّ: [من الخفيف]
عنتا باطلا وظلما كما تع ... تر عن حجرة الرّبيض الظّباء «١»
بعد أن قال:
أم علينا جناح كندة أن يغ ... نم غازيهم ومنّا الجزاء
٥-[إمساك البقر عن شرب الماء]
وكانوا إذا أوردوا البقر فلم تشرب، إمّا لكدر الماء، أو لقلّة العطش، ضربوا الثور ليقتحم الماء، لأنّ البقر تتبعه كما تتبع الشّول الفحل، وكما تتبع أتن الوحش الحمار. فقال في ذلك عوف بن الخرع: [من الوافر]
تمنّت طيّئ جهلا وجبنا ... وقد خاليتهم فأبوا خلائي «٢»
هجوني أن هجوت جبال سلمى ... كضرب الثّور للبقر الظّماء
وقال في ذلك أنس بن مدركة في قتله سليك بن السّلكة: [من البسيط]
إنّي وقتلي سليكا ثمّ أعقله ... كالثّور يضرب لمّا عافت البقر «٣»
أنفت للمرء إذ نيكت حليلته ... وأن يشدّ على وجعائها الثّفر
وقال الهيّبان الفهميّ: [من الطويل]
كما ضرب اليعسوب أن عاف باقر ... وما ذنبه أن عافت الماء باقر
ولمّا كان الثور أمير البقر، وهي تطيعه كطاعة إناث النحل لليعسوب، سمّاه باسم أمير النحل.
1 / 18
وكانوا يزعمون أنّ الجنّ هي التي تصدّ الثّيران عن الماء حتى تمسك البقر عن الشرب حتى تهلك، وقال في ذلك الأعشى: [من الطويل]
فإنّي وما كلّفتموني- وربّكم- ... لأعلم من أمسى أعقّ وأحربا «١»
لكالثّور والجنّيّ يضرب ظهره ... وما ذنبه أن عافت الماء مشربا
وما ذنبه أن عافت الماء باقر ... وما إن تعاف الماء إلّا ليضربا
كأنّه قال: إذا كان يضرب أبدا لأنها عافت الماء، فكأنّها إنما عافت الماء ليضرب.
وقال يحيى بن منصور الذّهليّ في ذلك: [من الطويل]
لكالثّور والجنيّ يضرب وجهه ... وما ذنبه إن كانت الجنّ ظالمه
وقال نهشل بن حرّيّ: [من الوافر]
أتترك عارض وبنو عديّ ... وتغرم دارم وهم براء «٢»
كدأب الثّور يضرب بالهراوى ... إذا ما عافت البقر الظّماء
وكيف تكلّف الشّعرى سهيلا ... وبينهما الكواكب والسّماء
٦-[ذنب العطرق]
وقال أبو نويرة بن الحصين، حين أخذه الحكم بن أيّوب بذنب العطرّق: [من الطويل]
أبا يوسف لو كنت تعلم طاعتي ... ونصحي إذن ما بعتني بالمحلّق «٣»
ولا ساق سرّاق العرافة صالح ... بنيّ ولا كلّفت ذنب العطرق
وقال خداش بن زهير حين أخذ بدماء بني محارب: [من الطويل]
أكلّف قتلى معشر لست منهم ... ولا دارهم داري ولا نصرهم نصري
1 / 19
أكلّف قتلى العيص عيص شواحط ... وذلك أمر لم تثفّ له قدري «١»
وقال الآخر: [من الطويل]
إذا عركت عجل بنا ذنب طيّء ... عركنا بتيم اللات ذنب بني عجل
٧-[جناية اليهودي]
ولما وجد اليهوديّ أخا حنبض الضبابيّ في منزله فخصاه فمات، وأخذ حنبض بني عبس بجناية اليهوديّ، قال قيس بن زهير: أتأخذنا بذنب غيرنا، وتسألنا العقل والقاتل يهوديّ من أهل تيماء؟ فقال: والله أن لو قتلته الريح، لوديتموه! فقال قيس لبني عبس: الموت في بني ذبيان خير من الحياة في بني عامر! ثم أنشأ يقول: [من الطويل]
أكلّف ذا الخصيين إن كان ظالما ... وإن كنت مظلوما وإن كنت شاطنا «٢»
خصاه امرؤ من آل تيماء طائر ... ولا يعدم الإنسيّ والجنّ كائنا
فهلّا بني ذبيان- أمّك هابل- ... رهنت بفيف الرّيح إن كنت راهنا «٣»
إذا قلت قد أفلت من شرّ حنبض ... أتاني بأخرى شرّه متباطنا
فقد جعلت أكبادنا تجتويكم ... كما تجتوي سوق العضاه الكرازن «٤»
٨-[قتل لقمان بن عاد لنسائه وابنته]
ولما قتل لقمان بن عاد ابنته- وهي صحر أخت لقيم- قال حين قتلها «٥»:
ألست امرأة! وذلك أنّه قد كان تزوج عدّة نساء، كلّهنّ خنّه في أنفسهنّ، فلمّا قتل أخراهنّ ونزل من الجبل، كان أوّل من تلقّاه صحر ابنته، فوثب عليها فقتلها وقال:
1 / 20
وأنت أيضا امرأة! وكان قد ابتلي بأنّ أخته كانت محمقة وكذلك كان زوجها، فقالت لإحدى نساء لقمان: هذه ليلة طهري وهي ليلتك، فدعيني أنام في مضجعك، فإنّ لقمان رجل منجب، فعسى أن يقع عليّ فأنجب. فوقع على أخته فحملت بلقيم.
