مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
قالوا
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
قالوا
حياتي
حياتي
تأليف
أحمد أمين
مقدمة الطبعة الأولى
لم أتهيب شيئا من تأليف ما تهيبت من إخراج هذا الكتاب. فإن كل ما أخرجته كان غيري المعروض وأنا العارض أو غيري الموصوف وأنا الواصف، وأما هذا الكتاب فأنا العارض والمعروض والواصف والموصوف، والعين لا ترى نفسها إلا بمرآة. والشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته، والنفس لا ترى شخصها إلا من قول عدو أو صديق. أو بمحاولة للتجرد تم توزيعها على شخصيتين: ناظرة ومنظورة، وحاكمة ومحكومة، وما أشق ذلك وأضناه.
ومع هذا فكيف يكون الإنصاف؟ إن النفس إما أن تغلو في تقدير ذاتها فتنسب إليها ما ليس لها، أو تبالغ في تقدير ما صدر عنها، أو تبرر ما ساء من تصرفها. وإما أن تغمطها حقها ويحملها حب العدالة على تهوين شأنها فتسلبها ما لها، أو تقلل من قيمة أعمالها، أو تنظر بمنظار أسود لكل ما يأتي منها؛ أما أن تقف من نفسها موقف القاضي العادل، والحكم النزيه، فمطلب عز حتى على الفلاسفة والحكماء.
ثم إن للنفس أعماقا كأعماق البحار، وغموضا كغموض الليل، فالوعي واللاوعي، والعقل الباطن والظاهر، والشعور البسيط والمركب، والباعث السطحي والعميق، والغرض القريب والبعيد - كل هذا وأمثاله يجعل تحليلها صعب المنال، وفهمها أقرب إلى المحال.
وقد يخدع الإنسان فيكون من السهل اكتشاف الخديعة والوقوف على حقيقتها، وتبين أمرها، وتفهم بواعثها ومراميها؛ أما أن يخدع الإنسان نفسه فأمر غارق في الأعماق مغلف بألف حجاب وحجاب.
من أجل هذا كان قول سقراط: «اعرف نفسك بنفسك» تكليفا شططا، وأمرا يفوق الطاقة.
ولكن على المرء أن يبذل جهده في تعرف الحق، وتحري الصدق، ليبرئ نفسه ويريح ضميره، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
على ذلك وضعت هذا الكتاب، ولم أذكر فيه كل الحق، ولكني لم أذكر فيه أيضا إلا الحق، فمن الحق ما يرذل قوله وتنبو الأذن عن سماعه، وإذا كنا لا نستسيغ عري كل الجسم فكيف نستسيغ عري كل النفس؟ - إلا أحداث تافهة حدثت لي أو لغيري معي، لا نفع في ذكرها، والإطالة في عرضها.
ثم إن حديث الإنسان عن نفسه - عادة - بغيض ثقيل، لأن حب الإنسان نفسه كثيرا ما يدعوه أن يشوب حديثه بالمديح ولو عن طريق التواضع أو الإيماء أو التلويح، وفي هذا المديح دلالة على التسامح والتعالي من القائل، ومدعاة للاشمئزاز والنفور من القارئ والسامع. ولذلك لا يستساغ الحديث عن النفس إلا بضروب من اللباقة، وأفانين من اللياقة. •••
وترددت - أيضا - في نشره: ما للناس و«حياتي»؟ لست بالسياسي العظيم، ولا ذي المنصب الخطير، الذي إذا نشر مذكراته، أو ترجم لحياته، أبان عن غوامض لم تعرف، أو مخبآت لم تظهر، فجلى الحق وأكمل التاريخ. ولا أنا بالمغامر الذي استكشف مجهولا من حقائق العالم، فحاول وصفه وأضاف ثروة إلى العلم، أو مجهولا من العواطف - كالحب والبطولة أو نحوهما فجلاه وزاد بعمله في ثروة الأدب وتاريخ الفن - ولا أنا بالزعيم المصلح المجاهد، ناضل وحارب، وانتصر وانهزم، وقاوم الكبراء والأمراء، أو الشعوب والجماهير، فرضوا عنه أحيانا، وغضبوا عليه أحيانا، وسعد وشقي، وعذب و كرم، فهو يروي أحداثه لتكون عبرة، وينشر مذكراته لتكون درسا.
لست بشيء من ذلك ولا قريب من ذلك، ففيم أنشر «حياتي»؟
ولكن سرعان ما أجيب بأن عصر الأرستقراطية كاد يزول من غير رجعة، وينقضي من غير عودة. وأزهرت الديمقراطية فحلت محلها، ونشرت سلطانها، وتغلغلت حتى في الفن والأدب؛ كان الشعر في الشرق لا يعيش إلا في قصور الخلفاء والأمراء فعاش في الناس بعيدا عن القصور. وكانت أهم موضوعاته المديح وخير أساليبه المزوق المطرز، فصارت مواضيعه كل شيء إلا الإفراط في الزينة؛ وكانت الروايات التمثيلية في الغرب لا تتخذ موضوعها إلا من حياة الملوك والأمراء. ولا تعرج على شيء من حياة الفقراء، إلا لإضحاك الأغنياء. ثم دار الزمن دورته، فصار كل شيء موضوعا للرواية، كوخ الفقير وقصر الأمير، وعيشة المترف الناعم وعيشة المجهد البائس، والفلاحة في الحقل والأميرة في القصر - وقد كان المؤرخ إنما يؤرخ للخلفاء وأعمالهم، ومبانيهم وحروبهم وإقطاعهم، ومن اتصل بهم، وما صدر عنهم من فعل، وما روي لهم من قول، ولا شيء غير ذلك؛ ثم صار المؤرخ يؤرخ للشعب كما يؤرخ للسلطان. ويؤرخ الفقر كما يؤرخ الغنى، ويؤرخ الزراعة كما يؤرخ الإمارة - فحياة المغمورين مهمة كحياة المشهورين.
فلماذا - إذا - لا أؤرخ «حياتي» لعلها تصور جانبا من جوانب جيلنا، وتصف نمطا من أنماط حياتنا. ولعلها تفيد اليوم قارئا، وتعين غدا مؤرخا. فقد عنيت أن أصف ما حولي مؤثرا في نفسي، ونفسي متأثرة بما حولي.
نبتت عندي فكرة تاريخ حياتي، منذ أول عهد شبابي، فقد رأيتني أدون مذكرات يومية عن رحلاتي، وعن حياتي في الأسرة وأيام زواجي. ووجدتني أسجل في المفكرات السنوية أهم أحداث السنة، وما يسوء منها وما يسر، ولكن لم يكن كل ذلك عملا منظما متواصلا، بل كان يحدث في فترات متقطعة - ثم نمت الفكرة وشغلت بالي في العام الماضي، فكنت أعصر ذاكرتي لأستقطر منها ما اختزنته من أيام طفولتي إلى شيخوختي، وكلما ذكرت حادثة دونتها في إيجاز ومن غير ترتيب - فلما فرغت من ذلك ضممته إلى مذكراتي اليومية، ثم عمدت - في الأشهر القريبة - إلى ترتيبه وكتابته من جديد على النحو الذي يراه القارئ، من غير تصنع ولا تأنق.
والله هو الموفق
الجيزة 26 مارس (آذار) 1950
أحمد أمين
مقدمة الطبعة الثانية
كنت أخرجت هذا الكتاب - كما قلت في الطبعة الأولى - وأنا خائف متردد، للأسباب التي ذكرتها، وأحمد الله إذ تقبله القارئون قبولا حسنا، ومدحوا فيه ما يدل عليه من صراحة وصدق في الخير والشر، والنعيم والبؤس.
وقد نفدت الطبعة الأولى ومضى على نفادها نحو سنة. ثم طلب مني أن أعيد طبعته، فأجزت، وأعدت قراءته من جديد، فزدت عليه زيادات في أمور كنت نسيتها. وحصلت في السنتين الأخيرتين حوادث ألحقتها بالكتاب؛ حتى يساير «حياتي» حياتي.
والله المسئول أن ينفع بالطبعة الثانية، ما نفع بالأولى.
1952/12/18
أحمد أمين
الفصل الأول
ما أنا إلا نتيجة حتمية لكل ما مر علي وعلى آبائي من أحداث، فالمادة لا تنعدم وكذلك المعاني، قد يموت الطير وتموت الحشرات والهوام، ولكنها تتحلل في تراب الأرض فتغذي النبات والأشجار، وقد يتحول النبات والأشجار إلى فحم، ويتحول الفحم إلى نار، وتتحول النار إلى غاز، ولكن لا شيء من ذلك ينعدم، حتى أشعة الشمس التي تكون الغابات وتنمي الأشجار تختزن في الظلام، فإذا سلطت عليها النار تحولت إلى ضوء وحرارة وعادت إلى سيرتها الأولى.
وكذلك الشأن في العواطف والمشاعر والأفكار والأخيلة، تبقى أبدا، وتعمل عملها أبدا، فكل ما يلقاه الإنسان من يوم ولادته، بل من يوم أن كان علقة، بل من يوم أن كان في دم آبائه، وكل ما يلقاه أثناء حياته، يستقر في قرارة نفسه، ويسكن في أعماق حسه ، سواء في ذلك ما وعى وما لم يع، وما ذكر وما نسي، وما لذ وما آلم، فنبحة الكلب يسمعها، وشعلة النار يراها، وزجرة الأب أو الأم يتلقاها، وأحداث السرور، والألم تتعاقب عليه - كل ذلك يتراكم ويتجمع، ويختلط ويمتزج ويتفاعل، ثم يكون هذا المزيج وهذا التفاعل أساسا لكل ما يصدر عن الإنسان من أعمال نبيلة وخسيسة - وكل ذلك أيضا هو السبب في أن يصير الرجل عظيما أو حقيرا، قيما أو تافها - فكل ما لقينا من أحداث في الحياة، وكل خبرتنا وتجاربنا، وكل ما تلقته حواسنا أو دار في خلدنا هو العامل الأكبر في تكوين شخصيتنا - فإن رأيت مكتئبا بالحياة ساخطا عليها متبرما بها، أو مبتهجا بالحياة راضيا عنها متفتحا قلبه لها، أو رأيت شجاعا مغامرا كبير القلب واسع النفس، أو جبانا ذليلا خاملا وضيعا ضيق النفس، أو نحو ذلك، فابحث عن سلسلة حياته من يوم أن تكون في ظهور آبائه - بل قد تحدث الحادثة لا يأبه الإنسان بها وتمر أمام عينيه مر البرق، أو يسمع الكلمة العابرة ولا يقف عندها طويلا، أو يقرأ جملة في كتاب قراءة خاطفة، فتسكن هذه كلها في نفسه وتختبئ في عالمه اللاشعوري، ثم تتحرك في لحظة من اللحظات لسبب من الأسباب فتكون باعثا على عمل كبير أو مصدرا لعمل خطير. وكل إنسان - إلى حد كبير - نتيجة لجميع ما ورثه عن آبائه، وما اكتسبه من بيئته التي أحاطت به.
ولو ورث أي إنسان ما ورثت، وعاش في بيئة كالتي عشت لكان إياي أو ما يقرب مني جدا.
لقد عمل في تكويني إلى حد كبير ما ورثت عن آبائي، والحياة الاقتصادية التي كانت تسود بيتنا، والدين الذي يسيطر علينا، واللغة التي نتكلم بها، وأدبنا الشعبي الذي كان يروى لنا ونوع التربية الذي كان مرسوما في ذهن أبوي ولو لم يستطيعا التعبير عنه ورسم حدوده ونحو ذلك؛ فأنا لم أصنع نفسي ولكن صنعها الله عن طريق ما سنه من قوانين الوراثة والبيئة.
عجيب هذا العالم، إن نظرت إليه من زاوية رأيته كلا متشابها، يتجانس في تكوين ذراته، وفي بناء أجزائه، وفي خضوعه لقوانين واحدة؛ وإن نظرت إليه من زاوية أخرى رأيت كل جزئية منه تنفرد عن غيرها بميزات خاصة بها، لا يشركها فيها غيرها، حتى شجرة الوردة نفسها تكاد تتميز كل ورقة فيها عن مثيلاتها، فمن الناحية الأولى نستطيع أن نقول: ما أشبه الإنسان بالإنسان، ومن الناحية الثانية نقول: ما أوسع الفرق بين الإنسان والإنسان.
وعلى هذه النظرة الثانية فأنا عالم وحدي، كما أن كل إنسان عالم وحده. تقع الأحداث على أعصابي، فأنفعل لها انفعالا خاصا بي، وأقومها تقويما يختلف - قليلا أو كثيرا - عن تقويم كل مخلوق آخر غيري. فالحادثة الواحدة يبكي منها إنسان، ويضحك منها آخر؛ ولا يبكي ولا يضحك منها ثالث، كأوتار العود الواحد، يوقع عليها كل فنان توقيعا منفردا متميزا لا يساويه فيه أي فنان آخر.
فأنا أروي من الأحداث ما تأثرت به نفسي. وأحكيها كما رأت عيني. وأترجمها بمقدار ما انفعل بها شعوري وفكري
1 ...
الفصل الثاني
نظر مرة إلى رأسي أستاذ جامعي في علم الجغرافيا وحدق فيه ثم قال: هل أنت مصري صميم؟ قلت: فيما أعتقد، ولم هذا السؤال؟ قال: إن رأسك - كما يدل عليه علم السلالات - رأس كردي.
ولست أعلم من أين أتتني هذه الكردية، فأسرة أبي من بلدة «سمخراط» من أعمال البحيرة.. أسرة فلاحة مصرية. ومع هذا فمديرية البحيرة على الخصوص مأوى المهاجرين من الأقطار الأخرى. فقد يكون جدي الأعلى، كما يقول الأستاذ، كرديا أو سوريا أو حجازيا أو غير ذلك. ولكن على العموم كان المهاجرون من آبائي ديمقراطيين من أفراد الشعب لا يؤبه بهم ولا بتاريخهم. ولكن لعل مما يؤيد كلام الأستاذ أني أشعر بأني غريب في أخلاقي وفي وسطي. وهذه الأسرة كانت كسائر الفلاحين تعيش على الزرع، وحدثني أبي أنهم كانوا يملكون في بلدهم نحو اثني عشر فدانا. ولكن توالى عليهم ظلم «السخرة» وظلم تحصيل الضرائب فهجروها.
وكانت السخرة أشكالا وألوانا، فسخرة للمصالح العامة كالمحافظة على جسور النيل أيام الفيضان؛ فعمدة البلدة يسخر الفلاحين ليحافظوا على الجسور حتى لا يطغى النيل فيغرق البلد فإذا تخلف أحد ممن عين لهذه الحراسة عذب وضرب، وهو يعمل هذا العمل من غير أجر؛ وسخرة للمصالح الخاصة فالغني الكبير والعمدة ونحوهما لهم الحق أن يحشدوا من شاءوا من الفلاحين المساكين ليعملوا في أرضهم الأيام والليالي من غير أجر - ولما أبطل رياض باشا السخرة والضرب بالكرباج في عهد الخديوي توفيق نقم عليه الوجوه والأعيان صنعه، وعدوا ذلك من عيوبه، وقالوا إنه أفسد علينا الفلاحين، وهكذا كان في كل ناحية من نواحي القطر عدد قليل من الوجوه والأعيان هم السادة، وسواد الناس لهم عبيد، بل هؤلاء الوجوه والأعيان سادة على الفلاحين وعبيد للحكام.
وأما الضرائب فلم تكن منظمة ولا عادلة، فأحيانا يستطيع أن يهرب الغنى الكبير من دفعها أو يدفع القليل مما يجب عليه منها ويتخلص من الباقي بالرشوة أو التقرب إلى الحكام. ثم يطالب الفقراء المساكين بأكثر مما يحتملون، فإن لم يدفعوا بيعت بهائمهم الهزيلة، وأثاث بيوتهم الحقيرة، ثم ضربوا بالكرباج وعذبوا عذابا أليما - فكان كثير منهم إذا أحس أنه سيقع في مثل هذا المأزق حمل أثاث منزله على بهائمه، وخرج هو وأسرته هائمين على وجوههم في ظلمة الليل، وتركوا أراضيهم، ونزلوا على بعض أقربائهم أو على البدو في الخيام أو حيثما اتفق - فعلت ذلك أسرة علي باشا مبارك وفعلته أسرتي وأسر كثير من الناس.
ففي ليلة من الليالي خرج أبي الصغير وعمي الكبير من سمخراط يحملان معهما القليل من الزاد والأثاث، تاركين الأطيان حلا مباحا لمن يستولي عليها ويدفع ضرائبها، ونزلا في حي المنشية ( في قسم الخليفة) ولا قريب ولا مأوى. وقسم الخليفة كقسم بولاق أكثر أحياء القاهرة عددا وأقلها مالا وأسوؤها حالا، يسكنها العمال والصناع والباعة الجوالون وكثير من الطبقة الوسطى وقليل من العليا، ولم تمسهما المدينة الحديثة إلا مسا خفيفا، فمن شاء أن يدرس حياة سكان القاهرة كما كانوا في العصور الوسطى فليدرسها في هذين الحيين ولاسيما أيام ولادتي.
وهكذا ألاعيب القدر. ظلم صراف البلدة أخرج أبي من سمخراط وأسكنه القاهرة حيث ولدت وتعلمت، ولولا ذلك لنشأت فلاحا مع الفلاحين أزرع وأقلع، ولكن تتوالد الأحداث توالدا عجيبا، فقد ينتج أعظم خير من أعظم شر كما ينتج أعظم شر من أعظم خير، ولا تستبين الأمور حتى يتم هذا التوالد ويظهر على مسرح الكون.
سكن الشريدان في بيت صغير في حارة متواضعة
1
في حي المنشية، وعاشا على القليل مما ادخرا، ولابد أن يكونا قد لقيا كثيرا من البؤس والعنت في أيامهما الأولى، ولكن سرعان ما شق الأخ الكبير طريقه في الحياة فكان صانعا كسوبا. وكان أكبر الظن يأخذ أخاه الأصغر معه «وهو أبي» ليكون صانعا بجانبه، يعينه على الكسب أول أمره، ولكن نزعة طيبة غلبت عليه فوجهه نحو التعلم واحتمل نفقته، فهو يحفظ القرآن، ويلتحق بالأزهر، ويخجل من أخيه أن يرهقه بالإنفاق عليه فلا يطالبه إلا بالضروري، وإذا احتاج إلى كتاب يقرأ في الأزهر خطه بيمينه، وقد أحسن خطه فكان خطا جميلا قل أن يكون له نظير بين طلاب الأزهر وعلمائه، يكتبه في أناقة ويشتري له ورقا متينا صقيلا، ويسطره بمسطرة هي عبارة عن ورقة سميكة قد شد عليها خيط في مكان السطور وثبتت عليها بالصمغ، فإذا وضعت الورقة التي يراد الكتابة عليها وضغطت بانت الخيط، فكتب الكاتب عليها خطا منتظما. وقد خلف أبي كتبا كثيرة من هذا القبيل، فقد كان كلما عثر على كتاب مخطوط جيد نقله بخطه، ولا أدري أين وجد الزمن الذي قام فيه بمثل هذا العمل. وأكبر الظن أن الذي أعانه على ذلك أنه لم يتعود لعبا قط، ولا جلس على مقهى قط، وإنما كانت حياته «جد في جد»، مما أرهقه وأتلف صحته. فلما توفي جمعت هذه الكتب في صناديق وأهديتها إلى مكتبة الأزهر باسمه. وكان أكثرها كتب نحو وفقه شافعي.
ويتقدم أبي في الدراسة فيبحث عن عمل يكسب منه بجانب دراسته فيكون مصححا بالمطبعة الأميرية ببولاق أحيانا، ومدرسا في مدرسة حكومية
2
أحيانا. وكانت الدراسة في الأزهر صعبة مملة طويلة لا يجتازها إلا من منح صبرا طويلا، واحتمل عبئا ثقيلا، يطلب هذه الدراسة كثيرون ولا يتمها إلا القليلون فيكونون كالماء يبتدئ نهرا كبيرا، ويمر أخيرا في قناة. ويقضي الطالب في ذلك نحو عشرين سنة أو أكثر، ثم قد ينجح أو لا ينجح. وهكذا نجح أبي في دراسته بصبره وقوة احتماله، واستطاع أن يحمل عبئه ويرد الجميل لأخيه.
وأما أسرة أمي فأصلها على ما روي لي من «تلا» من أعمال المنوفية، ولا أدري أهجرتها كما هجرتها أسرة أبي فرارا من الظلم أو لشيء آخر، وكل ما أعلمه أن أخوالي سكنوا في حي في وسط القاهرة قريب من باب الخلق، وكانوا يشتغلون في تجارة (العطارة)، وكانوا ناجحين في تجارتهم، وكانوا مع - مهنتهم التجارية - يحفظون القرآن، ويحسنون قراءته، ويلتزمون شعائر الدين. وكان أحد أخوالي سمحا كريما، كثير الإحسان للفقراء، وقد منح بسطة في الرزق، وسعة في النفس. وأما خالي الآخر، فكان كزا شحيحا مضيقا عليه في رزقه. ولست أدري: أكانت سماحة الأول سببا في سعة رزقه، أم سعة رزقه سببا في سماحته؟ كما أني لست أدري أكانت كزازة الثاني سببا في ضيق رزقه، أم كان ضيق رزقه سببا في كزازته.
الفصل الثالث
كانت أول مدرسة تعلمت فيها أهم دروسي في الحياة بيتي، وقد بنى أبي - بعد أن تحسنت حاله - بيتا مستقلا في الحارة التي يسكنها هو وأخوه منذ هجرتهما. يتكون من دورين غير الأرضي، ففي الدور الأرضي منظرة للضيوف وكل دور به ثلاث غرف وتوابعها.
وطابع البيت كان البساطة والنظافة. فأثاث أكثر الحجر حصير فرشت عليه سجادة، وإذا كانت حجرة نوم رأيت في ركن من أركانها حشية ولحافا ومخدة، تطوى في الصباح وتبسط في المساء. فلم نكن نستخدم الأسرة، وأدوات المطبخ في غاية السذاجة. وهكذا، ولو أردنا أن ننتقل لكفتنا عربة كبيرة لنقل الأثاث؛ أما أكثر ما في البيت وأثمنه وما يشغل أكبر حيز فيه فالكتب - المنظرة مملوءة دواليب صففت فيها الكتب، وحجرة أبي مملوءة بالكتب وحجرة في الدور الأول ملئت كذلك بالكتب.
وكان أبي مولعا بالكتب في مختلف العلوم، في الفقه.. والتفسير والحديث واللغة والتاريخ والأدب والنحو والصرف والبلاغة، وإذا كان الكتاب مطبوعا طبعتين: طبعة أميرية وطبعة أهلية لم يرتح حتى يقتنيه طبعة أميرية، وقد مكنه عمله مصححا في المطبعة الأميرية أن يقتني كثيرا مما طبع فيها وكانت هذه المكتبة أكبر متعة لي حين استطعت الاستفادة منها، وقد احتفظت بخيرها نواة لمكتبتي التي أعتز بها وأمضي الساعات فيها كل يوم إلى الآن.
في حجرة في هذا البيت ولدت. وكانت ولادتي في الساعة الخامسة صباحا من أول أكتوبر سنة 1886، وكأن هذا التاريخ كان إرهاصا بأني سأكون مدرسا فأول أكتوبر عادة بدء افتتاح الدراسة. وشاء الله أن أكون كذلك. فكنت مدرسا في مدرسة ابتدائية، ثم في مدرسة ثانوية ثم في عالية، وكنت مدرسا لبنين وبنات، ومشايخ وأفندية. وكنت رابع ولد ولد، ولم يكن أبي يحب كثرة الأولاد شعورا منه بالمسئولية، ولما لقي من الحزن العميق في وفاة أختي أبشع وفاة.
فقد كان لي أخت في الثانية عشرة من عمرها شاء أبي ألا تستمر في البيت من غير عمل فأرسلها إلى معلمة تتعلم عندها الخياطة والتفصيل والتطريز، وقامت يوما تعد القهوة لضيوف المعلمة فهبت النار فيها واشتعل شعرها وجسمها وحاولت أن تطفئ نفسها أول الأمر فلم تنجح فصرخت، ولكن لم يدركوها إلا وهي شعلة نار، ثم فارقت الحياة بعد ساعات، وكان ذلك وأنا حمل في بطن أمي، فتغذيت دما حزينا ورضعت بعد ولادتي لبنا حزينا، واستقبلت عند ولادتي استقبالا حزينا، فهل كان لذلك أثر فيما غلب علي من الحزن في حياتي فلا أفرح كما يفرح الناس، ولا أبتهج بالحياة كما يبتهجون؟ علم ذلك عند الله والراسخين في العلم.
وكان من محاسن أسرتنا استقلالنا في المعيشة وفي البيت، فلا حماة ولا أقارب إلا أن يزوروا لماما.
وكان بيتنا محكوما بالسلطة الأبوية، فالأب وحده مالك زمام أموره، لا تخرج الأم إلا بإذنه، ولا يغيب الأولاد عن البيت بعد الغروب خوفا من ضربه، ومالية الأسرة كلها في يده يصرف منها كل يوم ما يشاء كما يشاء، وهو الذي يتحكم حتى فيما نأكل وما لا نأكل، يشعر شعورا قويا بواجبه نحو تعليم أولاده، فهو يعلمهم بنفسه ويشرف على تعليمهم في مدارسهم، سواء في ذلك أبناؤه وبناته، ويتعب في ذلك نفسه تعبا لا حد له، حتى لقد يكون مريضا فلا يأبه بمرضه، ويتكئ على نفسه ليلقي علينا درسه. أما إيناسنا وإدخال السرور والبهجة علينا وحديثه اللطيف معنا فلا يلتفت إليه. ولا يرى أنه واجب عليه. يرحمنا ولكنه يخفي رحمته ويظهر قسوته؛ وتتجلى هذه الرحمة في المرض يصيب أحدنا، وفي الغيبة إذا عرضت لأحد منا، يعيش في شبه عزلة في دوره العالي، يأكل وحده ويتعبد وحده، وقلما يلقانا إلا ليقرئنا. أما أحاديثنا وفكاهتنا ولعبنا فمع أمنا.
وقد كان لنا جدة - هي أم أمنا - طيبة القلب شديدة التدين؛ يضيء وجهها نورا، تزورنا من حين لآخر، وتبيت عندنا فنفرح بلقائها وحسن حديثها، وكانت تعرف من القصص الشعبية - الريفية منها والحضرية - الشيء الكثير الذي لا يفرغ، فنتحلق حولها ونسمع حكاياتها ولا نزال كذلك حتى يغلبنا النوم، وهي قصص مفرحة أحيانا مرعبة أحيانا، منها ما يدور حول سلطة القدر وغلبة الحظ، ومنها ما يدور حول مكر النساء ودهائهن، ومنها حول العفاريت وشيطنتها، والملوك والعظماء وذلهم أمام القدر «إلخ»، وتتخلل هذه القصص الأمثال الشعبية اللطيفة والجمل التي يتركز فيها مغزى القصة. وأحيانا كان أخي الكبير يقرأ لنا في ألف ليلة وليلة، فإذا أتى إلى جمل ماجنة متهتكة تلعثم فيها وخجل واضطرب وحاول أن يتخطاها، وأحيانا يزل لسانه فيقرؤها فيضحك بعض من حضر، وتخجل أمي وجدتي فيهرب أخي من هذا الموقف المربك، وتقف القراءة.
ولكن كان بيتنا - على الجملة - جدا لا هزل فيه، متحفظا ليس فيه ضحك كثير ولا مرح كثير، وذلك من جد أبي وعزلته وشدته.
ولم تكن المدنية قد غزت البيوت، ولاسيما بيوت الطبقة الوسطى أمثالنا، فلا ماء يجري في البيوت وإنما سقاء يحمل القربة على ظهره ويقذف ماءها في زير البيت تملأ منه القلل وتغسل منه المواعين وكلما فرغت قربة أحضر قربة. والسقاء دائم المناداة على الماء في الحارة، وحسابه لكل بيت عسير، إذ هو يأخذ ثمن مائه كل أسبوع، فتارة يتبع طريقة أن يخط خطا على الباب كلما أحضر قربة. ولكن بعض الشياطين يغالطون فيمسحون خطا أو خطين، ولذلك لجأ السقاء إلى طريقه «الخرز» فيعطي البيت عشرين خرزة، وكلما أحضر قربة أخذ خرزة، فإذا نفذت كلها حاسب أهل البيت عليها.
وأخيرا - وأنا فتى - رأيت الحارة تحفر والأنابيب تمد والمواسير والحنفيات تركب في البيوت وإذا الماء في متناولنا وتحت أمرنا، وإذا صوت السقاء يختفي من الحارة ويريحنا الله من الخطوط تخط أو الخرز يوزع.
وطبيعي في مثل هذه الحال ألا يكون في البيت كهرباء فكنا نستضيء بالمصابيح تضاء بالبترول، ولم أستضئ بالكهرباء حتى فارقت حينا إلى حي آخر أقرب إلى الأرستقراطية.
وطعامنا يطهى على الخشب ثم تقدمنا فطهونا على رجيع الفحم (فحم الكوك) ثم تقدمنا أخيرا فطهونا على (وابور بريمس)..
وكل أعمال البيت تقوم بها أمي، فلا خادم ولا خادمة ولكن يعينها على ذلك أبناؤها فيما يقضون من الخارج، وكبرى بناتها في الداخل.
وكان أبي مدرسا في الأزهر ومدرسا في مسجد الإمام الشافعي وإمام مسجد ويتقاضى من كل ذلك نحو اثني عشر جنيها ذهبا، فلم نكن نعرف جنيهات الورق، وأذكر - وأنا في المدرسة الابتدائية - أن ظهرت عملة الورق فخافها الناس ولم يؤمنوا بها وتندرت الجرائد الهزلية عليها. وكانت لا تقع في يد الناس - وبخاصة الشيوخ - حتى يسرعوا إلى الصيارف فيغيروها ذهبا. وكانت الاثنا عشر جنيها تكفينا وتزيد عن حاجتنا ويستطيع أبي أن يدخر منها للطوارئ، إذ كانت قدرتها الشرائية تساوي الأربعين جنيها والخمسين اليوم. فعشر بيضات بقرش. ورطل اللحم بثلاثة قروش أو أربعة، ورطل السمن كذلك وهكذا، ومن ناحية أخرى كانت مطالب الحياة محدودة ومعيشتنا بسيطة؛ فأبي من بيته إلى عمله إلى مسجده ثم إلى بيته، لا يدخن ولا يجلس على مقهى. وملابسنا جميعا نظيفة بسيطة، ومأكلنا معتدل ليس بضروري فيه تعدد أصنافه، ولا أكل اللحم كل يوم، ولم نر فيمن حولنا عيشة خيرا من معيشتنا نشقى بالطموح إلى أن نعيش مثلها، ولا سينما ولا تمثيل، ولكن من حين لآخر تنصب خيمة على باب حارتنا يلعب فيها «قره جوز» أدخل إليها بنصف قرش ويكون ذلك مرة في السنة أو مرتين.
ويغمر البيت الشعور الديني، فأبي يؤدي الصلوات لأوقاتها ويكثر من قراءة القرآن صباحا ومساء، ويصحو مع الفجر ليصلي ويبتهل، ويكثر من قراءة التفسير والحديث، ويكثر من ذكر الموت ويقلل من قيمة الدنيا وزخرفها ويحكي حكايات الصالحين وأعمالهم وعبادتهم، ويؤدي الزكاة ويؤثر بها أقرباءه ويحج وتحج أمي معه - ثم هو يربي أولاده تربية دينية فيوقظهم في الفجر ليصلوا ويراقبهم في أوقات الصلاة الأخرى ويسائلهم متى صلوا وأين صلوا. وأمي كانت تصلي الحين بعد الحين - وكلنا يحتفل برمضان ويصومه - وعلى الجملة فأنت إذا فتحت باب بيتنا شممت منه رائحة الدين ساطعة زاكية، ولست أنسى يوما أقيمت فيه حفلة عرس في حارتنا، وقدمت فيه المشروبات الروحية لبعض الحاضرين فشوهد أخي المراهق يجلس على مائدة فيها شراب، فبلغ ذلك أبي فمازال يضربه حتى أغمي عليه - وكان معي يوما قطعة بخمسة قروش فحاولت أن أصرفها من بائع سجائر فشاهدني أخي الكبير فأخذ يسألني ويحقق معي تحقيق «وكيل نيابة» مع المتهم، خوفا من أكون أشتري سجائر لأدخنها إذ ليس أحد في البيت يحدث نفسه أن يشرب سيجارة.
وبعد، فما أكثر ما فعل الزمان، لقد عشت حتى رأيت سلطة الآباء تنهار، وتحل محلها سلطة الأمهات والأبناء والبنات وأصبح البيت برلمانا صغيرا، ولكنه برلمان غير منظم ولا عادل فلا تؤخذ فيه الأصوات ولا تتحكم فيه الأغلبية، ولكن يتبادل فيه الاستبداد، فأحيانا تستبد الأم، وأحيانا تستبد البنت أو الابن وقلما يستبد الأب، وكانت ميزانية البيت في يد صراف واحد فتلاعبت بها أيدي صرافين، وكثرت مطالب الحياة لكل فرد وتنوعت، ولم تجد رأيا واحدا يعدل بينها، ويوازن بين قيمتها، فتصادمت وتحاربت وتخاصمت، وكانت ضحيتها سعادة البيت وهدوءه وطمأنينته.
وغزت المدنية المادية البيت فنور كهربائي وراديو وتليفون ، وأدوات للتسخين وأدوات للتبريد، وأشكال وألوان من الأثاث. ولكن هل زادت سعادة البيت بزيادتها؟
وسفرت المرأة وكانت أمي وأخواتي محجبات - لا يرين الناس ولا يراهن الناس إلا من وراء حجاب - وهذا من أمور الانقلاب الخطير، ولو بعث جدي من سمخراط ورأى ما كان عليه أهل زمنه وما نحن عليه اليوم لجن جنونه؛ ولكن خفف من وقعها علينا أنها تأتي تدريجا، ونألفها تدريجيا، ويفتر عجبنا منها وإعجابنا بها على مر الزمان، ويتحول شيئا فشيئا من باب الغريب إلى باب المألوف.
الفصل الرابع
كان هذا البيت أهم مدرسة تكونت فيها عناصر جسمي وخلقي وروحي، فإذا تغيرت بالنمو أو الذبول وبالقوة أو الضعف، فمسائل عارضة على الأصل - لقد كانت أمي قصيرة النظر فورثت عنها قصر النظر، ولقيت من عنائه في حياتي الشيء الكثير، فإذا تقدمت للدخول في دار العلوم حرمت من ذلك لقصر نظري، وإذا تقدمت للدخول في مدرسة القضاء فكذلك إلا أن تحدث معجزة. وإذا أريد تثبيتي في وظيفة سقطت في امتحان النظر، ولم أثبت إلا بمعجزة أخرى. وتحدث أحداث كثيرة مخجلة وغير مخجلة نتيجة لقصر نظري. فقد لا أسلم على أحد يجلس بعيدا عني فيظن بي الكبر؛ وقد أكون على موعد في مقهى فأدخل ولا أرى من وعدتهم إلا أن يروني. وقد أمر في الشارع على من أنا في حاجة إليه، فلا أراه. وقد أحب أن أذهب إلى السينما أو التمثيل للاسترواح فلا أذهب - وهكذا وهكذا من أحداث سيئة لا تحصى صادفتني في حياتي إلى أن اضطررت من شبابي إلى أن ألبس نظارة، وكنت من سنة إلى أخرى أغير النظارة بأخرى أسمك منها، حتى صارت في آخر الأمر نظارة سميكة. واعتادت عيني هذه النظارة. وكانت لها كذلك سيئات. فإذا كسرت أو نسيتها في البيت، صرت كأني أعمى. وقد رأيتني فيما بعد أحتاج إلى نظارتين، نظارة للقراءة ونظارة للسير والعمل. ولا تسأل عن متاعب ذلك. ومع قصر النظر هذا، كان النظر القصير نعمة كبيرة إذا قارنت بينه وبين العمى. فكل الأشياء الجوهرية من رؤية أشخاص ورؤية مناظر جميلة، كان يكفى قصر نظري لإدراكها.
وربما كان هذا عاملا من عوامل حبي العزلة حتى لا أقع في مثل هذه الأغلاط، ولكن أحمد الله أن كان نظري على قصره سليما، فقد احتملني على كثرة قراءتي ومداومة النظر في الكتب حتى جاوزت الستين.
ثم إن كل خصائص البيت التي ذكرتها انعكست في طبيعتي وكونت أهم مميزات شخصيتي. فإن رأيت في في إفراطا في جانب الجد وتفريطا معيبا في جانب المرح، أو رأيت صبرا على العمل وجلدا في تحمل المشقات، واستجابة لعوامل الحزن أكثر من الاستجابة لعوامل السرور، فاعلم أن ذلك كله صدى لتعاليم البيت ومبادئه. وإن رأيت دينا يسكن في أعماق قلبي، وإيمانا بالله لا تزلزله الفلسفة ولا تشكك فيه مطالعاتي في كتب الملحدين، أو رأيتني أكثر من ذكر الموت وأخافه، ولا أتطلع إلى ما يعده الناس مجدا ولا أحاول شهرة، وأذكر في أسعد الأوقات وأبهجها أن كل ذلك ظل زائل وعرض عارض، أو رأيت بساطتي في العيش وعدم احتفائي بمأكل أو بمشرب أو ملبس، وبساطتي في حديثي وإلقائي، وبساطتي في أسلوبي وعدم تعمدي الزينة والزخرف فيه، وكراهيتي الشديدة لكل تكلف وتصنع في أساليب الحياة، فمرجعه إلى تعاليم أبي وما شاهدته في بيتي.
لقد قرأت الكثير مما يخالف هذه التعاليم، وصاحبت أهل المرح وسمعت آراء الإلحاد، وأنصت إلى من ينصحني بالابتهاج بالحياة وتعاقبت أمام ناظري أنواع الحياة المختلفة والمظاهر المتباينة ونحو ذلك. ولكن تسرب بعض هذه الأشياء إلى عقلي الواعي كان على السطح لا في الصميم، أما شعوري العميق وما له الأثر الكبير في الحياة من اللاوعي فمنشؤه البيت، كانت الصفحة بيضاء نقية تستقبل ما يقع عليها وتدخره في خزانتها، ثم تكون له السيطرة الكبرى على الحياة مهما طالت.
نعم إني لأعرف من نشئوا في بيت كبيتي تغمره النزعة الدينية كالنزعة التي غمرت بيتي. ومع هذا ثاروا على هذه النزعة في مستقبل حياتهم. وانتقلوا من النقيض إلى النقيض. ولم يعبئوا بالسلطة الدينية التي فرضت عليهم في صغرهم. فلماذا كان موقفهم غير موقفي واتجاههم غير اتجاهي؟ هل كان ذلك لأن الدين يتبع المزاج إلى حد كبير، أو لأن شخصية أبي كانت قوية غرست في ما لم يستطع الزمان اقتلاعه، أو أن عوامل البيئة زادت هذه النزعة الدينية نموا، فلم جاءت العاصفة جاءت متأخرة؟ لعله شيء من ذلك أو لعله كل ذلك أو لعله شيء غير ذلك.
وهكذا الشأن في كثير من شئون الحياة، نرى رجلين نشآ في بؤس من العيش وقلة من المال، ثم بسط لهما في العيش وتدفق عليهما المال، فتعلم أحدهما من بؤسه الأول حرصا على المال وفرط تقويم له، على حين أن الآخر انتقم من بؤسه بنعيمه، ومن بخل الزمان الأول عليه بإسرافه.
لقد رأينا طرفة بن العبد وأبا العتاهية، كلاهما تمثلت أمام عينيه حقيقية الموت. فاستنتج منها طرفة وجوب انتهاب اللذائذ وقال:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
واستنتج منها أبو العتاهية احتقار اللذائذ وتهوين شأنها والصد عنها فقال:
عجبت لذي لعب قد لها
عجبت ومالي لا أعجب
أيلهو ويلعب من نفسه
تموت ومنزله يخرب
وعلى كل حال فالبيت يبذر البذور الأولى للحياة ويتركها للتربة التي تعيش فيها، والجو الذي يعاكسها أو ينميها، حتى تعيش عيشتها المقدورة لها وفقا لنظام الكون وقوانينه.
الفصل الخامس
عصرت ذاكرتي لأذكر أقدم أحداث طفولتي فذكرت منها ثلاثة - أولها أني وأنا في الرابعة من عمري خرجت من حارتي فوجدت بناء وله باب مفتوح فدخلته، كان هذا البناء «جباسة» رأيت فيها عجبا، ثور كبير علقت على عنقه خشبة وربطت هذه الخشبة في أسطوانة من الحديد كبيرة، فإذا الثور دار دارت الحديدة - وقد وضع تحت الحجر حجر أبيض إذا دارت عليه طحنته فكان جبسا.
أعجبني هذا المنظر، والناس - وبخاصة الأطفال - تعجبهم الحركة أكثر مما يعجبهم السكون، فلعبة القطار إذا كان يجري «بزنبلك» خير من لعبة القطار الساكن، والإعلان المتحرك في المحال التجارية خير من الإعلان الثابت، على هذا الأساس النفسي كانت الصور المتحركة للأطفال في السينما وهكذا؛ جميل هذا المنظر: ثور يتحرك ويدور فتتحرك معه الأسطوانة الحديدية، وحجر جامد يتحول إلى دقيق ناعم - وشغلت به عن نفسي فجلست أمامه وقضيت الساعتين أو أكثر في الاستمتاع به؛ في هذه الأثناء بحثت عني أمي في البيت فلم تجدني، فنادت أخي وأختي فبحثا عني في الحارة فلم يجداني، فجن جنونها، وكان يشاع في أوساطنا أن هناك قوما يخطفون الأولاد ويسفرونهم إلى البلاد النائية للعمل، وأن هناك آخرين شريرين يسمى كل منهم «سماوي» يخطفون الأولاد ويذبحونهم أو يضعونهم في ماعون كبير يغلي بهم على النار وهكذا، فخافت أمي أن يكون قد حدث لي شيء من هذا.
وكان في كل حي «مناد» يستأجر لينادي على الأولاد التائهين، فيقول بأعلى صوته: «يا من رأى ولدا صفته كذا يلبس جلبابا أحمر أو أصفر، وعلى رأسه طاقية أو عاري الرأس، وفي رجله نعل أو حافي القدمين فمن وجده فله الحلاوة» وينتقل في الشوارع والحارات المجاورة ينادي هذا النداء ثم يختمه كل مرة بقوله «يا عدوي» والعدوي هذا شيخ من أولياء الله الصالحين موكل برد التائه إلى أهله.
وأذكر - بهذه المناسبة - حادثة طريفة: أن المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري ألف كتابا سماه «أين الإنسان؟» قرأه المرحوم «فتحي باشا زغلول» فلم يعجبه. فأخذ القلم وكتب تحت «أين الإنسان» يا عدوي.
على كل حال كان المنادي ينادي علي وأنا في الجباسة حتى جاء رجل وطردني، وشتمني وشتمته، فعدت إلى البيت، فنهرتني أمي وقالت: أين كنت؟ قلت في الجباسة. وحكيت القصة وما رأيت وما قاله لي الرجل وما رددت عليه، بلغة مكسرة ولسان ألثغ. فكانت القصة تستخرج الضحك من كل من سمعها، وكثيرا ما طلب مني أن أعيد روايتها ولهذا ثبتت في ذاكرتي.
وحدث مرة أن أخذني والدي إلى المسجد بجوار بيتنا ليصلي ولم يكن بالمسجد غيرنا. فخلع والدي جبته وجوربه وشمر أكمامه وذهب إلى «الميضأة» ليتوضأ والميضأة حوض ماء نحو ثلاثة في ثلاثة يملأ بالماء من حين لآخر. وفي العادة يملأ من بئر بجانبه ركبت عليها بكرة، وعلق فيها حبل في طرفية دلوان، ينزل أحدهما فارغا ويصعد الآخر ملآن.
ومن أراد أن يتوضأ من الميضأة جمع الماء بين كفيه وغسل وجهه ثم يعود الماء إلى الميضأة بعد الغسل كما أخذ، وكانت هذه الميضأة مصدر بلاء كبير، فقد يتوضأ المريض بمرض معد كالرمد ونحوه فيتلوث الماء ويعدي الصحيح، هذا إلى قذارته. فالمتوضئ يغسل وجهه بعد أن غسل من قبله رجليه، ولكن الاعتقاد الديني يغطي كل هذه العيوب والأخطار، فلما دخل القاهرة نظام جري الماء في الأنابيب والحنفيات لم تعد حاجة إلى الميضأة، وأصبحت الحنفيات أنظف وأصح، ولكن إلف الناس للقديم جعلهم يحزنون لفراق الميضأة، ولذلك كان مما أخذ على الشيخ محمد عبده وعيب عليه أن أبطل ميضأة الأزهر وأحل محلها الحنفيات، وهكذا يألف الناس القديم الضار ويكرهون الجديد النافع ويدخلون في الدين ما ليس في الدين.
توضأ أبي وذهب يصلي، وبقيت أنظر إلى البئر وإلى الميضأة وأتجول بينهما فتزحلقت وغرقت في الميضأة، وغمر الماء رأسي ولولا أن أبي كان قريبا مني وسمع الحركة وأسرع إلى الميضأة وانتشلني ما كنت من ذلك الحين من الأحياء.. وهكذا نجوت من هذا الحادث على هذا الوجه، وكان يمكن أن تختصر حياتي كلها وتقف عند هذا الحد لو تأخرت في الماء دقيقة ولم يلتفت أبي إلى هذه الرجة - وكم من أرواح نجت بمثل هذا وأرواح ضاعت بمثل هذا أيضا - وعلى كل فلسفة الحوادث وفلسفة القدر غامضة عجيبة.
