أحمد أمين
مقدمة الطبعة الثانية
كنت أخرجت هذا الكتاب - كما قلت في الطبعة الأولى - وأنا خائف متردد، للأسباب التي ذكرتها، وأحمد الله إذ تقبله القارئون قبولا حسنا، ومدحوا فيه ما يدل عليه من صراحة وصدق في الخير والشر، والنعيم والبؤس.
وقد نفدت الطبعة الأولى ومضى على نفادها نحو سنة. ثم طلب مني أن أعيد طبعته، فأجزت، وأعدت قراءته من جديد، فزدت عليه زيادات في أمور كنت نسيتها. وحصلت في السنتين الأخيرتين حوادث ألحقتها بالكتاب؛ حتى يساير «حياتي» حياتي.
والله المسئول أن ينفع بالطبعة الثانية، ما نفع بالأولى.
1952/12/18
أحمد أمين
الفصل الأول
ما أنا إلا نتيجة حتمية لكل ما مر علي وعلى آبائي من أحداث، فالمادة لا تنعدم وكذلك المعاني، قد يموت الطير وتموت الحشرات والهوام، ولكنها تتحلل في تراب الأرض فتغذي النبات والأشجار، وقد يتحول النبات والأشجار إلى فحم، ويتحول الفحم إلى نار، وتتحول النار إلى غاز، ولكن لا شيء من ذلك ينعدم، حتى أشعة الشمس التي تكون الغابات وتنمي الأشجار تختزن في الظلام، فإذا سلطت عليها النار تحولت إلى ضوء وحرارة وعادت إلى سيرتها الأولى.
وكذلك الشأن في العواطف والمشاعر والأفكار والأخيلة، تبقى أبدا، وتعمل عملها أبدا، فكل ما يلقاه الإنسان من يوم ولادته، بل من يوم أن كان علقة، بل من يوم أن كان في دم آبائه، وكل ما يلقاه أثناء حياته، يستقر في قرارة نفسه، ويسكن في أعماق حسه ، سواء في ذلك ما وعى وما لم يع، وما ذكر وما نسي، وما لذ وما آلم، فنبحة الكلب يسمعها، وشعلة النار يراها، وزجرة الأب أو الأم يتلقاها، وأحداث السرور، والألم تتعاقب عليه - كل ذلك يتراكم ويتجمع، ويختلط ويمتزج ويتفاعل، ثم يكون هذا المزيج وهذا التفاعل أساسا لكل ما يصدر عن الإنسان من أعمال نبيلة وخسيسة - وكل ذلك أيضا هو السبب في أن يصير الرجل عظيما أو حقيرا، قيما أو تافها - فكل ما لقينا من أحداث في الحياة، وكل خبرتنا وتجاربنا، وكل ما تلقته حواسنا أو دار في خلدنا هو العامل الأكبر في تكوين شخصيتنا - فإن رأيت مكتئبا بالحياة ساخطا عليها متبرما بها، أو مبتهجا بالحياة راضيا عنها متفتحا قلبه لها، أو رأيت شجاعا مغامرا كبير القلب واسع النفس، أو جبانا ذليلا خاملا وضيعا ضيق النفس، أو نحو ذلك، فابحث عن سلسلة حياته من يوم أن تكون في ظهور آبائه - بل قد تحدث الحادثة لا يأبه الإنسان بها وتمر أمام عينيه مر البرق، أو يسمع الكلمة العابرة ولا يقف عندها طويلا، أو يقرأ جملة في كتاب قراءة خاطفة، فتسكن هذه كلها في نفسه وتختبئ في عالمه اللاشعوري، ثم تتحرك في لحظة من اللحظات لسبب من الأسباب فتكون باعثا على عمل كبير أو مصدرا لعمل خطير. وكل إنسان - إلى حد كبير - نتيجة لجميع ما ورثه عن آبائه، وما اكتسبه من بيئته التي أحاطت به.
Unknown page