فهو قول النّمر بن تولب: [من المتقارب]
لقيم بن لقمان من أخته ... فكان ابن أخت له وابنما «١»
ليالي حمّق فاستحصنت ... عليه فغرّ بها مظلما
فأحبلها رجل محكم ... فجاءت به رجلا محكما
فضربت العرب في ذلك المثل بقتل لقمان ابنته صحرا، فقال خفاف بن ندبة في ذلك: [من الوافر]
وعبّاس يدبّ لي المنايا ... وما أذنبت إلّا ذنب صحر»
وقال في ذلك ابن أذينة: [من الطويل]
أتجمع تهياما بليلى إذا نأت ... وهجرانها ظلما كما ظلمت صحر «٣»
وقال الحارث بن عباد: [من الخفيف]
قرّبا مربط النعامة منّي ... لقحت حرب وائل عن حيال «٤»
لم أكن من جناتها علم اللّ ... هـ وإنّي بحرّها اليوم صالي
وقال الشاعر، وأظنّه ابن المقفّع: [من المتقارب]
فلا تلم المرء في شأنه ... فربّ ملوم ولم يذنب «٥»
وقال آخر: [من الطويل]
لعلّ له عذرا وأنت تلوم ... وكم لائم قد لام وهو مليم
1 / 21
٩-[جزاء سنمّار]
وقال بعض العرب، في قتل بعض الملوك «١» لسنمّار الرومي؛ فإنه لما علا الخورنق ورأى بنيانا لم ير مثله، ورأى في ذلك المستشرف، وخاف إن هو استبقاه أن يموت فيبني مثل ذلك البنيان لرجل آخر من الملوك، رمى به من فوق القصر، فقال في ذلك الكلبيّ في شيء كان بينه وبين بعض الملوك: [من الطويل]
جزاني جزاه الله شرّ جزائه ... جزاء سنمّار وما كان ذا ذنب «٢»
سوى رصّه البنيان سبعين حجّة ... يعلّى عليه بالقراميد والسّكب
فلما رأى البنيان تمّ سحوقه ... وآض كمثل الطّود ذي الباذخ الصّعب
وظنّ سنمّار به كلّ حبوة ... وفاز لديه بالمودّة والقرب
فقال اقذفوا بالعلج من رأس شاهق ... فذاك لعمر الله من أعظم الخطب
وجاء المسلمون، يروي خلف عن سلف، وتابع عن سابق، وآخر عن أوّل، أنّهم لم يختلفوا في عيب قول زياد: «لآخذنّ الوليّ بالوليّ، والسّمي بالسّميّ، والجار بالجار»، ولم يختلفوا في لعن شاعرهم حيث يقول: [من الوافر]
إذا أخذ البريء بغير ذنب ... تجنّب ما يحاذره السقيم
قال: وقيل لعمرو بن عبيد: إنّ فلانا لما قدّم رجلا ليضرب عنقه، فقيل له: إنّه مجنون! فقال: لولا أنّ المجنون يلد عاقلا لخلّيت سبيله. قال: فقال عمرو: ما خلق الله النّار إلّا بالحق! ولمّا قالت التغلبيّة للجحّاف، في وقعة البشر «٣»: فضّ الله فاك وأعماك، وأطال
1 / 22
سهادك، وأقلّ رقادك، فو الله إن قتلت إلّا نساء أعاليهنّ ثديّ، وأسافلهنّ دمى!! فقال لمن حوله: لولا أن تلد هذه مثلها لخلّيت سبيلها! فبلغ ذلك الحسن فقال: أمّا الجحّاف فجذوة من نار جهنّم.
قال: وذمّ رجل عند الأحنف بن قيس الكمأة بالسّمن، فقال عند ذلك الأحنف: «ربّ ملوم لا ذنب له» «١» .
فبهذه السيرة سرت فينا.
وما أحسن ما قال سعيد بن عبد الرحمن: [من الطويل]
وإنّ امرأ أمسى وأصبح سالما ... من النّاس إلّا ما جنى لسعيد «٢»
١٠-[اهتمام العلماء بالملح والفكاهات]
وقلت: وما بال أهل العلم والنظر، وأصحاب الفكر والعبر، وأرباب النّحل، والعلماء وأهل البصر بمخارج الملل، وورثة الأنبياء، وأعوان الخلفاء، يكتبون كتب الظّرفاء والملحاء، وكتب الفرّاغ والخلعاء، وكتب الملاهي والفكاهات، وكتب أصحاب الخصومات، وكتب أصحاب المراء، وكتب أصحاب العصبيّة وحميّة الجاهليّة!! ألأنّهم لا يحاسبون أنفسهم، ولا يوازنون بين ما عليهم ولهم، ولا يخافون تصفّح العلماء، ولا لائمة الأرباء، وشنف الأكفاء، ومشنأة «٣» الجلساء!؟
فهلا أمسكت- يرحمك الله- عن عيبها والطّعن عليها، وعن المشورة والموعظة، وعن تخويف ما في سوء العاقبة، إلى أن تبلغ حال العلماء، ومراتب الأكفاء؟! فأمّا كتابنا هذا، فسنذكر جملة المذاهب فيه، وسنأتي بعد ذلك على التفسير، ولعلّ رأيك عند ذلك أن يتحوّل، وقولك أن يتبدل، فتثبت أو تكون قد أخذت من التوقّف بنصيب، إن شاء الله.
1 / 23