وبعد ذلك حدثت لي حادثة ثالثة، فقد مر بحارتنا قبيل الغروب سائل يستجدي بالفن؛ فمعه دف يوقع عليه توقيعا لطيفا وينشد مع التوقيع قصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينوع النغمات حسب القصائد، ويناغم بين القصيدة والضرب على الدف. أعجبني هذا وطربت له فتبعته، وخرج من حارتنا إلى حارة أخرى فكنت معه حتى أتم دورته، وإذا نحن بعد العشاء وأبي ينتظرني لتأخري، فلما دخلت البيت أخذ يضربني من غير سؤال ولا جواب - ولو كان أبي فنانا لقبلني لأنه كان يكتشف في أذنا موسيقية وعاطفة قوية، ولكنه لم ينظر في الموضوع إلا أني تأخرت عن حضور البيت بعد غروب الشمس.
الفصل السادس
وكانت المدرسة الثانية هي «حارتي» فقد لعبت مع أبنائها وتعلمت منهم مبادئ السلوك، وتبادلت معهم عواطف الحب والكره، والعطف والانتقام، والألفاظ الرقيقة وألفاظ السباب - وانطبعت منها في ذهني أول صورة للحياة المصرية الصميمة في سلوكها وأخلاقها وعقائدها وخرافاتها وأوهامها ومآتمها وأفراحها وزواجها وطلاقها إلى غير ذلك - وكانت حارتنا مثالا للأسر في القرون الوسطى قبل أن تغزوها المدنية بماديتها ومعانيها - فقد ولدت عقب الاحتلال الإنجليزي بنحو أربع سنوات، ولم يكن الفرنج قد بثوا مدنيتهم إلا في أوساط قليلة من الشعب، هي أوساط بعض من يحتك بهم من الأرستقراطيين وأشباههم. أما الشعب نفسه - وخاصة الأحياء الوطنية كحينا - فلم يأخذ بحظ وافر منها، فحارتنا ليس فيها من يتكلم كلمة أجنبية، بل ليس فيها من يلبس البدلة والطربوش إلا عددا قليلا جدا من الموظفين. وليس في بيوتها أثر من وسائل الترف التي أنتجتها المدنية الحديثة. وليس فيها من يقرأ كتابا حديثا مترجما أو مكتوبا بالأسلوب الحديث. ومن يقرأ منهم فإنما يقرأ القرآن والحديث والقصص القديمة كألف ليلة وعنترة، أو الكتب الأدبية الخفيفة، ككليلة ودمنة، والمستطرف في كل فن مستظرف.
ولم تكن قد سادت النزعة الأوربية التي لا تقدر الجوار فيسكن الرجل منهم بجوار صاحبه السنين ولا يعرف من هو بل قد يسكن معه في بيت واحد أو في شقة بجانب شقته ولا يكلف نفسه مئونة التعرف به والسؤال عن حاله، إنما كانت تسود النزعة العربية التي تعد الجار ذا شأن كبير في الحياة، فكان أهل حارتنا كلهم جيرانا يعرف كل منهم شئون الآخرين وأسماءهم وأعمالهم، ويعود بعضهم بعضا عند المرض، ويعزونهم في المآتم ويشاركونهم في الأفراح، ويقرضونهم عند الحاجة ويتزاورون في «المناظر» فكل بيت من طبقة الأوساط كانت فيه حجرة بالدور الأرضي أعدت لاستقبال الزائرين تسمى «المنظرة» وينطقونها بالضاد، ويتبادل في هذه «المناظر» أهل الحارات الزيارات والسمر.
كانت حارتنا تشمل نحو ثلاثين بيتا، يغلق عليها في الليل باب ضخم كبير في وسطه باب صغير وراءه بواب، وهذا الباب بقية من العهد القديم، يحميها من اللصوص ومن ثورات الرعاع وهياج الجنود، فإذا حدث شيء من ذاك أغلق الباب وحرسه البواب، فلما استقر الأمن وسادت الطمأنينة استمر فتح الباب واستغني عن البواب.
وتمثل هذه البيوت طبقات الشعب، فكان من هذه الثلاثين بيتا بيت واحد من الطبقة العليا، ونحو عشرة من الطبقة الوسطى ونحو عشرين من الطبقة الدنيا.
فالغني من الطبقة العليا كان شيخا معمما، يدل مظهره على أنه من أصل تركي، وجهه أبيض مشرب بحمرة، طويل عريض وقور، ذو لحية بيضاء، مهيب الطلعة له عربة بجوادين، يدقان بأرجلهما فتدق معها قلوب أهل الحارة، هو نائب المحكمة العليا الشرعية وسيد الحارة، إذا حضر من عمله تأدب أهلها، فلا ترفع نساء الطبقة الدنيا أصواتهن، وإذا جلس في فناء بيته تأدب الداخل والخارج، وإذا تجرأت امرأة على رفع صوتها أتى خادمه الأسود فأحضرها أمام الشيخ وزجرها زجرة لم تعد لمثلها، وعلى ألسنتنا نحن الأطفال: الشيخ جاء، الشيخ خرج، وبيته الواسع الكبير لا يشمل إلا سيدة تركية، وخدما من الجواري السود اللاتي كن مملوكات وعبيدا سودا - فقد كان في القاهرة أسواق وبيوت لبيع الجواري البيض والسود، يذهب من أراد الشراء فيقلب العبد أو الجارية ويكشف عن جسدها ليرى إن كان هناك عيب، ثم يساوم في ثمن من أعجبه فيشتريه ويكون له ملكا. وظل هذا الحال إلى عهد إسماعيل، فتدخلت الدول الأوربية ووضعت معاهدة لإلغاء الرقيق وأعتق كل مالك رقيقه، ومع ذلك بقي كثير من العبيد والجواري في بيوت أسيادهم للخدمة ونحوها - وكان يشاع فيما بيننا أن الشيخ يملك ذهبا كثيرا، وأنه يضعه في خزائن حديدية، وأنه يضع كل جملة من الجنيهات في صرة، وأن له يوما في السنة يفرغ فيه هذا الذهب في طسوت مملوءة بالماء ثم يغسله بالماء والصابون ثم يعده ويعيده، وكان بخيلا مع أنه لم يرزق ولدا، فلم يسمع عنه أنه ساعد أحدا من أهل الحارة بشيء. ولما جاوز السبعين ماتت زوجته فتزوج شابة لعبت بماله وغير ماله، وكثيرا ما يجتمع في منظرته أبي وبعض أهل العلم يتدارسون المسائل الفقهية. وفي يوم المحمل أو الاحتفال بالمولد النبوي يلبس الشيخ «فرجية» مقصبة مذهبة ويركب بغلة ويذهب بها إلى مكان الاحتفال، وعلى الجملة فكان المستبد في حارتنا كاستبداد أبي في بيتنا، واستبداد الحكام في مصالح الحكومة.
أما الطبقة الوسطى، فكانت تتألف من موظفين في الدواوين هذا كاتب في ديوان الأوقاف، وهذا كاتب في الدفترخانة، وهذا يعيش من غلة أملاكه وهكذا، دخل كل منهم في الشهر ما بين سبعة جنيهات واثني عشر، يعيشون عيشة وسطا لا ترف فيها ولا بؤس، ويعلمون أولادهم في الكتاتيب ثم المدارس. وكان أكبر الأثر من هذه البيوت في نفسي لبيتين بجوار بيتنا: بيت موظف في ديوان الأوقاف دين لطيف مرح، فقد اتخذ منظرته مجمعا لأصدقائه من أهل الحارة وغيرهم يسمرون فيها ليلا، فأحيانا يحضر مقرئا جميل الصوت يقرأ القرآن، وأحيانا يقصون القصص الفكاهية يتعالى معها ضحكهم، وأحيانا يتبادلون النوادر والنكت، وكنت أتمكن أحيانا من سماع أحاديثهم فتكون متعة للنفس.
والآخر كان كاتبا صغيرا في ديوان الأوقاف أيضا، ولكنه يهوى الدف والضرب عليه ويجيده، ويؤلف مع زملائه تختا يدعى للأفراح والليالي الملاح، هذا يضرب على العود، وهذا على القانون وهذا يغني، فكان من حين إلى حين يدعو زملاءه إلى إقامة حفلة في بيته، وكثيرا ما يكون ذلك، فيقضون ليالي لطيفة في أدوار موسيقية وغناء، وكنت أغذي بها نفسي يوم لم يكن راديو ولا فونوغراف - وكان رئيس البيت - وهو والد هذا المغني صالحا ظريفا لا تفوته صلاة. وكان صاحب البيت الثاني وهو الفتى المغني سكيرا لا يكاد يفيق مع أن أباه كان إمام مسجد الحي.
وبيوت الطبقة الدنيا يسكنها بناء أو مبيض أو خياط أو طباخ أو صاحب مقهى صغير أو بائع جوال على عربة يدفعها بيديه. وهؤلاء كثيرو الأولاد بؤساء ولا يشعرون ببؤسهم. يعيشون أغلب أيامهم على الطعمية والفول المدمس والبيسار والسمك يشترى مقليا من الدكان، وقليلا ما يستطيعون أن يطبخوا، كما أن أولادهم لا يعلمون في كتاب ولا مدرسة. وإنما يتركون ليكبروا فيعملوا عمل آبائهم. نساؤهم قد يجلسن سافرات على باب البيت، وكثيرا ما تقوم بينهن الخصومات فيتبادلن السباب أشكالا وألونا. ويستعملن في سبابهن كل أنواع البلاغة من حقيقة ومجاز وتشبيه واستعارة وكناية، ويتناولن فيه الآباء والأمهات والأعراض والتعبير بالفقر وبالفجور وفظائع الأمور، ويطول ذلك ويقصر تبعا للظروف وقد يتحول السباب إلى ضرب، ويتحول تضارب النساء إلى تضارب الرجال - ولولا الشيخ في حارتنا لكان من ذلك الشيء الكثير.
ولكن مع اختلاف هذه الطبقات فقد كنا - نحن الأطفال - ديمقراطيين، لا نقيم كبير وزن لغنى ولا فقر ولا تعلم ولا جهل، فكنا نلعب سواسية، ونتخاطب بلغة واحدة ليس فيها تكبر ولا ضعة، وكان أحب أصدقائي إلي ابن كاتب في الدفترخانة وابن صاحب مقهى وابن فقيه كفيف يقرأ في البيوت كل يوم صباحا.
وكان من أعجب الشخصيات في حارتنا «الشيخ أحمد الشاعر» رجل بذقن طويل أسود، يلبس جلبابا أبيض وعمامة، ويتأبط دائما كتابا لف في منديل أحمر، له صوت أجش، وظيفته التي يعيش منها أنه بعد صلاة العشاء يذهب إلى مقهى قريب من الحارة ويصعد فوق كرسي عال، يجلس عليه ويتحلق حوله الناس، ثم يفك المنديل ويخرج الكتاب وهو قصة عنترة أو «الزير سالم» أو «الظاهر بيبرس» ويقرأ فيه بصوته العالي. متحمسا في موضع التحمس متخاذلا في موضع التخاذل، مغنيا بما يعرض من الشعر فإذا كان في القصة بطلان تحمس فريق لبطل وتحمس فريق لآخر. وقد يرشوه أحد الفريقين ليقف في نهاية الجلسة على موقف رائع لبطله - وله أجر من صاحب المقهى لأنه يكون سببا لازدحام مقهاه بالزائرين.
ولكن أعجب من هذا «الشيخ أحمد الصبان»، لقد كان يبيع الفحم في دكان على باب الحارة، وكانت حالته لا بأس بها، ثم دهمه الزمن الذي لا يرحم، فعمي وكسدت تجارته ولم يجد له مرتزقا، وهجر بيته الكبير وسكن حجرة أرضية هو وزوجته يأكلان من الصدقة، فما هو إلا أن سكنت جسمه العفاريت وصار يغيب عن الوجود حينا، ثم يتغير صوته العادي ويتكلم بصوت جديد يخبر به عن المغيبات، وإذا هو يصير الشيخ أحمد الصبان، بعد أن كان عم أحمد؛ وإذا هو يشتهر في الحارة بأنه يعلم الغيب ويخبر بالمستقبل، وفي قدرته بواسطة التعازيم والأحجبة أن يحبب الزوجة إلى زوجها والزوج إلى زوجته، وأن يخبر بالولد المفقود والمال المسروق؛ ثم ينتقل الخبر من حارتنا إلى ما جاورها وإلى ما وراء ذلك. فكان الناس يأتونه من مكان سحيق ليشهدوا عجائب الشيخ أحمد الصبان. واتسع رزقه وصلح حاله، وانتقل من حجرته الضيقة إلى مسكن فسيح، وانقسم فيه أهل الحارة قسمين: قليل منهم يقول إنه نصاب وكثيرون يقولون «سبحانه ما أعظم شأنه، يضع سره في أضعف خلقه»؟!..
كانت نسبة المواليد في الحارة نسبة عكسية مع الطبقات، فأفقر الطبقات أكثرها عددا؛ تلد سيدة ستة أو ثمانية أو عشرة والبيت الغني الوحيد ليس به ولد - وكما كثر عدد المواليد كثر عدد الوفيات، فالحالة الصحية أسوأ ما يكون، لا عناية بنظافة ماء ولا بنظافة أكل؛ وهم لا يعرفون طبيبا، وإنما يمرض المريض فيعالجه كل زائر وزائره - كل يصف دواء من عند العطار جربه فنجح، والمريض تحت رحمة القدر. وقد يصاب أحد بالحمى فيزوره كل من أراد، ويسلم عليه ويجلس بجانبه طويلا، ويحدثه طويلا، فتكون العدوى أمرا سهلا ميسورا، ولذلك كان كثيرا ما يتخطف الموت أصدقائي من الأطفال حولي.
لا تعجبن من هالك كيف ثوى
بل فاعجبن من سالم كيف نجا
ومنظر آخر عجيب شاهدته في صباي ثم انقرض، ذلك أن فتيان حينا ممن يشتغلون في الحرف والصنائع قد يتخاصمون مع فتيان أمثالهم من الحي الآخر، كأن يتخاصم حي المنشية مع حي الحسينية، فيتواعدون على الالتقاء في جبل المقطم في يوم معين، ويجتمعون إذ ذاك فينقسمون إلى معسكرين، معسكر المنشية ومعسكر الحسينية، وتقوم الحرب بينهما، وأدوات الحرب الطوب والحجارة الصغيرة والعصي الغليظة. وتشتد المعركة وتسفر عن جرحى أو أحيانا عن قتلى وشاهدت هذا المنظر يوما فرعبت منه، حتى إذا أمسى المساء وقف القتال وتواعدوا على يوم آخر، وطووا صدورهم على الانتقام والأخذ بالثأر، وتمتد الخصومة وراء المعسكرين، فيتربص أهل المنشية لزفة عريس من أهل الحسينية ويفاجئونهم في أشد أوقات فرحهم، وينهالون عليهم ضربا، ويقلبون الفرح غما، وهكذا دواليك.
وعلى رأس كل مجموعة من الحارات سوق، فيها كل ما تحتاجه البيوت، وهو يمثل الوحدة الاقتصادية للأمة. وبجانب السوق كل مرافق الحياة الاجتماعية: مكتب لتعليم الأطفال، ومسجد لصلاة أهل الحي، وحمام للرجال أياما، وللنساء أياما، ومقهى يقضون فيه أوقات فراغهم، ويتناولون فيه كيوفهم، من قهوة وشاي وتنباك ونحو ذلك. وفي الحي مقاه متعددة، منها ما يناسب الطبقة الدنيا، ومنها ما يناسب الطبقة الوسطى وهكذا. فقل أن يحتاج أهل الحي إلى شيء أبعد من حيهم، ومن أجل هذا كانت دنياي في صباي هي حارتي وما حولها. وأطول رحلة أرحلها خارج حينا كانت يوم تذهب أمي وتأخذني معها إلى الغورية أو حي الموسكي لشراء الأقمشة، أو تأخذني إلى بيت خالي قريبا من باب الخلق، وهذه كل دنياي.
كانت الحارة وما حولها مدرسة لي، تعلمت منها اللغة العامية القاهرية الصميمة، من ألفاظها وأساليبها وأمثالها وزجلها. وكان حينا - كما قلت - يمثل الحياة القاهرية الخالصة، فمثلها مثل مراكز اللغة الفصيحة التي كان يرحل إليها علماء اللغة لعليا قيس وسفلى هوازن، وتعلمت منها كل العادات والتقاليد البلدية، ورأيت كيف تقام الأفراح عند الطبقة الدنيا وكيف يفرحون ويمرحون وكيف يغنون وما يغنون، ورأيت الفروق في كل ذلك بين عادات الطبقة الدنيا والوسطى والعليا، ورأيت كيف تقوم لذائذ الحياة وآلامها عند كل طبقة.
ومرة شاهدت حفلة «زار» لسيدة تدعي أنه ركبها عفريت سوداني فاجتمعت السيدات عندها والأطفال وحضرت شيخة الزار وهي المسماة بالكدية وأعوانها من السيدات والرجال بطبولهم وطبولهن وبدءوا في ضرب على الطبل على نغمة «يا سلام سلم» فلم يتحرك أحد لأن الأعصاب لم تكن خمدت بعد ثم طلب إلى الكودية أن تضرب نغمة سودانية على نغمة «صلوات الله عليه وسلم» فبدأ بعض الحاضرات يترنح ويفقر وبعضهن يرقص رقصا بديعا على الأسلوب الحديث في الرقص فهن يهززن رءوسهن ويدلين شعورهن مرة ويرفعن رءوسهن ليدلين شعورهن مرة أخرى وادعى بعضهن وقد يكون صحيحا أنهن فقدن الوعي وأن حركاتهن تأتي عن غير شعور، وأطلق البخور في بيت صاحبة الزار مما هدأ الأعصاب وحرك النفوس، ثم ذبح خروف وأفراخ وغمست بعض ثياب السيدة في الدم ووضعت عليها وفي كل ذلك كانت تغني الكدية وأتباعها بأغان ذات كلمات أعجمية لم أتبينها، ومع المحاولات الكثيرة في أن أفقر كما يفقرن لم تتحرك أعصابي ولم تهتز نفسي، وكان منظرا غريبا جميلا وادعت فيه سيدة الزار بعد ذلك أنها قد هدأت أعصابها وشفيت من مرضها، والظاهر أن مرضها كان مرض وهم زال بالزار الذي هو عمل الوهم. وهكذا شاهدت في الحارة الزار والأفراح والمآتم واستفدت من كل ما سمعت ورأيت.
ثم رأيت المعاملات الاقتصادية بين أهل الحارة وأهل السوق، والشعائر الدينية تقام في المسجد، والحمامات يستحم فيها الرجال والنساء، كل ذلك كان دروسا عملية وتجارب قيمة لا يستهان بها، فإذا أنا قارنت بين نفسي في تجاربي هذه التي استفدتها من حارتي، وأولادي في مثل سني التي أتحدث عنها وقد ربوا تربية أخرى، فلا جيران يعرفون، ولا بأهل حارة يتصلون، ولا مثل هذه العلاقات التي ذكرتها يشاهدون؛ أدركت الفرق الكبير بين تربيتنا وتربيتهم، وكثرة تجاربنا وقلة تجاربهم، ومعجم لغتنا ومعجم لغتهم، ومعرفتنا بصميم شعبنا وجهلهم.
الفصل السابع
أما المدرسة الثالثة فكانت الكتاب. وقد كان في ذلك العصر كتاتيب ومدارس ابتدائية وثانوية قليلة، راقية بعض الرقي. ولكن هذه الكتاتيب الراقية كانت بعيدة عن بيتي، فاختار لي أبي أقرب كتاب، يكاد يكون على باب حارتي، هي حجرة متصلة بالمسجد
1
وبجانبها دورة مياهه، وأثاث هذه الحجرة حصير كبير بال، قد انسلت منه بعض عيدانه، وزير فيه ماء يكاد يسود من الوسخ، عليه غطاء من الخشب، قد ثبت في الغطاء حبل طويل ربط فيه كوز ليستقي منه الشارب ويتناول الكوز ليشرب منه النظيف والقذر والمريض والصحيح، وصندوق صغير من صناديق الجاز وضعت فيه ألواح بعضها صفيح قد صدئ وبعضها خشب قد زال طلاؤه. كتب عليها بعض آيات القرآن بالحبر الأسود فلا تكاد ترى، وشيخ قد لبس العمامة وقباء من غير جبة وبيده عصا طويلة، ومسمار كبير في الحائط علقت فيه «الفلقة» وهي عصا غليظة تزيد قليلا عن المتر، ثقب فيها ثقبان ثبت فيهما حبل، فإذا أراد سيدنا ضرب ولد أدخلت رجلاه في هذا الحبل ولويت عليهما الخشبة، فلا تستطيع القدمان حركة، ونزل عليهما سيدنا بالعصا. ثم عود من الجريد طويل يستطيع سيدنا أن يضرب به أقصى ولد في الحجرة، وهذا كل أثاث الكتاب - نذهب إليه صباحا، ونجلس على هذا الحصير متربعين متلاصقين، ويأخذ كل منا لوحه من الصندوق، وكان لوحي جديدا، إذ كنت مبتدئا، وكان لسيدنا عريف يساعده في كتابة الألواح للأطفال ويقوم مقامه إذا غاب كما يساعده في مد رجل الطفل في الفلقة عند الحاجة، ويقرأ كل تلميذ في لوحه حسب تعلمه، هذا يقرأ ألف باء وهذا سورة الفاتحة وهذا سورة تبارك وهكذا. فإذا فرغنا من قراءة الدرس الجديد استمع لنا الماضي وهو ما حفظناه من القرآن في الدروس، فإذا جاء وقت الغداء أخذ سيدنا من كل ولد قرشا أو نصف قرش أو مليما حسب مقدرته، وبعث سيدنا العريف فأحضر له ماجورين أخضرين: في أحدهما فول نابت ومرقة وفي الآخر مخلل ومرقة. والتف التلاميذ حولهما بعد أن أحضروا خبزهم الذي جاءوا به من بيوتهم، وأخذت أيديهم تغوص باللقمة في مرقة الفول أحيانا وفي مرقة المخلل أحيانا. ولا بأس أن يكون في الأولاد مريض وصحيح وقذر ونظيف وملوث وغير ملوث. فعلى الله الاتكال، والبركة تمنع من العدوى. وإذا قرأنا وجب أن نهتز وأن نصيح، فمن لم يهتز أو لم يصح لم يشعر إلا والعصا تنزل عليه فيصرخ ويصيح بالقراءة والبكاء معا، ونبقى على هذه الحال إلى قرب العصر فنخرج إلى بيوتنا؛ ومن حين لآخر يمر أبو الطفل على سيدنا فيسأله عن ابنه ويطلب منه أن «ينفض له الفروة»، وهذا اصطلاح بين الآباء وفقهاء الكتاب أن يشتدوا على الطفل ويضربوه، فلا تعجب بعد ذلك إذا وجدت أرواحا ميتة ونفوسا كسيرة. ومن أجل هذا كان أكره شيء علينا الكتاب واسم الكتاب وسيدنا؛ بل أذكر مرة أني كنت في البيت آكل مع أمي وإخوتي، فما أشعر إلا وقد انتفضت من غير وعي، لتوهمي أن عصا سيدنا نزلت علي لأني لم أهتز، وكان أكره ما أكره يوم السبت صباحا عند الذهاب إلى الكتاب، وأحب ما أحب يوم الخميس ظهرا لأنه سيلحقه يوم الجمعة وفيه لا كتاب.
وختمت في هذا الكتاب ألف باء على طريقة عقيمة جدا، فأول درس كان ألف (ألف لام فاء) وهو درس حفظته ولم أفهمه إلا وأنا في سن العشرين، إذ كان معنى ذلك أن كلمة الألف مركبة من ألف ولام وفاء، من أجل ذلك كرهت هذا الكتاب وهذا التعليم وسيدنا، وتنقلت في أربعة كتاتيب من هذا القبيل كلها على هذه الصورة، لا تختلف إلا في أن الحجرة واسعة أو ضيقة، وأن سيدنا لين أو شديد. وأنه أعمى العينين أو مفتوح العينين، أما أسلوب التعليم فواحد في الجميع.
وذهبت إلى الكتاب الثاني وكان سيدنا فيه رجلا غريب الأطوار يعقل حينا ويجن حينا، ويشتد ويلين، ويضحك ويبكي، وإذا سار في الشارع جرى فضحك من جريه الصغار، لا أذكر ماذا فعلت فنادى ولدين قويين وأدخلا رجلي في الفلقة وأمسك بعصا من جريد النخل وأخذ يهوي بها على قدمي بكل قوته حتى شق قدمي شقا طويلا وتفجر الدم منها، ثم أسلمني لهذين الولدين يحملانني إلى بيتي، وكان هذا آخر العهد بهذا الكتاب.
على كل حال لبثت في هذه الكتاتيب الأربعة نحو خمس سنوات حفظت فيها القراءة والكتابة، وكان لي من حجرة أبي في البيت يوم الجمعة وفي أوقات الفراغ كتاب آخر. سيدنا فيه هو أبي، أحفظ فيه جديدا وأسمع فيه قديما.
فأين ذلك مما نحن فيه الآن، الأطفال في مثل طبقتي، إنهم يذهبون إلى رياض الأطفال فتعلمهم سيدات مهذبات أو آنسات ظريفات، يعلمن على أحدث طراز من البداجوجيا. ويتدرجن بهم من اللعب إلى القراءة، ويتحايلن على تشويق الطفل إلى الألف والباء، ويسرقن التعليم عن طريق الصور أو القصص أو نحو ذلك، ويقلبن ما كنا فيه من عيش جاف إلى حلوى. وأكثر أوقات النهار مرح ولعب، ودروس كأنها لعب، وأناشيد ظريفة وموسيقى لطيفة، وطبيب يزور المدرسة كل يوم، ومريض لا يحضر إلى المدرسة إلا بعد أن يأتي بشهادة أنه صحيح، والعلم يعطى كما يعطى كوب من الشربات، وبسكويت ولبن وشاي بدل الفول النابت والمخلل، وضرب على «البيان» بدل الضرب على الأبدان، ونحو ذلك من ضروب النعيم. ولكن على كل حال أخشى أن نكون أفرطنا في أيامنا في الخشونة وأفرطنا أيام أبنائي في النعومة، والحياة ليست جدا محضا ولا هزلا محضا ولا نعيما صرفا ولا شقاء صرفا، وخير أنواع التعليم ما صور صنوف الحياة.
ولم يكن لي سلوى في هذا الدور من الحياة إلا لعبي في الحارة مع زملائي بعض الوقت، فنلعب «البلي» وكرة اليد ونتسابق في الجري ونحو ذلك، ثم أحاديث جدتي في البيت وقراءة أخي علينا بعض كتب القصص، ثم لا شيء غير ذلك.
الفصل الثامن
كل شيء حولي كان كفيلا أن يميت الذوق ويبلد الحس ويقضي على الشعور بالجمال؛ فحارتنا - إذا تجاوزت بيت الشيخ - متربة، لا يمسها الماء إلا إذا أنزل المطر أحالها بركا، وإلا ما يفعله السكان - من حين إلى آخر - إذ يفتحون شبابيكهم ويقذفون منها بما تجمع من ماء غسل الثياب أو غسل الصحون وأحيانا لا تتحرى السيدة ما تفعل فينزل هذا الماء القذر على بعض المارة فيكون النزاع ويكون السباب. وشوارعنا قذرة لا يعنى فيها بكنس ولا رش، وإذا كنست أو رشت فالمارة خليقون أن يفسدوا كل شيء في لحظة، فورق يرمي حيثما اتفق، وقشور ومصاصات قصب وروث بهائم ونحو ذلك، فإذا الشوارع بعد ساعة مزبلة عامة؛ وبيتنا لم يكن يعنى بتربية الذوق أية عناية، فليس فيه لوحة جميلة ولا صورة فنية، ولا أثاث منسق جميل، ولا زهرية ولا أزهار، وكل ما أذكره من هذا القبيل أن أبي كان يشتري في موسم النرجس بعضا من أزهاره ويضعه في كوب من الماء على الشباك، ويشمه من حين لآخر، ولست أدري لماذا أعجب بالنرجس وحده وموسمه قصير، وليس أجمل الزهور؟ ولماذا لم يعجب بالورد والياسمين وهما أجمل وأرخص وموسمهما أطول؟ وربما أن السبب في ميله إلى النرجس دون غيره ليس لذوق ولا حب للجمال، ولكن أظن أنه قرأ حديثا يمدح النرجس بأنه يمنع من البرسام، والبرسام هو لوثة من الجنون، فظل الحديث يعمل في نفسه، ولذلك كان يشتريه.
ولكن ماذا تعمل هذه اللفتة القصيرة بجانب ما يغمرنا من قبح، في الحارة والشارع والكتاتيب وما فيها من منظر الحصير ومنظر سيدنا ومنظر الزير والمواجير؟ لقد كانت كل هذه تكفي لإماتة الشعور بكل جمال، والشعور بالجمال أكبر نعمة، وتربية الذوق خير ما يقدم إلى الناشئ حتى من ناحية تقويم أخلاقه.
على كل حال، أحمد لأبي أن أخرجني من هذه الكتاتيب الكريهة، وأدخلني مدرسة ابتدائية هي مدرسة «أم عباس» أو كما تسمى رسميا «والدة عباس باشا الأول» أو كما تسمى اليوم مدرسة بنباقادن. كانت مدرسة نموذجية، بنيت على أفخم طراز وأجمله: أبهاء فسيحة فرشت أرضها بالمرمر وحليت سقوفها بالنقوش المذهبة، وفي أعلى المدرسة من الخارج إطار كتبت عليه آيات قرآنية كتبها أشهر الخطاطين بأحسن خط. وموهت بالذهب؛ فكان هذا الجمال الجديد عزاء لذلك القبح القديم.
ولبست بدلة بدل الجلباب، ولبست طربوشا بدل الطاقية وأحسست علوا في قدري، ورفعة في منزلتي، وخالطت تلاميذ الطبقة الوسطى أو العليا لا نسبة بينهم في نظافتهم وجمال شكلهم وبين أبناء الكتاتيب وأبناء الحارة.
كانت المدرسة يصرف عليها من أوقاف رصدتها عليها والدة عباس الأول فتلاميذها بالمجان، ولها بعض التقاليد الخاصة بها فيجمع بعض التلاميذ مرتين في السنة، ويذهبون إلى قصر الوالدة لتوزع عليهم بدلتان، بدلة للشتاء وبدلة للصيف ثم يخرجون إلى الشارع بملابسهم الجديدة إعلانا لما تسدي الواقفة من خير ، وفي المواسم يذهبون إلى مدفن الواقفة، ويقرءون على روحها الفاتحة، وما تيسر من الدعوات ثم يوزع عليهم الفطير والحلوى.
وشهدت في هذه المدرسة ثلاثة تطورات للتعليم. ولعلها كانت هي تطورات التعليم في مصر. فقد كانت المدرسة لتعليم القرآن وشيء من الحساب واللغة العربية والتركية، ثم انكمش هذا النوع من التعليم فأصبح فصلا واحدا بعد أن كان يعم المدرسة كلها وسمي قسم الحفاظ وأنشئت بجانبه فصول على النمط الحديث، تعلم فيها الجغرافيا والتاريخ والحساب مع اللغة الفرنسية، وقد نمت هذه الفصول حتى اكتسحت قسم الحفاظ؛ وشهدت بالمدرسة قبل خروجي منها منظرا جديدا، فقد رأيتهم يجمعون الطلبة الضعاف في اللغة الفرنسية لينشئوا بهم فصولا لتعليم اللغة الإنجليزية، ثم اكتسحت اللغة الإنجليزية اللغة الفرنسية.
دخلت أولا قسم الحفاظ وبعد سنة تحولت إلى قسم اللغة الفرنسية في السنة الثانية.
وقد وضع لي أبي برنامجا مرهقا لا أدري كيف احتملته. كان يوقظني في الفجر فأصلي معه، ثم أقرأ جزءا من القرآن وأحفظ متنا من المتون الأزهرية كألفية ابن مالك في النحو، حتى إذا طلعت الشمس أفطرت ولبست ملابسي وذهبت إلى المدرسة أحضر دروسها إلى الظهر. وفي فسحة الظهر أتغدى في المدرسة على عجل وأذهب إلى كتاب بمسجد شيخون قريب من المدرسة. وقد اتفق أبي مع فقيه الكتاب أن يسمع مني جزءا من القرآن حتى إذا ما أتمته سمعت جرس المدرسة فذهبت إلى الفصل. ثم أحضر حصص المدرسة بعد الظهر، فإذا دق الجرس النهائي خرجت إلى البيت وخلعت ملابسي المدرسية ولبست جلبابا وذهبت إلى المسجد الذي أبي إمامه
1
فمكثت معه من قبيل المغرب حتى يصلي العشاء أستمع لدرسه الذي يلقيه في المسجد بين المغرب والعشاء، ثم أعود معه إلى البيت، وفي أثناء الطريق يحفظني بيتا من الشعر أو بيتين ثم يسألني إعرابه فأعربه، ويصحح لي خطئي، كل ذلك ونحن سائران في الطريق، ثم أتعشى وأنام.
وإذا كان علي واجب من المدرسة أتممته على عجل قبل أن أذهب إلى أبي في المسجد، وليس لي من الراحة إلا عصر يوم الخميس ويوم الجمعة. على أني كثيرا ما أحرم أيضا من صبح يوم الجمعة لعمل واجبي المدرسي، أو القراءة مع أبي.
وهو برنامج غريب متناقض الاتجاه. سببه أن أبي كان حائرا في مستقبلي، أيوجهني إلى الجهة الدينية فيعدني للأزهر، أو يوجهني الوجهة المدنية فيعلمني في المدرسة الابتدائية والثانوية. وكنت أدرك حيرته من كثرة استشارته لمن يتوسم فيه حسن الرأي. وهم لا ينقذونه من حيرته؛ فمنهم من يشير بهذا، ومنهم من يشير بذاك، فأمسك العصا من وسطها. فكان يعدني للأزهر بحفظ القرآن والمتون، ويعدني للمدارس المدنية بدراستي في المدرسة. وهذا أسوأ حل، ولكن جزاه الله خيرا على تعبه المضني في التفكير في مستقبلي. وغفر الله له ما أرهقني به في دراستي.
كان هذا الضغط الشديد مثارا لثورتي أحيانا. فربما كنت أهرب من فقيه المكتب ظهرا، أو من الذهاب إلى أبي عصرا، أو أدعي المرض وليس بي مرض، ولكن إذا اكتشف هذا كان جزاؤه الضرب الشديد، فتخمد ثورتي؛ ولقد جربت أمي حظها. فكانت تتدخل في الأمر حين يضربني، ولكنها رأت أنها إن تدخلت حين هذا الغضب الشديد والضرب الشديد، فقد يتحولان إليها.. فكان إذا حدث هذا فيما بعد اكتفت بالصراخ والعويل من بعيد.
استمررت في هذه المدرسة، وكنت متفوقا في اللغة العربية بفضل ما آخذه من الدروس على والدي، وفوق المتوسط في الحساب، وضعيفا في اللغة الفرنسية، لأن أبي لم يترك لي الزمن الكافي لمذاكرتها.
تعلمت من المدرسة دروسها، وتعلمت من التجارب أكثر من دروسها، فلعبي مع التلاميذ، ومبادلتي إياهم العواطف، ورؤيتي إياهم يتصرفون في الأمور تصرفا مختلفا حسب مزاجهم وعقليتهم، يغضبون أو يحلمون، ويثورون أو يهدءون، ويظلمون أو يعدلون - كل هذه كانت دروسا في الحياة أكبر من دروس العلم، بل المدرسون أنفسهم كانوا معرضا لطيفا، فيه الجمال والقبح، والرعونة والسكينة، وما شئت من ألوان الحياة - كان مدرس اللغة الفرنسية بطيء الحركة، ثقيل اللسان، معوجه، جاحظ العينين أحمرهما من أثر الحمار لا يكترث لدرسه، ولا لتلاميذه، سواء عنده ذاكروا أو لم يذاكروا، تقدموا أو لم يتقدموا. ومدرس الحساب كفء في مادته، مهتم بطلبته، يبذل أقصى جهده في درسه، ولكنه غريب الأطوار، يهيج أحيانا ويشتد غضبه فيضرب، وقد يشتد ضربه فيكسر أو يجرح، ويكون في منتهى اللطف والظرف أحيانا، فيستغرق في الضحك لأتفه سبب، وقد يحدثنا عن دخائل بيته، وأسرار نفسه مما لم تجر العادة بذكره. ومدرس اللغة العربية من الصنف الذي نسميه «ابن بلد» يحول كل شيء إلى نكتة، ونكتة رائعة جميلة مؤدبة، لا يؤذي ولا يضرب، ولكنه ينتقم أحيانا من التلميذ بالسخرية والنكتة اللاذعة. ومدرس الدين رجل سوري يلبس لباس الشاميين، جبة وقباء، وطربوش تركي، معمم عمة سورية، طويل عريض بدين، ثقيل الروح، يستثقله المدرسون والطلبة على السواء. وبعض المدرسين يحرضوننا على معاكسته، فكنا نبذل جهدنا في حصته لاستخراج أفانين العبث به؛ ونفرح لدرسه لأنه مثار السخرية والضحك. ومدرس الخط رجل تركي، جميل الوجه، بهيج الطلعة، له لحية بيضاء، تستخرج من ناظرها الإكبار والإجلال، يلبس اللباس التركي الشرقي ويتكلم العربية بلهجة تركية، هادئ الطبع، بطيء الحركة خافت الصوت لا يضرب ولا يؤذي ولا يسب، وهو مع ذلك محترم، لا تسمع في حصته صوتا. وناظر المدرسة رجل طيب ولكنه لا يفقه شيئا من أساليب التربية، ضبط مرة تلميذا يسرق كراسا فأخذه وعلق في رقبته لوحة من الورق المقوى، كتب عليها بخط الثلث الكبير «هذا لص» حتى إذا وقف الطلبة في طابور العصر أمسكه الناظر بيده، ومر به على التلاميذ ليؤدبه والحق أنه لم يؤدبه ولكن قتله، فلم أر هذا التلميذ يعود إلى المدرسة بعد. وأغلب الظن أنه انقطع عن المدارس بتاتا.
وهكذا كانت المدرسة بتلاميذها ومدرسيها وناظرها تمثل رواية مملوءة بالحياة والحركة والمناظر تكون أحيانا مأساة، وأحيانا ملهاة.
كنت في هذه السن متدينا شديد التدين. وكان بالمدرسة مسجد صغير أعد إعدادا حسنا، فكنت أصلي فيه الصلوات لأوقاتها. وكنت أقوم الليل وأتهجد وأحب الله وأخشاه. وتنحدر الدموع من عيني أحيانا في ابتهالاتي، وأسجد فأطيل السجود والدعاء، وأحفظ أدعية من الابتهالات والتوسلات. ومن شدة فكري في الله رأيته في منامي مرة، على شكل نور يغمر الغرفة ويخاطبني قائلا: اطلب ما أدلك به على قدرتي فطلبت أن يعمل من قطعة حديد سكينا، ومن قطعة خشب شباكا، ففعل. فآمنت بقدرته وحكيت المنام لأهلي، ففرحوا به فرحا عظيما، وزادوا في محبتي.
واستمررت في دراستي في المدرسة، فانتقلت من السنة الثانية إلى الثالث ومن الثالثة إلى الرابعة، وأبي لا يهدأ من التفكير أيتركني أكمل دراستي، أم يخرجني من المدرسة ويدخلني الأزهر، ويسألني فأجيبه: «أحب أن أبقى في المدرسة»، ويسأل من يعرفه من موظفي الحكومة فيوصونه ببقائي في المدرسة. ويسأل من يعرفه من مشايخ الأزهر فيوصونه بإدخالي الأزهر؛ ويتردد ويتردد ثم يستخير الله ويخرجني من المدرسة إلى الأزهر.
الفصل التاسع
ها أنا في سن الرابعة عشرة تقريبا، يلبسني أبي القباء والجبة والعمة والمركوب بدل البدلة والطربوش والجزمة، ويكون منظري غريبا على من رآني في الحارة أو الشارع، فقد عهدوا أن العمامة لا يلبسها إلا الشاب الكبير أو الشيخ الوقور أما الصغير مثلي فإنما يلبس طربوشا أو طاقية، ولذلك كانوا كثيرا ما يتضاحكون علي فأحس ضيقا أو خجلا أو أتلمس الحارات الخالية من الناس لأمر بها: والمصيبة الكبرى كانت حين يراني من كان معي في المدرسة، فقد كان يظن أني مسخت مسخا وتبديت بعد الحضارة، وكأن الذي يربط بيني وبينهم هو وحدة لبسي ولبسهم لا طفولتي وطفولتهم، ولا زمالتي وزمالتهم، فنفروا مني مع حنيني إليهم، وسرعان ما انقطعت الصلة بيني وبينهم، فانقبض صدري لأني فقدت أصدقائي القدامى ولم أستعض عنهم أصدقاء جددا، فكنت كالفرع قطع من شجرته أو الشاة عزلت عن قطيعها، أو الغريب في بلد غير بلده. وتضرعت إلى أبي أن يعيدني إلى مدرستي فلم يسمع، وأن يعفيني من العمة فلم يقبل، وما آلمني أني أحسست العمامة تقيدني فلا أستطيع أن أجري كما يجري الأطفال ولا أمرح كما يمرح الفتيان، فشخت قبل الأوان، والطفل إذا تشايخ كالشيخ إذا تصابى كلا المنظرين ثقيل بغيض، كمن يضحك في مأتم أو يبكي في عرس.
ولم يكن أمامي إلا أن أحتمل على مضض.
هذا أبي يأخذني معه كل صباح يوم فأسير في شوارع لا عهد لي بها، وأمشي فأطيل المشي، لا كما كان العهد يوم كنت في المدرسة، إذ كانت بالقرب من بيتنا، وأخيرا أصل إلى بناء كبير، فيقول أبي هذا هو الأزهر، ولا أدري كيف كان وقع هذه الكلمة على نفسي، فالأزهر شيء غامض لا أعلم كنهه ولا نظامه ولا منهجه ولا مستقبله؛ أقدم عليه في هيبة وغموض، وأسمع عند الباب صوتا غريبا، دويا كدوي النحل يضرب السمع ولا تستوضح له لفظا، فتأخذني الرهبة مما أسمع، وأرى أبي يخلع نعليه عند الباب ويطويهما ويمسكهما بيده فأعمل مثل عمله، وأسير بجانبه قليلا في ممشى قصير، أدخل منه على إيوان كبير لا ترى العين آخره، فرش كله بالحصير وامتدت أعمدته صفوفا، كل عمود وضع بجانبه كرسي عال مجنح قد شد إلى العمود بسلسلة من حديد، وجلس على كل كرسي شيخ معمم كأبي، بيده ملازم صفراء من كتاب، وأمامه حلقة مفرغة أحيانا وغير مفرغة أحيانا، يلبس أكثرهم قباء أبيض أو جلبابا أبيض عليه عباءة سوداء، وأمامه أو بجانبه مركوبه، ويمسك بيده ملزمة من كتاب كما يمسك الشيخ، والشيخ يقرأ أو يفسر والطلبة ينصتون أو يجادلون وبين العمود والعمود بعض الطلبة يجتمعون فيأكلون أو يذاكرون.
تخطيت هذه الجموع في غرابة، ونظرت إليها في دهشة، وأحيانا أرى في بعض الأركان كتابا ككتابي القديم. فأفهم أن الأزهر امتداد للكتاب لا امتداد للمدرسة. ثم نخرج من هذا الإيوان إلى فناء الأزهر أو صحنه فأراه سماويا غير مسقوف، ومبلطا غير مفروش، وهنا وهناك فرشت ملاءة بيضاء أو عباءة سوداء صفف عليها خبز ريفي وعرض في الشمس ليجف. وسألت أبي فقال إنه بعض زاد المجاورين أحضروه معهم من ريفهم أو أرسله إليهم آباؤهم، فهم يشمسونه ثم يختزنونه في بيوتهم. هذا هو كل الأزهر كما رأيته أول مرة.
وفهمت من هذا أني سأكون أحد هؤلاء المتحلقين، وسأجلس على الحصير كما يجلسون ، وأسمع إلى هذا الشيخ كما يسمعون، وآكل في ركن من أركانه كما يأكلون، وقارنت بين حصير الأزهر ومقاعد المدرس، ومدرس الأزهر ومدرس المدرسة، وفناء الأزهر حيث يشمس الخبز وفناء المدرسة حيث نلعب ونمرح، فكانت مقارنة حزينة.. وأخذت إلى رواق من أروقة الأزهر. وتقدمنا إلى شيخ أخذ منا طلب الالتحاق وامتحنني في القرآن فأحسنت الإجابة فقيدني طالبا، وخرجنا من باب آخر علمت بعد أنه يسمى «باب المزينين» كما أن الباب الذي دخلت منه يسمى باب الصعايدة، وسمي باب المزينين لأن على رأسه حوانيت حلاقين لمجاوري الأزهر وشيوخهم، ورأيت على هذا طائفة من الطلبة - من مثل الذين رأيتهم يتحلقون حول الشيخ - وعلى يدهم أرغفة من الخبز يعرضونها للبيع، فسألت أبي عن هذا، فقال: إن طلبة الأزهر إذا تقدموا في العلم أعطي لكل طالب أرغفة ثلاثة أو أربعة أو أكثر كل يوم، وقد يزيد هذا عن حاجتهم فيبيعونه كله أو بعضه ليشتروا بما حصلوا من الثمن إداما لهم، وكل عالم من علماء الأزهر له كل يوم عشرة أرغفة أو أكثر، وإذا تقدمت في العلم كان لك مثل هذا، ولكنك لا تبيعه ولا تقف مثل هذا الموقف إن شاء الله.
وعدت إلى بيتي والهم يملأ قلبي، ولكن الزمن بلسم الهموم، فقد أخذ يقطع صلتي بالمدرسة وبأصدقائي فيها، وينسيني ذكرياتي الماضية، ويشغل قلبي بالحياة الحاضرة، ويؤلف بيني وبين البيئة الجديدة.
بعد أن يقيد الطالب في دفتر الأزهر يترك وشأنه، فهو يختار العلوم التي يدرسها، والكتب التي يقرؤها، والمدرسين الذين يدرسونها، فإذا لم يرزق بمرشد يرشده غرق في هذا البحر الذي لا ساحل له، وليس يعرف أحد أغاب أم حضر، تقدم في العلم أم تأخر، وليس يمتحن آخر العام فيما درس، ولا يسأله أحد ماذا صنع، فإن احتاج الطالب في شأن من الشئون أن يأخذ شهادة بأنه حضر الكتب الفلانية على المشايخ الفلانيين فما عليه إلا أن يكتب الورقة كما يشاء وبالكتب التي يشاء وبالمدرسين الذين يشاء، ثم يمر عليهم فيوقعونها في سهولة ويسر، ولو كانت هذه أول نظرة من المدرسين للطالب، ولو كانت سنة لا تتفق وهذه الكتب العويصة التي يستخرج الشهادة بسماعها، فأي ضرر في ذلك «وبارك الله فيمن نفع».
