ولم أر إضرابا في المدرسة إلا مرتين: مرة كان فيها الإضراب سهلا يسيرا يكاد يكون عاما، يوم خرجنا قبل انتهاء الدروس (10 فبراير سنة 1908) نشيع جنازة المرحوم مصطفى كامل، وكان يوما مشهودا اشتركت فيه جميع طبقات الأمة ونبض فيه قلبها وتيقظ فيه شعورها، والمرة الثانية - بعد إتمامي الدراسة - يوم أضرب فصل من فصول المدرسة، لأن الناظر حتم عليه الألعاب الرياضية في مكان معين. وكان هذا المكان مشمسا والدنيا حارة، فاستأذن الطلبة أن يلعبوا في الظل، فأبى بحجة أن الطلبة يجب أن يتعودا الخشونة في العيش والصبر على الشدائد، ولكن الطلبة لم يعجبهم هذا القول فامتنعوا عن اللعب ووقفوا في الظل لا في الشمس. فلما علم الناظر بذلك رعب وامتقع لونه لأن هذه أول حادثة من نوعها. فحضر في حالة عصبية ولكنه كتم غيظه، وطلب من الطلبة أن يصعدوا إلى فصلهم فأبوا ثم كررها فأبوا، ففكر لحظة ماذا يفعل، ثم رأى أن مخاطبة الجموع غير مجدية، فنادى طالبا بعينه تفرس فيه الخوف والطاعة، وأمره أن يخرج أمام الصف فخرج، ثم قال له: إما أن تصعد إلى فصلك وإما تخرج من باب المدرسة إلى الأبد، وكل الطلبة كانوا يعلمون من الناظر جده وصدقه والتزامه تنفيذ وعده ووعيده، فإذا قال الكلمة ففداؤه رقبته، فتردد الطالب قليلا، ثم صعد إلى فصله، وتفرس أيضا فنادى الثاني. وقال له ما قال للأول ففعل فعله ثم نظر إلى الجماعة نظر المنتظر الظافر، وقال لهم: أظن أن لا معنى بعد ذلك للإضراب، انصرفوا إلى فصلكم فانصرفوا وانكسر الإضراب.
وكان شعوري الديني، وأنا طالب بمدرسة القضاء لا يزال قويا كشعوري الوطني بل أقوى منه، حتى كان طلبة فصلي يسمونني «السني»، بينما يسمون غيري الفيلسوف أو الزنديق. وأذكر مرة أن أحد أساتذتي كان ينكر معجزة نبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم فحاججته، ثم انقلب الجدال إلى حدة مني فاحمر وجهي وغضبت على أستاذي غضبا شديدا، فتقبل غضبي بالحلم والابتسامة الهادئة - واتصلت بشيخ طريقة صوفية
2
وكان رجلا ظريفا نظيفا أنيقا لا يظهر عليه أي مظهر من التصوف إلا إشراق في وجهه ورقة في قلبه تظهر في حركاته، وكان يعمل في الدنيا كما يعمل الناس. فهو صيدلاني يطلع على كتب الطب القديمة ويصنع منها بعض الأدوية الناجحة في الأمراض، كدواء للحصوة في الكلية ونحو ذلك، وكان أديبا يتذوق الشعر ويقول الزجل الظريف، ويستمع إلى شعر الغزل فيفهمه بذوقه الصوفي، ويتأوله على طريقة الصوفية. استنشدني مرة شعرا فأنشدته، حتى وصلت في إنشادي إلى قول أبي تمام:
وأنجدتمو من بعد اتهام داركم
فيا دمع أنجدني على ساكني نجد
استوقفني واستعادني فرأيت الدمع يترقرق في عينيه. وفي اليوم التالي أسمعني تخميسا لطيفا لهذا البيت - طلبت منه أن يعلمني طريقة الصوفية؛ ويقبلني «مريدا» فوعد أن يكون ذلك يوم الجمعة في قبة الإمام الشافعي. وذهبت إلى هناك وانتحينا ناحية وجلسنا وقرأ علي العهد وتابعته ثم أعطاني الدرس الأول في الطريقة.
وكان يلطف من عناء الدرس في المدرسة مداعبات الطلبة. ففي الفصل طلبة مكرة مهرة عركوا الحياة وعركتهم، وعرفوا الدنيا وعرفتهم، ولهم لسان طلق ذلق هجاء، وقدرة فائقة على السخرية اللاذعة. وفيهم السذج وأشباه السذج. سلامة قلب وضعف حيلة وسوء تصرف. وفيهم من هو بين هؤلاء وهؤلاء - ولم يمض الأسبوع الأول من دخولنا المدرسة حتى تكشفت أخلاقنا وعرف بعضنا بعضا، وتبينت مواقع القوة ومواضع الضعف في كل منا سواء من الناحية الخلقية أو العقلية. فاستغل الأقوياء الضعفاء كما هو الشأن في الوجود، واتخذ بعضهم بعضا سخريا. لعب الماكر الماهر بالأبله الساذج لعب القراد بالقرود، ووقفوا لهم بالمرصاد يحصون غلطاتهم ويئولون تصرفاتهم بما يستخرج الضحك من أعماق القلب.
هذا مغفل نتضاحك من غفلته، وهذا بخيل نتنادر على بخله، وهذا سريع الغضب يهيج لأقل سبب، فإذا هاج أتى بحركات بهلوانية واندفع في السب والشتم، فكنا نثير غضبه ثم نضحك مما يصدر عنه. وهذا إذا مشي فكأنه الديك الرومي في انتفاشه، وهذا إذا ضحك تقطعت ضحكته وطالت فكأنما هي نهيق، ومن كل ذلك لهو طريف وضحك عميق، فكأن الطبيعة عوضتنا عن هذا الجد العابس والدرس القاسي والعناء الرتيب بهذه الفكاهات الحلوة والمرة تنفس عن نفوسنا، وتفرج من ضيقنا.
وراعني يوما وأنا في مدرسة القضاء حادث لم يكن في الدراسة ولكن بجوارها أثر في أثر في أثرا بالغا فذكرته: ذلك أنه كان بجوار المدرسة بيت ثري كبير، له المزارع الواسعة والأملاك الكثيرة من مختلف الأنواع، وكان يعيش عيشة فخمة أنيقة، وفيه طيبة تحمله على الإنفاق على بعض الأعمال الخيرية، وفيه سذاجة تمكن شياطين المال من استغلاله وإغوائه.
Unknown page