ولو ورث أي إنسان ما ورثت، وعاش في بيئة كالتي عشت لكان إياي أو ما يقرب مني جدا.
لقد عمل في تكويني إلى حد كبير ما ورثت عن آبائي، والحياة الاقتصادية التي كانت تسود بيتنا، والدين الذي يسيطر علينا، واللغة التي نتكلم بها، وأدبنا الشعبي الذي كان يروى لنا ونوع التربية الذي كان مرسوما في ذهن أبوي ولو لم يستطيعا التعبير عنه ورسم حدوده ونحو ذلك؛ فأنا لم أصنع نفسي ولكن صنعها الله عن طريق ما سنه من قوانين الوراثة والبيئة.
عجيب هذا العالم، إن نظرت إليه من زاوية رأيته كلا متشابها، يتجانس في تكوين ذراته، وفي بناء أجزائه، وفي خضوعه لقوانين واحدة؛ وإن نظرت إليه من زاوية أخرى رأيت كل جزئية منه تنفرد عن غيرها بميزات خاصة بها، لا يشركها فيها غيرها، حتى شجرة الوردة نفسها تكاد تتميز كل ورقة فيها عن مثيلاتها، فمن الناحية الأولى نستطيع أن نقول: ما أشبه الإنسان بالإنسان، ومن الناحية الثانية نقول: ما أوسع الفرق بين الإنسان والإنسان.
وعلى هذه النظرة الثانية فأنا عالم وحدي، كما أن كل إنسان عالم وحده. تقع الأحداث على أعصابي، فأنفعل لها انفعالا خاصا بي، وأقومها تقويما يختلف - قليلا أو كثيرا - عن تقويم كل مخلوق آخر غيري. فالحادثة الواحدة يبكي منها إنسان، ويضحك منها آخر؛ ولا يبكي ولا يضحك منها ثالث، كأوتار العود الواحد، يوقع عليها كل فنان توقيعا منفردا متميزا لا يساويه فيه أي فنان آخر.
فأنا أروي من الأحداث ما تأثرت به نفسي. وأحكيها كما رأت عيني. وأترجمها بمقدار ما انفعل بها شعوري وفكري
1 ...
الفصل الثاني
نظر مرة إلى رأسي أستاذ جامعي في علم الجغرافيا وحدق فيه ثم قال: هل أنت مصري صميم؟ قلت: فيما أعتقد، ولم هذا السؤال؟ قال: إن رأسك - كما يدل عليه علم السلالات - رأس كردي.
ولست أعلم من أين أتتني هذه الكردية، فأسرة أبي من بلدة «سمخراط» من أعمال البحيرة.. أسرة فلاحة مصرية. ومع هذا فمديرية البحيرة على الخصوص مأوى المهاجرين من الأقطار الأخرى. فقد يكون جدي الأعلى، كما يقول الأستاذ، كرديا أو سوريا أو حجازيا أو غير ذلك. ولكن على العموم كان المهاجرون من آبائي ديمقراطيين من أفراد الشعب لا يؤبه بهم ولا بتاريخهم. ولكن لعل مما يؤيد كلام الأستاذ أني أشعر بأني غريب في أخلاقي وفي وسطي. وهذه الأسرة كانت كسائر الفلاحين تعيش على الزرع، وحدثني أبي أنهم كانوا يملكون في بلدهم نحو اثني عشر فدانا. ولكن توالى عليهم ظلم «السخرة» وظلم تحصيل الضرائب فهجروها.
وكانت السخرة أشكالا وألوانا، فسخرة للمصالح العامة كالمحافظة على جسور النيل أيام الفيضان؛ فعمدة البلدة يسخر الفلاحين ليحافظوا على الجسور حتى لا يطغى النيل فيغرق البلد فإذا تخلف أحد ممن عين لهذه الحراسة عذب وضرب، وهو يعمل هذا العمل من غير أجر؛ وسخرة للمصالح الخاصة فالغني الكبير والعمدة ونحوهما لهم الحق أن يحشدوا من شاءوا من الفلاحين المساكين ليعملوا في أرضهم الأيام والليالي من غير أجر - ولما أبطل رياض باشا السخرة والضرب بالكرباج في عهد الخديوي توفيق نقم عليه الوجوه والأعيان صنعه، وعدوا ذلك من عيوبه، وقالوا إنه أفسد علينا الفلاحين، وهكذا كان في كل ناحية من نواحي القطر عدد قليل من الوجوه والأعيان هم السادة، وسواد الناس لهم عبيد، بل هؤلاء الوجوه والأعيان سادة على الفلاحين وعبيد للحكام.
Unknown page