وضع لي أبي برنامجا أن أحضر درسا في الفقه الحنفي صباحا - وإنما اختار فقه الحنفية لأنه هو الفقه الذي يعد للقضاء، إذ يشترط في القاضي الشرعي أن يكون على مذهب الإمام أبي حنيفة - وأن أجود القرآن على شيخ ضحى، وأن أحضر درسا في النحو ظهرا، وأن أحضر درسا في العلوم التي كانت تسمى العلوم العصرية - وهي الجغرافيا والحساب - عصرا، وبهذا ينتهي اليوم..
ولم تكن أوقات الدروس كما عهدتها في المدرسة تؤقت بساعات النهار، إنما تؤقت بالصلوات فدرس النحو عقب صلاة الظهر، ودرس الجغرافيا والحساب عقب صلاة العصر، ودرس التفسير والحديث عقب صلاة الفجر، ودرس الفقه عند طلوع الشمس؛ وهناك دروس إضافية كالتي كان يلقيها الشيخ محمد عبده في البلاغة أو التفسير عقب صلاة المغرب. على كل حال بدأت أسير على هذا المنهج، أصحو عند آذان الفجر مهما كان الشتاء قارسا، وأصلي مع أبي، وألبس ملابسي، وأخرج من بيتي في الظلام، والدنيا نائمة والأصوات هادئة، إلا صوت الديك يؤذن، أو صوت الكلب ينبح، وأسير طويلا من بيتي إلى الأزهر، فلم يكن ترام ولا سيارات عامة، ولو كانت ما أسعفتني في هذا الوقت المبكر، والمسافة بين بيتنا والأزهر نحو نصف ساعة على الأقل، وأحسن ما كان في الطريق باعة الفطور، فإن كان اليوم فقيرا اكتفيت بطبق من «البليلة» يجلس بائعها على قارعة الطريق وأمامه طست كبير مليء بالذرة المغلية الناضجة، ووضع على نار هادئة حتى يبقى ساخنا، وبجانبه ماعون كبير مليء سكرا ناعما، أشتري منه بربع قرش فيملأ لي طبقا من الطست ويرش عليه من السكر، فآكله وأنا واقف وأمسح فمي بالمنديل وأحمد الله وأستمر في السير، وإن كان اليوم غنيا عطفت على دكان للفطير فأطلب من البائع فطيرا بقرش، فيقطع قطعة من العجين مكورة، ويدحورها في لمح البصر، ويضعها في صحن ويأخذ بيده قليلا من السمن يرشه عليها، ويدخل الصحن في الفرن، وبعد دقيقتين أو ثلاث يخرجها ناضجة ناضرة ويضع عليها السكر، وتقدم إلي على مائدة متواضعة لا بالنظيفة ولا بالقذرة، فآكلها في لذة ونهم، فإذا فرغت منها تقدمت إلى الأمام خطوة أو خطوتين داخل الدكان فأرى مقطفا صغيرا مليئا بالنخالة، فأفرك يدي بها وآخذ منها فأدعك فمي وأحمد الله أكثر مما حمدته على البليلة. وإن كان يوما وسطا لا بالغني ولا بالفقير عطفت على رجل بالقرب من الأزهر أبيض الوجه في حمرة، ضخم الجسم يلبس جلبابا أزرق، وعلى رأسه عمة حمراء، وأمامه قفص عال مستدير، عليه صينية كبيرة من البسبوسة، قد أفرغ من وسطها مربع ثم ملئ سمنا، فأعطيه نصف قرش ويعطيني مربعا من البسبوسة بعد أن يقطر عليه شيئا من السمن، وإذا أراد أن يكرمني اختار لي قطعة في وسطها لوزة مقشورة.
وأصل إلى مسجد بالقرب من الأزهر قبل طلوع الشمس، أنتظر الشيخ حتى يحضر، وكانت المساجد حول الأزهر تلقى فيها الدروس كالأزهر، ويختارها العلماء الذين يحبون الهدوء والاستقلال.
جاء الشيخ وجلس على كرسيه وجلسنا أمامه، وكان شيخا وقورا أنيقا في ملبسه، يشع الصلاح من وجهه، جميل الوجه ذا لحية سوداء، وكان قاضيا شرعيا، اسمه الشيخ صلاح..
وبدأ يقرأ الدرس بعد أن بسمل وحمدل ودعا بقوله: «اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت إذا شئت جعلت الصعب سهلا». وكان الكتاب الذي في يده وفي يدنا شرح الطائي على الكنز، وموضوع الدرس الوضوء - قرأ المتن والشرح ففهمتهما ولكنه سبح بعد ذلك في تعليقات واعتراضات على العبارة وإجابات على الاعتراضات لم أفهم منها شيئا. وبعد أن أحضرت كل ذهني ووجهت إليه كل انتباهي لم أفهم أيضا، فشرد ذهني وأخذت أفكر وأستعيد في ذكرى المدرسة التي كنت فيها ودروسي التي كنت أفهمها وأتفوق فيها، وأصدقائي الذين كنت أزاملهم في الفصل، وهؤلاء الطلبة الذين أمامي وليس لي بهم صلة، وأسبح وأسبح في الخيال، ثم يعود ذهني إلى ما يلقيه الشيخ، فأجده في الجملة نفسها وفي الاعتراضات والإجابات نفسها، ويسأل بعض الطلبة أسئلة فلا أفهم ما يسألون، ويجيب الشيخ فلا أفهم ما يجيب، واستمر الحال على هذا المنوال ساعتين أو أكثر من غير أن ينتقل الشيخ من هذه الجملة، وسررت عندما قال الشيخ «والله أعلم» إيذانا بأن الدرس قد انتهى. وقمت وقام الطلبة يحتاطون بالشيخ، ويقبلون يده فلم أسلم ولم أقبل، وخرجت من هذا المسجد إلى الأزهر نفسه. وقد اعتاد الطلبة بعد درس الفقه أن يفطروا، وينقلب إذ ذاك إيوان الأزهر وصحنه وأروقته إلى موائد منتثرة. حلقت حولها حلقات من ثلاثة طلبة أو أكثر. وعمادهم في فطورهم الفول المدمس أو النابت والطعمية والسلطة، يضعونها كلها على حصير الأزهر، ويتهافتون على أكلها، فإذا فرغوا تركوا بقايا أكلهم من فتات أو ورق، حتى يأتي خدمة المسجد فيكنسوها، وكنت في كثير من الأوقات أفضل أن أفطر بقطعة من الجبن وقطعة من الحلاوة الطحينة - ثم أذهب إلى حائط من حوائط الأزهر أجد بجانبه شيخا طويلا ضعيف النظر مصفر الوجه ذا لحية بيضاء، اتفق أبي معه على أن يقرئني القرآن مجودا، فأقرأ ما تيسر من القرآن على ترتيبه في المصحف وهو ينتقد ما أقرأ وينبهني إلى مخارج الحروف، ومقياس الغنة والمدة، ويأمرني بإعادة ما قرأت، وفي كل مرة يصلح أخطائي حتى يستقيم لساني حسب أصول القراءة، ولا أكاد أنتهي من قراءة جزء من القرآن حتى يعرق جبيني من شدة ما ألاقي، وحولي طلبة ينتظرون دورهم، منهم من يقرأ بالسبع ومنهم من يقرأ بالأربع عشرة. ثم أنفلت من هذا الشيخ لأعد درس النحو وكانت العادة في الأزهر أن يعد الطالب درسه قبل أن يلقى أستاذه. فيقرؤه في الكتاب ويتفهمه ويعرف ما فهم وما لم يفهم وما وضح وما غمض ليتحرى موضع الغموض حين يفسر الأستاذ، وأصلي الظهر، وأذهب إلى مكاني من درس النحو، وكان موقفي في درس النحو أسوأ من موقفي في درس الفقه، مع أن درس الفقه جديد علي ودرس النحو ليس بجديد، فقد درسته في المدرسة ودرسته مع أبي، ولكن الشيخ كان متدفقا كثير الكلام طلق اللسان كثير الاعتراضات كثير الإجابات؛ فلم أفهم مما قال شيئا، وكان رحمه الله شيخا غريبا طلق اللسان كثير الاستطراد، كثير الفخر بنفسه. فساعته التي يضعها في جيبه، لم يصنع منها إلا ساعتان إحداهما التي في جيبه، والأخرى مع إمبراطور ألمانيا، وفي بيته آلاف من الكتب، بعضها مجلد بالماس، وله ساعات طويلة يقضيها سرا مع الخديوي عباس يتحدثان فيها عن أهم شئون الدولة. وهكذا. ومع ذلك كان خفيف الروح حسن الحديث. ومع أنه طلق العبارة متدفق الكلام، فقد كان يقول كلاما مزخرف الظاهر، فقير الباطن. وخلص الدرس فاسترحت من هذا العناء قليلا، وذهبت بعد ذلك إلى مسجد المؤيد، حيث تلقى دروس الجغرافيا والحساب؛ ففهمت ما يقولون وشاركت في الأسئلة، وفهمت الأجوبة، إذ كان مدرسو هذه المواد العصرية منتدبين من المدارس في مدرستي.
وزاد الأمر سوءا أن ليس بيني وبين الطلبة صلة، ولا بيني وبين الأساتذة رابطة، ولا أتلقى سؤالا إن كنت فهمت أم لم أفهم، ولا أكلف واجبا أعمله في بيتي.
وكان هذا يوما نموذجيا جرت الأيام بعده على نمطه، لم أتقدم في الفهم ولم أستسغ الأسلوب. وفكرت طويلا في عودتي إلى المدرسة فلم أستطع، وفي طريقة للهرب فلم أوفق؛ ولاحت مني مرة نظرة إلى فتيين أنيقين في مثل سني، يلبسان ملابس أنيقة، وتدل مظاهرهما وأناقتهما على النعمة. فعملت الحيلة للتعرف بهما فإذا هما فتيان قاهريان من أبناء العلماء كأبي، ولكنهما مدللان في بيوتهما، وفي معاملة أبويهما لهما، وكنت أتلهف على صداقة فصادقتهما، وأشتاق إلى ملء زمني فلازمتهما، وعلمت أثناء حديثهما أن لكل منهما خزانته وهي جزء من دولاب في رواق من أروقة الأزهر، يضع كل منهما فيها فروة نظيفة يجلس عليها في الدرس حتى لا تتسخ ثيابه، «ومزا» أصفر يلبسه في رجليه إذا سار في الأزهر حتى يحافظ على نظافة جوربه. ففعلت فعلهما وتأنقت تأنقهما، ولكن كان ذلك من وراء أبي لأنه لا يحب الأناقة ولا البهرجة، بل ضربني مرة لأني تأنقت في الحزام الذي أشد به وسطى وتركت له ذيلا، كما يفعل المتأنقون ووضعت ساعة في جيبي عن يميني، وكان أثناء ضربه يقول: «هل أنت ابن السيوفي» والسيوفي هذا كان غنيا مشهورا، وكان شاهبندر التجار. فتركت من يومها أناقتي ولم أعد أريه أني ابن السيوفي.
ورأيتهما يشكوان مما أشكو فلا يفهمان كما أني لا أفهم ولا يستفيدان كما أني لا أستفيد، واقترح أحدهما أن نهرب من بعض الدروس، ونلتمس مكانا في الأزهر بعيدا بعض الشيء عن الأنظار، نلعب فيه القمار، فلبينا الدعوة، إذ كان في هذا اللعب مسلاة عن ثقل الدرس، وراحة من عناء الشيخ. فكنا نصرف الساعات نقامر، وأخسر أحيانا فأبيع بعض ما معي من متاع، وأبي لا يعلم شيئا من ذلك، وأساتذتي لا يعلمون من أنا حتى يعلموا إن كنت حضرت أو غبت، وأذهب إلى بيتي مدعيا أني قضيت الوقت في الدرس والتحصيل، ولكن تنبه ضميري بعد أشهر وفهمت أن هذه الحال تؤدي إلى سوء المآل، فتركت صحبتهما والتفت إلى دروسي.
الفصل العاشر
رزقت صحبة طالب آخر في الأزهر من «شبين الكوم» ولا أذكر كيف تعرفت به، وكان يكبرني بخمس سنين أو ست. وكان رحمه الله بدينا مستدير الوجه طيب القلب مرحا في أدب، تزوج وترك زوجته وابنه في بلده وحضر إلى الأزهر يطلب العلم، وخلف أهله لأبيه ينفق عليهم كما ينفق عليه مع قلة دخله وضعف حاله.
كان هذا الطالب قد مر بالمرحلة الأولى الشاقة التي أمر بها ومرن على الطريقة الأزهرية ولقلقتها وفيهقتها.
وكان مستنير الذهن لم يعبأ بما يقوله شيوخ الأزهر في الشيخ محمد عبده من رمي بالزندقة والإلحاد، فكان يحضر دروسه في تفسير القرآن ويسمع منه كتاب دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وكثيرا ما ألح علي أن أحضر دروس الشيخ معه فآبى، استصغارا لعقلي مع عظم دروسه، ولأن ذلك يضطرني أن أبقى في الأزهري إلى ما بعد العشاء. إذ كانت دروس الشيخ تبتدئ بعد صلاة المغرب وتستمر إلى آذان العشاء، وأخيرا تغلب علي وشوقني إلى دروسه بما كان ينقل إلى من آرائه. فحضرت درسين اثنين، فسمعت صوتا جميلا ورأيت منه منظرا جليلا، وفهمت منه ما لم أفهم من شيوخي الأزهريين، وندمت على ما فاتني من التلمذة عليه، واعتزمت أن أتابع دروسه، ولكن كان هذان الدرسان هما آخر دروسه رحمه الله.
وكانت دروسه مملوءة بالفكاهات الظريفة. فمرة مثلا دخلت في الدرس فتاة صغيرة تريد أن تسر إلى أبيها كلاما فجلست بجانبه، وكانت هذه الأيام حركة قاسم أمين. فقال الشيخ: إن هذه هي المرأة الجديدة. إذ كان قاسم أمين ألف كتابا سماه «المرأة الجديدة». ومرة حضرت درسا للشيخ ولم أفهم بعض العبارات، وسألت صاحبي عنها فلم يفهمها فاتفقنا على أن نكتب له خطابا، وكانت هذه عادة جارية، واخترنا أن نمضي الخطاب بحرف من اسمي وهو الميم وحرف من اسم صاحبي وهو الراء فجاء الشيخ بعد أن استلم الخطاب وقال: جاءني خطاب من شيخ اسمه «مر» أو مر ولم يفهم، ثم أخذ يشرح ما غمض علينا في أدب ووضوح. وكان دائما يلخص لنا ما ورد إليه من خطابات مهمة. وأذكر أنه أتاه خطاب يهدده بالقتل لأنه كافر ملحد، وبعد أن قص علينا القصة قال: «لتمنيت أن يكون هذا صحيحا فيوم يشجع المصري ويقتلني، أكون فخورا» ثم أنشد قول القائل:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا
أبشر بطول سلامة يا مربع
إلى أنه كان من حين إلى حين يستطرد في شرح حال المسلمين واعوجاجهم وطريقه علاجهم.
كنا نجلس قبل الدروس نحضرها فيوضح لي صاحبي بعض ما غمض من الرموز والعبارات، فأستطيع أن أتابع الشيوخ فيما يقولون إلى حد ما.
ومرة جاء صاحبي هذا وفي يده جريدة «المؤيد» وأطلعني على إعلان بحاجة «الجمعية الخيرية الإسلامية» إلى مدرسين للغة العربية بمدارسها، وكيفية تقديم الطلبات وموعد الامتحان، وأن من وقع عليه الاختيار عين مدرسا في إحدى مدارس الجمعية بثلاثة جنيهات في الشهر، وأغراني بتقديم الطلب فتقدمت وبحضور الامتحان فامتحنت.
وكانت لجنة الامتحان مؤلفة من ثلاثة من كبار رجال التعليم في وزارة المعارف.
نودي على اسمي فتقدمت مضطربا متخوفا، وكان هذا أول امتحان من هذا القبيل شهدته، فأعطى لي كتاب «أدب الدنيا والدين» فتحت منه صفحة حيثما اتفق فقرأت فيها وهم يسألونني: لم رفعت هذه ونصبت هذه وجرت هذه. ثم طلب إلي أن أقف أمام السبورة، وكان اسمها في أيامنا «التختة» وأملي على هذا البيت:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وطلب إلى أن أفسره ففسرته، وأخطأت في تفسير تزود فقلت إن معناه «تعطي الكثير»، ثم طلب إلي أن أعربه فأعربته، وأن أخاطب بالبيت مفردا ومثنى وجمعا؛ مذكرا ومؤنثا ففعلت، وبذلك انتهى الامتحان، ثم أعلنت النتيجة فكنت الثالث وهم يحتاجون إلى أربعة، ودعينا نحن الأربعة لمقابلة الرئيس المشرف على التعليم في الجمعية الخيرية الإسلامية وهو حسن باشا عاصم، وعلمت فيما بعد أنه رجل من عظماء مصر اشتهر بمتانة الخلق والحزم والتشدد في الحق والتزام العدل مهما كانت الظروف، كان رئيسا للقلم العربي في السراي أيام الخديوي عباس فأراد الخديوي أن يستبدل أطيانا يملكها بأطيان للوقف، فوقف هو والشيخ محمد عبده في ذلك، إذ كانا عضوين في مجلس الأوقاف الأعلى، وقال إن في هذا الاستبدال غبنا على الأوقاف، فأخرجه الخديوي من وظيفته، فتبرع حسن باشا عاصم بالإشراف على التعليم في الجمعية الخيرية. يقضي في ذلك أكثر أوقاته، فيرقي التعليم ويشترك في وضع المناهج ويطبق العدل في شدة، حتى لقد حدث مرة أن تبرع أحد أعيان المحلة الكبرى بأرض لبناء مدرسة الجمعية ونفقات بنائها ووقف عليها من أملاكه، ثم أراد أن يدخل ابنه في المدرسة وكانت سنه تزيد شهرا عن السن المقررة، فأبى عاصم باشا قبوله قائلا: لقد تبرع هذا الرجل للجمعية فوجب شكره، ولكنه أراد بعد أن يخرق قوانين فوجب صده؛ وأصر على إبائه على الرغم من إلحاح رجالات الجمعية مثل الشيخ محمد عبده وحسن باشا عبد الرازق في قبوله، فلما ألحوا عليه قدم استقالته فاضطروا للنزول على رأيه. وهكذا كان يسير على هذا النمط فيما يعهد إليه من أعمال، وهو نمط من الناس غريب في الشرق المملوء بالمجاملات وقبول الرجاء مهما خالف العدل وخالف القانون. وكان من حسن حظي أن رأيته بعد ذلك عضوا في مجلس إدارة مدرسة القضاء، وعلمت أنه نشر العدل في المدرسة، وعلمه بقية الأعضاء.
وقفنا في قبة الغوري ننتظره فطلع علينا رجل مهيب يملأ القلب أكثر مما يملأ العين، له وجه أسمر وسحنة صعيدية أسيوطية وعينان نفاذتان، وجسم صغير. وواجهنا وأرسل إلينا نظرات فاحصة. وسأل كلا منا أسئلة في المعلومات العامة ثم استبعد الرابع لقصره وقماءته، وأعلننا أن الأول سيعين في مدرسة القاهرة، والثاني في الإسكندرية والثالث الذي هو أنا في طنطا.
لم يكن أبي يعلم شيئا من ذلك فلما أخبرته تحير واضطرب، وما كان الأمر يحتاج إلى حيرة واضطراب، فالأمر سهل ورفض الوظيفة واجب، ولكن عذره أن مستقبل الطالب في الأزهر مظلم، وأخيرا قبل سفري إلى طنطا.
لو سمع شاب اليوم وسنه ستة عشر عاما كسني أنه سيسافر إلى سنغافورة أو طوكيو أو الملايا ما حمل الهم الذي حملت من أجل سفري إلى طنطا. فلم أركب في عمري، ولا رأيت الأهرام، ودنياي هي ما بين بيتي والأزهر.
حزمت متاعي وهي حشية ومخدة ولحاف وسجادة وملابسي وبعض كتبي وودعت أهلي وبكيت طويلا ثم سافرت، ونزلت في محطة طنطا حائرا مرتبكا لا أدري ماذا أصنع، ولم أدر أن في الدنيا فنادق ينزل فيها الغرباء. وبعد طول التفكير اهتديت إلى أن آخذ عربة وأضع فيها متاعي وأقول للسائق «إلى مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بطنطا» - ووقفت العربة على باب المدرسة، فنزلت وتركت متاعي عند البواب ودخلت على الناظر وسلمت عليه وعرفته بنفسي، ثم طلبت أن يعطيني حجرة خالية في المدرسة لأنام فيها حتى أجد مسكنا فاستبلهني وفعل.
ويطفر ذهني الآن - عند روايتي هذا الحادث - إلى ابني يوم كان في مثل سني هذه فأراه يرحل مع طلبة الجامعة إلى أوروبا فيزور اليونان ورومانيا والنمسا وبولونيا. ويرى معالمها ويعرف الكثير من شئونها مع فرح واغتباط، فأعجب لسرعة تطور الجيل الجديد في الزمن القصير.
ثم بحثت عن مسكن في طنطا أسكنه فاهتديت أخيرا إلى غرفة في بيت في حي تبين لي بعد أنه لا يرضى عنه الكرام، وكنت إذا نزلت في الغرفة أخوض في نساء يجلسن أمام البيت في قحة وتبذل، وحرت كيف آكل وكيف أشرب وكيف أقضي وقتي.
وذهبت إلى المدرسة وتسلمت جدول دروسي من الناظر، ودخل وأنا عنده ولي أمر تلميذ يطلب إلحاق ابنه بالمدرسة، فطلب الناظر مني أن أكتب له طلبا، وناولني ورقة وقلما فتحيرت ماذا أكتب، فلا عهد لي بشيء من ذلك، وأخيرا توكلت على الله وبدأت أكتب فلأكتب أولا الديباجة، ولم أكن سمعت الفرق بين عزتلو ورفعتلو وسعادتلو، وكنت أظن أنها كلمات مترادفات، فاستخرت الله وقلت «سعادتلو أفندم»، ولا أدري ماذا كتبت بعد، وقدمتها إلى الناظر فنظر إلى كلمة «سعادتلو» ودهش؛ ثم نظر إلي وقال «سعادتلو، سعادتلو» وأنا لا أزال «أفندي» ولست بيك ولا باشا، فخجلت من نفسي وأحسست من وقتئذ أنه يحتقرني.
ساءت حالتي في بيتي، وساءت حالتي في مدرستي، وساءت حالتي في وحدتي، فطلبت النقل إلى القاهرة ولم يمض علي شهر، فجاء الرد بأن الجمعية ليس لديها مانع إذا رضي أحد مدرسي القاهرة بالبدل، فحضرت إلى القاهرة ودللت على مدرس بالجمعية بظن أنه يرضى أن يبادلني، فذهبت إليه في بيته وعرضت عليه أمري فأبى، فعرضت عليه أن أتنازل له كل شهر عن نصف مرتبي فابتسم وأبى، فاستقلت ورجعت إلى مكاني في الأزهر سالما، وكفاني فخرا أني ركبت القطار وشاهدت بلدة اسمها طنطا وعرفت الفرق بين عزتلو وسعادتلو. •••
لم أستسغ أبدا طريقة الأزهر في الحواشي والتقارير وكثرة الاعتراضات والإجابات، وإنما كانت فائدتي الكبرى من أزهر آخر أنشأه لي أبي في غرفة من غرف بيتنا، ففي مسامحات الأزهر - وما أكثرها - كان أبي هو المدرس الأزهري في هذه الغرفة وكنت الطالب الوحيد.
والحق أن أبي كان يمتاز على كثير من شيوخ الأزهر بأشياء كثيرة - كان واضح العبارة قادرا على الإفهام من أقصر الطرق. وكان يرى في الحواشي والتقارير مضيعة للوقت. ولعله استفاد ذلك من تدريسه ببعض المدارس الأميرية واتصاله بأساتذتها؛ فقد درس بعض الوقت في مدرسة بالقلعة تسمى «المدرسة الخطرية»، وانتدب للتدريس لبعض الوجهاء مثل قاسم باشا ناظر الجهادية، ودرس اللغة العربية لسفير أمريكا في مصر، وهكذا، مما أكسبه ذوقا في التعليم وقدرة على التفهيم، وله مزية أخرى وهي كثرة مطالعاته في كتب الأدب والتاريخ واللغة، واهتمامه بجمعها. ولم يكن ذلك معروفا عند كثير من الأزهريين.
فرتب لي دروسا في النحو، واختار لي من كتبه طبعات ليس عليها حواش حتى لا يتشتت ذهني فيها - قرأ لي شرح الأجرومية للشيخ خالد، ثم كتاب قطر الندى، وكتاب شذور الذهب لابن هشام، ثم شرح ابن عقيل على الألفية، وكلها كتب تمتاز بوضوح العبارة وسهولة الأسلوب. فكنت أتقبل دروسه في هذه الكتب في لذة وشغف ونهم. وإلى جانب ذلك قرأ لي كتاب فقه اللغة للثعالبي، وشرح لي بعض مقامات الحريري في الأدب، وليست دراسة اللغة والأدب مما يعنى به الأزهر، ولكن عني بها أبي. ثم حبب إلي القراءة في مكتبته، فكنت أقرأ في تاريخ ابن الأثير، ووفيات الأعيان وفاكهة الخلفاء، وكليلة ودمنة ونحو ذلك، وقرأ لي كتابا في المنطق وكتابا في التوحيد، فكان هذا كله في الحقيقة أساس ثقافتي، وترك لي دروس الفقه والجغرافيا والحساب أحضرها في الأزهر.
نجحت نجاحا كبيرا، وأحسست بالتفوق على زملائي في الأزهر، حتى طلب إلي بعضهم أن أقرأ لهم شرح ابن عقيل في مسجد المؤيد في بعض أوقات الفراغ ففعلت، وصادقت بعض الإخوان ممن لهم ذوق أدبي، فكنا نجتمع في أحد المساجد نحفظ مختارات من مقامات بديع الزمان ورسائله، وأمالي القالي، وأمثال الميداني، ودلنا أحدهم على كتاب ظهر للشيخ إبراهيم اليازجي اسمه «نجعة الرائد»، يذكر فيه أحسن ما قالته العرب في الموضوع الواحد، فأحسن ما قيل في الشجاعة والجبن، والكرم والبخل، والحلم والغضب إلخ. فاشتريناه وأخذنا أنفسنا بالحفظ منه. وظللت مع ذلك غير مرتاح لبقائي في الأزهر، ورأيت بعض زملائي يقدمون طلبا للدخول في مدرسة دار العلوم، فقدمت مثلهم، ورأيت الأمر سهلا علي؛ فهم يمتحنون في حفظ القرآن وأنا أحفظه، ويمتحنون في حفظ الألفية وفهمها وأنا أحفظها وأفهمها وحلمت إذ ذاك بمدرسة نظامية واضحة الحدود واضحة المعالم، مفهومة الغاية، يدخل فيها الطالب فيقضي أربع سنوات يتعلم فيها على خير الأساتذة، ثم يخرج مدرسا في المدارس الأميرية. ولكن قبل الامتحان لابد من الكشف الطبي وأنا قصير النظر، هذه هي العقدة..
ذهبت إلى أكبر طبيب إنجليزي فكشف على عيني، وكتب لي أضخم نظارة قانونية تناسب نظري، ومع ذلك تقدمت للامتحان فسقطت، وحز في نفسي أن أرى زملائي ينجحون ولا أنجح، ويدخلون المدرسة ولا أدخل، ثم عدت إلى الأزهر.
الفصل الحادي عشر
عاد الشيطان فوسوس إلى ثانية، فقد اطلعت في إحدى الجرائد على إعلان وزارة المعارف تطلب فيه مدرسين للغة العربية، يدرسون في مدارسها بأربعة جنيهات شهريا. فتقدمت للامتحان، وامتحنت تحريريا وشفويا ونجحت وكان نصيبي هذه المرة مدرسة تابعة لأوقاف أهلية وخاضعة لتفتيش وزارة المعارف، هي مدرسة راتب باشا بالإسكندرية، ولم يكن اسم الإسكندرية مرعبا كطنطا، فقد كبرت وصرت في الثامنة عشرة من عمري، وتعودت ركوب القطار بذهابي إلى طنطا، ومع ذلك لذعني السفر، وصرف أبي مجهودا جبارا في تعييني في مصر بدل الإسكندرية فلم يوفق فسافرت ورأيت البحر أول مرة فسحرني وصرت آنس به، وأجلس إليه وأتأمل في أمواجه. فأنسى لوعة غربتي، وحببت إلي القراءة في المكان الخالي على شاطئه. هناك قرأت بعض كتب الغزالي فشعرت بنزعة صوفية، وحفظت كثيرا من نهج البلاغة إعجابا بقوة أسلوبه، وقرأت كتاب أشهر مشاهير الإسلام لرفيق بك العظم فتحمست لأبطال الإسلام وأعجبت منه بتحليل شخصياتهم، وفلسفة الحوادث في أيامهم.
واستأجرت حجرة في بيت بالقرب من مسجد البوصيري أودعتها فراشي وملابسي وكتبي ودراهمي. فعدت يوما من المدرسة فوجدتها قاعا صفصفا، خالية كيوم استأجرتها. فاتفقت مع مدرس في مدرسة أخرى أن نستأجر شقة معا في غرفتين في بيت عليه بواب، وكان صاحبي هذا كهلا، نحيف الجسم أصفر الوجه، ملتحيا، متدينا في تزمت، يتوضأ فيطيل الوضوء؛ ويصلي فيطيل الصلاة : ويقضي أوقاتا طويلة في قراءة الأوراد وحضور الأذكار، يصطحب دائما كتاب «شذا العرف» في فن الصرف، يقرأ فيه في حجرته، ويتأبطه عند خروجه، وظل على هذه الحال السنتين اللتين أقمتها معه، لا هو يتم الكتاب ولا هو يتركه، مع أنه كتاب صغير يقرأ في يومين أو ثلاثة.
ولكن أعظم ما كسبته في الإسكندرية، تعرفي بشخصية قوية، كان لها أثر كبير في نفسي - كتب إليه قريب لي بوصية بي خيرا - كان أستاذا للغة العربية في مدرسة رأس التين الثانوية،
1
تخرج في دار العلوم، وكنت في الثامنة عشرة وكان في نحو الثانية والأربعين، وكان طويل القامة، معتدل الجسم، جميل الوجه، ذا لحية سوداء، نظيفا في ملبسه، أنيقا في شكله من غير تكلف، اتصلت به فأعجبني من أول نظرة، واتخذني أخا صغيرا واتخذته أخا كبيرا، وكان متدينا، بل كان صوفيا، يعتنق طريقة النقشبندية، وهي طريقة ليس لها شعائر، ولا تقاليد ظاهرة للناس. فالنقشبندي إذا ذكر الله، ذكره بقلبه لا بلسانه، وأول دروسها رسم اسم الله بنور على القلب، ورفع اللسان إلى الحلق حتى لا يتحرك، ولم أعرف تصوفه إلا بعد مدة طويلة من معاشرته، وكان - مع تصوفه هذا - واسع الأفق حر الفكر، لا يدين بشيء من الخرافات والأوهام، ويؤيد الشيخ محمد عبده في دعوته إلى الإصلاح، وكان في مدرسته محبوبا محترما، يجله زملاؤه ورؤساؤه وتلاميذه أبي النفس عزوفا عن الصغائر يعتمد في دروسه مع تلاميذه على الحب لا على الإرهاب، ويترك لهم الحرية في الحديث والنقد إلى درجة تشبه الفوضى، ولم يكن في درسه مدرس لغة عربية فحسب، بل مدرس تفكير ونقد للمجتمع، وما شئت من شئون الحياة، حتى كان تلاميذه يسمونه الشيخ الإنجليزي، لترفعه وحريته وصدق قوله وسعة فكره.
صحبته، فكان مكملا لنقصي، موسعا لنفسي، مفتحا لأفقي، كنت أجهل الدنيا حولي فعرفنيها، وكنت لا أعرف إلا الكتاب، فعلمني الدنيا التي ليست في كتاب. وكان أبي وشيوخي يعاملونني على أنني طفل، فعاملني على أني رجل؛ فملأ فراغي وآنس وحدتي - كنا نلتقي في كثير من الأيام بعد العصر أو يوم الجمعة أنتظره في محل قريب من بيتي، وكان هذا المحل أيضا غريبا، هو محل عم أحمد الشربتلي، يصنع شراب الليمون كأحسن ما يصنع، ويعتني بنظافته ما أمكن، فكان مضرب المثل في النظافة والإتقان، وحانوته صغير، لا يتسع لأكثر من خمسة عشر، فإذا كثروا جلسوا أمامه؛ وهو مع ذلك يدعي الأدب والشعر. ويتصيد من يجلس عنده من الأدباء ليسمعهم شعره وإذا حار في قافية انتظر من يتوسم فيه الشعر فيسأله إكمال القافية، ويقرأ في الجرائد كل يوم ما فيها من شعر. فإذا لم يفهم بيتا انتظر العصر حتى يأتي بعض زبائنه الأدباء فيسألهم ويناقشهم في معناه، وهو ذو ذوق حساس، إذا استثقل أحدا لم يمكنه من الجلوس في حانوته، وأقصى ما يستطيع أن يمكنه من شرب ليمونه، ولذلك كان محله مجمعا للظرفاء والأدباء، فإذا مر علي صديقي الأستاذ أخذني وذهبنا إلى مقهى فخم، إما في محطة الرمل، أو كازينو المكس، أو نحو ذلك من الأماكن الممتازة حيث الموسيقى أحيانا وجودة الهواء ومنظر البحر أحيانا. وقد يكون معنا رجل أو اثنان من بعض أصدقائه، والأستاذ - في الطريق أو المقهى، أو حيث كنا - يحدثنا حديثا طريفا ممتعا، ينقد المجتمع نقد خبير، ويتحدث في شئونه الزراعية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهو في كل ذلك كثير التجارب واسع الإطلاع طلق اللسان - إذا زرته في بيته حدثني عن شيوخه في دار العلوم، كالشيخ حسين المرصفي، والشيخ حسن الطويل، والشيخ حمزة فتح الله وأمثالهم، وأبان مزاياهم وعيوبهم في دقة؛ أو حدثني عن الكتب التي ظهرت حديثا وعن القيم منها، وما ليس له قيمة، أو قرأنا في كتاب كدلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة. وأحيانا كان يصحبنا صديق له لطيف، موظف في جمرك الإسكندرية، همه في الحياة النكت اللطيفة، والنوادر المستملحة، مع خفة في الروح نادرة، فإذا حضر لم ينقطع ضحكنا ولا إعجابنا، ولا أدري من أين كان يأتي كل يوم بالجديد من هذه الطرائف ويسميها طرائف اليوم، وهو يتعصب للإسكندرية ويفضلها على القاهرة، فإذا تحدث عن ذلك سمعت منه العجب في معايب القاهريين ومحاسن الإسكندريين، وكان هذا شيئا جديدا علي لم أر مثله، لعل له الفضل في تقديري للنكتة، وإعجابي بها.
وعلى الجملة فلئن كان أبي هو المعلم الأول فقد كان هذا الأستاذ هو المعلم الثاني، انتقلت بفضله نقلة جديدة وشعرت أني كنت خامدا فأيقظني، وأعمى فأبصرني، وعبدا للتقاليد فحررني، وضيق النفس فوسعني. وظلت صداقتنا سنين، ينتقل من الإسكندرية إلى القاهرة فتتجدد صداقتنا وتزيد، ويشاء القدر أن يجمعنا بعد مدرسين معا في مدرسة القضاء فتقوى الصداقة وتتأكد، وأستفيد على مر الأيام من علمه وتجاربه وحسن حديثه، وتجيء الحركة الوطنية فأتحمس لها تحمس الشباب، وينظر إليها نظر الشيوخ وأقومها بشعوري؛ ويقومها بعقله، فينقد زعماء الحركة الوطنية وأكره النقد، ويعيبهم وأكره العيب، وتدفعني الحماسة الوطنية إلى نقد أستاذ آخر لي نقدا فيه شيء من العنف فيلسع ذلك صديقي الأستاذ ويغضب له، ويكره من تلميذ أن يزل لسانه بمثل ما زل لساني في أستاذي، فيخاصمني ويقاطعني، وأسترضيه فلا يرضى، ثم أمعن في الاسترضاء، فيبدأ في الرضاء، ولكن يسرع إليه القضاء، فيموت وفي عيني دمعة، وفي قلبي حسرة. رحمه الله.
نعود إلى الإسكندرية، فقد درست في مدرسة راتب باشا اللغة العربية للسنة الرابعة الابتدائية، وكان هذا فخرا كبيرا إذ من يدرس للسنة الرابعة ينظر إليه على أنه أرقى مدرس للمادة، وأحسست كفايتي في تدريس القواعد، حتى كان من غروري أني أخطئ الكتب المدرسية التي قررتها وزارة المعارف، أما في دروس الإنشاء فلم أكن بارعا، بل كان بعض التلاميذ يكتبون خيرا مما أكتب، لأني لم أتمرن على الكتابة، وكنت إذا كتبت شيئا ملت إلى السجع وإن لم ألتزمه لغلبة ما حفظته من مقامات بديع الزمان ورسائله.
ورأيت من المدرسين بالمدرسة وناظرها ما لا عهد لي به، فكأنهم كانوا يمثلون رواية غربية الأطوار، مفككة الفصول، منهم من يمثل دور الماكر ذي الناب الأزرق الذي يقابلك فيبتسم لك، ويوهمك أنه صديقك، وهو يدس لك الدسائس عند ناظر المدرسة، ومنهم من يمثل الخبيث المنطوي على نفسه، الحاقد على الدنيا وعلى كل شيء فيها، ويقابل ما يحدث حوله دائما بضحكة ساخرة، ومنهم السكير المعربد الذي يستولي على مال المدرسة فيصرفه في سكره وعربدته، ثم يضبط ويطرد، ومنهم فراش المدرسة العبد الأسود الذي تحمر عيناه وتقذفان بالشرر من كثرة ما يتعاطى من «البوظة» وكنت أمثل من هذه الأدوار دور المغفل الساذج الذي لم يعرف الدنيا ولم يختبر الناس.
أما علاقتي مع التلاميذ فكانت علاقة صداقة، أحبهم ويحبونني، وزاد من صداقتنا أننا متقاربو السن، فلم يكن تلاميذ السنة الرابعة صغارا كما هم اليوم إنما كان أكثر الفصل الذي أدرس له بين الخامسة عشرة والعشرين، فكنت أتحدث إليهم في الشئون العامة مما لا يتصل بقواعد النحو والصرف، وأقص عليهم قصصا أدبية، وأتحدث إليهم في بعض ما تحدث به إلي صديقي الأستاذ، وأشعر بحنين إليهم إذا غبت عنهم في إجازة أو مرض. ويحنون إلي كذلك، وكانت عاطفتي الدينية مشبوبة قوية بفضل نشأتي في بيتي، ثم استمرت بصحبتي من عرفتهم في الإسكندرية، فكنت أؤدي الصلوات لأوقاتها، فإذا كنت في مقهى انتقلت من بين من أجالسهم إلى أقرب مسجد، فإن كنت في حي إفرنجي بعيد عن المساجد، تلمست عمارة كبيرة فيها بواب نوبي أو سوداني، وطلبت منه أن يحضر لي حصيرة صلاته لأصلي عليها بالقرب من الباب، فإذا لم أجد استنظفت أي مكان مستتر وخلعت جبتي وفرشتها وصليت عليها، ثم نفضتها ولبستها، ويوم الجمعة أتنقل في المساجد لصلاة الجمعة، فيوما بالبوصيري ويوما بمسجد أبي العباس، ويوما بمسجد سيدي بشر، وهكذا - وفي حجرتي أقرأ كل يوم ما تيسر من القرآن.
أما عاطفتي الوطنية فلم تكن قوية إلى ذلك العهد، لأني ولدت عقب الاحتلال بنحو أربع سنين، وقد استولى على المصريين إذ ذاك نوع من الخوف واليأس، وأحاط الإنجليز مظاهرهم بالعظمة والقوة، وكان حينا في المنشية مرادا للجنود والضباط الإنجليز الذين يسكنون القلعة بجوارنا؛ وكنت كثيرا ما أراهم بالجاكتة الحمراء والسراويل الزرقاء فأرعب منهم وأعدل عن طريقهم. وقلما كان يتحدث أبي في السياسة وشئونها، فإذا تحدث ففلسفته فيها كفلسفة كثير من الشعب، أن هذا قضاء الله وانتقام من عبيده. فبظلم المصريين بعضهم بعضا، وظلم حكامهم لهم وبعصيان الله في أوامره ونواهيه، سلط الله عليهم الإنجليز يسومونهم سوء العذاب، ولا يمكن أن ترفع عنا هذه الغاشية حتى يستقيم المصريون ويعدلوا ويلتزموا أوامر الدين. أما نقد الحكام في تصرفهم، أو نقد الإنجليز في حكمهم، فمسكوت عنه لهذه الفلسفة. وأذكر أني مرة سألته - وقد كبرت قليلا - عند سماعي لهذه الفلسفة: هل هؤلاء الإنجليز مطيعون الله حتى ينصرهم علينا ويمكن لهم في بلادنا؟ فزجرني ولم يجب. فلما اتصلت في الإسكندرية بصديقي الأستاذ الذي أثر في كثيرا، وكانت له في السياسة فلسفة أخرى، كفلسفة الشيخ محمد عبده، إذ كان من أنصاره لا من أنصار «مصطفى كامل»، وفلسفته هي وجوب الإصلاح الداخلي أولا، بنشر التعليم الصالح، وترقية أخلاق الشعب، ثم الاستقلال يأتي بعد ذلك تبعا عكس سياسة مصطفى كامل التي ترى أن ليس في الإمكان الإصلاح الداخلي للشعب ما لم يسبقه جلاء الإنجليز واستقلال المصريين. ولذلك كانت وطنية الشيخ محمد عبده عقلية، ووطنية مصطفى كامل وطنية شعورية، وقد تأثرت بكلام صديقي الأستاذ، وانحزت إلى رأيه.
وكنت في صباي لا أقرأ الجرائد، فهي لا تدخل بيتنا ولست أجلس في مقهى أقرؤها فيه، إلى أن كانت حادثة زواج الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد بالست صفية بنت الشيخ السادات، وهي حادثة تحدث كل يوم ولا تحرك ساكنا، ولكن هذه الحادثة بنوع خاص أقامت مصر وأقعدتها، من الخديو إلى البائع الجوال، فرجل كهل تزوج بنتا بلغت سن الرشد برضاها دون رضاء أبيها، واعترض أبوها على هذا الزواج، فماذا عسى أن يكون لهذا الحادث من أهمية؟ ولكن لعبت الخصومات السياسية في هذا الموضوع، وإثارة شعور العامة عن طريق المحافظة على الدين، وفراغ عقول الناس، جعل هذه المسألة مسألة الرأي العام، فقد رفعت قضية بطلب فسخ عقد الزواج لعدم كفاءة الزوج للزوجة، إذ هي شريفة من نسل النبي، وهو ليس بشريف، واشترك في هذه المعمعة القضاء والسياسة والأدب، فجلسات المحاكم وما دار فيها من مرافعات تطلع على الناس في الجرائد، والشعراء يصنعون المقطوعات الطريفة في هذا الموضوع تنشرها الجرائد، والجرائد الهزلية تنشر«النكت» اللاذعة. وهكذا اهتاجت عواطف الناس، وترقبوا الجرائد وتلقفوها تطلع عليهم كل يوم بجديد.
ومن ذلك الحين اتصلت بالجرائد أقرؤها، فلما عينت في الإسكندرية كنت أذهب إلى مقهى «عم أحمد الشربتلي» أقرأ فيه اللواء والمؤيد والمقطم، فأرى جريدة اللواء تلهب الشعور الوطني ولا تجاوبها نفسي تبعا لشيخي، والمقطم تقاوم الحركة الوطنية ولم يجاوبها كذلك نفسي، وربما كان المؤيد أحب إلي لصبغته الإسلامية.
ولكن حدث حادث دنشواي.
2
ولست أنسى ليلة - وأنا في الإسكندرية - أقام فيها أحد أصحابنا وليمة عشاء على سطح منزله (وكان ذلك في يوم 27 يونيو سنة 1906) فجاءت الجرائد وفيها الحكم على أربعة من أهالي دنشواي بالإعدام، وعلى اثنين بالأشغال الشاقة المؤبدة، وعلى واحد بالسجن خمس عشرة سنة، وعلى ستة بالسجن سبع سنين، وعلى خمسة أن يجلد كل منهم خمسين جلدة، فتنغص عيشنا وانقلبت الوليمة مأتما، وبكى أكثرنا، ومن ذلك اليوم أصبحت عواطفي مع اللواء لا مع المؤيد ولا مع المقطم.
الفصل الثاني عشر
بعد سنتين في الإسكندرية، سعى أبي فعينت مدرسا، بمدرسة والدة عباس باشا الأول في أكتوبر سنة 1906 وهي المدرسة التي تعلمت فيها صغيرا، والتي كنت أحن إليها دائما أيامي في الأزهر، وقد تغيبت عنها قريبا من ست سنوات، ففرحت بها فرح الغائب عاد إلى وطنه، بل ورأيت فيها بعض من كانوا من تلامذة معي أيام كنت تلميذا، وبعض أساتذتي الذين علموني، ورأيتها قد اتسعت أبنيتها، وكثرت تلامذتها وأساتذتها، وأعطيت السنة الأولى والثانية لأن أساتذتي وأمثالهم كانوا يحتلون السنة الرابعة، وسرعان ما تجلت قوتي في القواعد دون الإنشاء، ولا أدري السبب في اكتشاف هذا السر، ولكن حدث في آخر العام أن نتيجة المدرسة في الشهادة الابتدائية كانت نتيجة باهرة، فرح بها الناظر فرحا شديدا، وبحث عن أستاذ في اللغة العربية يكتب خطابا إلى إدارة الوقف يخبرها فيها بهذه النتيجة، ويباهي بها غيرها من المدارس، فلم يجد أحدا إلا إياي، فدعاني الناظر وطلب مني أن أكتب هذا الخطاب، ومن حسن حظي أني كنت أحفظ مقدمة دلائل الإعجاز، يباهي فيها بعلم البلاغة وأنه فوق العلوم كلها، فسرقت الأسلوب، وباهيت بالمدرسة وفضلها على سائر المدارس على نمطه، وحججه، فسر منه الناظر كثيرا، ورد إلي اعتباري في الإنشاء أيضا.
في هذا العام أثناء الدراسة مرضت بحمي التيفود مرضا شديدا، حتى أشرفت على الهلاك، ولم يكن هناك عناية بالمرضى، كما يعنى اليوم، ولا يرضى الأهالي عن إرسال المريض إلى مستشفى الحميات كما يرسل اليوم، ولا عزل له عن سائر من في البيت حتى لا تنتشر العدوى، ولا استدعاء طبيب مختص يشرف إشرافا دائما على العلاج - لا شيء من ذلك - ولكن فرشت لي حشية على الحصير، في وسط الغرفة كما كنت أنام، وترك أمري لله، فلم يدع أهلي طبيبا، وكل ما في الأمر أن نفسي عافت الأكل فتركته. ومن حين لأخر تأتي عجائز الحارة فتصف لأمي وصفات بلدية للشفاء من المرض، فأقبلها حينا، وأرفضها أحيانا، ويزورني أبي قبل خروجه إلى عمله، فيجلس على رأسي ويضع يده على جبهتي، ويقرأ الفاتحة، وآية الكرسي، والمعوذتين، ويختم ذلك بقوله: «حصنتك بالحي القيوم الذي لا يموت أبدا، ودفعت عنك السوء بألف ألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». ثم ينفث في وجهي، وإذا عاد من عمله في المساء كرر هذا الدعاء. ونجوت منها بأعجوبة، بعد أن كان الموت أقرب إلي من حبل الوريد، ومكثت بعد ذلك مدة طويلة في دور النقاهة.
لم أمكث في هذه المدرسة إلا سنة، وفي سنة 1907 تقرر فتح مدرسة القضاء الشرعي، وكان الغرض منها تخريج قضاة شرعيين مكان الذين عمت منهم الشكوى. وكان قد عهد إلى الشيخ محمد عبده بالتفتيش على المحاكم الشرعية وفحص عيوبها، فقام بذلك خير قيام، وكتب تقريرا عظيما، يبين فيه هذه العيوب، ويقترح وجوه الإصلاح، وعلى أثر ذلك فكرت نظارة الحقانية في إنشاء مدرسة، واحتضن فكرتها سعد باشا زغلول، إذ كان ناظرا للمعارف، وأمينا على أفكار الشيخ محمد عبده. وكان الخديو عباس كارها لهذا المشروع أشد الكره، معارضا فيه أشد المعارضة: لأنه يسلب الأزهر أعز شيء لديه، وهو الإعداد للقضاء الشرعي، وقد سلب من قبل إعداد مدرسي اللغة العربية بإنشاء دار العلوم - والأزهر وديوان الأوقاف هما المصلحتان اللتان أطلقت فيهما يد الخديوي، ولم تمسسهما يد الإنجليز، فقوتهما قوة له، وضعفهما ضعف له. ولأن فكرة مدرسة القضاء نبعت في فكر الشيخ محمد عبده، واحتضنها صديقه سعد زغلول، وهو يكرههما في أعماق قلبه، من أجل ذلك حارب المشروع. ولكن دعي مجلس النظارة للاجتماع يوم 25 فبراير 1907 ورأسه الخديو، فعارض الخديو في المجلس وأبدى اعتراضاته على المشروع، واقترح إرجاء النظر فيه فعارض سعد باشا، ودافع عن الفكرة، وتحمس لها تحمس المحامي القدير الذي يؤمن بعدل قضيته، ثم أخذ الرأي، فانضم جميع النظار إلى سعد باشا، ما عدا ناظر الأشغال، فلم يسع الخديو إلا أن يوافق على رأيهم ويمضي القانون.. ولم نعرف سابقة لمثل هذا الحادث يخالف فيها أكثر النظار الخديو، فينزل عن رأيه لرأيهم، ولذلك صمم - بعد - ألا يحضر جلسات مجلس النظار، حتى تكون له الحرية في قبول ما يقبل، ورفض ما يرفض. ومن أجل هذا ظل الخديو يحارب مدرسة القضاء ما استطاع.
على كل حال أعلن عن الدخول في مدرسة القضاء وشرط القبول ومواعيد الامتحان، فتقدمت، وكانت خشيتي من الكشف الطبي أكبر من خشيتي من الامتحان، فأخوف ما أخافه أن تتكرر المأساة التي حدثت عندما تقدمت لدار العلوم، وكان من فرط خشيتي أني احتلت حتى حصلت على اللوحة التي سيستخدمها الطبيب في الكشف عن النظر. فحفظت حفظا جيدا العلامات فيما عدا السطرين الأولين لأني أراهما، فعرفت ابتداء من السطر الثالث أن العلامة الأولى مفتوحة من اليمين، والثانية من اليسار، والثالثة من فوق، والرابعة من تحت وهكذا، ولكن خاب ظني وكانت ساعة حرجة جدا انعقد عليها كل أملي، فقد رأيت السطرين الأولين، فلما جاء ما بعدهما أشار الطبيب إلى علامة في السطر الرابع فسألته، أهي الأولى أم الثانية، فقال هي الموضوع عليها العصا، ولم أر طرف العصا إن كان موضوعا على العلامة الثالثة أو الرابعة، فسقطت في الامتحان، ويئست من المدرسة، واعتقدت أني سأظل في عملي المتواضع أو مثله ما بقيت الحياة، ولكن حدث ما ليس في الحسبان فقد رأى عاطف بك بركات ناظر المدرسة كثرة الساقطين في النظر، فأرجأ البت فيمن يقبل ومن لا يقبل إلى ما بعد الامتحان، وتقدم لهذا الامتحان أكثر من مئتين. منهم من قضى سنين طويلة في الأزهر، وامتحنا في اللغة العربية نحوا وصرفا. وفي الفقه، وفي البلاغة، وفي الحساب والهندسة، وفي الجغرافيا والتاريخ، فكان امتحانا عسيرا رسب فيه كل المتقدمين إلا خمسة، وكنت الثالث فشفع ذلك لي عند ناظر المدرسة في قصر نظري، وقبلنا نحن الخمسة وضم إلينا تسعة من أحسن الراسبين، وبعض هؤلاء التسعة - اختيروا - لأنهم من أبناء كبار العلماء في الأزهر. استرضاء للأزهر وأهله. ففرحت فرحا لا يقدر، إذ رسم مستقبلي، ووضحت معالمه، وكفيت شر التسكع في المدارس الأهلية وأمثالها. كما فرحت مرة ثانية لأني سأدرس علوما منظمة في مدرسة منظمة. أسأل فيها عما أفعل، وأحاسب على الجد والكسل، لا كما كان الشأن في الأزهر.
وكانت الفكرة في مدرسة القضاء أن يثقف فيها الطالب ثقافة دينية، من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه وتوحيد ونحو ذلك، وثقافة لغوية أدبية من نحو وصرف وأدب، وثقافة قانونية عصرية. من مثل أصول القوانين الحديثة ونظام القضاء والإدارة ونحو ذلك. وثقافة كما يسمونها عصرية، من مثل الجغرافيا والتاريخ والطبيعة والكيمياء والحساب والجبر والهندسة فكان برنامجها مزيجا من كل ذلك. ومن أظرف ما حدث في برنامجها أن خاف واضعو قانونها من أن يسموا الطبيعة باسمها، فيغضب الأزهريون، لأن لديهم بيتا مشهورا يتناقلونه ويتداولونه وهو:
ومن يقل بالطبع أو بالعلة
فذاك كفر عند أهل الملة
فاحتالوا على ذلك ووضعوا الطبيعة والكيمياء في البرنامج تحت اسم «الخواص التي أودعها الله تعالى في الأجسام» وكانت المدرسة في حضانة سعد باشا زغلول، ويوليها عنايته وهو ناظر المعارف، ويضع يده على كل رجال التعليم في نواحيهم المختلفة، فاختار لها ناظرا من أكفأ الناس وأقربهم إليه وهو عاطف بك بركات، واختار هو والناظر خيرة المدرسين من كل نوع من أنواع التعليم كما استعان بخيرة علماء الأزهر، ليدرسوا العلوم الدينية، فكنت ترى مزيجا عجيبا من الأساتذة، هذا شيخ أزهري تربى تربية أزهرية بحتة ودنياه كلها هي الأزهر وما حوله، بجانبه أستاذ للتاريخ على آخر طراز تخرج في جامعات إنجلترا وأستاذ للطبيعة تخرج في أشهر جامعات فرنسا، وعلى رأسهم ناظر تعلم في الأزهر وفي دار العلوم وفي إنجلترا، وكل من هؤلاء يلون الطلبة بلونه، ويصبغهم بصبغته، ويعلمهم على منهجه، فكنت إذا أصغيت إلى درس من الدروس فكأنما تصغي إلى درس يلقيه مدرس من القرون الوسطى فيما يقال وكيف يقال، ثم يليه درس تسمعه فكأنك تسمع درسا في أجنبية لا يفرق بينهما إلا أنه يلقى بالعربية، ثم تنتقل من ذلك إلى درس له شبه من هذا وشبه من ذاك، فموضوعه من موضوعات القرون الوسطى ومنهجه منهج حديث، وكذلك المدرسون، عقلية قديمة لم تسمع عن شيء اسمه الجغرافيا ولا تعرف أن الدنيا قارات خمس. أراد بعضهم أن يتطرف ويبين أنه رجل عصري فقال: إن الدنيا تنقسم إلى ثلاثة أقسام آسيا وأفريقية وقارة. يقدسون ما ورد في الكتب حتى الخرافات والأوهام، ومن أقوى حججهم على صحة الرأي أنه ورد في كتاب من الكتب القديمة. وعقلية حديثة على آخر طراز، وجالس أصحابها أرقى الأساتذة الأجانب واستفادوا منهم، وعاشوا في المدينة الغربية. عرفوا آخر نوع من طرازها، وليس عندهم فكرة مقدسة إلا ما قام البرهان على صحتها، ودلت التجارب على ثبوتها، وبين هذين الطرفين أنواع من الأساتذة يأخذون بحظ منهما قل أو كثر. وفي هذه البوتقة المكونة من هذه العناصر كلها وضعت الطلبة ليأخذ كل منهم حظه حسب فطرته واستعداده - وأحيط كل هذا بإطار خلقي يشرف على تنفيذه ناظرها: يلتزم النظام الدقيق ولا يسمح بالخروج عنه قيد أنملة، إن دق جرس الصباح أغلق باب المدرسة ولا يدخلها طالب، وتحرك الأساتذة فورا إلى دروسهم. ويذهب الطلبة أول العام الدراسي فيجلس كل في مكانه ويفتح درجه فإذا فيه كتبه وأدواته جميعها لا ينقصها شيء، وعدل في معاملة الطلبة والأساتذة لا ينحرف. فمن نجح من الطلبة فبالعدل، ومن رسب فبالعدل، وإن رقي أستاذ فبالعدل، لا يقبل في ذلك رجاء ولا شفاعة؛ وكل طالب معروف لأساتذته وناظره. ولكل طالب صفحة في سجل كبير أمام الناظر، قيد فيها اسم الطالب والأخطاء التي ارتكبها والعقوبات التي وقعت عليه والمكافآت التي نالها، فمن أخطأ خطأ جديدا ذهب إلى الناظر ففتح صفحته وعرف مكانته؛ ونظافة المدرسة بالغة أقصاها - حديقة جميلة رسمت رسما بديعا، وملئت بالأزهار الجميلة، وحركة مستمرة من الخدمة في تنظيف مستمر - في هذا الجو كله وضع الطلبة، واشتهرت المدرسة في مصر يزورها كبراؤها وفي العالم الشرقي يؤمها عظماء الوافدين المعنيين بشئون التعليم والراغبين في الإصلاح.
الفصل الثالث عشر
بدأت الدراسة في القسم العالي من هذه المدرسة، ومدتها أربع سنوات، وكان فصلنا أربعة عشر طالبا، كثير منهم يناهز الثلاثين وله لحية طويلة، ومنهم من هو متزوج وله أولاد. وكان الطلبة كالأساتذة، منهم الأزهري القح الذي لا يعرف عن الدنيا شيئا، ومنهم ابن البلد المتمدن الذي عرك الدنيا وعركته. ومنهم من هو بين ذلك، وبدأنا الدراسة واستمررنا فيها أربع سنين طوال - يدرس لنا التفسير والحديث والتوحيد رجال من خيرة الأزهريين، على الطريقة الأزهرية وفي كتبها الصفراء التي تضم متنا وشرحا وحاشية - يقرئون المتن ثم يتبعونه بالشرح، ثم يفيضون فيما يرد من اعتراضات، وما يجاب عليها من إجابات، وتنتهي السنة فلا نكاد نكون قد قرأنا فيها إلا القليل، ونحمد الله على ذلك لأن الامتحان سيكون في هذا القليل الذي قرئ، وهم يذكروننا دائما بالأزهر ومنهجه والقرون الوسطى ومناهجها، ويملئون رءوسنا بالاحتمالات والتأويلات ويبثون في نفوسنا من طرف خفي تقديس المؤلفين والمؤلفات، فقل أن يخطئ المؤلف، وإذا أخطأ فهناك ألف وجه لتأويل كلامه بما يحتمل الصواب، ولكن كان لهذه الطريقة - والحق يقال - محمدة كبيرة، هي تعويدنا الدقة في التعبير والإيجاز في القول.والتزام المنطق فيما يقال.
1
وبجانب هؤلاء دروس يلقيها أساتذة من خير ما أخرجته دار العلوم كالشيخ الخضري والشيخ المهدي،
2
وهم فئة تعودوا النظام والقدرة على الإيضاح من دار العلوم، ولم يلتزموا عبارات الكتب وإن التزموا موضوعاتها، واتصلوا بالشيخ محمد عبده، وكانوا من خاصة تلاميذه، يعتنقون مبادئه ويستنيرون بآرائه وتوجيهاته، فلم يكونوا يلتزمون الكتب، وإنما يضعون مذكرات من أنفسهم يعتمدون فيها على الكتب القديمة، ولكنهم يعرضونها عرضا جديدا. قليلا ما يأتون بالشيء من أنفسهم، ولهم علم بالدنيا أكثر من علم الأزهريين، وتجارب في الحياة استمدوها من أعمالهم ومناصبهم، كانوا يلقونها إلينا مع دروسهم؛ درس لنا أصول الفقه الشيخ محمد الخضري، وكان لبقا لسنا ذكيا واسع الإطلاع حاضر البديهة، يجيد اللغة الغربية وفروعها والتاريخ الإسلامي كما ورد في المؤلفات القديمة، والعلوم الإسلامية كما تلقاها من شيوخه، وله قدرة على استساغة ذلك كله وإخراجه في عبارة عصرية جديدة أقرب إلى الفهم. ودرس لنا الشيخ محمد مهدي أدب اللغة العربية، وكان هذا الأدب حديث العهد في مصر، فالناس لم يكونوا يعرفون الأدب إلا على النحو الذي جاء في مثل كتاب الأغاني والعقد الفريد والأمالي ونحو ذلك. أما تأريخ الأدب إلى عصور وترجمة شعراء كل عصر وناثريه وميزة أدب كل عصر وخصائصه فشيء لم يكن معروفا في مصر، حتى أتى الأستاذ حسن توفيق العدل، وقد تعلم في ألمانيا، فأدخل هذا العلم على هذا النمط في مدرسة دار العلوم إذ كان أستاذا فيها، مسترشدا بما كتبه الألمان في تدريس أدبهم. وجاء تلميذه الأستاذ محمد المهدي فبنى عليه وأعد لنا مذكرات واسعة فيه، وكانت ميزته الكبرى تذوقه الأدب وتقويمه جيده من رديئه وحسن إلقائه للشعر وجمال نغماته، وكان كثيرا ما يخرج من الدرس إلى تعاليم الشيخ محمد عبده، من الدعوة إلى عدم زيارة القبور وإنكار الشفاعة بالأنبياء والأولياء ونحو ذلك.
3
وكان من طائفة دار العلوم أيضا الشيخ محمد زيد، رجل وقور جليل المنظر مهيب الطلعة يحتفظ بكرامته ويعتز بشخصيته، درس لنا الفقه. وكان قد مرن عليه التدريس بمدرسة الحقوق، فنقل الفقه من كتبه الأزهرية التي تعتمد على الجزئيات إلى وضع قواعد كلية تطبق عليها الجزئيات، وكان سلس العبارة ميالا إلى الإطناب.
وجمهرة ثالثة من المدنيين - إن صح هذا التعبير - منهم طائفة من كبار القضاء الأهلي،
4
يعلموننا مقدمة القوانين، أو كما يسمونها اليوم المدخل إلى القانون، ونظام المحاكم واختصاصاتها إلى غير ذلك، فيقربون أذهاننا إلى القضاء الأهلي، ويقربون الفقه الإسلامي إلى القانون الوضعي، وأصول الفقه، إلى أصول القوانين.
وهذا أحمد فهمي العمروسي بك، وهو الذي تعلم في مصر وتعلم في سانكلو بفرنسا يدرس لنا الطبيعة، فيشرح لنا النظرية ويطبقها في المعمل ويجعلنا نجرب التجارب، ولا يضع في يدنا كتابا، بل يكلفنا أن نكتب ما فهمنا وأن نرسم الأدوات التي استخدمناها، وهي طريقة كانت شاقة علينا، ولكنها كانت مفيدة لنا - ويخرج من الدرس كثيرا إلى نقد طريقتنا في التعليم وطريقتنا في الحياة ويقارن في ذلك كله بين مصر وفرنسا. ويرى أن الكلام في هذه الأمور أكثر فائدة من الكلام في الطبيعة والكيمياء، فالكلام فيهما كالخبز الجاف لابد أن يجعل سائغا بالزبد والمربى.
وهذا علي بك فوزي الذي درس في مدرسة المعلمين وتخرج في معاهد إنجلترا، يدرس لنا التاريخ - تاريخ اليونان والرومان أحيانا، وتاريخ أوروبا الحديث أحيانا، والتاريخ الإسلامي أحيانا، وهو رجل غريب بديع ظريف المظهر قصير القامة يخفي قصر قامته بطول طربوشه وعلو جزمته. يجيد الإنجليزية والفرنسية والفارسية والتركية. ويلتزم الكلام باللغة العربية الفصحى فلا يلحن، ويدخل علينا متأبطا كتبا في جانبيه لعلها تزن أكثر منه، ولا يدع الفراش يحملها له، ويفتح هذا الكتاب بالفرنسية ويملي علينا باللغة العربية بأسلوب جميل فصيح، ويخرج أحيانا عن الدرس إلى آرائه في الحياة وفلسفته في المقارنة بين المدنية الشرقية والمدنية الغربية.
وهذا محمد بك زكي يدرس لنا الحساب والجبر والهندسة وينقلنا في ذلك خطوات سريعة، حتى نصل إلى اللوغاريتمات والهندسة الفراغية والتوافيق والتبادل.
وهذا عاطف بك بركات يدخل علينا يوما فيجد الشيخ حسن منصور يدرس لنا الأخلاق في كتاب أدب الدنيا والدين، فلا يعجبه ذلك، ويتولى تدريس هذه المادة بنفسه من الكتب الإنجليزية، فيدرس لنا أحيانا كتاب ماكنزي في علم الأخلاق، وأحيانا كتاب مذهب المنفعة لجون ستيورات مل.
وهكذا وهكذا من مزيج لم يكن له نظير في أي مدرسة أخرى.
ونظام المدرسة شاق عنيف، فليس هناك ملاحق، وليس هناك إعادة سنة فمن رسب في أول امتحان آخر السنة رفد، وفي كل ثلاثة أشهر امتحان، ومن رسب في هذا الامتحان الثلاثي حرم من مكافآته، وهي جنيه ونصف كل شهر، وما تجمع من هذه المكافآت التي حرم منها بعض الطلبة تمنح مكافآت للمتفوقين: قسم منها لمن حاز أكبر درجة في كل علم أساسي، وقسم يمنح مكافآت على كتب تقرأ أثناء الإجازة، مثل مقصورة ابن دريد وشرحها ومختصر صبح الأعشى وكتاب «إميل» القرن التاسع عشر ونحو ذلك. وقد ينال الطالب النابغ ما يقرب من ثلاثين جنيها من هذه المكافآت، وقد أخذت من هذه المكافآت كل سنة ما يقرب من 25 جنيها كنت أتبحبح فيها في حياتي. فمرة أخذتها على كتاب إميل القرن التاسع عشر، ومرة أخذتها على حفظ مقصورة ابن دريد وشرحها. ومرة على كتاب مختصر صبح الأعشى. هذا عدا مكافآت كانت تعطى لمن يأخذ أحسن درجة في أي علم من العلوم الرئيسة. وكل يوم ثلاثاء عصرا تصف الكراسي في فناء المدرسة ويدعى أستاذ من الخارج أو من المدرسة أو طالب من المتقدمين لإلقاء محاضرة في موضوع أعده، وأحيانا يشترك في سماع هذه المحاضرات سعد زغلول أو قاسم أمين أو غيرهم من الكبراء، فيلقي علينا مثلا «رفيق بك» محاضرة في «قضاء الفرد وقضاء الجماعة»، ويلقي علينا الشيخ الخضري محاضرة في «أبي مسلم الخراساني» مرة وفي الغزالي مرة وفي «زياد ابن أبيه» مرة. ويلقي علينا العمروسي بك محاضرة في «هربرت سبنسر» مرة وفي «بستالوتزي» مرة وهكذا.
ويتحين عاطف بك بركات فرصة الفسحة أو فرصة وجود بعض الطلبة في المكتبة فيقف ويلتف حوله ما شاء من الطلبة، فيخلق موضوعا يحاورهم فيه ويحاورونه؛ ويتشعب الموضوع، ويطول الجدل حتى يدق الجرس، فيكون من ذلك درس على طريقة سقراط، وكان رحمه الله طويل النفس في الجدل قوي الحجة، لا يكل في ذلك ولا يمل، وهي شيمة عرفت في أسرة سعد باشا زغلول كلها، مثل سعد زغلول، وفتحي زغلول، وعبد الرحمن زغلول، وعاطف بركات، يلذهم الجدل حتى في الموضوع الذي لا يحتمل الجدل، ويشققونه ويفرعونه ويعمقونه، فيكون من ذلك متعة عقلية تلذ المؤيد والمعارض.
قضيت زماني في هذه المدرسة جدا لا هزل فيه وتعبا لا راحة معه، وكانت المدرسة قاسية عنيفة لا ترفيه فيها؛ فدرس في النهار وتحضير في الليل، حتى أوقات الألعاب الرياضية كنا نؤديها في عنف كأنها أشغال شاقة. فلو طبقت هذه النظم على مدرسة عسكرية لاستجارت منها، ولو طبقت على مدرسة اليوم لقابلها الطلبة كل ساعة بإضراب جديد. وقد صبرت على هذا الدرس فلم أسترح نهارا ولا ليلا، ولا جمعة ولا عيدا، حتى ولا في الإجازة الصيفية، إذ كنت أعكف على الكتب التي قررت للمسابقات فأختار منها وأدرس ما أختار لأمتحن فيه أول العام، وزاد من تعبي ما أصبت به من الغيرة، وكنا اثنين في الفصل كفرسي رهان نتسابق في غير كلل، وكان
5
خيرا مني في العلوم الأزهرية وأنا خير منه في العلوم العصرية، فسبقني في السنتين الأوليين وسبقته في السنتين الأخريين، وكان إذا سبقني حزنت حزنا عميقا، وإذا خلوت إلى نفسي فر الدمع من عيني، فما لقيته من هذا الزميل في السباق كان أشد على نفسي مما لقيته من المدرسة وما فيها من عناء.
لا أذكر أني رفهت عن نفسي إلا أياما كنت أخرج إلى كوبري قصر النيل حتى إذا توسطته وقفت زمنا أستنشق هواءه وأستمتع بمنظره، ثم أسير إلى آخره فأميل ذات اليمين وأمشي بين الأشجار والنخيل والنهر حتى أصل إلى مسجد هناك أصلي فيه المغرب أو العشاء ثم أعود من حيث أتيت.
وأحيانا في ليلة الجمعة كنت أغشى منزل صديقي الشيخ مصطفى عبد الرازق، وكان منزلا يحتفظ بالتقاليد القديمة لبيوت الأسر الكبيرة، يكثر زوارها وتمد موائدها غداء وعشاء، ويطيب فيها السمر، ويطول فيها السهر، فكان أصدقاء الشيخ من الشبان ينفردون بحجرة في البيت يتلاقى فيها شبان الأزهر بشبان الحقوق ببعض الشبان الذين يتعلمون في أوروبا، فتثار المسائل على اختلاف ألوانها دينية وفلسفية وسياسية واجتماعية حيثما اتفق، نتبادل فيه الآراء والأفكار؛ وترى إذ ذاك آراء المحافظين تناطح آراء الأحرار المتمدنين، ومؤيدي السفور ينازعون مؤيدي الحجاب، والوطنيين يثورون على الرجعيين، وهكذا من سمر لذيذ يمتد إلى منتصف الليل فتكون من ذلك متعة عقلية وروحية لطيفة.
ومرتين أو ثلاثا جمعت كل قواي، وحفزت كل همتي وقاومت كل خجلي، فذهبت إلى استماع الغناء في صالة تسمى «ألف ليلة» بالأزبكية من مغنية اسمها «الست توحيدة»، واتخذت كل الوسائل للاختفاء، لأن من رئي وعلمت به المدرسة كان عرضة للتأنيب والعقاب - هذا كان كل ترفيهي، أما ما بقي من وقتي فللدراسة وللمدرسة.
بل زدت نفسي إرهاقا بدراسة أخرى، فقد كانت الجامعة المصرية الأهلية قد ولدت في السنة التي ولدت فيها مدرسة القضاء عقب جدال عنيف في المجالس والصحف، وكان موضوع الجدل غريبا حقا ظريفا حقا: هل من الخير لمصر أن تتوسع في التعليم الأولي فتنشئ الكتاتيب، أو تؤسس التعليم العالي فتنشئ الجامعة، كأنهما ضدان لا يمكن الجمع بينهما؟ ولكنها السياسة الإنجليزية، أرادت أن تصرف الأنظار عن التعليم الجامعي لأنه يخرج قادة الرأي في الأمة، فابتدعت فكرة التعليم الأولي وأولويته، وظلت المناقشة طويلا، وكان اللورد كرومر يؤيد التعليم الأولى ويعارض في إنشاء الجامعة، فأسرع مديرو المديريات ومأمورو المراكز والعمد وأعيان البلاد إلى إنشاء الكتاتيب طوعا لإشارة كبار الإنجليز، وأخيرا تقدم داع
6
يدعو إلى إنشاء الجامعة ويتبرع بخمسمائة جنيه بشرط أن يتبرع عدد كبير بمال كثير، وتحمس بعض الكبراء وعقدوا اجتماعا حضره سعد زغلول وقاسم أمين والشيخ عبد العزيز شاويش ومحمد بك فريد وغيرهم، واكتتبوا بمبلغ من المال لا يزيد عن خمسة آلاف جنيه، وأنشئوا الجماعة واختاروا رئيسها سعد زغلول.
فلما عين ناظرا للمعارف اختير لها الأمير أحمد فؤاد (الملك فؤاد فيما بعد).
ثم نمت الجامعة واستدعي لها بعض كبار المستشرقين واختير لها بناء هو بناء الجامعة الأمريكية اليوم. فأعجبني من دروسها محاضرات يلقيها الأستاذ نللينو في تاريخ الفلك عند العرب، ومحاضرات في الفلسفة الإسلامية يلقيها الأستاذ سانتلانا، ومحاضرات في الجغرافيا العربية يلقيها الأستاذ جويدي، وكنت أحضر هذه المحاضرات لماما في غير انتظام ولا التزام، لثقل العبء علي بمدرسة القضاء. ولكن على كل حال رأيت لونا من ألوان التعليم لم أعرفه: استقصاء في البحث، وعمق في الدروس، وصبر على الرجوع إلى المراجع المختلفة، ومقارنة بين ما يقوله العرب ويقوله الإفرنج، واستنتاج هادئ ورزين من كل ذلك.
وختمت حياتي المدرسية بموقف غليظ عنيف ثقيل، ذلك هو يوم الامتحان النهائي، فكلما كان أساتذة المدرسة مختلفين متنوعين كانت لجان الامتحان مختلفة متنوعة: لجنة من كبار العلماء الأزهريين، فيهم المفتي وشيخ المالكية وشيخ الحنابلة وبعض كبار القضاة، ولجنة من كبار رجال القضاء الأهلي فيهم فتحي باشا زغلول وعبد العزيز باشا فهمي، ولجنة من رجال العلم المدني، عالم في الرياضة وعالم في الطبيعة وعالم في التاريخ وهكذا، ولكن كان أثقلها وأبغضها اللجنة الأولى، فأما الامتحان التحريري فقد مضى في سهولة ويسر وكنت الأول، وأما الامتحان الشفوي في لجنة الأزهر فكان موضوعات معينة في كل من العلوم الأزهرية: موضوع في النحو وآخر في البلاغة وثالث في أصول الفقه ورابع في المنطق، وهكذا، وكل موضوع عبارة عن جملة أو جملتين من كتاب، تعين للطالب قبل الامتحان بعشرة أيام. فمثلا في البلاغة جملة «واستغراق المفرد أشمل، بدليل صحة - لا رجال في الدار - إذا كان فيها رجل أو رجلان دون لا رجل»، وهكذا في سائر العلوم أخذت هذه الموضوعات وقرأتها وفرغت منها كلها في يومين وليلتين، ولم أدر ما أصنع بالأيام الثمانية بعد، ولكن بعد ثلاثة أيام مر علي في بيتي شيخ أزهري
7
من كبار مدرسيه كما مر على زملائي ليعرف كيف يحضرون موضوعاتهم، فسألني أسئلة لا أعرف من أين أتت ولا كيف تتصور ولا كيف يجاب عنها، فخاف علي من الرسوب في الامتحان، وزارني بعد ذلك مرتين أو ثلاثا يلقي على هذه الأسئلة العجيبة والأجوبة الغريبة، ومع ذلك لم أتقدم كثيرا. وكان يوما أيوم يوم أديت هذا الامتحان، فقد جلس هؤلاء الأساتذة الستة أو السبعة لا أدري على الأرائك متكئين، وفرشت لي فروة على الأرض جلست عليها متربعا، وبدأت أقرأ في الكتاب الأول، وأشرح جوهر الموضوع شرحا صحيحا، ولكن سرعان ما انهالت علي الأسئلة من كل جانب فأجيب حينا وأعرق حينا، وأذكر من هذه الأسئلة: أن المؤلف لم قال «أي» ولم يقل «أعني»؟ فلم أحر جوابا وهكذا. وهي أسئلة محفوظة مرن عليها الطلبة والأساتذة المتعمقون في الدراسة الأزهرية، ولم أمرن عليها لأني اعتمدت في دراستي على أبي. وأبي أنقذني من الحواشي ومن مثل هذه الأسئلة. وجلست هذه الجلسة على الفروة ست ساعات متواليات لا تتخللها راحة ولا شرب كوب ماء، وكل من الممتحنين يخرج من حين إلى آخر يتمشى ويتروض، ومن حين إلى آخر تقدم لهم القهوة والليمون وما إلى ذلك ولا يقدم لي شيء. وأخيرا أفرج عني وسمح لي بالخروج، فلما حاولت القيام لم أستطع أن أمد رجلي ولا أعدل قامتي، وأخذت في ذلك زمنا طويلا حتى عرفت كيف أقوم وكيف أمشي، ولم أدر كيف ذهبت إلى بيتي وكيف قضيت بقية نهار وليلي. ومهما كان الأمر فقد نجحت ولكن تأخر ترتيبي من الأول إلى السادس. وكان هذا الامتحان الأزهري على هذا الوجه الشاق أول امتحان في مدرسة القضاء وآخره، فبعده احتج عاطف بك فسهل الامتحان وقصرت مدته وتساهل الممتحنون في درجاته.
الفصل الرابع عشر
كنت وأنا مدرس في المدارس الابتدائية غير متفوق في الإنشاء، فانعكس الأمر في مدرسة القضاء، ففي الشهر الأول من دخولي المدرسة طلب إلينا أستاذ الأدب أن نكتب في موضوع «أثر القرآن الكريم في تدوين العلوم» وصادفني التوفيق في كتابة هذا الموضوع كما صادفني أن وقعت ورقتي في يد عاطف بك بركات فاستحسنه - وكان لا يعجبه العجب - وكان كلما أتى زائر للمدرسة طلب الورقة وقرأها عليه وسمع منه استحسانه، فوقر في نفس أستاذ الأدب تفوقي في الإنشاء، وحفزني ذلك على الإجادة فيما أكتب، فكان يعطيني أعلى درجة ولو لم أستحق، لأنه يقرأ ما في نفسه أكثر مما يقرأ ورقة الإجابة، واحتفظت بمكانتي هذه طول دراستي، ودفعني ذلك إلى الاتصال بالجرائد أريد أن أكتب فيها؛ وكان لي صديق
1
طالب في المدرسة يتصل بالشيخ علي يوسف صاحب «المؤيد» ويفسح له في جريدته حتى لينشر مقالاته فكتبت مقالا عنوانه «خطأ العقلاء» موضوعه نقد سعد باشا على تركه نظارة المعارف وتقلده نظارة الحقانية، لأن نظارة المعارف تحتاج إلى جهاد مع الإنجليز عنيف في وضع أسس جديدة للتعليم، وقد بدأ في وضع هذه الأسس فمن الخطأ ألا يتمها، وأن ينتقل إلى نظارة وضعت أسسها ولا جديد فيها إلا السير وفقا للتقاليد المعروفة، ولكن الشيخ علي يوسف لم ينشر المقالة إما لضعفها وإما لظروف سياسية تتعلق بالموضوع كان يراها ولا أراها. وعلى كل حال كانت المقالة الأولى والأخيرة أيام طلبي.
أما في غير الإنشاء فكنت راضيا عن نفسي في دروسي كلها. إلا ما يتصل بالحواشي الأزهرية والتدقيقات اللفظية فكنت أكرهها، وذلك داء قديم، ولكن لم تكن هذه تؤثر في الامتحان إلا ما كان من الامتحان النهائي للجنة الأزهر. وكنت متفوقا على فصلي في الحساب والجبر والهندسة. آخذ مكافآتها كل عام.
وتعرضت مرة وأنا في السنة الثالثة لحادث خطير كاد يفصلني من المدرسة التي لم أدخلها إلا بعد عناء - ذلك أنه أقيم سنة 1910 احتفال في المدرسة لعيد رأس السنة الهجرية، وعهدت إلي لجنة الاحتفال اختيار موضوع، فاخترت «أسباب ضعف المسلمين» وبنيت محاضرتي على أن أسباب ضعفهم ترجع إلى شيئين رئيسين: الأول فساد نظام الحكم في البلاد الإسلامية وما جره ذلك من ظلم للرعية وعسف بحريتها، واستغلال الحكام لمالها وتسخيرهم قواها لملاذهم الشخصية، والثاني رجال الدين فقد شايعوا الحكومات الظالمة وأيدوها، وتآمروا معها وبثوا في نفوس الشعب الرضا بالقضاء والقدر والاعتماد على نعيم الآخرة إذ حرموا نعيم الدنيا - كل هذا أضعف من نفوس المسلمين وأذلهم وأنهك قواهم، ولا أمل في صلاحهم إلا بصلاح رجال الحكومة ورجال الدين إلخ.
فلما أتممت الخطبة دوي المكان بالتصفيق، ولكن راعني أن استدعاني عاطف بك إلى جانبه، وقال لي: هل جننت؟ أمثل هذا يقال؟ وطلب مني المحاضرة فسلمتها إليه ورأيته يسر إلى الشيخ الخضري كلاما، فيقوم يعقب علي ويقول إن المحاضر - بالطبع - يقصد الحكومات الماضية ورجال الدين الماضيين، أما الحكومة الحاضرة فلا مأخذ عليها، وهي العادلة الحازمة، وهي التي رعت مدرسة القضاء وأنفقت عليها وعلمت طلبتها وغمرتهم بالخيرات، وأما رجال الدين اليوم فمثال للنزاهة والطهر والرقي.
فلما انتهى الحفل قال لي عاطف بك: إن بقاءك في المدرسة الآن بيد القدر، فإن ذكرت الجرائد ما قلت واستخدمته في الأعراض السياسية ضحيت بك حرصا على المدرسة - وشاء الحظ ألا يكون ذلك، وأن أبقى في المدرسة.
وكان عاطف بك معذورا؛ فالمدرسة يحاربها الخديو ويتربص بها الدوائر ويدس لها الدسائس، ورجال الأزهر لها كارهون، وإنما تعتمد المدرسة على الحكومة ورضا الإنجليز عنها، فإذا غضبت الحكومة وغضبوا هم أيضا عليها لم يكن لها سند من أحد وقد كان الكلام في السياسة وما حولها في المدارس جميعها جريمة كبرى، حتى كان الكتاب لا يقرر في مدرسة من مدارس وزارة المعارف إلا بعد إقرار من المفتشين بأنه خال من السياسة، والمختارات من الشعر لا تعطي للتلاميذ حتى يقرها التفتيش، وهو لا يقرها إلا إذا خلت من السياسة بأوسع معانيها، فإذا قال المتنبي:
سادات كل أناس من نفوسهمو
وسادة المسلمين الأعبد القزم
أو قال بشار أبياته المشهورة في الشورى، أو قال شاعر أو ناثر شيئا يتصل من قريب أو بعيد بالحكم ونظامه أو الحرية وقيمتها أو نحو ذلك فهذه سياسة محرمة يعاقب عليها المستر «دنلوب»، مستشار المعارف الإنجليزي، أشد أنواع العقاب، حتى ليرووا أن مدرسة اقترحت كتبا لمكتبتها وكان من بينها المصحف الشريف فاحتيج أيضا إلى إقرار بأنه ليس فيه سياسة، وقد أعدى هذا جو مدرستنا فلم نسمع طول دراستنا كلمة واحدة من مدرسينا عن السياسة وشئونها والحكومة ونقدها، والإنجليز وتصرفاتهم - وكل علمنا بهذه الأمور كان عن طريق اتصالنا بالجرائد، فكنت أقرأ اللواء والمؤيد يوميا وأنفعل لهما وأتجاوب معهما.
ولم أر إضرابا في المدرسة إلا مرتين: مرة كان فيها الإضراب سهلا يسيرا يكاد يكون عاما، يوم خرجنا قبل انتهاء الدروس (10 فبراير سنة 1908) نشيع جنازة المرحوم مصطفى كامل، وكان يوما مشهودا اشتركت فيه جميع طبقات الأمة ونبض فيه قلبها وتيقظ فيه شعورها، والمرة الثانية - بعد إتمامي الدراسة - يوم أضرب فصل من فصول المدرسة، لأن الناظر حتم عليه الألعاب الرياضية في مكان معين. وكان هذا المكان مشمسا والدنيا حارة، فاستأذن الطلبة أن يلعبوا في الظل، فأبى بحجة أن الطلبة يجب أن يتعودا الخشونة في العيش والصبر على الشدائد، ولكن الطلبة لم يعجبهم هذا القول فامتنعوا عن اللعب ووقفوا في الظل لا في الشمس. فلما علم الناظر بذلك رعب وامتقع لونه لأن هذه أول حادثة من نوعها. فحضر في حالة عصبية ولكنه كتم غيظه، وطلب من الطلبة أن يصعدوا إلى فصلهم فأبوا ثم كررها فأبوا، ففكر لحظة ماذا يفعل، ثم رأى أن مخاطبة الجموع غير مجدية، فنادى طالبا بعينه تفرس فيه الخوف والطاعة، وأمره أن يخرج أمام الصف فخرج، ثم قال له: إما أن تصعد إلى فصلك وإما تخرج من باب المدرسة إلى الأبد، وكل الطلبة كانوا يعلمون من الناظر جده وصدقه والتزامه تنفيذ وعده ووعيده، فإذا قال الكلمة ففداؤه رقبته، فتردد الطالب قليلا، ثم صعد إلى فصله، وتفرس أيضا فنادى الثاني. وقال له ما قال للأول ففعل فعله ثم نظر إلى الجماعة نظر المنتظر الظافر، وقال لهم: أظن أن لا معنى بعد ذلك للإضراب، انصرفوا إلى فصلكم فانصرفوا وانكسر الإضراب.
وكان شعوري الديني، وأنا طالب بمدرسة القضاء لا يزال قويا كشعوري الوطني بل أقوى منه، حتى كان طلبة فصلي يسمونني «السني»، بينما يسمون غيري الفيلسوف أو الزنديق. وأذكر مرة أن أحد أساتذتي كان ينكر معجزة نبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم فحاججته، ثم انقلب الجدال إلى حدة مني فاحمر وجهي وغضبت على أستاذي غضبا شديدا، فتقبل غضبي بالحلم والابتسامة الهادئة - واتصلت بشيخ طريقة صوفية
2
وكان رجلا ظريفا نظيفا أنيقا لا يظهر عليه أي مظهر من التصوف إلا إشراق في وجهه ورقة في قلبه تظهر في حركاته، وكان يعمل في الدنيا كما يعمل الناس. فهو صيدلاني يطلع على كتب الطب القديمة ويصنع منها بعض الأدوية الناجحة في الأمراض، كدواء للحصوة في الكلية ونحو ذلك، وكان أديبا يتذوق الشعر ويقول الزجل الظريف، ويستمع إلى شعر الغزل فيفهمه بذوقه الصوفي، ويتأوله على طريقة الصوفية. استنشدني مرة شعرا فأنشدته، حتى وصلت في إنشادي إلى قول أبي تمام:
وأنجدتمو من بعد اتهام داركم
فيا دمع أنجدني على ساكني نجد
استوقفني واستعادني فرأيت الدمع يترقرق في عينيه. وفي اليوم التالي أسمعني تخميسا لطيفا لهذا البيت - طلبت منه أن يعلمني طريقة الصوفية؛ ويقبلني «مريدا» فوعد أن يكون ذلك يوم الجمعة في قبة الإمام الشافعي. وذهبت إلى هناك وانتحينا ناحية وجلسنا وقرأ علي العهد وتابعته ثم أعطاني الدرس الأول في الطريقة.
وكان يلطف من عناء الدرس في المدرسة مداعبات الطلبة. ففي الفصل طلبة مكرة مهرة عركوا الحياة وعركتهم، وعرفوا الدنيا وعرفتهم، ولهم لسان طلق ذلق هجاء، وقدرة فائقة على السخرية اللاذعة. وفيهم السذج وأشباه السذج. سلامة قلب وضعف حيلة وسوء تصرف. وفيهم من هو بين هؤلاء وهؤلاء - ولم يمض الأسبوع الأول من دخولنا المدرسة حتى تكشفت أخلاقنا وعرف بعضنا بعضا، وتبينت مواقع القوة ومواضع الضعف في كل منا سواء من الناحية الخلقية أو العقلية. فاستغل الأقوياء الضعفاء كما هو الشأن في الوجود، واتخذ بعضهم بعضا سخريا. لعب الماكر الماهر بالأبله الساذج لعب القراد بالقرود، ووقفوا لهم بالمرصاد يحصون غلطاتهم ويئولون تصرفاتهم بما يستخرج الضحك من أعماق القلب.
هذا مغفل نتضاحك من غفلته، وهذا بخيل نتنادر على بخله، وهذا سريع الغضب يهيج لأقل سبب، فإذا هاج أتى بحركات بهلوانية واندفع في السب والشتم، فكنا نثير غضبه ثم نضحك مما يصدر عنه. وهذا إذا مشي فكأنه الديك الرومي في انتفاشه، وهذا إذا ضحك تقطعت ضحكته وطالت فكأنما هي نهيق، ومن كل ذلك لهو طريف وضحك عميق، فكأن الطبيعة عوضتنا عن هذا الجد العابس والدرس القاسي والعناء الرتيب بهذه الفكاهات الحلوة والمرة تنفس عن نفوسنا، وتفرج من ضيقنا.
وراعني يوما وأنا في مدرسة القضاء حادث لم يكن في الدراسة ولكن بجوارها أثر في أثر في أثرا بالغا فذكرته: ذلك أنه كان بجوار المدرسة بيت ثري كبير، له المزارع الواسعة والأملاك الكثيرة من مختلف الأنواع، وكان يعيش عيشة فخمة أنيقة، وفيه طيبة تحمله على الإنفاق على بعض الأعمال الخيرية، وفيه سذاجة تمكن شياطين المال من استغلاله وإغوائه.
وكان من عظمته وأبهته وفخفخته أنه لما مدت شركة الترام خطا أمام بيته (هو خط الجماميز رقم 17) أبى عليها ذلك مدعيا أن الشارع في ملكه وتحت حكمه، فكانت عربته تنتظر أولاده صباحا على الشريط أمام الباب، فتمنع الترام أن يسير، وتقف القطارات صفا طويلا حتى ينزل أولاد الباشا ويذهبوا بالعربة إلى مدارسهم. وكتب إذ ذاك الشيخ علي يوسف في جريدة المؤيد مقالا طريفا في هذا الموضوع، والباشا وشركة الترام في نزاع طويل في المحاكم أيهما المحق.
والباشا يسرف ويسرف، ويبعثر الأموال يمينا وشمالا. ولا تكفيه غلة أملاكه الواسعة؛ فيمد يده يقترض من شياطين المال، وأخيرا تستغرق أملاكه الديون، وأمر وأنا في طريقي إلى المدرسة فأرى حركة في السراي كبيرة، وأسمع الأجراس تدق إعلانا ببيع أثاث السراي بالمزاد بعد أن خرج أهلها منها.
ولا أنسى يوما أخرج من مدرسة القضاء، فأرى الباشا الكبير يقف أمام محطة الترام ينتظر مجيئه لركوبه بعد أن كانت عربات الترام الكثيرة تنتظر عربة أبنائه حتى تتحرك بهم إلى مدارسهم.
الفصل الخامس عشر
هذا أنا ومدرستي. أما أنا وبيتي فقد كان بيتي هادئا مطمئنا سعيدا سعادة سلبية، وأعني بالسعادة السلبية السعادة الخالية من الآلام. أما السعادة الإيجابية من فرح ومرح وضحك ونحو ذلك فقد كان بيتنا خاليا منها تقريبا، لإفراط أبي في جده وحبه للعزلة وعكوفه على القراءة أكثر وقته.
وكان بيتنا يتألف من أبوي وأنا وأخ وأخت يكبرانني وأخ وأخت يصغرانني.
كان أخي الأصغر شابا مرحا ذكيا مملوءا بالحياة. كثيرا ما يثور على تقاليد البيت التي وضعها أبي، فهو يتأخر عن موعد العودة، وهو يذاكر ويلعب ويجد ويهزل. وكان ذلك يغيظ أبي فيكثر بينهما الجدال والخصام ويزداد ذلك فيصل إلى حد الضرب - علمه أبي كما علمني، والتحق بمدرسة تابعة للأوقاف تجمع في تعليمها بين العلوم الدينية والمدنية. ثم تخرج منها والتحق بمدرسة القضاء في القسم الأول، إذ كانت مدرسة القضاء تنقسم إلى قسمين: قسم أول ومدته خمس سنوات، وقسم عال ومدته أربع سنوات، وهذا الأخير هو الذي التحقت أنا به، وكان أخي في السادسة عشرة من عمره، وقضى السنة الأولى في المدرسة بنجاح، وتفوق في الرياضة فنال جائزتها. وجاء الصيف وجاءت الإجازة، ودعاني صديقي من شبين الكوم أن أقضي عنده أياما ففعلت، ورجعت فوجدت البيت واجما، ووجدت أخي هذا قد بسط له فراش في وسط الغرفة وهو لا يكاد يعي من ارتفاع حرارته، ومن حين لآخر يتألم ويتأوه، وكل من في البيت خائف مرتعب - ذهبت من فوري إلى الطبيب واستدعيته فحضر وفحصه فحصا طويلا ثم هز رأسه، ونزلت معه أستفسر عن الحال، فقال إنها الحمى التيفودية والحالة خطيرة، ولا تمكن العناية به في مثل هذه الحالة إلا إذا نقل إلى مستشفى الحميات، ووصف الدواء وطريقة العلاج وانصرف، ورجعت إلى أمي وأبي في خوف وقلق أشير عليهما بنقله إلى المستشفى فرفضا، فالمستشفى كلمة مرعبة مقرون اسمها في ذهنهما وفي ذهن الشعب كله بالموت، وهم لا يسمونه بالمستشفى كما نسميه، ولكن يسمونه «الأشلاء»، وحاولت طويلا أن أفهمهما المستشفى ومزاياه وشدة عنايته بالمرضى واشتد منا القلق وانقبضت نفسي انقباضا شديدا حتى لأحسست أن روحي تكاد تخرج من بين جنبي، وأخرج من البيت ولا أدري أين أذهب، وأعود ولا أدري لم عدت، لم يغن الطبيب ولم يغن الدواء واشتد الحال سوءا، وأخيرا وبعد كرب شديد لفظ نفسه الأخير. وقامت قيامة البيت، وامتلأ عويلا وصراخا؛ فأما أمي فتلطم وجهها حتى تسقط مغشيا عليها، وأما أبي فيحترق قلبه في الباطن ويتجلد في الظاهر، وتعد العدة لدفنه وتسير جنازته إلى الإمام حيث أعد أبي مدفنه، ويرفض أن يقيم مأتما وأن يقابل أحدا، فأقيم المأتم وأقابل الناس وينقلب بيتنا محزنة. وكل خميس تجتمع النساء للعويل والصراخ وتدعى (المعددة) تغني غناء حزينا بكلام يثير الشجون، ويقطع القلوب، فلما فرغت (خمساننا) التزمت أمي أن تذهب كل خميس إلى بيت مأتم، تعرف أهله ولا تعرفهم، فكل المآتم سواء، وكل الحزانى أصدقاء، وتنفرد بنفسها (فتعدد) المعددة، وكل شيء يلهمها البكاء - حجرته التي ينام فيها، ومكتبه الذي كان يذاكر عليه، وكتبه التي كان يذاكر فيها، وأصدقاؤه الذين كان يلقاهم وكل شيء يذكرها به؛ موعد الأكل وموعد الخروج إلى المدرسة، وموعد العودة منها، فأما أبي فقد صبر على حزن دفين، حتى أبى إلا أن يغسله بيده ويدفنه بيده، وكانت سلواه أن يكثر من تلاوة القرآن ويهب ما يقرؤه إلى روحه، وسمع بكتاب للسيوطي اسمه «فضل الجلد عند فقد الولد» فنسخه بيده، يتصبر بقراءته وكتابته، وأما أنا فقد وضع هذا الحادث على عيني منظارا أسود، فلا أرى في الدنيا إلا السواد، ولا أحب أن أسمع من الأصوات إلا صوت البكاء، فالشجرة الناضرة إلى ذبول، والحياة المبتهجة إلى فناء، والحمامة إذا غنت فإنما تبكي، والسعيد إنما يسعد ليشقى. وانقلبت في عيني قيم الأشياء، فهذا الذي يكسب المال لم يكسبه؟ وهذا الذي يعمل لم يعمل؟ والناس مجانين إذا تخاصموا، ومجانين إذا لهوا أو ضحكوا، فالدنيا لا تزن جناح بعوضة، وخير للناس أن يقضوا حياتهم من غير اكتراث حتى يدركهم الموت؛ واستولى هذا الحزن علي أسابيع بل أشهرا حتى سميت في مدرستي «بمالك الحزين» فإذا نسيت الحزن بعض الوقت في مدرستي ذكرته في بيتي من منظر أمي، ولا تسل عن موقف دقيق وقفته وحرت في التصرف فيه. فقد أتى موعد صرف مكافأة المسابقات في المدرسة، وكان أخي هذا الذي مات يستحق مكافأة الرياضة، وهي لا تصرف إلا بإمضاء مستحقها فإذا لم يكن فإمضاء أبيه، وأنا وأثق أني إذا أخبرت أبي فإنما أشعل في قلبه نارا جديدة، وأعيد عليه يوم مأتمه من جديد، ففضلت أن أترك المكافأة وألا أخبر بها أبي، ومضت سنة وبضعة أشهر والحزن يتحول من نار مشتعلة إلى نار هادئة قد علاها بعض الرماد، وجاء رمضان وأنا في السنة الثالثة في مدرسة القضاء فنغر الجرح الذي لما يندمل، واشتعلت النار التي لم تنطفئ.
كان أخي الكبير في نحو الخامسة والثلاثين من عمره وكان رجلا صالحا طيب القلب مشرق الوجه في نضرة وحمرة، ولكنه كان محدود الذكاء، لم يضطرب أبي في تعليمه اضطرابه في تعليمي، ولم يتردد بين مدرسة وأزهر كما تردد في، فقد حفظ القرآن والمتون، والتحق بالأزهر واستمر فيه وفي دراسته الطويلة نحو عشرين عاما، يتنقل بين كتب الأزهر ومشايخه، حتى إذا أتم الدراسة خاف من الامتحان النهائي، فهو يقدم ثم يحجم ثم يقدم ويحجم، لا يجذبه الطموح ولا يدفعه إلى المغامرة حب المجد، قد تزوج وخلف ابنا وبنتا، وهو وأهله يقيمون معنا في البيت، وحياته بين بيته ومسجده وأزهره؛ فلما جاء رمضان هذا كان برنامجه أن يصوم النهار ويصلي صلاة التراويح في المسجد ويعود إلى منظرة البيت يقرأ فيها القرآن وحده أحيانا ومع صديق له مكفوف البصر أحيانا حتى السحور، ثم يتسحر وينام إلى قريب من الظهر، وهذا دأبه.
ففي ليلة من أواخر رمضان صلى أخي العشاء والتراويح كما كان يصلي، وعاد إلى البيت يقرأ القرآن كما كان يقرأ، وتناول سحوره، كما كان يتناول ثم نام ونمنا، وبعد قليل سمعنا صرخة قمنا لها مذعورين، وذهبنا إلى مصدر الصوت، فإذا هي زوجته تصرخ، وإذا هو ممدود على الأرض لا يعي، وتناديه فلا يسمع وتستجوبه فلا يجيب، وليس فيه إلا نفس يتردد، فحملناه إلى سريره وقضينا آخر الليل في رعب لا يوصف، وبكاء لا ينقطع، وحزن ذكر بحزن، فلما أصبح الصباح ذهبت إلى أكبر طبيب إفرنجي مشهور وسألته أن يذهب معي مبكرا، ورأى لوعتي فقبل رجائي، وحضر معي إلى البيت وكشف على المريض فلما تبعته أخبرني أنه انفجار في المخ نشأ عنه شلل في النصف الأيسر ووصف له الدواء فأحضرته، وقمت على علاجه أعنى بشأنه، وأناوله الدواء في موعده حتى أخذ يتحسن في بطء، وتحرك لسانه في ثقل، وحرك يده ورجله في تخاذل، ومشى مشية الصبي بدأ يتعلم، وخرج من البيت يجر رجله وحالته في تحسن مستمر والطبيب يعوده من حين إلى حين، ولكن ما لبث نحو شهرين حتى انتكس، وأصيب ثانية أشد مما أصيب أولا، واستحضرت له الطبيب نفسه فقلب كفيه يخبرني ألا أمل. وكانت النهاية، وكان الحزن شديدا وكانت المصيبة قاسية، وكانت النصال تتكسر على النصال، ولم يجد أبي وأمي من سلوى إلا أن يحجا ويقفا بعرفة ويزورا المدينة ويضعا أيديهما على ضريح النبي صلى الله عليه وسلم يسألان الرحمة للفقيدين والصبر للأبوين.
الفصل السادس عشر
لم يعبأ ناظر مدرسة القضاء بالترتيب فعينني مع الثلاثة الأول - وإن كنت السادس - مدرسا في المدرسة بعد شهرين من تخرجي، وابتدع في المدرسة نظاما لم يكن معروفا في مصر؛ وهو نظام المعيدين، فأتبع كل معيد بأستاذ كبير يحضر معه الموضوع ويدخل معه في الدروس، ووزع المعيدين على الأساتذة بحسب كفايتهم وميولهم، فهذا معيد مع أستاذ الفقه وهذا معيد مع أستاذ الأدب، واختارني معيدا معه في دروس الأخلاق، وهذا كان سببا في شدة اتصالي به واستفادتي منه، فكنت أذهب إلى بيته في كثير من الأيام عند تحضير درس، وكان يحضره من كتب الأخلاق الإنجليزية، فكان يقرأ بالإنجليزية ويمليني بالعربية، وأحيانا ينفرد هو بالترجمة ويسمعني ما ترجم، وكنا نتناقش في الدروس قبل إلقائها، وأحيانا يجرنا الحديث من موضوع الدرس إلى موضوع آخر اجتماعي أو ديني أو سياسي، فيعرض آراءه ويستمع إلى موضوع آخر اجتماعي أو ديني أو سياسي، فيعرض آراءه ويستمع إلى مجادلتي، وقد أثر في أثرا كبيرا من ناحية تحكيم العقل في الدين، فقد كنت إلى هذا العهد أحكم العواطف لا العقل، ولا أسمح لنفسي بالجدل العقلي في مثل هذه الموضوعات، فالدين فوق العقل، فإن جاء فيه ما لا يدركه العقل آمنا به، لأن علم الله فوق علمنا، وهو أعلم بما يصلحنا وما يضرنا، وهو يأبى إلا تحكيم العقل والبحث عما لا نفهم حتى نفهم، وكان له غرام بالبحث، وصبر على الجدل، وطول نفس في المناقشة حتى ليفضل من يناقشه أن يسكت أخيرا وإن لم يقتنع، من طول ما أدركه من التعب والعناء، كان من أثر هذا الجدل الديني أني أعملت عقلي في تفاصيل الدين وجزئياته، أما جوهر الدين من إيمان بالله وجلاله وعظيم قدرته فظل ساكنا في أعماق قلبي لم ينل منه أي جدل ولم يتأثر بأي قراءة، وكل ما في الأمر أني صرت أكثر تسامحا مع المخالفين، وأوسع صدرا للمعارضين.
واستفدت منه سعة في الأفق، فقد كان - بحكم تربيته في الأزهر وفي دار العلوم وفي إنجلترا، وبحكم بيئته التي يعيش فيها، ومجالسه التي يجلس إليها ومخالطته أمثال سعد زغلول وفتحي زغلول وقاسم أمين - مطلعا على كثير من الشئون - معتنقا لكثير من الآراء القيمة بعد البحث والدرس واستعراض الآراء المختلفة. كما قبست قبسا من خلقه، فقد كان صريحا صراحة قد تجرح، صادقا في قوله ولو آلم، مشتدا في العدل ولو على نفسه، ملتزما النظام ولو ضايق نفسه وضايق من حوله - أذكر مرة أن طلب للشيخ محمد المهدي أعلى درجة مالية في المدرسة، وأوصى الخديوي بمنحها له، وكان عاطف بك يرى أن غيره أحق منه، فاجتمع مجلس الإدارة برئاسة شيخ الجامع الأزهر، وعضوية عبد الخالق باشا ثروت وغيره وكلهم يرى أن المسألة صغيرة لا تستحق مغاضبة الخديوي من أجلها، فوافقوا على إعطائه وصمم عاطف على رأيه، فلما لم تنجح حجته طلب أن تدون في المحضر معارضته، ومنح الشيخ المهدي الدرجة بالأغلبية فذهب الشيخ مهدي ليشكره، فقال عاطف لا تشكرني يا أستاذ فقد كنت معارضا، قال الشيخ مهدي: إذن فلأشكر الله.. وهو لا يقبل الرجاء يمس به العدل ولو خاصم في ذلك أكبر كبير.
ولما كان وكيلا للمعارف تقدم طالب إلى مدرسة هو ابن حمد باشا الباسل وسنه تزيد عن السن القانونية فأبى، وألح سعد باشا في قبوله فأبى إلا أن يعدل القانون ويقبل جميع من كانوا في مثل سنه.
لازمت عاطف بك في دروس الأخلاق هذه سنين، وكنت كلما تقدمت في تحضير الدروس معه حملني عبء تدريس هذا العلم تدريجيا، هذا إلى دروس أخرى كنت أستقل بتدريسها من فقه أحيانا، وتاريخ إسلامي أحيانا وغير ذلك، وكان عنائي بالدرس أيام كنت مدرسا لا يقل عن عناء الدرس أيام كنت طالبا، فقد كنت أقضي الساعات الطويلة في تحضير الدرس الواحد من مصادره المختلفة، وأكتب المذكرات للطلبة في كل مادة أدرسها.
واتصلت بصديقي وأستاذي أحمد بك أمين. فقد درس لنا بعض المواد القانونية أيام كنت طالبا، فلما تخرجت انقلبت الأستاذية إلى صداقة، ففي إجازة من الإجازات الصيفية اتفقنا على أن نقرأ كتابا في أصول الفقه ليقارن بينه وبين أصول القوانين في التشريع المدني. فكنا نجتمع كل يوم صباحا ونقرأ نحو ساعتين في كتاب «الموافقات» للشاطبي، وبعد أيام من قراءتنا في هذا الكتاب اقترح علي اقتراحا غريبا، وهو أن نقضي إلى قراءتنا في أصول الفقه ساعة في دراسة الآثار الإسلامية، فأحضرنا خطط علي باشا مبارك نقرأ فيها كل يوم الآثار الموجودة في شارع من شوارع القاهرة، من مساجد وتكايا وأسبله وبيوت أثرية ونحو ذلك، فإذا جاء العصر التقينا في أول هذا الشارع، ومررنا على كل مسجد، ندخله ونطبق ما كتبه على باشا مبارك في خططه. ونعرف تاريخه ومن بناه، ونقرأ اللوحات الرخامية التي تمدنا بهذه المعلومات. واستمررنا على ذلك نحو ثلاثة أشهر أتممنا فيها كل شوارع القاهرة، وألممنا فيها بكل آثارها، فكان درسا غريبا مفيدا.
وإلى جانب ذلك اشتقت جدا إلى أن أعرف لغة أجنبية. فهؤلاء أساتذتي العصريون يدلون بمعرفتهم لغة أجنبية - هذا يدل بلغته الفرنسية، وهذا يدل بلغته الإنجليزية، وكل يعتمد عليها في تحضير دروسه، ويذكر لنا أنها تساير الزمان، حتى إن الكتاب المؤلف في علم منذ عشر سنوات لا يصلح أن يكون مرجعا اليوم إلا بعد التعديل، كالكتب الأزهرية التي يدعى أنها تصلح لكل زمان ومكان، ولأن هؤلاء الأساتذة كانوا يقولون دائما إن من اقتصر على اللغة العربية يرى الدنيا بعين واحدة، فإذا عرف لغة أخرى رأى الدنيا بعينين. وكان من البواعث على هذا أن أحمد بك أمين قال لي يوما، إن علي باشا مبارك أهمل في خططه إهمالا كبيرا، إذ لم يذكر شيئا عن بيت شاهبندر التجار في «حوش قدم»، مع أنه بيت أثري عظيم، يمثل الحياة الجماعية في القرن الذي بنى فيه، وقد اكتشفته في كتاب إنجليزي في الآثار، ألفه بديسكو بالألمانية، وترجم إلى الإنجليزية. لهذا فكرت أن أتعلم لغة أجنبية، وحرت بين الإنجليزية والفرنسية ثم فضلت الفرنسية اعتمادا على أني تعلمت مبادئها في صغري وأتممت دروسها إلى السنة الرابعة يوم كنت في مدرسة والدة عباس باشا، فاستذكار القديم والبناء عليه أهون من الابتداء في تعلم لغة جديدة، وبحثت عن مدرس واتفقت معه على أن يدرس لي أربعة دروس في الأسبوع، واشتريت الكتب، وبدأت أذاكر الدرس الأول، ولكن - للأسف - وقع اختياري على مدرس خائب، فهو لا يحتفظ بموعد، ولا يهتم بدرس، وصبرت عليه صبرا طويلا حتى مللت وانصرفت عن الدرس إلى حين.
وفي هذه المدة اتصلت بحزب الأمة الذي تكون بجانب الحزب الوطني، وحزب «الإصلاح على المبادئ الدستورية»، وعلى الأصح اتصلت بجريدته المسماة «بالجريدة» التي كان يرأس تحريرها الأستاذ أحمد لطفي السيد، وكانت حجرته في الجريدة منتدى لجمهرة من الشبان المثقفين، ومن حين لآخر كانت تلقى في فناء الدار محاضرات سياسية يدور حولها الجدل. ولست أنسى يوما كان يحاضر فيه الأستاذ أحمد لطفي السيد، وكان يحضر الحفل عدد كبير من رجال السياسة منهم الشيخ علي يوسف وإبراهيم الهلباوي، فما نشعر إلا وقد أطار جماعة من طالبة الحقوق حماما أعدوه معهم لهذا الوقت تنكيلا بإبراهيم الهلباوي إذ كان محاميا عن الإنجليز في حادثة دنشواي التي كان سببها الحمام، وساد الهرج والمرج، وخيف على الشيخ علي يوسف وإبراهيم الهلباوي من الاعتداء. فحضر البوليس ومكنهم من الخروج آمنين. وقد استفدت من هذا الاتصال شيئا من الثقافة السياسة والاجتماعية بفضل أحاديث أستاذنا لطفي، ومحاضرات المحاضرين والاتصال بنخبة من خيرة المثقفين.
استمررت مدرسا في مدرسة القضاء سنتين. وكانت هناك مشكلة هي أني لم أنجح في الكشف الطبي لقصر النظر، فعينت (ظهورات) حسب اصطلاح المستخدمين، ومعنى هذه الكلمة أن الموظف الذي يعين على هذا الشكل ليس له حق في المعاش عند بلوغه السن. وليست له ضمانات في بقائه في الوظيفة، إذ يكفي إشارة من الرئيس بالاستغناء عنه فيستغنى، أما الموظف الثابت أو على حد تعبيرهم (المثبت) فله الحق في المعاش، ولا يخرج من الخدمة إلا بمجلس تأديب يقرر فصله، وهي ميزات لا يستهان بها، وأنا من طبعي تفضيل التدريس على القضاء ولكن أود لو كنت مدرسا (مثبتا) ففكر عاطف بك حرصا على مصلحتي أن أعين قاضيا لمدة قصيرة - والقاضي يعين بمرسوم، ولا يحتاج من يعين بمرسوم إلى كشف طبي - فإذا عينت قاضيا كنت مثبتا، فإذا انتقلت إلى مدرسة القضاء نقلت (مثبتا) وكذلك كان، ولكن أتت مشكلة أخرى وهي أن مدير المحاكم الشرعية أبي إلا أن يعينني قاضيا في الواحات الخارجة، وهي بلد بعيد يشق انتقالي إليها على أبي وأمي اللذين أصبحا لا يجدان عزاء من فقد أخوي إلا بقائي بينهما، فحاولت ما استطعت وحاول عاطف بك ما استطاع أن يغير الواحات بأي بلد آخر فلم يستطع، فتوكلت على الله وقبلت الوظيفة واستعددت للسفر إلى الواحات.
وقد قضيت فيها ثلاثة أشهر، ولا أدري ما الذي بعثني على أن أدون مذكرات يومية لهذه الرحلة فلأنقل هنا بعضها:
الأربعاء 23 إبريل سنة 1913
اعتزمت السفر إلى الواحات الخارجة، وذهبت إلى المحطة وودعني عدد كبير من طلبة المدرسة ومدرسيها، واعتذر الناظر لارتباطه بموعد آخر، وكان وداعا مؤثرا حقا اختلط فيه شعور الفرح الشديد بالحزن الشديد - فرحت لما رأيت من مظاهر الوفاء والإخلاص، حتى جرى الطلبة مع القطار في بدء تحركه وآثار الحزن بادية على وجوههم، وحزنت لحالة أبي وأمي لفراقهما من غير عائل يعولهما، ووصلت إلى أسيوط في الساعة الثالثة بعد نصف الليل وذهبت إلى أقرب فندق، وفي الصباح سألت عن المحكمة الشرعية فوجدتها في بناء جميل فرش فرشا جميلا، واستقبلني رئيس المحكمة
1
استقبالا حسنا ودعاني للغداء معه، وعرض على في المساء أن يزيرني بعض بيوت الكبراء، وتقابلنا وأزارني بيت الهلالي، وبيت خشبة، وعندما زرنا البيت الثاني وجدنا مدير أسيوط هناك، يحف به كثير من الأعيان، فاستقبلنا استقبالا فاترا، ثم جلس يتحدث والقوم منصتون كأن على رءوسهم الطير، يؤمنون على كل ما يقول ولا يجرؤ أحد أن يخالفه في قوله، وكان موضوع حديثه المقارنة بين أقباط أسيوط ومسلميها، وأن الأقباط أكثر جدا في الحياة وسعيا في طلب الرزق وحرصا على ما يدخل في يدهم من مال وأكثر تعليما لأولادهم، وأكثر قبولا للمدنية الحديثة، وأن المسلمين يجب أن يسيروا سيرهم ويعنوا بأمورهم وهم أولى بذلك.
26 إبريل
بعد أن قضيت يومين في أسيوط رأيت فيهما المدينة ومبانيها ومتاجرها ومساجدها وخزانها، ركبت قطار الصعيد في الساعة الثالثة بعد نصف الليل، فوصلت مواصلة الواحات في الساعة السابعة صباحا، ثم انتقلت إلى قطار الواحات فسار القطار سيرا بطيئا وبدت لي الصحراء متسعة الأرجاء، طورا يمد الناظر نظره فلا يرى إلا أرضا منبسطة كلها رمال، وطورا يرى هضبات مرتفعة، ومررت على أرض يسمونها «غيط البطيخ»، لأنها أرض رملية واسعة بعثرت فيها أحجار مكورة كأنها البطيخ، وكان لون الرمال يختلف كلما سرنا فتارة أحمر وتارة أصفر وتارة غيرهما؛ وظل هذا منظر الصحراء حتى وصلت بلدة المحاريق في الساعة الثالثة بعد الظهر، وكان يقيم فيها المنفيون، ثم وصلت الخارجة في الساعة الرابعة، فكانت مدة الطريق نحو تسع ساعات، ولو أسرع القطار لقطعها في ثلاث أو أقل، وكان يحزنني أثناء الطريق ذكرى أبوي الشيخين وحنيني إلى وطني وألمي من غربتي. فلما قاربت الوصول إلى الخارجة، مررت على مركز لشركة إنجليزية أنشئت لتستغل أرض الواحات، فرأيت إنجليزيين يقفان في الشمس يشرفان على العمال، فقلت في نفسي أيأتون من إنجلترا الباردة إلى الواحات المحرقة طمعا في الكسب وأملا في النجاح، ويعيشون عيشة فرحة مستبشرة، وتأتي أنت من بلدة في مصر إلى بلدة أخرى في مصر ليس بينهما إلا أقل من يوم وتبكي؟ - خجلت من نفسي وتبين لي سبب من أسباب نجاحهم وإخفاقنا وغناهم وفقرنا. وعاهدت الله ألا أحزن بعد ذلك ولا أبكي.
29 أبريل
نزلت يومين ضيفا على معاون الإدارة، إذ لم يكن للواحة مأمور وإنما يقوم مقامه معاون، وبحثت عن بيت أسكنه، وأخيرا اهتديت إلى بيت هو خير ما رأيت، أجرته ثمانون قرشا في الشهر، دوران بنيا بالطوب النيئ، وسقفا بجذوع النخل. إذا فتحت شبابيكه أسندت بقطع حجرية، أحسن ما فيه أنه بسيط خلا من كل مظاهر المدنية والحضارة، يطل من ناحيته البحرية على بساتين زرعت نخيلا ومشمشا وبرتقالا، ويطل من ناحيته الجنوبية على الصحراء الرملية، وبعد أن استرحت فيه قليلا سمعت الباب يدق، فجاءني الخادم يقول إن أخا المأذون بالباب، فأذنت له، فدخل ووراءه غلام يحمل صحفتين في يديه، في إحداهما لحم نيئ، وفي الأخرى أرز غير مطبوخ. قلت: ما هذا؟ قال هي هدية من أخي المأذون، فاعتذرت في رفق. فأخذ يتلو علي الأحاديث الكثيرة في فضل الهدية وقبولها، فاضطررت أن أعتذر في عنف، وبعد ساعة أو ساعتين دق الباب ثانية، فإذا بخادم العمدة يحمل معه عشر برتقالات، وهي في نظرهم هدية ثمينة، لأن زمن البرتقال قد انقضى من الواحات وأصبح فيها تحفة ثمينة، فاعتذرت أيضا.
30 إبريل
زرت الخارجة، وقد علمت أن عدد سكان بلدانها كلها 8383 نفسا، وأكبر بلادها الخارجة، فهي تزيد عن خمسة آلاف، ثم باريس فهي ألف وبضع مئات، ثم بولاق وهي تزيد عن الألف، ثم جناح وهي تزيد عن أربعمائة. أكثر كسبهم من النخيل في موسم البلح، وهم يزرعون القمح والأرز والشعير والفول السوداني والمشمش والزيتون والبرتقال وقليلا من البطيخ، وحب القمح والأرز ضئيل كأهلها وحيواناتها، وقد أخبرت أنهم إذا أرادوا أن يزرعوا قمحا فلابد أن يأتوا بالتقاوي من الصعيد، ولا يبذرون قمحهم لأنهم إن فعلوا ذلك خرج المحصول في غاية الضعف والصغر، وبيوتها كبيوت قرى الريف المصري الحقيرة. مبنية بالطين مسقوفة بجريد النخل. وبعض شوارعها مسقوف وبعض أجزاء هذا السقف وطيء حتى يضطر السائر أن ينحني وهو يسير انحناء يقرب من الركوع، وترى الرجال والأطفال إذا مروا في هذه الشوارع مساء يحملون أعوادا من الخشب يشعلونها ليهتدوا بها ويتقوا العقارب.
فيها طائفة من العميان يعملون سقائين وهم يسيرون جماعات وعلى ظهورهم القرب، يحملون الماء من العيون إلى البيوت، وليس بها سقاء إلا أعمى. وأغرب مناظرها منظر العيون تنبع من الأرض وتجري في الجدول، وبعضها طبيعي وبعضها مصنوع، وبعضها كبير وبعضها صغير، وبعضها قد بذل في عمله جهد كبير، وبعضها يدل مظهره على أنه من أثر الرومان. والناس يملكون ماء العين بالساعات، قسم الأسبوع إلى ساعات، فمنهم من يملك العين ساعتين أو ثلاثا أو أكثر في الأسبوع، يسقي فيها أرضه وزرعه.
7 مايو
زرت كتابا في الخارجة، وهو أسطواني الشكل بني على صخرة وليس فيه منفذ للضوء إلا الباب، أرضه طين جاف ليس مفروشا بشيء إلا بعض أبراش في جوانب الحجرة يجلس عليها الأطفال، وسألت عن الفقيه فلم أجده، ورأيت الأطفال يقرءون في ألواح من الصفيح طليت بالطفل وهم يطلونها كلما مسحوا اللوح وحددوا الكتابة، ولفت نظري طفل كبير، أخذت لوحه فوجدته قد كتب فيه المعوذتين وبعدهما: «وقد تم طبع هذا المصحف الشريف في مطبعة كذا». وهو يحفظه على أنه من القرآن الكريم.
9 مايو
صليت الجمعة في مسجد البلدة، وأغرب ما سمعت أن الخطبة كلها كانت حثا على الزهد وتحذيرا من السفر إلى أوروبة لقضاء الصيف مع أن أهل الواحات زهاد بطبعهم لا يجدون ما يأكلون إلا بعد العناء، وما سمعوا قط باسم أوروبة إلا من الخطيب. وما حدثتهم أنفسهم حتى ولا بالسفر إلى الصعيد، ولكن لا عجب فالخطيب يحفظ خطبته من ديوان مطبوع من غير نظر إلى ما يلائم وما لا يلائم. وطلب مني أن أقرأ درسا بعد الجمعة فقرأت درسا موضوعه «الحث على العمل ومضار الكسل» واعتقادي أن لا قيمة لهذا الحديث وهذا الدرس، فهم لا يصلحون إلا بإصلاح بيئتهم.
10 مايو
اليوم جلست أول مرة في مجلس القضاء فتهيبته؛ لأني مع دراستي الفقه بأكمله دراسة واسعة عميقة، وأصول الفقه بأكملها دراسة واسعة عميقة كذلك، ونظام القضاء والإدارة سواء في ذلك القضاء الشرعي والأهلي والمختلط، ونظام المرافعات وما إليها، وعرضت علينا نماذج كثيرة من القضايا وحيثياتها وأحكامها، وزرنا بعض المحاكم واستمعنا لبعض قضاياها، ودرسنا بعض القضايا العويصة ذات المبادئ؛ مع كل هذا تهيبت هذا المجلس وخجلت من نفسي، وخجلت ممن حولي ولم أدر ماذا أفعل، وكان موضوع القضية طلب امرأة نفقة من زوجها الغائب، وجلس الكاتب عن يميني ونادى الحاجب المدعية فحضرت، ونادى المدعى عليه فلم يحضر، وإلى هنا ارتبكت ولم أدر ماذا أملي على الكاتب، فهربت من الإملاء عليه وحكمت في القضية حيثما اتفق، وأمرت الكاتب أن ينتظر، ورفعت الجلسة، ثم عدت إلى سجل القضايا أبحث عن قضية مثلها لأتعرف كيف كتب فيها، ثم أمليت على الكاتب على نمط ما في السجل مع تغيير أسماء الأشخاص ومقدار النفقة، وكان موقفا مخجلا حقا يدل على أن العلم غير العمل.
13 مايو
كتب إلي صديقي وأستاذي أحمد بك أمين كتابا طريفا مفيدا، ومما جاء فيه: «إن كلمة واحة مصرية قديمة، وإن الواحات الخارجة هذه كان اسمها «واحت رست» أي الواحات الجنوبية، وإن كلمة واحة كان معناها في الأصل الكفن أو المومياء ثم صارت تطلق على مقر الأبرار من الأموات، لأن قدماء المصريين كانوا يعتقدون أن الواحات الخارجة هي مقر الأبرار، وأن الواحات الداخلة مقر الأرواح، وقد قرأت فيما قرأت أن عندكم بلدا اسمه «تادروه» به ثلاثة معابد، منها معبد من عهد البطالسة ومنها معبد من عهد الرومان، وقرأت أيضا أن الواحات الخارجة كانت في أول عصر المسيحية مقرا للزهاد من المسيحيين الذين انقطعوا عن العالم للعبادة، ولهم من الآثار بتلك الجهة مقبرة كبيرة تسمى البجوات بها نحو مائتي قبر، ولا يزال ببعض هذه القبور نقوش حسنة» وقد أثر في هذا الخطاب فعزمت أن أزور الآثار القديمة الموجودة في الخارجة، كما فعلت مع صديقي هذا في زيارة الآثار الإسلامية.
14 مايو
بعض موظفي الحكومة هنا يتزوجون زواجا يشبه زواج المتعة، فالموظف يختار فتاة يستجملها ويتزوج بها، فإذا حلت في عينه فتاة أخرى طلق الأولى وتزوج الثانية، وتبقى معه الزوجة إلى أن يصدر الأمر بنقله من الواحات فيطلقها ويرضيها بقليل من المال. وقد تأتي منه بولد أو أكثر، فبعضهم يترك الزوجة وأولادها، وبعضهم يأخذ أولاده معه، ويترك زوجته بعد أن يطلقها، ولكن أكثرهم يتحرجون من الإنسال، ويتخيرون الفتاة العاقر أو المرأة المرضعة حتى لا تنسل.
وعرفت هنا ستة موظفين تزوج منهم هذا الزواج ثلاثة، وقد عرض علي مثل هذا الزواج فأبيت لاعتقادي أنه مناف للمروءة وأنا قادر على ضبط نفسي ولله الحمد.
26 مايو
أنا هنا في جماعة من الموظفين أستغيث بالله منهم. كلما اجتمع بعضهم ذكروا الغائبين بالسوء في سيرتهم وبيوتهم، ويظهر أن سبب ذلك أن الحكومة تجعل من بين عقوباتها نقل الموظف الذي أساء السيرة إلى الواحات أو إلى أقصى الصعيد، فكأن سكان هذه البلاد قد حكم عليهم ألا يروا موظفا صالحا، ولم ينطبق علي هذا القول لأن القضاة الشرعيين كانوا إذا نقلوا إلى هذه البلاد البعيدة أتوا بشهادات طبية تثبت أن جو هذه البلاد لا يلائمهم. فلما ضاق مدير الإدارة الشرعية ذرعا بذلك عزم أن يعين في الواحات الجدد الذين يقدمون عند تعيينهم شهادات صحية تثبت لياقتهم، وقلما اجتمع هؤلاء الموظفون من غير أن يتسابوا أو يتضاربوا، وقد وضعت لنفسي خطة ألا أسايرهم في القول ولا العمل وأن أتحاشى الاجتماع بهم إلا عند الضرورة.
28 مايو
عملي في المحكمة قليل جدا، فكثير من الأيام يمر من غير عمل، أو بإمضاء ورقة أو ورقتين، وعدد القضايا قليل، وأكثر المنازعات يفصل فيها العمدة أو الرجال المعروفون بينهم، ومن عادتي أن أذهب إلى المحكمة كل يوم في الساعة التاسعة والنصف صباحا، وكثيرا ما يأتي زائرون من موظفين وأهال فأجالسهم إلى الساعة الثانية عشرة ثم أعود إلى منزلي وأتغدى وأنام قليلا فأقرأ في بعض الكتب إلى الساعة السادسة، فأجلس أمام الباب وأقابل زائرا أو أرد زيارة أو أخرج إلى الصحراء، ثم أعود إلى بيتي فأتعشى وأقرأ في الكتب إلى الساعة العاشرة فأنام، وأصحو قبل طلوع الشمس فأقرأ جزءا من القرآن ثم أقرأ في بعض الكتب حتى يأتي ميعاد المحكمة وهكذا، والحياة يوم واحد متكرر، ويوم الثلاثاء هو اليوم الذي تحوطه هالة كبيرة. فهو اليوم الذي أرقبه طول الأسبوع: فاليوم يوم السبت، إذا بقي على يوم الثلاثاء يومان، واليوم يوم الأحد إذا بعد غد يوم الثلاثاء، فمتى يكون عصره؟ إنه الوقت الذي يحضر فيه البريد من القاهرة كل أسبوع.
31 مايو
شاهدت أمس أوروبيا في الخارجة ومعه رجل من أهلها، وقد علمت أنه يأتي كل سنة للتجارة في نوع من النبات ينبت حول الخارجة وفي بعض جبالها واسمه «السكران» يجمعه له بعض الناس ويبيعونه له كل قنطار بعشرين قرشا. وهو يصدره إلى الخارج لاستعماله في بعض الأدوية
2
والله أعلم بكم يبيع القنطار، وهكذا يستغفلنا الأجنبي دائما، ونقنع بالربح القليل دائما، ويعيش هو من مجهودنا في القصور الفخمة والثروة الضخمة.
ليس في الواحات بق، إنما يكثر فيها الذباب والناموس في موسم البلح، وفي الأسبوع الأول من سكني في بيتي رأيت فيها عقربا فقتلتها، ومساء أمس وجدت بقرب بيتنا حية يبلغ طولها نحو خمسين سنتيمترا، وقطرها نحو سنتي ونصف، سمعها الخادم وهي تنفخ في الظلماء، فأتى بمصباح وتتبعها وقتلها، ورأيتها بعد قتلها وهي تتلوى، فنغص ذلك علي وربى لي الوسواس، فأنا كل ساعة أتخيل عقربا أو حية.
عجبت للإسلام واللغة العربية وقوتهما وانتشارهما، فليس في الواحات إلا مسلم، وليس فيها إلا من يتكلم العربية وحدها. •••
لا أطيل على القارئ بهذه اليوميات التي استمرت ثلاثة أشهر، وقد أحسست فيها بفراغ طويل، عريض، لأن القضايا التي عرضت في هذه الأشهر الثلاثة كانت تسعا فقط من أبسط الأنواع، ويكفي في الفصل فيها ساعة من الزمن، فملأت فراغي بشيئين: الرحلات إلى الآثار الموجودة في الخارجة، وقراءة الكتب. فأما شغفي بالآثار فكان عجيبا حقا، لأن الآثار الموجودة آثار قديمة وثقافتي فيها محدودة أو معدومة، وربما كان السبب في شغفي بها ما تولد عندي من حب الآثار والإعجاب بها يوم كنت أزور الآثار الإسلامية مع صديقي أحمد بك أمين، وقد كنت في كثير من الأحيان أصحب مفتش الآثار ليدلي إلي بمعلوماته عنها، وقد كنت أدون في يوميات وصف كل أثر رأيته وما تركه في نفسي من أثر، وكانت هذه الآثار بعضها فارسية من عهد احتلال الفرس لمصر وبعضها من آثار قدماء المصريين وبعضها رومانية، وبعضها مقابر مسيحية لا تزال تحتفظ بجثث الموتى وأكفانها، بل لا يزال بعضها محتفظا بشعر الرأس والذقن من جودة التحنيط، وبعضها أسود الوجه غائر الجبهة بارز الأسنان، وبعضها - وهو الأكثر - أبيض الوجه منفرج زاوية الوجه.
وكانت أمتع رحلة من هذا القبيل رحلتي إلى باريس، وهي بلدة حقيرة تحمل اسما كبيرا، وبدائية بدوية تحمل اسم أكبر مدينة مدنية، ولا أدري كيف أطلق عليها هذا الاسم، وهي تبعد عن الخارجة نحو مائة وعشرين كيلو مترا.
أعددنا العدة لهذه الرحلة من ماء وزاد، وخرجنا على ثلاثة من الإبل من نوع الهجين، طبيب الواحات وملاحظها وأنا. وكنا نسير عصرا وبعض الليل، وصبحا وبعض النهار، وننصب خيمة في الظهيرة نأوي إليها عند اشتداد الحر.
ولست أنسى مرة ونحن في الطريق يوما اشتد حره وجف هواؤه، وقد أكلنا أكلة ثقيلة لا تناسب السفر، ثم ركبنا واشتد بي العطش، وكلما شربت تقلقل الماء في بطني من هزة الهجين؛ ثم أعطش فأشرب، فلما مللت الشرب أخرجت ليمونة من جيبي وقطعتها، وأخذت أمصها من حين إلى آخر، فما هو إلا أن رأيتني وقد انقبضت حنجرتي ولم أستطع أن آخذ نفسي من فعل الليمون مع جفاف الهواء، فالتفت إلى الطبيب أستنجده بالإشارة، فأسرع إلى الزمزمية وصب الماء في حلقي.. ولو تأخر ذلك بضع ثوان لهلكت، ولكن الله سلم!
ورأينا في الطريق بعض آثار قديمة وعيونا رومانية وشجر الدوم الكثير. وقد وصلنا البلدة ثاني يوم مساء، ورأينا أرضها المحيطة بها من أجود أنواع الأرض، مساحات واسعة ليس ينقصها إلا الماء لتنتج أحسن الزرع. ورأينا البلدة مملوءة بالأطفال الذين لا عائل لهم عن أثر حمى تيفودية اكتسحت آباءهم في العام الماضي.
وفي قومها كرم عربي ولهجة عربية جميلة، كنت أتلذذ من سماعها وخصوصا من النساء اللائي كن يترافعن إلي في شكوى أزواجهن، ورأيت أهلها في نزاع طويل شديد، حتى علمت أنهم في السنة الماضية لم يزرعوا أرضهم عنادا فيما بينهم. ورأيت بها آثارا قيمة زرتها وأعجبت بها.
ولأهلها بعض عادات غريبة، فإذا مات منهم كبير لبست النساء أحسن لباس عندهن وأجده، وإذا كان له سيف أو بندقية أمسكتها زوجته أو قريبته بيدها ووقفت تندب الميت وقد تصاب بجروح مما في يدها.
وفي عودتي من باريس رأيت السراب وما كنت رأيته، كنت أرى بحرا متسعا زرعت عليه أشجار، ولا بحر ولا أشجار. ولاتساع الصحراء وتلاعب الرياح فيها كنت أتخيل أحيانا أن أحدا وراءنا يجري ويتكلم، ثم ألتفت فلا أرى شيئا، فظننت أن هذا هو ما كانت تزعم العرب أن الجن حدثتها أو هتفت بها.
وفي الطريق دروب، وهي خطوط صنعتها أقدام السائرين، وإذا وصلنا إلى أرض حجرية ضاع الأثر، وكان السائر عرضة أن يضل الطريق. وقد سمعت وأنا بالخارجة حديث قوم ضلوا الطريق فماتوا عطشا. وقد انحرفنا نحن في سيرنا مرة انحرافا قليلا سرنا من أجله ساعة حتى وصلنا إلى الطريق السوي.
أما الأمر الثاني الذي كنت أقضي فيه وقتي فمطالعة الكتب. ومن أحسن ما قرأت في هذه الفترة كتب ثلاثة مختلفة الأنواع والألوان، كتاب تاريخ الفلك عن العرب للأستاذ نللينو، قرأته بإمعان واستفدت منه كيف يبحث كبار المستشرقين، وكيف يصبرون على البحث، وكيف يعيشون في المادة التي تخصصوا فيها، وكيف يسيرون في بحثهم من البسيط إلى المركب في حذر وأناة فإذا قلت إنني استفدت منهج البحث من هذا الكتاب لم أبعد عن الصواب.
والكتاب الثاني أصول الفقه للشيخ الخضري، كنت قرأت بعضه وأنا طالب، فأعدت قراءته على شكل آخر أطبق في قراءته ما استفدته من عاطف بك بركات من حرية في النقد وإعمال العقل فيما يقرأ، فكنت أقرأ الفصل وأديره في ذهني وأتساءل: هل هذا حق أو باطل وخطأ أو صواب؟ فإن كان خطأ فما وجه الصواب؛ وأكتب في آخر كل فصل رأيي فيه ونقدي له.
وأما الكتاب الثالث ففي الأدب وهو ديوان الحماسة وشرحه. أقرأ القصيدة أو المقطوعة وأعرف معنى ألفاظها اللغوية ومعنى البيت في الجملة، ثم أعيد قراءته، وما استحسنته من الديوان حفظته.
وفي هذين الأمرين كانت سلواي.
وبعد ثلاثة أشهر بينها إجازة شهر جاءني كتاب من محكمة أسيوط الشرعية، يخبرني بنقلي من القضاء إلى مدرس بمدرسة القضاء.
الفصل السابع عشر
عدت إلى مدرسة القضاء كما كنت، ودرست كما كنت أدرس، أهم دروسي الأخلاق، وبجانبها فقه أو تاريخ أو منطق.
وأحسست ثانية حاجتي الشديدة إلى لغة أجنبية، فدروسي في الأخلاق مصدرها مذكرات عاطف بك التي نقلها عن الإنجليزية، وأنا شيق إلى أن أتوسع فيها، ومن حولي من الأساتذة العصريين يستفيدون أكبر فائدة في مادتهم التي يحضرونها من اللغة الإنجليزية أو الفرنسية، وقد أخفقت في تعلم الفرنسية، فلأجرب حظي في الإنجليزية.
ويوما قابلت صديقي أحمد بك أمين، وجلسنا في مقهى، وذهب الحديث فنونا إلى أن وجدته يقول إنه عثر على كتاب إنجليزي قيم لمستشرق أمريكي اسمه مكدونالد
1
وإنه قسم كتابه إلى ثلاثة أقسام: قسم يتعلق بنظام الحكم في الإسلام، وقسم في تاريخ الفقه الإسلامي، وقسم في المذاهب والعقائد الإسلامية. وأخذ يطري الكتاب ويحكي بعض آرائه، فاستفزني الموضوع وقلت: هل تستطيع الآن أن تذهب معي إلى مدرسة (برليتز) لأرتب دروسا لي في الإنكليزية؟ فقبل، وأقسمت أن أتعلم وأن أقرأ هذا الكتاب في لغته، وذهبنا إلى المدرسة ورتبنا دروسا ثلاثة في الأسبوع بمائة وخمسين قرشا كل شهر.
واشتريت الكتاب الأول، وتولت تعليمي سيدة إنجليزية يظهر عليها أنها فقيرة الحال، تحسن الإنجليزية لأنها إنجليزية، وإن لم تكن مثقفة إلا الثقافة الضرورية. وبذلت في ذلك مجهودا شاقا، أقرأ في البيت وأحفظ في الطريق وأذاكر إذا كنت مراقبا في الامتحان أو مشرفا على حصة ألعاب رياضية؛ والدراسة بهذا الشكل عسيرة إذ لم أكن في فصل يتعاون الطلبة فيه على التعليم، ولم أكن في بيئة تعود سمعي اللغة، ويقول لي الشيخ الخضري؛ لقد جرب هذه التجربة مئات من طلبة دار العلوم، فساروا خطوات ثم وقفوا، ولم ينجح منهم إلا من كان بعثة إلى إنجلترا؛ فقلت له سأجرب كما جربوا ولكن سأنجح إذا فشلوا.
وبعد شهرين في هذا الجهد أحضرت كتيبا صغيرا عنوانه «الإسلام
Islam » للسيد أمير علي، وقلت إن موضوعه معروف لي ومعرفة الموضوع تعين على الفهم. ولكني قرأت الصفحة الأولى فلم أفهم، فظللت أصرف أكثر من ثلاث ساعات في الصفحة، أكشف في المعجم الإنجليزي العربي عن كل كلمة حتى «من» و«عن» وأنا جاد صابر. مكثت على ذلك سنة، أتممت فيها الجزء الأول والثاني من كتب برليتز وبدأت الجزء الثالث في السنة الثانية. وفيه بعض فصول في الأدب الإنجليزي وتاريخه، فأحسست أن هذه المدرسة غير ملمة بتاريخ الأدب وأنها لا تصلح لتدريس هذا الكتاب، فبحثت عن مدرس آخر أو مدرسة أخرى.
ووقفت إلى سيدة إنجليزية كان لها أثر عظيم في عقلي ونفسي.
مس بور (Power)
سيدة في نحو الخامسة والخمسين من عمرها، ضخمة الجسم مستديرة الوجه، يوحي مظهرها بالقوة والسيطرة بسيطة في ملبسها وزينتها. مثقفة ثقافة واسعة، تجيد الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ذات رأي تعتد به جريدة التيمس فترحب بمقالاتها، عرفت الدنيا من الكتب ومن الواقع، أقامت في فرنسا سنين وفي ألمانيا سنين وفي أمريكا سنين فكملت تجاربها واتسع أفقها؛ حضرت إلى مصر ووافقها جوها فأقامت فيها ولكن ليس لها من المال ما يكفيها للإقامة الطويلة، فهي تستأجر بيتا خاليا في ميدان الأزهار وتفرش حجراته، وتؤجرها للراغبين فتكسب من ذلك نحو ثلاثين جنيها في الشهر تكون أساس عيشها، ثم هي رسامة فنانة، تأخذ أدواتها إلى سفح الهرم فترسم الصور الزيتية لمنظر الأهرام والفيضان وما يحيط بهما من منظر جميل أو نحو ذلك من مناظر طبيعية جميلة ترسمها بالزيت وتتأنق فيها، وتقضي في رسمها الأيام والأشهر وتبيعها بثمن كبير، ثم هي تدرس الرسم والتصوير لبنات رئيس وزارة،
2
ثم هي تقبل أن تدرس لي درسا في اللغة الإنجليزية بجنيهين كل شهر، ولا تعاملني معاملة مدرسة لتلميذ، بل معاملة أم قوية لابن فيه عيوب من تربية عتيقة.
ابتدأت أدرس معها الجزء الثالث من سلسلة كتب بيرليتز، أقرأ فيه وتفسر لي ما غمض وتصلح لي ما أخطأت، ثم أضع الكتاب وأحدثها وتحدثني في أي موضوع آخر يعرض لنا، ولا أدري لماذا لا يعجبها مني أن أضع العمامة بجانبي إذا اشتد الحر، بل تلزمني دائما بوضعها فوق رأسي. ونستمر على ذلك نحو الساعتين أتكلم قليلا وتتكلم كثيرا، 1وتنفق أكثر ما تأخذه مني في أشكال مختلفة لنفعي، فهي تدعو بعض أصحابها الإنجليز من رجال ونساء إلى الشاي، وتدعوني معهم لأتحدث إليهم ويتحدثوا إلي، فأسمع لهجاتهم ويتعود سمعي نطقهم، وأصغي إلى آرائهم وأفكارهم وأقف على تقاليدهم، ومرة ترسلني إلى سيدة إنجليزية صديقة لها أكبر منها سنا قد عدا عليها المرض فألزمها سريرها لأتحدث إليها. تقصد بذلك أن هذه المريضة تجد في تسلية لعزائها وفرجا من كربتها، وأنا أجد فيها ثرثارة لا تنقطع عن الكلام، فأستمع إلى قولها الإنجليزي الكثير رغم أنفي.
وتوثقت الصلة بيننا فكأنني من أسرتها، وهي لا تعنى بي من ناحية اللغة الإنجليزية وآدابها فحسب، بل هي تشرف على سلوكي وأخلاقي. لاحظت في عيبين كبيرين فعملت على إصلاحهما، ووضعت لي مبدأين تكررهما علي في كل مناسبة.
رأتني شابا في السابعة والعشرين أتحرك حركة الشيوخ، وأمشي في جلال ووقار، وأتزمت في حياتي، فلا موسيقى ولا تمثيل ولا شيئا حتى من اللهو البريء وأصرف حياتي بين دروس أحضرها ودروس ألقيها، ولغة أتعلمها، ورأتني مكتئب النفس منقبض الصدر ينطوي قلبي على حزن عميق، ورأتني لا أبتهج بالحياة ولا ينفتح صدري للسرور، فوضعت لي مبدأ هو: «تذكر أنك شاب» تقوله لي في كل مناسبة وتذكرني به من حين إلى حين.
والثاني أنها رأت لي عينا مغمضة لا تلتفت إلى جمال زهرة ولا جمال صورة ولا جمال طبيعة ولا جمال انسجام وترتيب، فوضعت لي المبدأ الآخر: «يجب أن يكون لك عين فنية» فكنت إذا دخلت عليها في حجرتها وبدأت آخذ الدرس وأتكلم في موضوعه صاحت في: «ألم تر في الحجرة أزهارا جميلة تلفت نظرك وتثير إعجابك فنتحدث عنها؟» وكانت مغرمة بالأزهار تعنى بشرائها وتنسيقها كل حين، وتفرقها في أركان الحجرة وفي وسطها، ويؤلمها أشد الألم أن أدخل على هذه الأزهار فلا أحييها ولا أبدي إعجابي بها وإعجابي بفنها في تصفيفها.
ويوما آخر أدخل الحجرة فأتذكر الدرس الذي أخذته في غزل الزهور فأحيي وردها وبنفسجها وياسمينها وكل ما أحضرت من أزهار، فتلتفت إلي وتقول: «أليست لك عين فنية؟» أعجب من هذا الاستنكار، وقد حييت الأزهار، فتقول: ألم تلحظ شيئا؟ فأجيل عيني في الحجرة وقد غير وضع أثاثها؟ لقد كان الكرسي هنا فصار هاهنا، وكانت الأريكة هنا فصارت هاهنا، وتقول: قد سئمت الوضع القديم وتعبت عيني من رؤيته، فغيرت وضعه لتستريح عيني، وهكذا..
لازمتها أربع سنوات، استفدت فيها كثيرا من عقلها وفنها ولكني لا أظن أنني استفدت كثيرا من تكرارها على سمعي أن أتذكر دائما أني شاب.
انتهيت من الجزء الثالث، واخترت أن أقرأ معها كتبا أخرى، في الأخلاق أحيانا وفي الاجتماع أحيانا، وفي آخر المرحلة قرأت معها فصولا كثيرة من جمهورية أفلاطون بالإنجليزية، فكان هذا الكتاب مظهر سعة عقلها وكثرة تجاربها؛ فكنت أقرأ الفصل فتشرحه لي، وتبين ما طرأ على فكرة أفلاطون من التغير وما بقي من آرائه إلى اليوم، وكيف طبق هذا المبدأ في المدنية الحديثة في الأمم المختلفة، وهكذا.
ولا أدري ما الذي انتابها فقد رأيتها تكثر من القراءة في كتب الأرواح، ثم تمعن في قراءتها، ثم تذكر لي أنها خصصت ساعتين تغلق عليها حجرتها، وترخي ستائرها، وتغمض عينيها، وتركز روحها في مريض تعالجه وهو في داره وهي في دارها ، أو تجرب تجربة أخرى أن ترسل من روحها إشارة لاسلكية لصاحب لها تنبئه أن يحضر أو لا يحضر، وأن يعد كذا أو لا يعد، وهكذا، وقد نجحت في بعض الأحوال دون بعض فلم تشأ أن تعتقد أن هذا مصادفة؛ ولكنها اعتقدت أن ما نجحت فيه فإنما نجحت لأن الأمر قد استوفى شروطه، وما لم تنجح فيه لم تستكمل عدته، فزاد اجتهادها، وطالت ساعات عزلتها، وأمعنت في تركيز روحها، كل ذلك وأنا أنصحها ألا تفرط في هذا خشية عليها فلا تسمع، لأنها تأمل أن تصل من ذلك إلى نجاح باهر.
وذهبت إليها يوما فرأيتها مصفرة الوجه مضطربة الأعصاب خفاقة العينين، فسألتها عما بها، فأخبرتني أنها ذهبت اليوم صباحا إلى كوبري قصر النيل وهمت أن ترمي نفسها في النيل، ثم رأيتها تذكر لي أنها أخفقت هذه المرة في الانتحار، ولكنها ستنجح في مرة أخرى، فخرجت من عندها آسفا باكيا، واتصلت بطبيب للأمراض العقلية فحضر ورآها، وأخبرني أنه لابد من إرسالها فورا إلى مستشفى المجاذيب، وكذلك كان. وكنت أعودها من حين إلى حين، فإذا جلست إليها تحدثت كعادتها حديثا هادئا معقولا، وسألتها مرة: ماذا بها؟ فقالت، لا شيء بي إلا أنني فقدت الإرادة فإذا أطلق سراحي الآن لا أدري أين أتجه، ثم تولت أمرها القنصلية الإنجليزية فأسفرتها إلى بلدها. وأخيرا - وبعد نحو سنتين - جاءني خطاب بعنواني بمدرسة القضاء عليه طابع إيطالي ففضضته فإذا هو من «مس بور» تخبرني أنها شفيت من مرضها، وأنها الآن في روما، تتمتع بجمال مناظرها ودقة فنونها وروعة كنائسها، فرددت عليها فرحا بشفائها، ثم انقطعت عني إلى اليوم أخبارها رحمها الله.
وفي هذه الفترة التي كنت أدرس فيها مع «مس بور» جاءني صديق وقال إنه يعرف أسرة إنجليزية تتكون من زوج وزوجة يريدان أن يتعلما العربية وأنا أعلم الزوج فهل لك أن تعلم الزوجة؟ قلت: لا أعلمها بمال ولكن أتبادل معها، فأعلمها العربية وتعلمني الإنجليزية، وعرض عليها ذلك فرضيت.
سيدة إنجليزية في ريعان الشباب جميلة الطلعة لها عينان تبعثان في النفس معنى الصفاء والطهارة والثقة، تعيش مع زوجها الإنجليزي المدرس بالمدرسة الخديوية الثانوية عيشة أرستقراطية فخمة؛ مولعان بركوب الخيل والتروض عليها عصر كل يوم، يستمتعان بالزواج الجديد السعيد؛ كنا نقضي ساعتين في الدرس مرتين في الأسبوع، ساعة تعلمني الإنجليزية وساعة أعلمها العربية واختارت لي أن أقرأ معها كتاب «قصص شكسبير للامب».
3
وكنت أرتقب موعد هذا الدرس بشوق ولهفة، وكانت هذه السيدة تغذ عواطفي برقتها وجمالها وكمالها، كما كانت «مس بور» تغذي عقلي بثقافتها وإطلاعها وتجاربها.
كنت أحدثها يوما، وقد قامت الحرب العالمية الأولى فزل لساني ونقدت الإنجليز نقدا خفيفا أمامها، فما كان منها إلا أن دمعت عينها وقالت في رقة: «أتعيب قومي وأمتي»! فخجلت خجلا شديدا وقدرت طينتها التي يجرحها النسيم، ولم أعد بعد لمثلها، واستمررت على ذلك أكثر من سنة قرأت معها هذه القصص، وعلمتها قدرا لا بأس به من العربية. وكان يصعب عليها النطق بالعين فكانت تقول: إن عينكم تؤلمني، كنت أقول في نفسي مثل قولها. وكان لها نقد لطيف لما تتعلمه من العربية - نقد لا ندركه نحن لأنها لغتنا. نشأنا فيها ورضعناها مع لبن أمنا وألفناها منذ صغرنا. قالت لي مرة: إن اللغة العربية غير منطقية، ألا تراها تؤنث الشمس وهي قوية جبارة وتذكر القمر وهو لطيف وديع: فأولى أن نذكر الشمس ونؤنث القمر كما نفعل نحن في لغتنا. وقالت مرة: ألا تعجب من لغتكم تقول ثلاثة كتب، وتقول ألف كتاب، وكان الأولى ما دامت تقول ثلاثة كتب أن تقول ألف كتب. وهكذا من طرائفها الظريفة. واشتدت الحرب فجند زوجها، وانقطع عني خبره وخبرها.
ماذا كنت أكون لو لم أجتز هذه المرحلة؟ لقد كنت ذا عين واحدة فأصبحت ذا عينين، وكنت أعيش في الماضي فصرت أعيش في الماضي والحاضر، وكنت آكل صنفا واحدا من مائدة واحدة فصرت آكل من أصناف متعددة على موائد مختلفة، وكنت أرى الأشياء ذات لون واحد وطعم واحد، فلما وضعت بجانبها ألوان أخرى وطعوم أخرى تفتحت العين للمقارنة وتفتح العقل للنقد، لو لم أجتز هذه المرحلة ثم كنت أديبا لكنت أديبا رجعيا، يعنى بتزويق اللفظ لا جودة المعنى، ويعتمد على أدب الأقدمين دون أدب المحدثين، ويلتفت في تفكيره إلى الأولين دون الآخرين، ولو كنت مؤلفا لكنت جماعا أجمع مفترقا أو أفرق مجتمعا من غير تمحيص ولا نقد. فأنا مدين في إنتاجي الضعيف في الترجمة والتأليف والكتابة إلى هذه المرحلة بعد المراحل الأولى، وهذه الزهرة الجديدة ألفت باقة مع الأزهار القديمة.
الفصل الثامن عشر
ثم إن لهذه المرحلة تكملة. فقد كانت السنة سنة 1914 وقد تخرج من مدرسة المعلمين العليا بضعة من خيار الطلبة عرفوا بالتفوق في العلم والخلق؛ كان أكثرهم مرشحا للبعثة إلى إنجلترا ثم منعهم قيام الحرب، وكان بعضهم من القسم العلمي وبعضهم من القسم الأدبي،
1
شاءت الظروف السعيدة أن أتعرف بهم وأن أصادقهم، رأيتهم مثقفين من غير جنس ثقافتي، ثقافتهم عصرية بحتة، وثقافتي شرعية كثيرا وعصرية قليلا، منهم الذي بلغ درجة جيدة في الجغرافيا والتاريخ العام والأدب الإنجليزي، ومنهم من بلغ هذه الدرجة في الرياضة والطبيعة والكيمياء، وكلهم يعرف من الدنيا الجديدة والمدنية الحديثة أكثر مما أعرف، بحكم ثقافتهم وثقافتي، وقد اخترنا قهوة تطل على ميدان عابدين صاحبها لغوي شاعر يتلقفنا إذا حضرنا ليعرض علينا رأيه في كلمة اكتشف أنها غير صحيحة لأنها لم ترد في معاجم اللغة، أو ليسمعنا قصيدة من نظمه يحملنا على الإعجاب بها ولو من باب المجاملة. على كل حال كان يجتمع هؤلاء الصحاب في هذه القهوة عصر بعض الأيام فتكون منهم مائدة شهية مختلفة الطعوم متعددة الألوان.
هذا مغرم بالقصص الإنجليزية والمجلات الإنجليزية والمجلات يقرأ منها الكثير، وله ذوق حسن في الاختيار وشهوة قوية في التحدث عما اختار، وتحمس لما يقول وما يعرض، ولا يرضيه إلا أن يتحمس السامعون حماسته ويبتهجوا بما يقول ابتهاجه. وكان يقول إن الاستماع إلى الحديث فن كفن الإلقاء، من الناس من يجيده ومنهم من لا يجيده، وإنما يجيده السامع إذا تجاوب مع القائل في شعوره وعواطفه وانفعالاته، يضحك للحديث المضحك ويبكي للحديث الباكي وتظهر على أسارير وجهه كل هذه الاستجابات. وكان يعتقد في أني أجيد الاستماع فيتحدث إلي بأكثر مما يتحدث به مع غيري. فهو يقول مثلا: «اليوم قرأت قصة في مجلة نيشن
Nation
تتلخص في أن طفلا ربي في قصر كبير له حديقة واسعة ولم ير الدنيا خارج القصر ولم يعلم عنها شيئا حتى شب، ثم رأى الدنيا خارج القصر دفعة واحدة من غير تدرج. ثم تصف القصة أثر مناظر الدنيا فيه عندما رآها وهو مكتمل العقل، وكيف تختلف عن أثرها في الصبي قد رآها تدريجا وهو قاصر العقل إلخ»... واليوم قرأت رواية لديكنز بديعة لطيفة ميزتها كذا وهو يرمي بها إلى كذا، واليوم قرأت مجلة مضحكة، وللإنجليز طابع في النكت والنوادر غير الطابع المصري، فأكثر نكتهم ملفوف، مبني على الذكاء، والقليل منهم يعتمد على اللعب بالألفاظ؛ ومن خير النكت التي قرأتها اليوم كذا ثم يفيض فيما قرأ منها ونضحك ونضحك ونتبعها أحيانا بالنقد والاستحسان، وكان خفيف الروح في الإلقاء فيعجبنا بنكته ويعجبنا بقصه - ثم كانت له مغامرات شبابية يخصني بذكرها والحديث عنها وألمه منها واستمتاعه بها.
وهذا الآخر هوايته التاريخ، يطيل القراءة فيه ويفتن بأسلوب الأوروبيين في كتابتهم وقدرتهم على التحليل الدقيق ورجوع الجزئيات إلى كلياتها وحريتهم في تقدير الأبطال والاعتداد بشخصيتهم، فقد يهدم بعضهم بطلا أجمع الناس على بطولته، أو يشيد بذكر مغمور أجمع الناس على خموله، وينقد كتابة التاريخ عند العرب، فقد أحسنوا في رواية الأحداث ولم يحسنوا فلسفتها إلا ما كان من ابن خلدون فقد أحسن في فلسفة التاريخ وقصر في تطبيقها على الأحداث، ثم هو يحاول أن يطبق هذا المذهب فيعرض علينا نمطا من بحثه في عمر وعلي - مثلا - على نمط جديد فيه التقدير وفيه النقد.
وهذا عالم تخصص في الطبيعة والكيمياء وجعل مسلاته الأدب، فهو يقرأ في ديوان أبي الطيب وأبي فراس ويتخير من شعرهما ويحفظه وينشده، وتلتهب عاطفته فيحاول أن يقول شعرا بعضه لا بأس به. وهو فكه النفس لطيف المحضر تأنس لقربه وتستوحش لبعده ، يتحدث فيودع قلبه حديثه. وهذا عالم آخر طبيعي كيماوي أيضا جل علمه ونفسه وكل ما يملكه من ملكات وثقافات لخدمة دينه: أثر في كثير من الطلبة في مدرسته العالية فدينهم، وملأ المساجد به وبهم، قد حفظ القرآن وأطال قراءته وبذل جهدا في فهمه، فهو يفهمه كما يقول المفسرون ويزيد عليهم ما يفهمه من نظريات الطبيعيين والكيماويين وما يقتبسه من أقوال المتدينين من العلماء الأوروبيين، يحلو له الكلام في الدين وهداية الضالين، ويعز عليه أن يسمع إلحادا أو كلمة يشتم منها إلحاد بل لا يسمح أن ينقد أحد أمرا من أمور الدين، ولو كان في التفاصيل، وهو في كل ذلك مخلص لا يقول كلمة بلسانه ينكرها قلبه، قوي الحجة طويل النفس في المناظرة مؤثر إذا قال، جزل الأسلوب إذا كتب. يدرس الكيمياء والطبيعة فتكون دينا؛ ويشرح النظرية الكيماوية فتكون من سنن الله الكونية، يتحرج صحبه أن يذكروا أمامه شيئا يمس شعوره الديني وعاطفته المسلمة، ويهابونه في طربوشه أكثر مما يهابونني في عمتي.
وهذا عالم في الرياضة ولكنه لا يقل ثقافة أدبية عن المختصين في الثقافة الأدبية يقرأ في الأغاني والعقد الفريد كما أقرأ ويتذوقها وينقدها، ويقرأ الكتب الكثيرة في الثقافة العامة الإنجليزية في الأخلاق والاجتماع وعلم النفس، ويتأثر بما يقرأ إلى حد كبير، ويقتنع بما يقرأ ويتحمس له، ويأتي ويحدثنا بخلاصة ما قرأ وما فكر فيما قرأ، وله أسلوب لطيف ساخر جامح في نقد ما يرى وما يسمع تطبيقا لنظرياته التي اعتنقها من قراءاته، ولا بأس أن يغلو في الهدم، ولا بأس أن يغلو اليوم في عكس ما غلا فيه بالأمس، وهذا مما يطول شرحه.
كل أولئك كانوا مدرسة لطيفة لي، مدرسة خلت من عبوس الجد وثقل المدرس وسماجة تحديد الموضوع والزمان والمكان، ونعمت بالبعد عن الامتحان وصداع الجرس، مدرسة فيها الجد والفكاهة، والعلم والأدب، والدين والشعر، والتقريظ والنقد، مدرسة يكون فيها التلميذ أستاذا تلميذا، وإن شئت فقل إن كل من فيها أستاذ تلميذ، مدرسة فيها حرية القول وحرية السماع وحرية الموضوع وحرية كل شيء. تقارب فيها سن الأساتذة والتلاميذ فتجانست مشاعرهم، وتشابهت آمالهم ومطامحهم، وتفتحت نفوسهم للاستفادة من تنوع مواهبهم.
وكان لهذه المدرسة التفاتة لطيفة إلى تقويم البدن كتقويم النفس، والعناية به كالعناية بالعقل؛ فما بالنا نقضي نهارنا في المدرسة ندرس، وعصرنا في القهوة نجلس جلسة الكسالى العجائز نتحدث، وليلنا على المكتب نحضر أين الهواء الطلق؟ أين جمال الطبيعة؟ أين الرياضة البدنية؟ أين الرحلات؟ إن كل هذه تجدد النفس وتنعش الروح وتبعد العجز، وتخدم العقل كما تخدم الجسم، تغذي الروح كما تغذي البدن.
إذن فلنشترك في ناد من نوادي الألعاب الرياضية، ولننظم رحلات أسبوعية، ولأحقق أنا بعض ما كانت تقوله لي المدرسة الإنجليزية «تذكر أنك شاب».
وذهبنا إلى نادي الألعاب الرياضية بالجزيرة واشتركنا فيه، وكانت عمتي أول عمامة اشتركت في النادي، وربما كانت آخرها أيضا. وأخذت خزانة فيه ككل عضو، أضع فيها «الفانيلا والشورت والجزمة الكاوتش»، فإذا حضرت خلعت عمامتي وجبتي وقفطاني ولبست الشورت وما إليه وتسابقت في العدو مع العدائين، ولعبت كرة القدم والعقلة مع اللاعبين، حتى إذا تعبنا جلسنا على الحشيش في الهواء الطلق نتحدث ونضحك. وقد كنت أول الأمر ألهث إذا جريت، وأخفق إذا لعبت، ثم استقام أمري، وإن لم أبلغ في خفة الحركة مبلغ صحبي، لأني أحمل من أوزار تربيتي الأولى ما لا يحملون. فإذا فرغنا من ذلك كله ذهبنا إلى خزائننا وخلعت «الشورت» ولبست الجبة والقفطان والعمامة وخرجت من النادي شيخا وقورا.
ويوم الجمعة أحيانا كنا نخرج إلى رحلة في جبل المقطم في الشتاء، فيوما إلى الغابة المتحجرة، ويوما إلى وادي دجلة أو وادي حوف في نواحي حلوان، ويوما إلى العين الساخنة وهكذا. وكانت رحلات قاسية وقائدنا فيها عنيف لا يرحم. وكم قلت له: «رفقا بالقوارير»، وهو لا يسمع، فكنا نمشي في الوديان ونتسلق الجبال من طلوع الشمس إلى غروبها. نحمل معنا غداءنا وشرابنا على ظهرنا ونسير سيرا حثيثا لا نستريح إلا ساعة نأخذ فيها غداءنا ثم نسير سيرتنا وأعود إلى البيت مضنى متعبا ، ثم أنام ملء جفوني، وأعرج بعدها في مشيتي ثلاثة أيام أو أربعة. ولكني أحس صفاء نفسي وصفاء رأسي. وكنت في هذه الرحلات كشأني في الألعاب. أخيب عضو في الأولى وأبطأ عضو في الثانية: لست أنسى يوما عصيبا ذهبت فيه مع صحبي إلى وادي حوف فلما بدأنا في العودة تخرق نعل جزمتي فسددتها بورق مقوى كنا أحضرنا فيه بعض الفطائر والحلوى، فلم يفد ذلك إلا قليلا، ثم برزت رجلي وسرت على الحصى، ودميت أصابعي، وأبطأ القوم في سيرهم ورثوا لحالي، وأخيرا وأخيرا جدا عثرت على حمار قبل مدخل حلوان، وطلبت من صاحبه أن يحملني إلى المحطة بأي أجر شاء، ودخلت حلوان على حمار وحولي الحواريون يمتزج شعورهم نحوي بالضحك مني والرثاء لي.
وتحررت بعض الشيء، فكنا نذهب أحيانا إلى صالة «منيرة المهدية» لسماع غنائها ومشاهدة رواياتها، وكنت أتأثر من بعض نغماتها أثرا يرن في أذني طول الأسبوع.
فإذا أحب بعضهم أن يذهبوا إلى أكثر من ذلك تواصوا فيما بينهم ألا يخبروني؛ لأني لا أصلح لمثل موقفهم.
وانضم إلى جماعتنا ثلاثة
2
من نوابغ خريجي مدرسة الحقوق كانت لهم ثقافتهم القانونية والسياسية، ودب في الجماعة روح التفكير القومي: فهذا البلد ضعيف مسكين متأخر في جميع مرافقه، ونحن الشباب يجب أن نفكر ونعمل في تقدمه وإعلاء شأنه رغم الاحتلال وسيطرته، فلنؤلف لجانا لدراسة مصر من نواحيها المختلفة: لجنة للناحية الاقتصادية، وأخرى للناحية السياسية ولجنة للتربية والتعليم، ولتفعل كل لجنة فعل الطبيب يشخص المرض ويصف العلاج، وفعلت اللجان ذلك وبدأت الجماعة تعمل؛ لكن عصفت الرياح باللجان كلها؛ وبقيت - بحمد الله - «لجنة التأليف والترجمة والنشر» سن قانونها أحد الأعضاء القانونيين، وقرئ على الأعضاء مجتمعين، وعدل ونقح، والتزم كل عضو أن يدفع عشرة قروش في كل شهر، وأن يجتمع مجلس إدارتها في بيت عضو من أعضائها، وبدأ بعض الأعضاء العلميين يؤلف كتبا في الكيمياء لطلبة المدارس الثانوية، يحضر كل بابا ويقرؤه على الآخرين فينقحونه ويهذبونه، فإذا فرغوا منه قدموه للطبع؛ فإذا لم يكف ما جمع من عشرات القروش أقرض اللجنة بعض الأغنياء من الأعضاء ليتم طبع الكتاب؛ فكان هذا أول حجر في بناء اللجنة.
وقد تكونت اللجنة على هذا المنوال سنة 1914. ونحن الآن سنة 1953 فيكون قد مضى عليها أكثر من ست وثلاثين سنة، وقد طبعت من الكتب أكثر من مائتي كتاب، وكانت لا تقرر كتابا إلا إذا حولته على اثنين خبيرين بالموضوع يبديان فيه رأيا بالصلاحية أو عدمها، أو حاجته إلى التعديل، ولبثت طول هذه المدة رئيسا للجنة يعاد انتخابي فيها رئيسا لها كل عام. وازداد عدد أعضائها إلى أكثر من ثمانين عضوا من خيرة المتعلمين. وزادت رابطة الألفة بين الأعضاء، حتى شبهها الناس بالماسونية. وكل عضو فيها يشجع اللجنة بما يقدر عليه، وأسست لها مطبعة خاصة. كما أسست مجلة اسمها الثقافة تنشر فيها الآراء على مبادئها واستمرت نحو أربعة عشر عاما ثم أوقفتها هذا العام سنة 1953 لما تتكبد فيها من خسائر، وقد حزن الأعضاء والقارئون على وقوفها، ولكن ماذا يجدي الحزن العاطفي أمام الخسائر الفادحة؟
ونمت مالية اللجنة من هذه العشرات من القروش ومن الأرباح من الكتب حتى بلغت أكثر من ستين ألفا من الجنيهات. وشغلت هذه اللجنة جزءا كبيرا من حياتي. فكنت أذهب إليها كل يوم أدير شئونها وأطلع على مشاركها: وأقرأ بريدها وأؤشر على ما يلزم في هذا البريد. ولم ينقطع ترددي عنها كثيرا إلا بعد مرضي؛ وقد كانت اللجنة تسكن أولا في بيت عضو من أعضائها. ثم استأجرت مكانا متواضعا في حي بلدي. ثم اشترت بيتا في حي أرستقراطي بنحو 20 ألف جنيه. وأخيرا وبعد أن وقفت على رجليها منحتها الحكومة مبلغا من المال يقرب من تسعمائة جنيه كل سنة،أفردناه في دفاتر خاصة وطبعنا به كتبا خاصة، نبيعها بتكاليفها تقريبا، وتحاسبنا الوزارة على هذا البند وحده، وعلى الجملة كانت هذه اللجنة مشغلة لي، أسأل عنها، وأحاسب نفسي عنها كما أحاسبها على أولادي، وأستعين بأعضاء مجلس إدارتها الكرام على تنظيم شئونها، وترتيب أمورها، وأحمد الله على التوفيق فيها.
3
على كل حال كانت هذه اللجنة نتيجة لصداقة هؤلاء الأصحاب الذين ذكرت بعض صفاتهم. وحظيت بصداقتهم.
وبهؤلاء الصحاب أحسست أني أقرب من عقليتهم ومزاجهم وثقافتهم شيئا فشيئا، وأبتعد عن عقلية زملائي الأقدمين ومزاجهم شيئا فشيئا، ورأيتني - بفضل ما شوقوني من كتب - أكون لنفسي نواة من الكتب الإنجليزية بجانب الكتب العربية، وأحضر دروسي منها في الأخلاق والمنطق، وأملأ الفراغ بالمطالعة في هذه وتلك، وإذا العين تنفتح والأفق يتسع.
الفصل التاسع عشر
وبدأت أستغل ما تعلمته من الإنجليزية، فصارت لي مكتبتان أشتري منهما الكتب، مكتبة عربية بالسكة الجديدة، بحي الأزهر، ومكتبة إنجليزية بشارع المغربي في الحي الإفرنجي، فأما المكتبة العربية فصاحبها
1
رجل غريب الأطوار من أصل أناضولي، كان ربيب نعمة، تربى في المدارس الفرنسية وهو يجيدها قراءة وكتابة، وتفلسف في الحياة فلسفة تشاؤمية على أثر صدمة صدمها، فقد تاجر في القطن ودخل البورصة وكسب حتى صارت النقود في يده كالتراب، ثم خسر فلم يبق في يده إلا التراب وفتح دكان بقالة فلم ينجح، ثم صار كتبيا لا يعبأ بالمال ولا بالحياة، ولا بالناس: دكانه كأنه منظرة في بيت أو قهوة في شارع، يأتي إليه هواة الكتب فيجلسون مطمئنين ويتحدثون في كل شيء، ويشربون القهوة والسجاير، ويقضون الساعة والساعتين، ثم قد يشترون وقد لا يشترون، والكتب مكدسة في الدكان حيثما اتفق، فكتاب نحو بجانب كتاب تاريخ، وهو لا يعرف موضع الكتاب إلا ظنا، وقد تسأله عن كتاب فيؤكد أنه عنده ثم يصعد السلم يبحث عنه فلا يجده، ويغير موضع السلم من اليمين إلى اليسار فيبحث عنه فلا يجده، فيرجوك أن تمر عليه بعد يومين أو ثلاثة من غير اكتراث؛ ومن طول ما مارس السوق كانت عنده فراسة قوية في المشترين، شاهدته مرة وقد جاء شيخ يسأل عن كتاب فقال له ليس عندي والكتاب أمامه، فعاتبته في ذلك فعدا خلف الشيخ فناداه وعرض عليه الكتاب، فأخذ الشيخ يماكس ويمارس ويطيل المماكسة، ثم انصرف من غير أن يشتريه، فالتفت إلي وقال: صدقت؟
وله علم بالكتب وموضوعاتها وقيمتها، وله ميزة عن غيره من تجار الكتب العربية بأنه يعرف الكتب العربية التي طبعها المستشرقون في أوربة، يستجلبها في سهولة ويسر لحذقه الكتابة باللغة الفرنسية، وناشرو هذه الكتب يثقون به لصدق معاملته، كما أن له ميزة أخرى وهي معرفته بهواة الكتب من زبائنه، فهذا الكتاب يناسب فلانا، وهذا الكتاب لا يناسب فلانا وإذا أتاه كتاب حجزه للذي يظن به الانتفاع منه؛ وله في ذلك طبع غريب فهو يرضى أن يبيع الكتاب لهاويه الذي ينتفع به بجنيه، ولا يرضي أن يبيعه لمن لا ينتفع به بجنيهين. وهو مشهور بين زملائه بالزندقة، لأنه لا يعترف بالأولياء ولا بالأضرحة ولا بزيارة القبور ونحو ذلك، ثم هو لا يكتم عقيدته في نفسه، بل يكررها في كل مناسبة؛ ركب مرة قطارا من مصر إلى الإسكندرية، وجلس مع جماعة في صالون فلما وصل القطار إلى طنطا قال أحد الحاضرين: الفاتحة للسيد البدوي، فصاح هذا الكتبي: ومن يكون السيد البدوي وما كراماته وما قيمته! وطال لسانه فقام عليه الحاضرون وأوسعوه ضربا. ولم ينج منهم إلا بعد عناء. وهكذا وهكذا من فصوله الغريبة. وهو أمين صادق المعاملة يقنع بكفاف العيش، وبساطة اللباس. إن ضاقت عليه الدنيا لبس جلبابا بدل البدلة. ولم يعبأ بأسرته الكبيرة لتغير من شكله.
ولست أنسى مرة حادثا غريبا في بابه حدث لي من جراء هذه المكتبة، وبعض أحداث الدنيا يحدث على غير انتظار ومن غير سابق مقدمات. وإذا كان الموت - وهو القاضي على الحياة قد يحدث فجأة في أشد أوقات السرور، فأولى أن تحدث الأزمات مما دونه من الحوادث. لقد كان عندي كتاب «نفح الطيب» طبعة برانية وأردته طبعة أميرية، ووجدت عند صاحبنا هذا نسخة لطيفة مجلدة تجليدا فخما، فاشتريتها منه وهي أربعة مجلدات وضعتها تحت إبطي الأيسر، وأمسكت جريدة المؤيد بيدي اليمنى، وانتظرت عربة كانت تسمى عربة سوارس - عربة كبيرة تجرها الجياد من سيدنا الحسين إلى العتبة الخضراء - فجاءت مزدحمة، وركبتها فوجدت في ممشاها قففا لفلاحات وأخراجا لفلاحين ورفعت رجلي أتخطى قفة من القفف فمست سيدة جالسة تلتفع بملاءة لف وعلى وجهها برقع بقصبة، فصاحت بي وأمطرتني وابلا من السباب، فغضبت، وضربتها ضربة خفيفة بجريدة المؤيد على فمها أقول لها اسكتي، فراعني أنها صوتت صوتا مرعبا لفت كل من في الشارع، ووقفت العربة واجتمع الناس يتعرفون الخبر، ونادت البوليس وصممت عليه فنزلت ونزلت وحضر البوليس وركبنا عربة إلى القسم، ودخلنا غرفة المعاون فسمع مني وسمع منها، ورأى المسألة بسيطة فطلب مني أن أعتذر وسألها أن تقبل العذر، فلم تقبل، فألح عليها فلم تقبل أيضا، فاضطر أن يحرر بذلك محضرا رسميا، وأخذ أقوالي وأقوالها، وألحت أن تحال على طبيب المحافظة لأن بها خدشا في أنفها من ضربة الجريدة، ففعل وخرجت وخرجت مضطربا مرتبكا خجولا خائفا، فقد كان هذا أول حادث من نوعه، فلم أدخل يوما مركز البوليس فكيف والشاكي امرأة!! ولعنت الكتب ونفح الطيب وأشباه نفح الطيب مما جر علي هذا البلاء المبين، وبقيت أياما قلقا مضطربا لا أدري ماذا يفعل بي، وإذا بإعلان يجيئني بأني اعتديت على السيدة اعتداء أحدث بها جرحا قرر الطبيب لعلاجه واحدا وعشرين يوما، فاعتبر الواقعة جنحة مغلظة، وحددت لها جلسة فارتجفت وقضيت ليلة أليمة لم تذق فيها عيني النوم، وفي الصباح ذهبت إلى صديقي أحمد بك أمين أستشيره فيما أفعل فذهب معي إلى وكيل نيابة الأزبكية وقصصنا عليه الأمر، فقال إن المسألة خرجت من يده لأن القضية أعطيت نمرة خاصة مسلسلة وسجلت في دفاتر النيابة وحددت لها جلسة وأعلن ذلك كله إلى المتهم فأصبح أمرها متصلا بالقاضي وخرجت بهذه الإجراءات من سلطان النيابة.
فزادني ذلك ارتباكا واضطرابا بالنهار وأرقا بالليل، وأخيرا ذهبت بعريضة الدعوة إلى عاطف بك وشرحت له القصة فضحك منها ومني وأخذني معه إلى وكيل وزارة الحقانية فتحي باشا زغلول فبذل في ذلك مجهودا حتى انتهى الأمر؛ فويل للناس من النساء إذا انتقمن.
وأما المكتبة الإنجليزية فمكتبة مرتبة منظمة صاحبها كنا نسميه الأستاذ فرج ليس فيها موضع لجلوس ولا قهوة ولا تدخين، ولا حديث لصاحبها إلا كتاب يباع وثمن يدفع ، قد صف فيها الكتب صفا فنيا؛ فهذا مكان القصص، وهذا مكان لكتب الاجتماع، وهذا مكان لعلم النفس وهكذا. وإذا سألت صاحبها عن كتاب اتجه يمينا أو يسارا ونظر نظرة فاحصة في ثانية ومد يده فاخرج الكتاب أو قال لك ليس عندي، قد عشقت هذه المكتبة أول عهدي بالإنجليزية، وتلذذت من زيارتها - ولكل جديد لذة - أزورها فأقضي فيها وقتا طويلا أتصفح فيها الكتب وأشتري منها ما يروقني، وقد كونت منها نواة لمكتبتي الإنجليزية، وأكثر ما اشتريت منها كتب في علم الأخلاق لأستعين بها على تحضير دروسي؛ وكتب في علم الاجتماع، إذ شوقني إليها قراءتي مع «مس بور» جمهورية أفلاطون، وكتب في مبادئ الفلسفة، إذ كانت الأخلاق والاجتماع فرعين من فروع الفلسفة، وكتب في المنطق لأني أردت أن أعرف كيف يكتب الإفرنجي في المنطق بعد أن عرفت كيف يكتب العرب، وكتب في الإسلاميات مما كتبه المستشرقون لأن هذا موضوعي.
على كل حال بدأت أحضر دروسي من الكتب العربية والإنجليزية معا، فأعددت محاضرات عامة في تاريخ علم الأخلاق عند اليونان والرومان والعرب وفي العصور الحديثة استقيت أكثر موادها من الكتب الإنجليزية. وشغفت أياما بنظرية النشوء والارتقاء لدارون، فقرأت فيها كتب شبلي شميل بالعربية، وبعض الكتب الإنجليزية التي تعرض للموضوع عرضا مبسطا. وأعددت محاضرتين فيهما ألقيتهما على طلبة مدرسة القضاء وبعض أساتذتها وبحضور ناظرها وكانت إحدى المحاضرتين في معنى مذهب النشوء وما يرمي إليه، والثانية في تطبيق نظرية النشوء على الأخلاق، كما اتجه إلى ذلك سبنسر وغيره، وأحدثت هاتان المحاضرتان دويا: كيف يلقى مثل هذا الموضوع على طلبة القضاء الشرعي؟ وكان من نتيجته أن أرسل شيخ الجامع الأزهر
2
إلى ناظر المدرسة يسأله. كيف أباح لمدرس في المدرسة أن يلقي محاضرات في مذهب الزنديق دارون! فأهمل الناظر السؤال ولم يرد عليه.
ويوما لقيت في هذه المكتبة الإنجليزية كتيبا صغيرا عنوانه «مبادئ الفلسفة» تأليف رابوبورت، قرأته فأعجبني لسهولته وبساطته وشموله، كتبه مؤلفه لطلبة المدارس الثانوية يعرفون به معنى الفلسفة وموضوعها، فشغفت بترجمته وكنت أقف في جمل كثيرة منه رجعت فيها إلى صديق
3
لي أستوضحه ما غمض حتى أنهيت ترجمته، وبذلت فيه جهدا كبيرا إذ كان أول عهدي بالترجمة، ثم طبعته ونشرته، فكان هذا أول نتاج لي وكان ذلك سنة 1918، وقوبل الكتاب بما شجعني أن أعيد النظر في مذكراتي التي أعددتها للطلبة في علم الأخلاق، وأزيد عليها وأحولها إلى كتاب سميته كتاب الأخلاق، وطبعته بعد مبادئ الفلسفة بقليل.
الفصل العشرون
وكان لي بجانب هذه المدرسة من الأصدقاء - ذوي الثقافة الإنجليزية - جمعية من أصدقاء آخرين ذوي ثقافة فرنسية غالبا، عميدها صديقي المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي كان شيخا للأزهر فيما بعد، ومن بينهم الدكتور منصور فهمي والمرحوم الأستاذ عزيز مرهم والأستاذ محمد كامل البنداري، والدكتور محمود عزمي وغيرهم وكان مكانها في بيته، وكان أكثر أعضائها من خريجي الجامعات الفرنسية ومما ألف بينهم إقامتهم في فرنسا وتعلمهم بها؛ وإذا كان يكثر في الجامعات الأولى ذكر شكسبير وديكنز وماكولي وبرناردشو وه. ج ولز، فقد كان يكثر في هذه الجمعية ذكر جان جاك روسو وفولتير وراسين وموليير ودركهايهم، وإذا كانت الجمعية الأولى تغلب عليها المحافظة والاعتدال فهذه يغلب عليها التحرر والثورة على القديم - كنا نجلس في هذه الجمعية، وقد يحضر فيها أحيانا بعض السيدات الفرنسيات زوجات بعض المصريين، وبعض العلماء من الأزهر، ويتشقق الموضوع ويثار الجدل، ويكون الحديث مزاجا بين حرية فرنسية واعتدال إنجليزي ومحافظة أزهرية، نتحدث في السياسة وحرية المرأة، وفي المقارنة بين فرنسا ومصر.
وكان من أعجب من عرفت في هذه الجمعية شاب تثقف ثقافة قانونية امتاز بالشجاعة الأدبية والصراحة، فكان لا يقول إلا ما يعتقد، ولا يعمل إلا وفق ما يعتقد، على حين أن كثيرا من الشبان يرون الرأي ثم لا يقولونه، وإذا قالوه لا يعملون على وفقه، كالذي سمعت أن جماعة كانوا يجتمعون في منظرة في بيت وكانوا يتجادلون في سفور المرأة وحجابها، وكان صاحب البيت أكثرهم تحمسا للسفور ودفاعا عنه وتأييدا له، فبينما هم في المناظرة إذا بصوت سيدة عجوز هي جدة صاحب البيت يصل إلى آذان المتناظرين في المناظرة فيخجل صاحب البيت ويصعد إلى جدته يؤنبها على علو صوتها وقد نسي محاضرته في السفور.
أما صاحبنا هذا فكان شجاعا جريئا في كل ما يقول ويعمل، تزوج فتاة مصرية، وإذ كان يعتقد السفور حملها على السفور فأطاعته، في وقت عز فيه السفور، وعلا الصوت في نقده ومقته، فكان يخرج بها في المجتمعات ويزور معها الأصدقاء، ويجلس هو وهي في مقهى ولا يعبأ بنقد الناقدين ولا عيب العائبين، وكان وكيل نيابة في أسيوط وأسيوط بلد محافظ، فعابوا عليه تصرفه وشكوه للحقانية فلفتت نظره فصمم على عمله فنقل إلى الإسكندرية ولم يتحول عن طريقته. وأخيرا رماه الزمان الذي لا يرحم بداء السل وألح عليه المرض فألزمه السرير، وتفرق عنه أهله وأقرباؤه، فعكف وهو على سرير الموت يكتب كتابا عنوانه «كلمتي إلى أمتي» ثم لفظ النفس الأخير.
1
كنا نجلس يوما مع نخبة من هذه الجماعة وكان أحدها يصدر جريدة اسمها «السفور»
2
يدافع فيها عن رأي قاسم أمين ويدعو إليه، فدعانا أن نأخذ الجريدة ونساهم معه في إخراجها ونتولى تحريرها فقبلنا هذا العرض، وتألفت لجنة من الجمعيتين
3
جمعيتي الأولي المثقفة ثقافة إنجليزية وجمعيتي الثانية المثقفة ثقافة فرنسية، وتسلمنا الجريدة نحررها، وكانت جريدة أسبوعية، فكنا نجتمع يومين أو ثلاثة في الأسبوع نقرأ بريد الجريدة ونقرأ فيها ما حرره كل منا من مقالة وننقد ما نسمع ونجيز أو لا نجيز ما ينشر، وجهدت أن أكتب مقالة كل أسبوع، فكان ذلك أول عهدي بالصحافة وبالكتابة، وكان ذلك أيضا على ما أذكر سنة 1918.
وفي هذا العهد كثر الحديث في مجالسنا عن الزواج والأزواج والزوجات وسعادة الزوجية وشقائها وضرورتها أو الاستغناء عنها والزواج بالأجنبيات والمصريات، ورويت الأحاديث المختلفة عن فلان المتزوج الذي سعد في زواجه وفلان المتزوج الذي شقي بزواجه، وفلان الذي أضرب عن الزواج واستمتع بالحياة في أولها وشقي في آخرها وهكذا، وجال الموضوع في ذهني في قوة ووجدتني قد بلغت التاسعة والعشرين، فصممت أن أبت في الموضوع هل أتزوج أو لا أتزوج ، وأخيرا وبعد تردد طويل قررت أن أتزوج، ولكن نشأت العقدة الثانية: من أتزوج؟ وكان السفور في هذا الزمن في أول أمره لم يجرؤ عليه إلا عدد محدود من المثقفات، فكان الزواج غالبا يخضع للتقاليد القديمة؛ يسمع الشاب من صديقه أو أحد أقاربه أن لفلان بنتا في سن الزواج، وقد يبلغه هذا الخبر من محترفة لهذه الوظيفة وهي التي تسمى «الخاطبة» وهي امرأة تزور البيوت وتتعرف أخبارها وترى من فيها من الشابات في سن الزواج أو من الشباب الذين يريدون الزواج، وتكون واسطة بين أهل الزوج وأهل الزوجة في تعريف هؤلاء بأولئك، فيتقدم أحد أقارب الشاب إلى أبي الشابة أو ولي أمرها يعرض عليه الرغبة فإذا قبل أرسل الشاب أمه وبعض قريباته من النساء لرؤية الفتاة، فإذا وصفوها وصفا اقتنع به تقدم للزواج من غير أن ينظرها ويعرف شكلها وطباعها وأخلاقها. وإنما يعرف ذلك كله بعد عقد العقد وبعد الزفاف.
وهكذا كان الزواج في عهدي في مثل طبقتي، وكنت شابا لا بأس بشكله ولا بأس بأسرته، فأنا وبيتي نعد من الأوساط وأنا أحمل شهادة عالية، ومرتبي نحو ثلاثة عشر جنيها وهو مرتب لا يستهان به في ذلك العصر، وكنت أتلمس الزواج في أمثالي من الأوساط. لا أطلب الغنى ولا أطلب الجاه، ومع ذلك كله وقفت العمامة حجر عثرة في الطريق، فكم تقدمت إلى بيوت رضوا عن شبابي ورضوا عن شهادتي ورضوا عن مرتبي، ولكن لم يرضوا عن عمامتي، فذو العمامة في نظرهم رجل متدين، والتدين في نظرهم يوحي بالتزمت وقلة التمدن والالتصاق بالرجعية والحرص على المال ونحو ذلك من معان منفرة، والفتاة يسرها الشاب المتمدن اللبق المساير للدنيا اللاهي الضاحك، فكم قيل لي أن ليس عندهم مكان لعمامة. ورضي بي قوم أولا وأحبوا أن يروني، فأحببت أن أريهم أني متمدن، وذهبت إليهم أحمل كتابا إنجليزيا، وجلست إليهم وجلسوا إلي وتحدثت عصريا على آخر طراز وحشرت في كلامي بعض كلمات إنجليزية فاستغربوا لذلك. وفهمت أنهم أعجبوا بي ورضوا عني، ولكن بلغني أن الفتاة أطلت على من الشباك وأنا خارج فرأت العمامة والجبة والقفطان فرعبت ورفضت رفضا باتا أن تتزوجني رغم إلحاح أهلها. وشاء القدر أن تتزوج هذه الفتاة - فيما بلغني شابا أنيقا كاتبا في وزارة ولكنه سكير معربد أذاقها المرار في حياتها الزوجية ثم طلقها، ومازال سوء حالها حتى تزوجت بعامل في التلغراف وجاءت إلي وأنا قاض في محكمة الأزبكية تطلب من زوجها النفقة.
وهكذا لقيت العناء في الزواج، فكلما دلني صديق على فتاة فإما أن أجد مانعا منها وإما أن تجد مانعا مني، فمن أرضاه لا يرضاني ومن يرضاني لا أرضاه. وأخيرا دلني مدرس معي في مدرسة القضاء على بيت رضيني ورضيته، فأرسلت أمي وأختي وزوجة الأستاذ لرؤية الفتاة فرأينها ووافقن عليها، وجعلت أسأل أمي وأختي أسئلة عن شكلها وملامح وجهها وطولها وعرضها وفراستها في أخلاقها ونحو ذلك، وأستمع لإجابات لا تصور شكلا ولا توضح حقيقة وأجلس إلى نفسي وأعمل خيالي فيما سمعت، فأصوغ من ذلك شكلا. وقد أجلس معهما مرة أخرى أسمع منهما حديثا آخر ووصفا آخر، فأتخيل من ذلك صورة أخرى وهكذا، وأخيرا سلمت الأمر لله وتركت التصوير حتى ترى العين ما رسم الخيال، وتم عقد الزواج يوم 3 إبريل سنة 1916، وقد أخذت يوم العقد مائة جنيه إنجليزي ذهبا في علبة جميلة قدمتها مهرا للزوجة، وانتظرت نحو أربعة أشهر حتى يتم أهل الزوجة الجهاز.
وكانت هذه الأشهر الأربعة مجال تفكير في السعادة المرجوة والأحلام اللذيذة، وبناء القصور على الآراء الفلسفية أو النظريات المدونة في الكتب، فأنا أزور المكتبة الإنجليزية وأبحث عما كتب في الزواج، فأعثر - مثلا - على سلسلة من الكتب أحدها فيما ينبغي للزوج أن يعلم، وثانيها فيما ينبغي للزوجة أن تعلم وهكذا. ثم أجد كتابا في الزواج السعيد وآخر في الأسرة، وثالثا في تربية الطفل فأقرؤها وأفكر فيها وأستخلص منها ما يجب أن أعمل لأسعد وعلى أي الأسس أبني أسرتي وهكذا.
وقد ذهبت بعيد الزواج إلى مصور صورني صورة تذكارية احتفظت بها، ووجدتني قد كتبت على ظهرها العبارات الآتية : «هذه صورتي أخذت يوم الجمعة 7 إبريل سنة 1916 وسني تسع وعشرون سنة وستة أشهر، عقب عقد زواجي بأربعة أيام، وقد اتخذت الكتب شعارا لي في الصورة، فوضع المصور أمامي كتبا من عنده وأمسكت بيدي اليسرى كتاب «مبادئ الفلسفة» وكنت قد عربت أكثره وأوشك على الانتهاء. وقد لاحظت أن أصور صورة في غاية البساطة فلم أتعلم شيئا إلا اختيار الثوب الذي اخترته يوم عقد الزواج، وربما كان الباعث لي على هذا التصوير ما أشعر به من أني قادم على حياة جديدة ومرحلة جديدة، فقد أنهيت حياة الوحدة وسأقدم على حياة الأسرة، وأنا مقتنع أن هذه البيئة الجديدة سيكون لها أثر كبير في نفسي وجسمي وعقلي، وسأقارن بين المعيشتين وأثرهما إذا كان في الأجل متسع - ومن البواعث على هذا التصوير أيضا علمي أن السنة المتممة للثلاثين تختم حياة الصبا والفتوة وتفتح حياة يغلب عليها العقل والروية، على أني - والأسف يملأ فؤادي - لم أنتفع بزمن الصبا والفتوة كم كان يجب. فلم يجد المرح والنشاط واللهو - ولو كان بريئا - ولا الحب إلى قلبي منفذا، بل تشايخت منذ الصبا - وهذا ولا شك أثر التربية المنزلية، فقد كانت تربية أساسها التخويف والإرهاب، ولم يكن في بيتي أي مظهر من مظاهر البهجة والسرور، وإني في هذه السنة أحس شيئا من النشاط على أثر دروسي الإنجليزية مع مدرسة إنجليزية كانت تصلح من نفسي كما تصلح من لساني، وكانت تنتقد في الهدوء والسكينة، كما كان لدروس الأخلاق مع عاطف أثر كبير في نفسي؛ ومما أحسه أيضا أنني أكثر حرية في الفكر وأكثر نقدا لما يعرض لي؛ وأكثر ميلي هذه السنة إلى القراءة في عملي الأخلاق والاجتماع مع ما أجد من الصعوبة في فهم ما أقرأ، لقرب عهدي بتعلم الإنجليزية، فقد بدأت تعلمها في يناير سنة 1914 فلي الآن نحو سنتين ونصف سنة وهي مدة لم تكف في التبحر فيها.
وأنا الآن مدرس بمدرسة القضاء ومرتبي 1320 قرشا في الشهر ولم أمل التدريس ومازلت أفضله على القضاء - وأنا أرجو من الله أن يعينني على القيام بعمل عظيم أخدم به أمتي من الناحية الخلقية والاجتماعية». (كتب في 20 يوليو (تموز) سنة 1916).
وليس لي تعليق على ما كتبته خلف الصورة إلا على قولي «إن الحب لم يجد إلى قلبي منفذا» فهو تعبير غير دقيق وقوي لا يصدق إلا على رجل جامد العواطف، بل كانت عواطفي أقرب إلى أن تكون حادة ولاسيما في أيام الشباب الأولى ظهرت حدتها في العاطفة الدينية فقد كانت مشبوبة حادة، وفي حبي لأصدقائي فقد كنت آنس بقربهم وآلم لبعدهم، وفي عاطفة الرحمة والشفقة على الفقراء والبائسين ونحو ذلك من مظهر للعواطف، بل لقد تحركت في عاطفة الحب منذ الصبا، فقد أحببت وأنا في نحو الخامسة عشرة ابنة جار لنا والتهبت عاطفتي فأرقت كثيرا وبكيت طويلا، وكل ما كان من وصال أن أجلس أنا وهي على كرسيين أمام دارها نتحدث في غير الغرام، فلما وسوس الشيطان لأبيها حجبها عني وشقيت زمنا بذلك ثم سلوت، ثم أحببت المدرسة الإنجليزية الشابة حبا ضنيت به ولم تشعر به، وكل ما سعدت به ساعات الدرس أتحدث إليها وتتحدث إلي وتنظر إلي بعينيها الصافيتين الأمينتين، ولكنه كان حبا يائسا، فهي متزوجة مخلصة لزوجها سعيدة بزواجها، فعاطفة الحب كانت في أعماق نفسي ولكنها مكبوتة، حال دون ظهورها وسطي، فالفتاة لم تكن سافرة سفور اليوم، وكان الشاب لا يعرف من الفتيات إلا أقاربه، وكانت تربيتي الدينية تعد الحب فجورا والنظر إلى الفتاة وحديثها إغواء شيطانيا، ومدرستي كبيتي متزمتة متعنتة، لا ترتاح لأن يجلس طالب في قهوة، وتعاقب من وجد في صالة غناء. وحدث مرة أن شوهد متخرج حديثا من المدرسة يجلس في مقهى الأزبكية مع صاحبيه من غير المدرسة وأمامهم كاسات من البيرة، فكان من سوء الحظ أن مر عليهم عاطف بك ورأى هذا المنظر، ومع أنه لم يتحقق من شرب هذا الشاب البيرة فقد حرمه من تولي القضاء سنين، ورفض كل رجاء في العفو عنه، ولم يعين بعد إلا بضغط عليه شديد أو رغما عنه.
كل هذا لم يهبني مجالا للحب، بل كبته في أعماق نفسي إلى أن تزوجت.
وبعد العذاب في اختيار الزوجة وعقد العقد وإعداد الجهاز اخترت بيتا أسكن فيه وحدي مع زوجي قريبا من بيت أهلي، وحرصت على ذلك حتى أتجنب الأقوال الشائعة والحكايات التي لا تنتهي في النزاع بين الزوجة والأم، وكذلك تمت هذه المرحلة.
الفصل الحادي والعشرون
تزوجت وكان كل اعتمادي في الزواج - كما ذكرت - على الخيال لا على الواقع. الخيال هو الذي رسم صورة زوجتي وأخلاقها وصفاتها معتمدا في رسمه على أحاديث النساء اللاتي شاهدنها، والخيال هو الذي رسم صورة لحياتي المستقبلية اعتمادا على ما سمعته من أحاديث عمن سعدوا في زواجهم ومن شقوا، وأسباب سعادتهم وأسباب شقائهم، واعتمادا على ما قرأته في الكتب الإنجليزية عن الحياة الزوجية.
ولكن شتان بين الواقع والخيال؛ فالخيال يرسم الصورة وهو حر طليق محلق في السماء، والواقع يلتصق بالأرض ويتقيد بالظروف والبيئة والمكان والزمان وغير ذلك. وقد أذكرني الفرق بين الواقع والخيال بحادث حدث لصديق لي سافرت معه إلى الإسكندرية لنستجم من متاعبنا، وكنت أعرف العوم ولم يكن يعرفه، فغاظه ذلك وصمم على أن يتعلم العوم، وصادف أن مر أمام مكتبة إنجليزية فرأى في ظاهرها كتابا في العوم فاشتراه - وكان قويا في اللغة الإنجليزية فسهر عليه ليلة حتى أتمه قراءة وفهما وعرف منه تمام المعرفة نظرية العوم وكيفيته وطرقه، وأيقن أنه بذلك يستطيع أن يغالب أكبر عوام، وحدثني بذلك في الصباح فضحكت من حديثه، فلما ذهبنا إلى حمام البحر تبخرت كل نظرياته وعلمه، ووضع «قرعتين» على ظهره، وأمسك بالحبل الممدود، وطمأن رجليه على الرمل، ولكن سرعان ما اصفر وجهه واضطرب جسمه وخاف أن يفارق الحبل ليسبح وفقا لنظريات الكتاب.
قابلت زوجي فكنت كمن يفض «حلاوة البخت» أو كمشتري ورقة «اليانصيب» حين يقرأ جدول النمر الرابحة، وحمدت الله على ما وهب، وبقي لي أن أعرف صفاتها التي تظهر يوما فيوما كلما حدثت مناسبة أو جد جديد.
لقد عشنا زمنا عيشة هادئة سعيد فيها لذة الاستكشاف: أتكشف أخلاقها وتصرفاتها وتتكشف أخلاقي وتصرفاتي، وفيها لذة تحقيق الشخصية فقد لبثت طويلا في كنف أبوي، وأنا الآن رئيس البيت حر التصرف إلى آخر ما هنالك.
ولكن صدم زوجي بعد قليل أن رأتني هادئا غير مرح، قليل الكلام، وقد تربت في بيت مرح، مملوء بالضحك والبهجة، يكثر فيه الحديث في الفارغ والملآن، فظنت أني لا أقدرها أو نادم على الزواج بها. وأؤكد لها أن هذا طبعي كسبته في بيتي فلم تصدق ولم تطمئن إلا بعد طول العشرة ووثوقها من أني كذلك مع غيرها لا معها وحدها.
ومشكلة أخرى عرضت لي ولها. وهي أني رجل مدرس مضطر إلى تحضير دروسي في المساء لألقيها في الصباح. وفوق ذلك أحب القراءة في غير دروسي أيضا، فأنا فرح بتعلمي الإنجليزية مشغول أول عهدي بالزواج بإنهاء ترجمة كتاب «مبادئ الفلسفة» وزوجتي مثقفة ثقافة محدودة، تقرأ القصص والروايات الخفيفة من غير شغف، فهي تحتمل الصباح وحدها لإعداد ما نأكل وتنظيف ما ينظف، ولكن كيف تحتمل المساء أيضا وحدها وأنا في غرفة بجانبها أقرأ وأكتب والأيام هي الأيام الأولى لزواجنا؟ وحدث مرة أن أعدت العشاء وفتحت علي الباب وأخبرتني بأن العشاء معد، وكنت أمام جملة في مبادئ الفلسفة صعبة، أحاول ترجمتها وأحاور عبارتها وأتذوق صياغها، فلم أسمع النداء والإخبار، ولم أشعر بفتح الباب، فكان خصام وكان نزاع وكانت شكوى إلى أهلها لم تنته إلا بعناء ولم أستطع التحول عن طبعي وغرامي، ثم حلت المشكلة بعض الشيء بالولد الأول واشتغال أمه به ثم بما تتابع من أولاد، ثم باضطرارها إلى قبول الأمر الواقع والرضا بما قدر الله من عيش في شبه عزلة مما أقرأ وأكتب.
وكانت نظريتي في الأولاد تخالف نظريتها، فكان من رأيي الاقتصار على ولد أو ولدين، شعورا بمسئولية التربية وتوفيرا للزمن الذي أحتاجه في التحصيل والدرس، وتمشيا مع النظرة التي أراها وهي أن الأمة المصرية مكتظة بالسكان وأن كثرتهم تحول دون العناية بتغذيتهم تغذية صحيحة، فلو قل عدد الأسرة كانت أقدر على أن ترفع مستواها في أمور الاقتصاد والتربية ؛ ولكن زوجتي لا ترى هذا الرأي، وقد نصحتها بعض قريباتها بالمثل المشهور وهو «قصيه لئلا يطير» فالطائر إذا نزع ريشه أو قص لا يطير، والزوج إذا خف حمله لقلة الأولاد كان عرضة أن يطير ويتزوج ثانية وثالثة، وقد غلبت نظريتها نظريتي، ولم تعبأ بالمتاعب التي كانت تلاقيها في الولادة والتربية، فرزقت بعشرة أولاد - ولله الحمد - مات منهم اثنان في طفولتهما، وبقي لي ثمانية أسأل الله أن يمد في عمرهم ويسعدني بهم، ستة أبناء وبنتان. وإني لأعجب لنفسي ويعجب لي غيري كيف استطعت أن أؤلف ما ألفت وأكتب ما كتبت وأقرأ ما قرأت مع ما تتطلبه تربية الأولاد من جهود لا نهاية لها. ويرجع الفضل في ذلك إلى الأم وحملها عني الأعباء التي تستطيع القيام بها، واكتفائي بالإشراف على تربيتهم العلمية والخلقية، ثم تقصيري في إطالة الجلوس معهم ومسامرتهم وإطالة عزلتي على مكتبي.
على كل حال بعد أن عرفت زوجي أخلاقي وعرفت أخلاقها وتكشفت لها ميولي وتكشف لي ميولها، حدثت المصالحة والتفاهم فتنازلت عن بعض رغباتها لرغباتي، وتنازلت عن بعض رغباتي لرغباتها، فكانت عيشة هادئة سعيدة نرعى فيها أكثر ما نرعى مصلحة الأولاد وخلق الجو الصالح لتربيتهم.
وأحيانا كان يعكر صفونا شيئان لعلهما لم يخل بيت منهما إلا في القليل النادر.
أحدهما مسألة الخدم، فالبيت لا يستغني عنهم ولا يرتاح بهم، وكانت مشكلتهم عندنا مزمنة وبخاصة في الخادمات. فزوجي غضوب، تريد أن تنفذ جميع أوامرها في دقة، والخادمة لا تعمل أو لا تستطيع أو تعاند فيكون الغضب، أو تريد أن تعاملها معاملة السيد للعبد، وتأبى هي إلا أن تعامل معاملة الند للند، أو تريد زوجي أن تكون الخادمة نظيفة والخادمة قذرة، أو مرتبة منظمة وهي لا تفهم ترتيبا ولا نظاما، وهكذا. كثيرا ما يكون للزوجة الحق وكثيرا ما يكون للخادمة الحق، فإذا تدخلت انقلب مركز النزاع من الخادمة إلي. وزوجي غيور، فهي لا تحب بطبيعتها أن يكون للخادمة أية مسحة من جمال، فإن كانت كذلك فالويل لها. والحديث يطول بيننا حول خادمة خرجت وخادمة جاءت وخادمة أساءت وخادمة سرقت. وأخيرا قررت إخلاء يدي من الخادمين والخادمات، وتركت لها مطلق الحرية أن تخرج من تشاء وتدخل من تشاء على شرط ألا تذكر لي شيئا من أخبارهم وأحوالهم.
والثاني مشكلة وسائل التفاهم، فقد كنت من غفلتي أعتقد أن العقل هو وحده الوسيلة الطبيعية للتفاهم، فإن حدثت مشكلة احتكمنا إليه وأدلى كل منا بحججه فإما أقتنع وإما أقنع وإما أصر، وإما أعدل ولكني بعد تجارب طويلة رأيت أن العقل أسخف وسيلة للتفاهم مع أكثر من رأيت من السيدات؛ فأنت تتكلم في الشرق وهن يتكلمن في الغرب. وأنت تتكلم في السماء فيتكلمن في الأرض، وأنت تأتي بالحجج التي تعتقد أنها تقنع أي معاند، وتلزم أي مخاصم، فإذا هي ولا قيمة لها عندهن. تقول: إن الأوفق أن نتصرف في الأمر بكذا لكذا من الأسباب، فترد عليك بأقوال متأثرة بعواطف ساذجة. وتقول: هذا التصرف لا يصلح لما يترتب عليه من أضرار تعينها، فترد عليك بأن العرف والعادة غير ذلك. وتعاقب ابنك لتؤدبه فتفسد العقوبة بتدخلها لمجرد العطف الكاذب. وتتصرف التصرفات الحكيمة فتئولها بنظراتها العاطفية تأويلات غريبة. وهكذا أدركت أن من الواجب ألا ألتزم المنطق، وأني إذا أردت الراحة والهدوء فلأضح بالمنطق أحيانا، وأتكلم الكلمة السخيفة إذا كان فيها الرضا، وألعب بالعواطف رغم المنطق إذا أردت السلامة.
وهكذا، كانت حياتنا كالبحر الهادئ، ولكن من حين لآخر تثور مشكلة من هذه المشاكل فيتكهرب الجو ويموج البحر ثم تنتهي العاصفة ويعود إلى البحر هدوؤه.
ولم تكن لنا مشكلة مالية مما تشقى به بعض العائلات، فقد وسع الله علي في الرزق، ولم يأت علي يوم اقتصرت فيه على مرتبي الحكومي، فعند تخرجي من مدرسة القضاء انتدبت مدرسا للأخلاق بمدارس الأوقاف الملكية بمرتب آخر؛ ولما عينت قاضيا في مصر انتدبت مدرسا بمدرسة القضاء، ثم در علي الرزق بما أربح من كتبي ومقالاتي؛ فمع ما يتطلبه الأولاد الكثيرون من نفقات كثيرة لم أشعر بحاجتي إلى الاستدانة ولا مرة، وإلى جانب ذلك فأنا رجل ليس لي كيف من الكيوف إلا الدخان، ثم معتدل الإنفاق، وأنا أميل إلى التبذير وزوجي أميل إلى التدبير، ولو ترك الأمر لي ما أبقيت على شيء، ولكن زوجي لكثرة الأولاد، وما يتطلبه ذلك من حساب المستقبل، احتاطت ودبرت وادخرت.
وكذلك حمانا الله من مشاكل أخرى أصيبت بها بعض الأسر لا داعي لذكرها لأنها لم تدخل في تجاربنا.
ورزقت بالولد الأول عقب زواجي، فأوليته كل عنايتي وطالعت من أجله بعض الكتب الإنجليزية والعربية في تربية الطفل، وكنت أشتري له اللعب الأجنبية الموضوعة للتسلية وتربية العقل، ولم أرتض له المدارس المصرية، فعلمته في المدارس الفرنسية - في الفرير - ثم حولته بعد السنة الثالثة الثانوية إلى مدرسة مصرية ليتقوى في اللغة العربية والإنجليزية، فلما نجح في البكالوريا، وكان ترتيبه متقدما يسمح له أن يكون في الطب أو الهندسة، اختار الهندسة.
وعنيت بالولد الأول أكبر عناية، علما بأنه سيكون نموذجا لإخوته، وقد كنت قاسيا على أولادي الأولين، شديد المراقبة لهم في دروسهم وأخلاقهم، أعاقبهم على انحرافهم ولو قليلا، ولا أسمح لهم بالحرية إلا في حدود؛ حسب عقليتي إذ ذاك، ولكنها على كل حال قسوة لا تقاس بجانب قسوة أبي علي؛ وكلما تقدمت في السن واتسع تفكيري أقللت من تدخلي وأكثرت من القدر الذي يستمتعون فيه بحريتهم، فلم أجد كبير فرق بين الأولين والآخرين لشدة تأثر من لحق بمن سبق.
وما أكثر ما لقيت من متاعب الأولاد في صحتهم وفي دراستهم وفي سلوكهم، وكان لكل سن متاعبها، فأكثر متاعب الطفولة في الصحة والمرض، وأكثر متاعب المراهقة في الدراسة والسلوك، وأكثر متاعب الشباب في طرق الوقاية والمهارة في الإشراف من بعيد، وكثيرا ما كان عندي الأسنان كلها أحمل متاعبها المتنوعة جميعها. وأحمد الله فقد نجحت في تحمل أعبائهم، وحسن توجيههم إلى حد كبير: فالآن وأنا أكتب هذا زوجت بنتي زواجا يعد بقدر الإمكان سعيدا، وأتم ثلاثة دراسة الهندسة والرابع في طريق إتمامها، ولما ضقت ذرعا بالهندسة وكرهت سماع النغمة الواحدة تدخلت في الأمر بعد أن كنت أترك لهم الاختيار، فوجهت الخامس لدراسة الحقوق، وحاولت أن أوجه السادس للطب وقد كان أول البكالوريا في القطر فلم أفلح.
وكان حنوي وحنو أمهم عليهم بالغ الحد، حتى لكثيرا ما ضحينا بسعادتنا لسعادتهم، وتعبنا لراحتهم، وأنفقنا من صحتنا محافظة على صحتهم، ونحن نطمع أن يتولى الله وحده الجزاء، أما هم فقد يحاسبوننا على الكلمة الصغيرة يظنون أنها تجرح إحساسهم، وعلى التقصير القليل يظنونه مسا بحقوقهم، وعلى العمل يسيئون تفسيره، وقد يكون الغرض منه خيرهم؛ ولكن الموقف النبيل يقضي بأن تربية الأولاد ليست تجارة، تعطي لتأخذ وتبيع لتربح، إنما هي واجب يؤديه الآباء لأبنائهم وأمتهم، فإن قدره الأبناء فأدوا واجبهم نحو آبائهم فبها، وإلا فقد فعل الآباء ما عليهم، والمكافئ الله.
نعم رزقت الحنو عليهم حنوا شديدا حتى لينغص علي سفري إذ سافرت ورحلاتي إذا رحلت فلا أزال أذكرهم في سفري حتى أعود، ولا تهنأ لي راحة إلا إذا عدت إليهم؛ وإخواني المسافرون معي يستنكرون ذلك مني، ولا أراهم يحنون إلى أولادهم حنيني.
الفصل الثاني والعشرون
جاءت الحرب العالمية الأولى 1914، وكانت أحداثها وقودا لإلهاب الشعور الوطني، فخلع الخديوي عباس وأعلنت بريطانيا الحماية على مصر، فحز ذلك في نفوسنا، وولي الأمير حسين كامل سلطانا على مصر، فأثرت في شعورنا الطريقة التي عين بها، فقد كان والي مصر يعين من قبل سلطان الآستانة بفرمان يحمله مندوب سام من قبل السلطان، فرأينا في هذه المرة أن تعيين سلطان مصر يتم بخطاب وجهه إليه متولي أعمال الوكالة البريطانية، وعانت مصر ويلات الحرب من سوء الحالة الاقتصادية ومن اعتداء الإنجليز على الأهالي، وتشغيل العمال المصريين رغم أنوفهم، وأخذ السلطة الإنجليزية الدواب والمحصولات جبرا، وتحليق الطيارات الألمانية فوق القاهرة وإصابتها بعض الأهالي، وتسفير العمال المصريين إلى فرنسا والعراق، ونزع السلاح من المصريين. كل هذا وأمثاله ربى شعورنا الوطني، وكبت العواطف انتظارا للهدنة وتنفيذ إنجلترا ما وعدت به مصر، وإن كان وعدا غامضا، وقد أفسح هذا الأمل عند المصريين تصريحات ولسن والحلفاء بأنهم إنما يحاربون دفاعا عن الحرية ، وأنه إذا انتهت الحرب فلا استعمار ولا استغلال، وإنما تقرر كل أمة مصيرها وتدير أمورها بنفسها، خاب أمل مصر إذ رأت أن الأحكام العرفية لا تزال باقية والحالة الاقتصادية لم تتغير، واحتكرت السلطة البريطانية محصول القطن وحددت ثمنه، ولم تبد أية علامة تدل على أن في نية إنجلترا أن تمنح مصر شيئا من استقلالها، فاتجهت أفكار بعض الزعماء إلى مطالبة الإنجليز بوفاء ما وعدوا، وتألف الوفد المصري وعلى رأسه سعد باشا زغلول، ثم قبض عليه وعلى بعض صحبه، وقامت المظاهرات وكثر التخريب واشتعلت البلاد نارا، وعاقب الإنجليز الأهالي عقابا شديدا بإطلاق الرصاص على المتظاهرين والتنكيل ببعض القرى تنكيلا يذيب القلوب، إلى آخر ما يعرفه القراء من الأحداث السياسية القريبة العهد.
وكانت مدرسة القضاء تغلي من هذه الأحداث كما يغلي غيرها من المدارس العليا، وزاد غليانها أيام تكون الوفد وعلى رأسه سعد باشا زغلول، إذ كانت المدرسة تعد نفسها صنيعة من صنيعاته وعملا من أعماله الجليلة، وأن الوطنية والوفاء معا يوجبان عليها تأييده ما استطاعت، وعلى رأس المدرسة عاطف بك بركات من أقرباء سعد باشا ومن أقرب المقربين إليه.
لهذا كله ساهمت - وأنا مدرس في مدرسة القضاء - في الناحية السياسة. وظهرت هذه المساهمة من يوم تكون الوفد واعتقل سعد.
فجمعيتنا الثقافية التي سبق أن تحدثت عنها والتي كانت تخرج جريدة السفور كثيرا ما كانت تتحدث في السياسة، وتقلب ما جد من الأمور على وجوهه، فلما بدأ الوفد يتكون قالت هذه الجماعة: لم لا يكون لنا ممثل في الوفد؟ وانتدبت اثنين كنت أحدهما لمقابلة سعد باشا وعرض الفكرة عليه، فذهبنا إليه، ولكن وجدناه مشغولا فأحالنا بعد أن عرف مطلبنا على أستاذنا أحمد لطفي السيد، فحادثناه في الأمر، فسأل: وباسم من تتكلمون؟ قلنا: باسم جماعة العقليين. وناقشنا طويلا ثم عرض الأمر على سعد باشا زغلول بعد أن عرف أسماء الجماعة فاختار منا الشيخ مصطفى عبد الرازق في الوفد المصري، ولكن الشيخ مصطفى اعتذر بعد أن شاور أسرته.
ولما اشتعلت نيران الثورة كنت من المتصلين بعبد الرحمن فهمي سكرتير الوفد، وكان يضم إليه جماعة من الشبان يوزع عليهم الأعمال، فاختارني للإشراف على عملين: الأول إلقاء الخطب السياسية في المساجد عقب صلاة الجمعة، فكنت أجتمع مع بعض الزملاء وأنظم معهم إلقاء هذه الخطب وأوزعهم على المساجد وأعين معهم موضوع ما يقولون. والأمر الثاني كتابة المنشورات نذكر فيها أهم الأحداث، ومن أهم ما أذكره من هذه المنشورات منشور كتبته على أثر مظاهرات السيدات؛ ففي يوم 16 مارس سنة 1919، اجتمع لفيف من الآنسات والسيدات الراقيات وألفن مظاهرة سارت في شوارع العاصمة، وأخذن ينادين بالحرية والاستقلال وبسقوط الحماية والظلم، ويلوحن بأعلام صغيرة، فلما سرن طويلا ووصلن إلى ميدان من ميادين العاصمة ضرب الإنجليز عليهن نطاقا وصوبوا إليهن البنادق، فلم يرهبهن هذا التهديد، وقالت إحداهن: أطلق بندقيتك في صدري لتجعلوا مني مس كافل أخرى، ثم انصرفن بعد أن وقفن في الشمس نحو ساعتين، فكتبت في ذلك منشورا مطولا في وصف هذه المظاهرة وأثرها والتهيج بها، وطبع ووزع.
وقد كانت في مكتب عبد الرحمن بك فهمي مذكرة بأسماء الذين يشتغلون معه في هذه الأعمال فلما قبض عليه وختم مكتبه بالشمع الأحمر كسر بعضهم الباب وأخذ الأوراق التي يظن أنها توقع الأذى ببعض الأشخاص ومنها هذه المذكرة، ولولا ذلك لسجنت كما سجن غيري من زملائي.
وكنت شديد الصلة بسكرتير سعد باشا زغلول (كامل بك سليم)، فلما أطلق سراح سعد وذهب (كامل بك) مع الوفد إلى باريس كان علي أن أصف الحالة في مصر من حين لآخر، وأرسل بذلك تقريرات إلى سكرتير سعد ليطلعه عليها، وكانت هذه سببا في معرفة سعد باشا بي، فكثر اتصالي به، بل كان يرسل إلي الشفرة الجديدة إذا غيرت لأوصلها إلى بعض الأعضاء في مصر، إذ كنت شيخا مدرسا في مدرسة القضاء لا يظن أحد أن أمرا خطيرا كهذا يأتي إلي.
ولما انقسم الوفد واتهم عدلي باشا وصحبه ببعض الاتهامات كنت في صف سعد باشا ومن مؤيديه والداعين له، ومع ذلك لم يضع استقلالي في التفكير، فأذكر مرة أن كان سعد باشا في حجرته في منزله، وتناول عدلي باشا بالتجريح قبل أن يهاجمه علنا، فسألته الأدلة على هذا التجريح، فأتى بأدلة لم تقنعني، فرددت عليه فغضب مني وقال لي: «إنك اليوم سيئ المنطق».
على كل حال انغمست في السياسة واشتركت في المظاهرات وبخاصة في المظاهرات التي ترمي إلى التقريب بين الأقباط والمسلمين، وكنت أتلمس المظاهرة، فأركب عربة وأنا بعمامتي أصطحب فيها قسيسا بملابسه الكهنوتية ونحمل علما فيه الصليب والهلال ونحو ذلك من أعمال.
واشتدت الحركة الوطنية في مدرسة القضاء وأفلت زمامها من يد عاطف بك بعد أن كان لا يسمح بمظاهرة ما ولا إضراب، إلى أن جاء يوم انعقد فيه مجلس الإدارة في المدرسة وكانت الوزارة وزارة نسيم باشا الأولى، وهي ليست على وفاق مع سعد، وكان وزير المعارف محمد توفيق رفعت باشا عضوا فيه، فاجتمع بعض الطلبة في جزء من فناء المدرسة تحت شباك الحجرة التي ينعقد فيها المجلس وهتفوا بحياة سعد وسقوط وزارة نسيم، فاتهم رفعت باشا عاطف بك بأنه دبر هذه المؤامرة مع أنه بريء من ذلك فيما أعتقد، ولم يأت المساء حتى أعلن قرار مجلس الوزراء بإحالة عاطف بك على المعاش.
أثر هذا الحادث في نفسي أثرا كبيرا وحزنت له حزنا عميقا، فقد لازمت عاطف بك نحو خمسة عشر عاما في مدرسة القضاء، تلميذا ومدرسا، وأنا أستفيد من روحه ومن خلقه، فلما خرج منها أحسست أن بناء المدرسة قد هدم على رأسي.
وعين للمدرسة ناظر جديد
1
لا أعرفه ولا يعرفني ووجد المدرسين في المدرسة يقابلونه مقابلة حسنة ويسيرون معه كما كانوا يسيرون مع عاطف بك فإن حزنوا لخروج عاطف فحزن في نفوسهم من غير أن يكون له مظهر خارجي أما أنا فلسذاجتي لم أستطع أن أكتم عواطفي، فلم أستقبله عند حضوره ولم أسلم عليه إلا إذ قابلته عرضا، وكانت تأتيه الأخبار أني أذهب كل يوم عصرا إلى عاطف بك في منزله، فكرهني أشد كره، وأعلن ذلك في جمع من الأساتذة، وقال إنه يجب أن يتعاون مع كل المدرسين إلا إياي، وساءت حالتي في المدرسة. وحدث أن قرر مجلس الإدارة يوما تعيين متخرج من مدرسة القضاء مدرسا بالمدرسة بشرط ألا يدرس الفقه، فرأيت القرار نابيا، وأنه يمس مدرسة القضاء في صميمها، فتحدثت بذلك مع المدرسين والطلبة وترتب على ذلك أن هاج الطلبة لما أن سمعوا كلامي، وبلغ ذلك الناظر الجديد فركب عربة وذهب إلى رئيس الوزراء عدلي باشا يكن وأبان أنه لا يستطيع العمل معي، فأصدر أمره بنقلي إلى القضاء. فعينت قاضيا في محكمة قويسنا الشرعية، وكان هذا آخر العهد بتدريسي في المدرسة.
وانتهت بذلك مرحلة طويلة، هي زهرة العمر تقريبا: خمسة عشر عاما من سني الشباب بين طالب ومدرس، نلت فيها أكثر ثقافتي، وجربت فيها أكثر تجاربي في الحياة، وتعلمت ما استطعت من العلم ومن الناس، ولقيت فيها أكبر الشخصيات التي أثرت في نفسي، وطبعت فيها بطابع لازمني طول حياتي؛ دخلتها مغمض العينين ليس عندي إلا قليل من التجار، وخرجت منها شيئا آخر، لذلك بكيت عليها كما أبكي على فقد أب أو أم أو أخ شقيق؛ ومما آلمني أنني تركت التدريس وهو ما أحبه إلى القضاء وهو ما لا أحبه، وظللت أعزي نفسي بالاتصال بعاطف بك وبعض الأساتذة الذين أحبهم اتصال صداقة؛ كما ظللت أساهم في السياسة وأشارك بعض من صاروا من زعماء السياسيين،
2
ولكن لم أندفع اندفاعهم، ولم أظهر في السياسة ظهورهم، لأسباب أهمها أني - على ما يظهر - لم أتشجع شجاعتهم، فكنت أخاف السجن وأخاف العقوبة. ولعل من أهم أسباب خوفي إشفاقي على والدي وقد أصبحت ابنهما الوحيد؛ إذا سمعا بحبسي أو عقابي هد ذلك من كيانهما الذي أشرف على السقوط. وقد علمني أبي الإفراط في التفكير في العواقب ومن فكر في العواقب لم يتشجع. والسبب الثاني أن مزاجي علمي لا سياسي، ولهذا كنت أختلف عن زملائي السياسيين بأنهم كانوا يؤمنون بسعد باشا كل الإيمان، ويعتقدون صحة كل ما ذهب إليه وارتآه، ويئولون ما يصدر عنه من خطأ ويلتمسون الحجج لتبريره، ولم أكن على هذا المذهب، بل كنت أؤيد سعدا وأنقده، وأؤيد عدلي وأنقده؛ وليس هذا هو المزاج السياسي الذي يؤمن بكل ما يصدر عن الحزب ويتحمس له، وإنما هو المزاج العلمي الذي يزن الشيء مجردا ثم يحكي له أو عليه في أناة.
لهذا لم أظهر في السياسة ظهور غيري، ولم أكتو بنيرانها، وأنعم بجنانها كما فعل غيري.
ظللت في القضاء أربع سنين، سنة في قويسنا، وسنة في طوخ، وسنتين في محكمة الأزبكية، ومع ذلك فلم أستمرئ القضاء ولم أسعد به؛ كل ما أراه أسر قد خربت، أما الأسر السعيدة فلا أراها. زوجة تطلب نفقة من زوجها، وزوج يطلب الطاعة من زوجته، ونحو ثمانين في المائة من القضايا من هذا القبيل فيحكم بالنفقة على الزوج، فإن لم يدفع فيحكم بالحبس، ويحكم بالطاعة على الزوجة، وظللت أحكم بالطاعة وأنا لا أستسيغها ولا أتصورها، كيف تؤخذ المرأة من بيتها بالبوليس وتوضع في بيت الزوج بالبوليس كذلك؟ وكيف تكون هذه حياة زوجية؟ إني أفهم قوة البوليس في تنفيذ الأمور المادية، كرد قطعة أرض إلى صاحبها، ووضع محكوم عليه في السجن، وتنفيذ حكم بالإعدام ونحو ذلك من الأمور المالية والجنائية. أما تنفيذ المعيشة الزوجية بالبوليس فلم أفهمه مطلقا إلا إذا فهمت حبا بإكراه، أو مودة بالسيف. ولهذا كنت أصدر هذه الأحكام بالتقاليد لا بالضمير، وبما في الكتب والقوانين واللوائح، لا بالقلب. وكنت أشعر شعور من يمضغ حصى أو يتجرع الدواء المر. وباقي القضايا على هذا المنوال أيضا: امرأة يدعيها زوجان زوج بورقة عرفية وزوج بورقة رسمية، ودعوى زوجة طلاقا ينكره الزوج، ونحو ذلك من أمور لا تختلف عن الأكثرية كثيرا. فإن استفدت شيئا من عملي في هذا المنصب فدراسة اجتماعية عملية للأسر المصرية. وقد ظهرت على عهدي هذا ظاهرة جديدة لم تكن معروفة كثيرا قبل هذا العهد، وهي تقاضي الأسر المتوسطة والأسر العالية أمام المحاكم وقد كان هذا فيما مضى يعد عارا كبيرا، ولا يلجأ إلى المحاكم إلا الأسر الفقيرة وأمثالها.
ومما أفادني أني كثيرا ما كنت أنحي المحامين عن الكلام وتزويقهم للأمور وادعاء بعضهم ما ليس بصحيح، وأطلب حضور المتخاصمين شخصيا في جلسة سرية، وأستمع إلى كل منهما في تؤدة وتقص لمعرفة الأسباب الأساسية التي أدت إلى هذا النزاع مما لا يذكره المحامون عادة. فكنت أعرف سر الخصومة، وذلك شيء ليس في الأوراق، ثم أعالج هذا السر بما أراه ناجحا - وأكثر ما يكون بالصلح بين المتخاصمين - إما بالفرقة إذا لم يكن أمل في نجاح الأسرة، وإما بالنصح بما يحسم الخلاف، كأن يسكن الزوجان بعيدين عن أهل الزوج أو أهل الزوجة أو نحو ذلك.
ثم استفدت المران على الحكم على الأشياء، فالقضاء لا يكون إلا بعد فهم الدعوى، ولا يكون الفهم حتى يسمع كلام الطرفين، ولا يكون الحكم حتى تدرس القضية من جميع نواحيها، ولا يكون حتى يتكون الرأي بناء على أسباب معقولة: كل هذه دروس منطقية عملية تطبع الشخص بطابع خاص لا يجده في التدريس ولا في غيره من الوظائف فأربع سنين يشغل فيها الذهن ليل نهار بالتفكير في قضايا وتحليل لها وتأمل في أحكام هذه القضايا ووضع أسباب لما وصل إليه من حكم لابد أن تترك في النفس أثرا عميقا.
ولقد هممت في بعض أيامي في القضاء أن أدرس الأسرة دراسة علمية، فأعددت كتبا كثيرة فيها باللغة الإنجليزية، وأردت تطبيق ذلك على ما أراه من الأسر المصرية، واستخراج الإحصاءات الرسمية في عدد ما يحدث في مصر من زواج ومن طلاق ونسبة الطلاق إلى الزواج ونسبة من يتزوج أكثر من واحدة إلى غير ذلك من إحصاءات، لأستنتج النتائج الاجتماعية التي تدل عليها، ولكني مع الأسف لم أتمم هذا البحث.
وفي سني القضاء نسيت ما كانت توصيني به السيدة الإنجليزية، من قولها تذكر أنك شاب، بل كنت أتذكر دائما أنني شيخ، فالقضاء الشرعي يتطلب وقارا وجلالا ومشيا بطيئا وحركة جامدة وإلا كان أهوج أرعن، والقاضي الشرعي - بجانب ذلك - ينظر إليه على أنه رئيس ديني، فيجب أن يتحرج من الجلوس في قهوة أو أن يكون في ناد تشرب فيه خمر أو يلعب فيه ميسر. وإذا جلس في قوم فلابد أن يتحدث حديثا دينيا أو أخلاقيا وعلى الأقل أن يكون جادا لا يمزح ووقورا لا يضحك، وحدث مرة وأنا قاض في قويسنا حادث مربك، فقد دعاني إلى العشاء طبيب المركز مع كبار الموظفين وبعض كبار الأعيان وأنا أعلم أن بعض المدعوين يشرب خمرا، فتأخرت في الذهاب إلى بيت الطبيب حتى يأخذوا حريتهم قبل حضوري، فلما ذهبت وجدت الباب مفتوحا والمدعوين في حجرة أمام الباب فانتظرت حتى يأتي الخادم فلم يحضر، فدخلت عليهم في الحجرة وإذا هي معمعة وإذا هي حانة، وإذا الكئوس تملأ، فبهت الحاضرون وبهت وخجلوا وخجلت، وإذا بعضهم يأخذ الزجاجة ويخفيها تحت المائدة، وزاد اضطرابي واضطرابهم، وارتباكي وارتباكهم، فقصدت إلى الطبيب صاحب الدعوة وأفهمته أني حضرت لأعتذر. فقد حدث ما يضطرني أن أكون في بيتي الآن، ففهم ما أريد وألح علي أن أنتظر في حجرة أخرى لحظات قليلة حتى تنظف المائدة، فأصررت وخرجت وكان صائبا ما فعلت، فلو جلست معهم لخرجت الشائعات بأني كنت أشرب مع الشاربين، وألهو مع اللاهين، ولسقط مركزي الديني ومركزي الخلقي ومركزي القضائي معا.
الفصل الثالث والعشرون
في فترة القضاء هذه مات أبي رحمه الله وأنا قاض في قويسنا عن نحو ثمانين عاما إثر عملية جراحية، فقد أصيب «بفتق» وهو في نحو الأربعين من عمره فلم يفكر في عملية يعملها، وظل يلبس الحزام الجلد يضغط به على موضع «الفتق» يخلعه مساء ويلبسه صباحا، ويعاني في ذلك مشقة كبيرة يتحملها في صبر. وكثيرا ما كانت تخر من الفتق بعض الأمعاء ويحاول إدخالها ولبس الحزام فيمتنع عليه ذلك فأسرع إلى الطبيب يعالجه، وكان هذا سببا كبيرا في ضيق خلقه والتنغيص عليه وعلينا - يضاف إلى ذلك ما أصيب به من إمساك مزمن، فكان إذا طال به الزمن ساء مزاجه وتلمس أي شيء يغضب عليه - ولعل بيتنا مدين لهذين السببين في التنغيص عليه من حين إلى حين، وما حرمه من ضحك ومرح وسرور. وما كان من معيشة انفصالية يميل فيها أبي إلى العزلة والانفراد بنفسه وآلامه - وطالت به هذه الأمراض من غير أن يعرض نفسه على طبيب اختصاصي، فلما كبرت عرضته على أكبر طبيب فقرر أنه كان يجب أن يعمل العملية وهو في فترة شبابه، أما وقد تقدمت به السن إلى هذا الحد فلا يحسن عملها. وأخيرا اشتد به الألم وضجر من حالته، فانتهز غيابي في قويسنا وذهب إلى طبيب جراح في المرتبة الثانية أو الثالثة، وكان تلميذا له قديما فحسن له العملية، وتجرأ فعملها من غير أن أعلم أو يعلم أحد في البيت. ولم أدر إلا وتلغراف يأتيني بقويسنا يحمل الخبر، ففزعت لذلك وحضرت إلى مصر وذهبت إلى العيادة وطمأنني الطبيب أن العملية ناجحة، ولكن لم يمض يوم حتى أصيب بالتهاب رئوي قضى عليه في ساعات ومات وأنا بجانبه يوصيني أمي وأختي ويدعو لي «أن يكون الله في عوني».
وبذلك انتهت حياة حافلة شاقة ملئت بالكد الدائب والسعي المتواصل في طلب العلم وطلب الرزق، فقل أن يفارقه كتاب يقرؤه أو يكتبه، ورزقه متصل بعلمه من درس يدرسه أو كتاب يصححه أو نحو ذلك، لا يمنعه عن ذلك مرضه أو كارثة نزلت به، متدين أشد التدين، يكثر من الصلاة ومن قراءة القرآن والحديث، ويزكي ويصرف زكاته على الفقراء من أقاربه، ويصوم ويحج ويتهجد بالليل ويبتهل إلى الله. وإذا صدرت منه سيئة أو ما يظنها سيئة أكثر من الندم والاستغفار والتوبة؛ زاهد عن السعي في طلب الرزق إلا بمقدار ما تحتاج إليه أسرته، فإن زاد شيئا فبقدر ما يدخره ليوم الحاجة - يكثر من ذكر الموت ويتبع ذلك بأحاديث يحفظها في تفاهة الدنيا وحقارة شأنها وهوانها على الله، وبنى مقبرة له يذهب إليها ويتلو عندها القرآن يرجو بذلك أن تكون منزلا مباركا له عند وفاته. يهزأ بالدنيا وزخرفها ومباهجها، رأيته مرة يلبس كسوة تشريف ليذهب إلى حفلة المحمل ثم يقف في الغرفة قليلا مترددا ثم يخلعها ويرميها بيده إلى أركان الغرفة ويقول: إنما الحياة الدنيا لهو ولعب وزينة، ويجلس بعد ذلك يتلو القرآن.
وهو في حيه محترم، إذ هو أكبر رجل ديني في الحي. يقوم له الناس إجلالا إذا مر عليهم، ويفزع إليه الأغنياء والفقراء في أمورهم الدينية وفي الفتيا في مسائل الزواج والطلاق والميراث، ويسأله أعيان الحي أن يقرأ لهم درسا دينيا في بيت من بيوت أحدهم، ويهدون له الهدايا الكثيرة في الأعياد والمواسم.
وهو بسيط في أكله وشربه ولبسه ونومه، حتى ليأكل ما قدم إليه من غير ضجر، وينام على حشية من غير سرير، ويلبس في دقيقة ملبسه البسيط في غير أناقة.
يشتد على أولاده فلا يعطيهم من المال إلا بقدر الحاجة حتى لا يفسدوا، ويحاسبهم على تعلمهم محاسبة عسيرة، فهو يمتحنهم دائما في حفظ القرآن وحفظ المتون وفي فهم دروسهم، فإذا أخطئوا حسبل وحوقل وقد يغضب ويضرب، وكل صحبتنا له صحبة درس جديد أو امتحان في درس قديم. ولا أذكر أنه مزح معنا وقل أن ضحك في وجوهنا. ولذلك كان اطمئناننا ومرحنا القليل ساعة يغيب عن البيت، وخوفنا ورهبتنا وحبس أنفاسنا ساعة يحضر؛ ومن مزاياه أنه كان يرى تعليم البنت كما يعلم الابن، فأرسل أختي الكبرى إلى المدرسة السيوفية وكانت المدرسة الوحيدة المصرية لتعليم البنات، في حين أن أكثر الناس كان يرى تعليم البنت في المدارس جريمة لا تغتفر.
دنياه التي يعرفها أزهره ومسجده وكتبه ومن يتصل به من أهل حيه. أما السياسة والاحتلال وأما شئون الاقتصاد وأما الحياة الاجتماعية والمدنية مما يجري وراء حيه فلا يعلم عنها شيئا، فهو لا يقرأ الجرائد إلا إذ وقعت في يده عرضا، ولا يجتمع بالناس يتكلمون في الشئون العامة إلا قليلا.
يحب الريف ويحن إليه، وفي بعض الأيام كان عندنا حمار يركبه ويركبني معه فيخرج به إلى الجزيرة أو الجيزة، ونقضي النهار تحت شجرة أو بجوار ساقية أو على شاطئ النيل ومعه كتاب يقرؤه، ثم يعود وقد غذى عواطفه، وهذه هي كل رياضته. فإذا لم يكن حمار فمشي على الأقدام إلى كوبري قصر النيل حيث يختار مكانا يجلس إليه .
وله صديقان من الفلاحين في جزيرة أمام مصر القديمة يزورهما - وأنا معه - من حين إلى حين وبخاصة في موسم الشمام والبطيخ، فنقضي هناك اليومين والثلاثة بين المزارع وعلى شاطئ النيل، ولا ندخل البيوت - حتى الليل نقضيه تحت سقف السماء - كأنه لما حرم مزارعه في بلده كان يعوضها بمثل هذه الجولات.
ذكي يجيد فهم الكتب الأزهرية، وله شوق إلى قراءة الكتب الأدبية والتاريخية من غير تعمق فيها أو قراءة منظمة لها؛ يقرض الشعر أحيانا في مناسبات ولا يقرضه حتى يتخير قصيدة من ديوان شعر يحاكيها في الوزن والقافية ويتخير من معانيها فتأتي أشعاره متكلفة لا روح فيها. ولا أدري لماذا لم يحاول التأليف في أي فرع من فروع العلم مع توفر الأسباب لديه.
ومع شدته على أولاده كان رحيما بهم، وتظهر رحمته في قلقه على ولده إذا مرض، وحرقة قلبه إذا مات، وحنينه إليه إذا غاب ونحو ذلك.
وكان يؤثرني على إخوتي في العناية لما كان يظهر له من استجابتي وطاعتي؛ فإليه يرجع أكبر الفضل في أساس تعلمي من يوم أن ذهبت إلى الكتاب إلى يوم أن دخلت مدرسة القضاء، ولولاه لم أنجح في دراستي الأزهرية لصعوبتها وكثرة العوائق فيها، فقد سهلها علي بأسلوبه وقرب عبارته ووضوح معانيه، ولولا نجاحي على يده في العلوم الأزهرية ما نجحت في الدخول في مدرسة القضاء؛ بل منه تعلمت الصبر على الدرس واحتمال العناء في التحصيل. ومنه كسبت وضوح العبارة وبساطة الأسلوب، ومن مكتبته المتنوعة الغنية بكتب الأدب والتاريخ نبت في نفسي حب الأدب والتاريخ؛ وعلى الجملة فقد ورثت منه - إلى حد ما - كثيرا مما لي من مزايا وعيوب.
لهذا كله بعد أن كبرت ودخلت مدرسة القضاء وتحررت من رعايته لي وقسوته علي بدأت أشعر بفضله، وينقلب خوفي منه إلى حب وإجلال له، وبعد أن أصيب بفقد ولديه زاد عطفي عليه وبذل كل جهد في عمل ما يرضيه. ومن جانبه بادلني عطفا بعطف وحنانا بحنان، وترك لي التصرف في ماله وشئونه، وتفرغ لحزنه ومرضه، ودينه .
فلما مات أحسست لذعة أليمة وركنا تهدم ولم يعوض، وفراغا لم يملأ - رحمه الله.
وبعد قليل من وفاة أبي يموت أبي الروحي الثاني (عاطف بركات) فأحزن عليه حزنا قريبا من حزني على أبي، وأقف على قبره عند دفنه وأرثيه بكلمة أودعها قلبي، وأنظر إليه في كفنه وهم ينزلونه إلى قبره فيصفر وجهي ويسيل دمعي وأحز بأسناني على سبابتي فأكاد أقطعها، وينظر أقرباؤه إلي فيجدونني أحزن أكثر مما يحزنون، وألتاع أشد مما يلتاعون فيرثون لحالي ويشفقون مما بي.
لقد تسلمني من أبي بعد أن رباني التربية الأولى فرباني التربية الثانية، وقد عاشرته نحو ثمانية عشر عاما من سنة 1907 إلى وفاته سنة 1925 منها أربعة وأنا طالب وهو ناظر وأستاذ، وعشرة وأنا مدرس وهو - أيضا - ناظر وأستاذ، وأربعة وهو يشتغل بالأمور السياسية وأنا أتلقى عنه دروسها - فبعد خروجه من المدرسة على النحو الذي أشرت إليه قبل، تفرغ للسياسة وانضم إلى الوفد ونفي إلى «سيشل» ولما عاد وتولى سعد باشا الوزارة عين «عاطف» وكيلا لوزارة المعارف، وتولى أمر الوزارة كلها، وقد عرض علي إذ ذاك أن أكون مفتشا في الوزارة معه فاعتذرت، ثم عرض علي أن أكون أستاذا للشريعة في مدرسة الحقوق وقبلت، واتصل بناظر الحقوق واتفق معه على ذلك واختبرت دروسي ولكنه مات قبل أن يتم ذلك، فقلب لي ظهر المجن، وقطعت إجراءات التعيين وعين غيري، وانتهى كل شيء كأن لم يكن شيء.
ولم يطل أمده في وزارة المعارف، فقد دب داء السرطان إلى رأسه، وعاني من الآلام المضنية الشيء الكثير. لقد كان يخصني برعايته منذ كنت طالبا، فلم كنت مدرسا أتبعني به في دروس الأخلاق، فكنت ألازمه في دروسه وقد أقضي النهار معه في بيته بمصر الجديدة، ولما نفي في عزبته بجمجرة كنت أقضي معه فيها الأيام. وكان يراسلني من سيشل ويبعث إلي بصورته؛ ولما مرض لم يكن يسمح بزيارته إلا لأقاربه واثنين من أصدقائه كنت أحدهما، وهذا ما مكنني من الاستفادة منه.
كانت أكبر ميزة له في عقله قوة التحليل وسلامة التفكير ، وحرية الرأي وقوة الحجة، والإلحاح في الإقناع وسعة الصدر للرأي المخالف - وكانت حريته في تفكيره أقوى من حريته في عمله، فهو في إصلاحه متحفظ، يقدر كل الظروف المحيطة ويعمل في حذر؛ وأكبر ميزة له في خلقه أداء الواجب لأنه واجب من غير أي اعتبار، وعدله التام ولو لقي في ذلك العناء، في بلد تسره المجاملة ولو بالظلم، ويفرح بالوعد ولو بالكذب؛ وحبه للنظام الدقيق، فكان يشيد بذكر «كانت» إذ كان يرى أداء الواجب لذاته، وإذا كان الناس يضبطون ساعاتهم على موعد خروجه؛ وصدق في القول حتى لم يأخذ عليه طالب ولا أستاذ كذبة، وحدثني أنه وهو طالب في إنجلترا دخن يوما سيجارة في حجرة لا يسمح فيها بالتدخين، فلما أتم تدخينها دخل مراقب المدرسة عليه وعلى صحبه فقال: إني أشم رائحة دخان فمن الذي دخن «فسكت عاطف» ثم كرر المراقب القول وكرر «عاطف» السكوت، ثم خرج المراقب فنظر الموجودون إلى «عاطف» نظرة ازدراء، فعاهد الله من يومه ألا يكذب؛ ورجولة تامة فهو يكره سفاسف الأمور وتوافه القول، إذا تدنى محدثه رفعه هو إلى مستواه، فكان بذلك مهيبا جليلا.
إن عيب عليه شيء فهو قلة مجاملته حتى حيث لا تضر المجاملة بالخلق، وصراحته التي قد تجرح، في موقف لا يدعو إلى الصراحة فيه دفاع عن حق، ثم نظامه العسكري في غير ترفيه. رحمه الله فما أكثر ما نفع وأصلح.
الفصل الرابع والعشرون
ودق جرس التلفون بمنزلي في مصر الجديدة وأنا قاض بمحكمة الأزبكية سنة 1926، وإذا المتكلم صديقي الدكتور طه حسين يطلب إلي مقابلته، وذهبت لمقابلته فإذا هو يعرض على أن أكون مدرسا بكلية الآداب، فترددت قليلا ثم قبلت، لنفوري من القضاء وحبي للتدريس، وذهبت إلى الكلية حيث قصر الزعفران الآن، فوجدت شيئا جديدا علي، لا هو كالأزهر ولا هو كمدرسة القضاء. أساتذة كأنهم عصبة أمم، هذا إنجليزي وهذا فرنسي وهذا بلجيكي وهذا ألماني وقليل من الأساتذة المصريين، وليس فيهم معمم إلا أنا، وعميد الكلية بلجيكي، والطلبة أحرار، يحضرون الكلية أو لا يحضرون، ويحضرون الدرس أو لا يحضرون. وأقسام الكلية متشعبة: قسم للفلسفة يتزعمه الفرنسيون، وقسم للإنجليزية يتزعمه الإنجليز، وقسم للغات القديمة، وقسم للجغرافيا، وآخر للتاريخ ... الطلبة موزعون على الأقسام، ومن الطلبة عدد كبير يقضي سنة في كلية الآداب إعدادا لكلية الحقوق، وقد قضيت زمنا حتى أفهم كل ذلك، وأحسست أن الجو مبعثر، ليس هناك ارتباط وثيق بين الطلبة بعضهم وبعض ولا الأساتذة بعضهم وبعض، لا كالذي كنت أرى في مدرسة القضاء، وأن الدراسة كالحرب المائعة؛ فتبعثر الأقسام في الدراسة وتبعثر الأساتذة في الجنسية جعل نسيج الكلية مهلهلا، وأقرب معنى حدث في نفسي أنني في أزهر بقبعة، ولذلك لم آلف هذه الأوضاع إلا بعد عهد طويل. وصدمني أول أسبوع أنني أحسست حركة تذمر بين العميد البلجيكي والأساتذة لأسباب لا أدريها، وجاءتني بعد ذلك عريضة موقع عليها من بعض المدرسين والأساتذة يعلنون فيها ثقتهم بالعميد لميزاته وكفايته، فلم أشأ أن أوقع عليها لأن الثقة إنما تبنى على المعرفة وأنا لم أعرفه - وإدارة الكلية في يد مجلس لها، ولست عضوا في المجلس إذ لا يكون عضوا إلا أستاذ أو مساعد أستاذ، أما مدرس مثلي فلا، فكان امتناعي عن التوقيع سببا في امتعاض العميد مني وتقديره لي معا، وأخذت أهيئ نفسي للبيئة الجديدة على مضض حتى فهمت الأوضاع واستقامت الأمور. وكان الطلبة كلهم ذكورا ليس فيهم فتاة. وشاهدت مرة ثلاث بنات في قسم الفرنسية علمت أنهن نصف مصريات، أبوهن طبيب مصري كبير
1
وأمهن ألمانية، فساءلت نفسي: هل أعيش حتى أرى طالبات مصريات صميمات في الكلية؟..! ولكن الزمن كان أسرع مما توقعت، فامتلأت الكلية بالبنات بعد قليل.
ها أنذا أطلق كتب الفقه، وأعود إلى كتب اللغة والأدب والنحو، ودرست في أول سنة درسين: درسا أقرأ فيه الكامل للمبرد ودرسا أقرأ فيه البلاغة. ومن قديم لم تعجبني البلاغة العربية، فبحثت في المكتبة الإنجليزية عن كتب في البلاغة فأنا أقرؤها وأقارن بينها وبين ما كتب في البلاغة العربية وأختار خيرهما وأوفق بين مصطلحاتهما، وأكثر ما كنت أكره الدراسة في الفصول الكبيرة العدد لطلبة كلية الحقوق فأشعر إذ ذاك أني أدرس في الهواء لا رابطة بيني وبين الطلبة، ولا أستطيع الإشراف عليهم إشرافا جديا، ولا أتبادل معهم عواطفهم ولا أحسن توجيههم لكثرة عددهم، ولهذا تخلصت من هذا الدرس أسرع ما يمكن وجهدت أن أدرس في فصول محصورة لعدد محصور.
وقبل بدء الدراسة في السنة التالية دارت مناقشة طويلة بيني وبين صديق لي أستاذ في كلية الحقوق.
2
قال يوما: لماذا تصر على لبس العمامة؟ والعمامة رمز لرجل الدين ولست الآن رجل دين. إنما أنت تعلم اللغة العربية والأدب العربي كما يعلم الفرنسي اللغة الفرنسية والأدب الفرنسي، وهذه أمور مدنية لا دينية، ثم إن لبسك العمامة في وسط كله برانيط وطرابيش يجعلك غريبا في بيئتك إلخ ما قال. وقد فكرت في الأمر طويلا فهذا الذي قال حق، ولكن إلف العمامة وإلف الناس لي معمما أخجلني من التغيير، فما زال يلح علي وما زلت أطيل التفكير حتى ملت إلى رأيه. وشجعني على هذا ما كنت ألاقيه في لبسي العمامة من عناء، فعامة الناس في مصر، ولاسيما في المدن، يجلون العمامة ظاهرا ولا يجلونها باطنا، ويوقرون الطربوش غالبا ويستخفون بالعمامة غالبا. ويتغلغل في نفوسهم مبدأ مقرر، وهو أن صاحب الطربوش يحترم إلا إذا ظهر عكس ذلك. وصاحب العمامة يحتقر إلا إذا ظهر عكس ذلك، وكم حدث لي من فصول كرهت من أجلها العمامة؛ ذهبت إلى فندق مرة فقال لي صاحبه ليس عندي مكان خال، وإذا بمطربش يأتي بعدي فيخلق له المكان، وأذهب مرة إلى مكتب البريد فأقف أنا ومطربش أمام الشباك وقد أتى المطربش بعدي، فيقدمه رجل البريد علي ويجيب طلبه فأثور وأطالبه بالعمل بالترتيب. وأتهيأ مرة لركوب الدرجة الأولى في الترام فيقول لي الكمساري: تعال هنا - مشيرا إلى الدرجة الثانية - فتلك الدرجة الأولى. وأذهب مرة إلى كازينو في ضاحية من ضواحي الإسكندرية ومعي صديق مطربش فيسمح له بالدخول وأمنع فأعود معه مكتئبا خجولا، وهكذا وهكذا. كل هذا رجح عندي رأي صديقي فذهبت إلى الخياط وفصلت بدلتين وشريت طربوشا. وعدت إلى هذا النوع من اللباس بعد سبع وعشرين سنة منذ كنت تلميذا في مدرسة أم عباس.
وقد كنت نسيت رباط الرقبة كيف يكون، فكنت ألجأ إلى من يربطه لي إلى أن تعلمته، وانتهزت فرصة افتتاح الدراسة في العام الجديد يربطه لي إلى أن تعلمته، وانتهزت فرصة افتتاح الدراسة في العام الجديد فذهبت مطربشا وكنت أتعثر في مشيتي في الشارع وفي الكلية خجلا من الناس، ومنهم من يستحسن ومنهم من يستهجن.
وقالت لي سيدة إنجليزية زوج صديق لي: إني كنت أفضل لبسك العمامة. فقلت لها: لك الحق وإنما تفضلين العمامة على النمط الذي تفضلين به الطرف القديمة في خان الخليلي على مخازن البيع في شارع فؤاد. وعلى كل حال كنت بذلك أكثر اندماجا في الوسط الجامعي وأشد انسجاما.
وتعلمت من هذا الوسط أن ميزة الجامعة عن المدرسة هي البحث، فالمدرسة تعلم ما في الكتب والجامعة تقرأ الكتب لتستخرج منها جديدا، والمدرسة تعلم آخر ما وصل إليه العلم والجامعة تحاول أن تكتشف المجهول من العلم، فهي تنقد ما وصل إليه العلم وتعدله وتحل جديدا محل قديم، وتهدم رأيا وتبني مكانه رأيا، وهكذا؛ هذه وظيفتها الأولى والأخيرة، فإن لم تقم بها كانت مدرسة لا جامعة. هذا ما فهمته في السنة الأولى من تدريسي في الجامعة - فهمته مما سمعته عن أساتذة من الأجانب قاموا ببحوث مختلفة جديدة كل في فرعه، ومن مخالطتي في الجامعة لبعض المستشرقين أتعرف منهم ما يعملون، ومن قليل من الأساتذة المصريين يتبعون خطتهم ويسيرون على منهجهم؛ لذلك بدأت في هذه السنة أجرب حظي في البحث، فاخترت درسا من الدروس أبحث فيه عن المعاجم اللغوية: وكيف تكونت أول مرة، وطريقتها في جمع الكلمات، وتطورها في العصور المختلفة وتغير أساليبها على تعاقب العصور، والأخطاء التي وقعت فيها وحاجتنا إلى معجم جديد وما ينبغي أن يكون عليه هذا المعجم، وأخذت في ذلك سنة كاملة كانت بدء تجربتي في البحث، أعقبها بحث آخر قصير في عكاظ والمربد وتصويرهما حسبما جاء في الكتب وأثرهما في اللغة والأدب.
وكان ذلك تمهيدا لمشروع واسع في البحث وضعناه نحن الثلاثة الدكتور طه حسين والأستاذ عبد الحميد العبادي وأنا، خلاصته أن ندرس الحياة الإسلامية من نواحيها الثلاث في العصور المتعاقبة من أول ظهور الإسلام، فيختص الدكتور طه بالحياة الأدبية والأستاذ العبادي بالحياة التاريخية وأختص أنا بالحياة العقلية. فأخذت أحضر الجزء الأول الذي سمي بعد «فجر الإسلام»، وصرفت فيه ما يقرب من سنتين فرسمت منهجه ورتبت موضوعاته، وكنت إذا وصلت إلى موضوع أجمع مظانه في الكتب، وأقرأ فيه ما كتب على الموضوع وأمعن النظر، ثم أكتبه مستدلا بالنصوص التي عثرت عليها حتى أفرغ منه، وأنتقل إلى الموضوع الذي بعده وهكذا. وكانت أكثر الأوقات فائدة الإجازة الطويلة التي تبلغ أكثر من خمسة أشهر، إذ كنت أجمع الكتب التي يظن أنها تبحث في الموضوع وأحملها على دفعتين أو ثلاث إلى مائدة وضعتها في حديقتي خلف بيتي في مصر الجديدة، وأبدأ العمل في الساعة الثامنة صباحا وأجلس على كرسي أمام الكتب أقلبها وأستخرج نصوصها وأستخلص من كل ذلك ما أكتبه إلى الساعة الواحدة، جلسة واحدة أنسى فيها نفسي وأنسى كل شيء حولي، وهكذا أفعل في أيام العمل التي لا يكون علي فيها دروس في الجامعة حتى ينتهي الجزء. وقد تم هذا الجزء الأول من فجر الإسلام في آخر سنة 1928، ولقد لقيت من حسن استقبال الناس لهذا الجزء وتقديرهم له واهتمامهم به نقدا وتقريظا ما شجعني على المضي في هذه السلسلة، وقد عاقت زميلي عوائق عن إخراج نصيبهما، فاستمررت أنا في إخراج ضحى الإسلام، في ثلاثة أجزاء وترقيت في منهج التأليف في ضحى الإسلام، فقد رتبت موضوعاته التي تستغرق ثلاثة أجزاء وأحضرت ملفات كتبت على كل ملف اسم الموضوع، ملف عليه اسم المعتزلة وآخر الخوارج، وثالث أثر الجواري في الأدب، ورابع الثقافة الهندية.. إلخ. ثم أحضرت أمهات الكتب التي تبحث في هذه الموضوعات كالأغاني والحيوان للجاحظ وكتب ابن قتيبة ورسائل الجاحظ وكتب ابن المقفع ونحو ذلك أقرؤها كلها فإذا وصلت إلى نص يتعلق بالمعتزلة كتبت في ورقة صغيرة مغزى النص ورقم الصفحة في الكتاب ووضعتها في ملف الموضوع، وهكذا حتى أفرغ من هذه الكتب كلها، وهذا دور التحضير، فإذا جاء دور الكتابة استخرجت ملف الموضوع وأعدت النظر في الجذاذات ورتبتها حسب الترتيب المنطقي وفكرت فيها وبدأت أكتب، وكلما عنت فكرة جديدة رجعت إليها في مظانها، حتى ينتهي الموضوع، فأنتقل إلى ما بعده وهكذا، وعلى هذا النمط أخرجت الجزء الأول والثاني والثالث من ضحى الإسلام في نحو سنتين. وهكذا تخصصت في (الإسلاميات).
وإلى جانب ما درسته في هذه الموضوعات درست بعض الكتب الأدبية كطبقات ابن سلام. وطبقات الشعراء لابن قتيبة.
وعلى أثر قراءتي كتابا في اللغة الإنجليزية في النقد الأدبي استحسنت الموضوع وفكرت في تدريسه، أستعين على ذلك بما وقع في يدي من الكتب الإنجليزية وما أعرفه مما كتب في اللغة العربية كالموازنة بين أبي تمام والبحتري، والوساطة بين المتنبي وخصومه، ونقد الشعر ونقد النثر لقدامة، وظللت سنين أدرس هذا الموضوع وأكتب فيه مذكرات وكانت هذه أول دروس باللغة العربية للنقد الأدبي في كلية الآداب.
الفصل الخامس والعشرون
هيأت لي الجامعة فرصة جميلة لرحلات خارج القطر، وقد كاد ينقضي شبابي ولم أبرح القاهرة إلا حين عينت مدرسا بطنطا والإسكندرية، وحين عينت قاضيا في الواحات الخارجة، أما الرحلة خارج مصر فلم تخطر لي على بال، وما كننت أظن أن الزمن سيسمح بها. وقد هيئت لي مرة فرصة السفر إلى باريس، وذلك أن أحد باشوات القاهرة وأغنيائها أراد أن يرسل ابنه إلى باريس ليتعلم هناك، وأراد ألا ينسى ابنه اللغة العربية، فعرض علي أن أصحب ابنه وأقيم معه وأعلمه اللغة العربية وأدرس أنا اللغة الفرنسية فالقانون، وأعجبتني الفكرة ولكنها زهرة محفوفة بشوك، فمن الثقيل على نفسي جدا أن أكون موظفا عند باشا ونفقتي عليه، وابنه سيدي يستدعيني للدرس إذا شاء ويهجرني إذا شاء. ومع ذلك استشرت عاطف بك في الأمر ففضل الرفض فرفضت، واختير غيري لهذا العمل فدرس القانون ورجع محاميا في المحكمة الشرعية والمختلطة، ولو قبلت لتغير وجه حياتي.
على كل حال لم تتح لي فرصة السفر خارج مصر إلا سنة 1928، وأنا مدرس بكلية الآداب، ففي يوم استدعاني أستاذي لطفي السيد مدير الجامعة، وقال: إن البرنس يوسف كمال يود البحث في مكتبات الآستانة عن كتب جغرافية قديمة وبخاصة كتاب بطليموس في الجغرافيا، وأنه طلب مني أن أختار له اثنين فوقع اختياري عليك وعلى الأستاذ عبد الحميد العبادي - فترددت بعض الشيء وعاودتني فكرة التوظف عند الباشا، ولكن لطفي بك هون على الأمر، إذ أخبرني أنه قال للبرنس إنه يرحب بالفكرة ولكن يرجوه ألا يجرح شعور الأستاذين بإعطائهما أجرا على عملهما العلمي وإنما أجرة السفر وما إليها - فقبلت.
وشجعني على القبول أني منذ الصغر أسمع عن إستانبول وعظمتها وأبهتها. ولها صورة عظيمة فخمة في نفسي، فكل حين يذهب الخديو عباس إلى إستانبول ويعود من إستانبول، وأعيان مصر يفخرون بسفرهم إلى إستانبول، وشوقي في شعره يشيد بذكرها. ناهيك عن الباب العالي والقصر الشاهاني والبسفور وبحر مرمرة والسلطان عبد الحميد في قصر يلدز ونحو ذلك - كل هذا شوقني إلى رؤيتها.
أضف إلى ذلك ما وصل إلينا حديثا من ثورة مصطفى كمال وقلبه النظام الاجتماعي رأسا على عقب وما كان له من أثر، فكنت أسمع ذلك وأشتاق إلى معرفة كنه هذا الانقلاب ومداه وصلاحيته.
هذا إلى ما أعتقده في الرحلات من فوائد، فأنا أرى أن الشيء لا تمكن معرفته معرفة حقة إلا بالمقارنة، فالأبيض إنما يعرف بياضه بمقارنته بالأسود والأخضر والأصفر، والأمة لا يعرف أنها متأخرة إلا بقياسها بأخرى متقدمة، والنظام لا يعرف أنه فاسد إلا إذا عرف أو على الأقل تخيل بجانبه نظام صالح، وهكذا.. فما دمت في مصر ولم أر غيرها لم أستطع الحكم الصحيح عليه إلا عن طريق الكتب، وهي أقل جدوى من المشاهدة.
وما أكثر من رأيت من الشبان يركبون البحر ويعودون إلينا ممتلئين إعجابا بما رأوا من مدنية وحضارة وعلم ومناظر طبيعية، ويملئون أفواههم بالكلام عما شاهدوا، والإعجاب بما رأوا، والاحتقار لما يرون في مصر، فإلى أي حد صدقت نظرتهم وإلى أي حد صح حكمهم؟ هذا ما لا أستطيعه إلا إن رأيت ما رأوا؛ وكم قرأت من كتب في الرحلات، ولكن الرحلة إذا تحولت إلى كتاب ذهبت حياتها وقل خيرها وأصبحت عقلا لا قلبا، ومعلومات لا إحساسات والرحلة الحقة ما جددت النفس وأحيت القلب.
وقد مكثت في رحلتي هذه إلى الآستانة أربعين يوما. أخذنا الباخرة «رشيد» يوم السبت 2 يونيه (حزيران) سنة 1928، وقد اعتزمت من يوم أن سافرت أن أدون لي مذكرات يومية، فكنت أسجل قبل أن أنام ما فعلته كل يوم مؤرخا بتاريخه، ولا أطيل على القارئ بذكر هذه اليوميات إلا على سبيل المثال.
لم أر البحر قبل إلا من شاطئ، أما داخله وعظمته وتقلباته فلم أرها إلا اليوم - رأيت البحر عظيما جميلا أنيسا في النهار، ورأيته جليلا مهيبا موحشا في الليل، ورأيتني أشعر نحوه بذلة أليمة أو ألم لذيذ، كشأني عند رؤية أي منظر طبيعي جليل، كغروب شمس أو جبل ضخم أو أمام السماء في ليلة تلمع نجومها. ولعل سبب اللذة ما أشعر به في هذه المناظر من جمال، ولعل سبب الألم ما أشعر به نحو نفسي أمام هذه المظاهر من ضعة.
كأن البحر استدرجنا، فهو في اليومين الأولين هادئ وديع، فلما ألفناه كشر لنا عن أنيابه وهاج في اليوم الثالث فأصابني دوار وما يتبع الدوار. وأطلت الرقاد في سريري خاضعا مستسلما، وفي اليوم الثالث نزلنا أزمير وأخذنا سيارة تجولنا في شوارعها مع بعض ركاب السفينة، وفي اليوم الرابع وصلنا إلى الآستانة.
تجولنا في أنحائها، وسكنا في بيت من بيوتها، وصدمت في أول الأمر عند رؤيتها فلم أجد لها من الجلال والروعة ما سبق أن رسمه الخيال، إنما أيقنت بجمالها وروعتها لما شاهدت ضواحيها، وركبت البحر إلى أطرافها. وأعجبني في الأتراك خلقان لطيفان: نظافتهم وهدوءهم. فأما النظافة فقد تدخل بيت الفقير الذي يعيش أكثر أيامه على البقول الجافة فتراه قد فرش فرشا بسيطا ولكنه نظيف، وقد تفرش الحجرة بالحصير. ولكن لا يسمح التركي لنفسه ولا لضيفه أن يدوس بنعله. وقد ركبنا القطارات والترام وأكلنا في مطاعم المدينة على اختلاف أنواعها من الدرجة الأولى إلى الرابعة، وجلسنا في مقاهي الصناع والحمالين فما وجدنا في كل ذلك إلا نظافة يحمدون عليها. وأما هدوؤهم فقد أمضينا أربعين يوما لم نجد فيها نزاعا في شارع أو خصاما في ترام. وتدخل المقهى مملوءا بالناس، فإذا أغمضت عينيك حسبت أن ليس به أحد، فهم في الحق كما يقولون في هذين الأمرين إنجليز الشرق. ولعل ما لفت نظري إلى هذين الخلقين سوؤهم في مصر، فعنايتنا بالنظافة ضعيفة، وإذا رتبت الأمم في النظافة لم نجد أنفسنا في أعلى القائمة ولا أوسطها، ويفوقنا فيها من الشرقيين اللبنانيون والسوريون وكذلك الشأن في الهدوء، فبلدنا حرمت هذا الهدوء في القهوة وفي الشارع وفي الترام وفي كل مجتمع حتى في البيت.
رأيت مذكراتي مملوءة بالذهاب كل يوم صباحا أو صباحا ومساء إلى مكتبات الآستانة، وقد كان هذا عملنا الرسمي في الرحلة وما أثقل الرسميات! إنها عمل آلي لا دخل للقلب فيها وإن استفدنا كثيرا منها، فقد قلبنا الكتب وتغلغلنا في المكتبات وفتحت لنا منها ما لم تفتح لغيرنا، ودونا أسماء الكتب القيمة التي عثرنا عليها ووصفناها وقيدنا أرقامها، ولما عدنا إلى مصر قابلناها بما في دار الكتب واستبعدنا الموجود وكتبنا تقريرا بما عثرنا عليه من جديد، وأودعنا منه نسخة في دار الكتب لتستفيد منه وقدمنا نسخة أخرى لسمو الأمير صاحب الفضل على الرحلة ولكن ليست هذه هي الرحلة فلا أطيل على القارئ بتفصيلها.
إنما كان أهم ما في الرحلة يوم نخرج لا لغاية، ونتجول في الشوارع لا لغرض، ونزور القرى والضواحي ليتفتح قلبنا، ونرى الناس غادين رائحين ونحن مندمجون فيهم لا نعرف أحدا ولا يعرفنا أحد، فيعجبنا منظر نقف عنده ما شئنا ونسير حتى نتعب ونركب حتى نمل ونخزن في أنفسنا ما نعي وما لا نعي. وقد نسمع كلمة عابرة من رجل تدلنا على الشيء الكثير.
زرنا مرة مسجد السلطان أحمد وهو مسجد كبير عظيم، وقابلنا بوابه فوقف يرثي لحاله وحال الدين في العهد الجديد ويقول بلسانه التركي: بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما كان. يقولها ويلتفت عن يمينه ويساره خوفا من أن يسمعه احد.
ورأيت شخصيات أعجبتني - رأيت رجلين ألمانيين مستشرقين
1
يعيشان للكتب العربية وللعمل العربي، لا لذة لهما إلا هذا في الدنيا، صباحهما في المكاتب ومساوئهما على مكتبيهما يقرآن ويصححان. أحدهما يحضر بحثا في المقامات
2
فيجمع المقامات التي كتبت من عهد البديع إلى اليوم، ويصنفها ويتفهمها ويعلق عليها. والثاني
3
مشغوف بكتب المذاهب الدينية، فهو ينشر كتابا لأبي الحسن الأشعري
4
ويرى فيه الأمرين في تصحيح جمله وتفهمهما، ويعرض علينا ما يقف فيه، فنطيل النظر لتفهم العبارة. وقد نوفق وقد لا نوفق، وكل منهما صبور أشد الصبر، يتعبد بعمله كما يتعبد الراهب في صومعته.
وهذا «إسماعيل أفندي صائب»
5
رجل مسن وقور طيب القلب يعرف كل ما في مكتبات الآستانة من كتب. وما هو قيم وما هو ليس بقيم، ويقف نفسه لخدمة كل من أراد منه علما بهذا الموضوع. زاهد في الدنيا راض بالقليل، عرض عليه أن يكون أستاذا للأدب العربي في جامعة إستانبول بمرتب كبير فرفض لأن هذا المنصب مدني يضطر صاحبه في العهد الجديد أن يلبس البدلة والقبعة، وهو حريص جد الحرص على أن يكون شيخا معمما، والعمامة لا يسمح بها إلا لرجل له عمل ديني رسمي، فهو يفضل العمل الديني القليل الأجر على العمل المدني الكبير الأجر.
وهذا الشيخ «رشيد الحواصلي» سوري الأصل عاش في الآستانة زمنا طويلا؛ وصاحب السيد جمال الدين يوم كان فيها وسمع الكثير من أحاديثه، ورأى الآستانة في عهدها القديم وعهدها الجديد، وعرك الدهر وعركه الدهر، وهو إلى جانب ذلك تاجر في الكتب ماهر، يعرف كيف يبيع وكيف يشتري وكيف ينتهز الفرص - وجدناه فرصة لنا نعرف منه أحوال الآستانة قديمها وحديثها والانقلاب الحديث وموقعه في نفوس الناس، إلى آخر ما عرفنا من شخصيات.
خير أوقاتنا ما نخرج فيه من الآستانة إلى الضواحي، فيوما نركب وابور البحر في البسفور إلى شرشر صو، وكانت رحلة ممتعة رأينا فيها جمال البسفور وما حوله، والمساكن منتثرة في الجبال المزروعة على شكل مدرج، والجبال مكسوة بالأشجار، أشجار الكريز، والبندق، والجوز، وعيون الماء تنبع فيه فيخرج منها ماء بارد عذب زلال لذة للشاربين، وفي الطريق بلاد يمر عليها وابور البحر، فيقف عندها، فنجد سوقا نظيفا فيه ما يحتاج الإنسان من فاكهة نظيفة وفطائر وبقول ونحو ذلك.
الأطفال الصغار والرجال الكبار في غاية النظافة، وأكثر المبيعات تعرض من الداخل، فالجزار مثلا لحمه في داخل دكانه.
ومرة ركبنا باخرة إلى جزيرة الأمراء؛ وهي جزر ثلاث، ذهبنا إلى أكبرها، وهي جبل مدرج يحيط به الماء كسي بالأشجار والنبات، بنى الناس فيه مساكن ظريفة على البحر، وقد صعدناه إلى قمته وتغدينا هناك، ومتعنا نفوسنا بالمنظر الجميل والجو الجميل.
والأتراك حريصون على أن يقضوا يوم الجمعة في الضواحي إذ هو يوم العطلة الرسمية، تغلق فيه الحوانيت وتعطل الأعمال، فيخرجون زرافات ووحدانا إلى المنازه ومعهم أكلهم، وقد يكون معهم موسيقاهم، مرحين مبتهجين. ومرة خرجنا والجو صحو جميل، فلما وصلنا إلى ضاحية من الضواحي أمطرت السماء مطرا غزيرا على المتنزهين، فجروا كل يبحث عن ملجأ يلجأ إليه، وهم يتضاحكون مستبشرين يسخرون من الجو الذي سخر بهم، ويضحكون من السماء التي تضحك منهم، فكان يوما جميلا ومنظرا رائعا.
والنساء فتن بالحرية الجديدة والسفور الجديد، فهن يمرحن ويبالغن في المرح، والفتيات يرقصن حتى في الشارع، ويغنين في المقاهي، وكأنهن سجناء خرجن من سجنهن بعد طول العذاب، ورأين أهلن بعد طول الغياب، إلى آخر ما رأينا من مناظر طبيعية وغير طبيعية، وفنية وغير فنية.
ومن خير المصادفات أن رأيت في الآستانة «علي بك فوزي» أستاذنا القديم في مدرسة القضاء، وكان قد استقال من منصبه الحكومي، وخرج من مصر لأنه لم يطق أن يرى الجندي الإنجليزي يحتل بلاده، والجرسون اليوناني في القهوة يتمتع بامتيازات لا يتمتع هو بها، فخرج من وطنه هاربا، وطوف بالبلاد وحط رحاله في الآستانة، يقنع بخمسة وعشرين جنيها معاشا له، يصرف أقلها على نفسه وأكثرها على الفقراء من حوله. ظللت أبحث عنه في الآستانة طويلا حتى وجدته، فوجدت لقيتي، لأني أعلم أنه أقدر الناس على أن يشرح لي الانقلاب الحديث في تركيا ونتائجه وما فيه من خير وشر.
لقد أعلم أن قد حدثت في تركيا انقلابات اجتماعية خطيرة تثير اهتمامنا، لأن تركيا أول بلد إسلامي نزعت هذا المنزع وجربت هذه التجارب؛ فقد خلعت الخليفة وألغت الخلافة. وحرمت الخليفة المخلوع وأفراد أسرته وأصهارهم من الإقامة في الجمهورية التركية، وحولت الخلافة إلى جمهورية، وحولت كثيرا من أملاكهم ومباني القصور وملحقاتها إلى الأمة، وذهب العقلاء في ذلك مذاهب شتى، منهم من يحبذ هذا العمل ومنهم من ينقده.
وألغت وزارة الأوقاف، وجعلت تدبيرها لرئيس الأمور الدينية وهيئة علمية استشارية بجانبه، وألغت المحاكم الشرعية، ووحدت القضاء.
وألغت المدارس الدينية ووحدت المدارس، وقد كانت المدارس الدينية كثيرة منتشرة متنوعة في البلاد، وكان بعضها يتبع وزارة الأوقاف وبعضها يتبع وزارة الشئون الشرعية، فجعلتها كلها تابعة لوزارة المعارف، تعلم تعليما مدنيا واحدا، ومن شاء أن يعلم ابنه تعليما دينيا فليتكفل بذلك على نفقته، وقصرت التعليم الديني على كلية اللاهوت التي تتبع الجامعة، وهذه هي التي تخرج رجال الدين.
وألغت الطرق الصوفية وأغلقت الزوايا والتكايا، وحرمت الألقاب الصوفية من درويش ومريد وأستاذ وسيد وشلبي ونقيب.. إلخ، وحرمت العرافة والسحر والتنجيم وكتابة التعاويذ والأحجبة وأعمال كشف الغيب والإخبار بالمستقبل، وعاقبت كل من يثبت عليه شيء من هذا بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبغرامة لا تقل عن خمسين ليرة، وحولت الزوايا والتكايا إلى مدارس مدنية.
وحددت الزي الديني فلم تسمح به إلا لطائفة خاصة، كرئيس الأمور الدينية والأئمة والخطباء والوعاظ المعينين من قبل رئيس الأمور الدينية، أما من عداهم فيحرم عليهم لبس العمامة والتزيي بزي رجال الدين. وحددت يوم الجمعة يوم عطلة إجبارية
6
تعطل فيه المصانع والمخازن والمتاجر ونحو ذلك. ومن لم يفعل يعاقب، واستثنت من ذلك الأفران والجزارين وبائعي الخضر والدخان والصيدليات وبعض المؤسسات وألغت التقويم العربي وحتمت التقويم الغربي.
ومنعت الإسراف في الجهاز والزواج فلا ينقل جهاز علانية. ولا تقام أفراح أكثر من يوم واحد ولا تقام مآدب عامة في الأفراح. وسنت قانونا مدنيا عممته بدل مجلة الأحكام الشرعية وبدل الأحوال الشخصية اقتبسته من القوانين الأوروبية.. منعت فيه مثلا تعدد الزوجات وخولت لكل من الزوجين الحق في رفع قضية الطلاق لأسباب معينة.
وحررت المرأة من حيث سفورها ومساواتها بالرجل، سياسيا واجتماعيا ومدنيا، وفتح لها مجال الكسب والتوظف في الوظائف. ولم يكن السفور بقانون، وإنما كان دعوة دعا إليها مصطفى كمال وألح فيها، فاستجابت المرأة إليه، أما مساواتها بالرجل اجتماعيا فقد شرعت في القانون المدني، فسوي بينها وبين الرجل في الميراث، واعتبر الزواج شركة تتألف من جزءين متساويين. وأخيرا شرع للمرأة مساواتها بالرجل في الحقوق السياسية، من إعطائها حق أن تنتخب وتنتخب. وعني بتعليمها، وتوسع في ذلك توسع تعليم الذكور. وفصل الدين عن الدولة، فلم يستخدم الدين في التشريع ولا في الحكم ولا في الإدارة ونحي رجال الدين عن أي تدخل في الشئون الدنيوية.
وغيرت كتابة اللغة التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية.
هذا أهم مظاهر الانقلاب الذي حدث في تركيا؛ والذي أردت أن أفهم أثره وأطيل التفكير به، أيها يصلح لمصر وأيها لا يصلح، وهل تستطيع أن تسير في هذا الإصلاح إلى آخر الخطوات أم لا؟
ولأعرض الآن بعض مذكراتي اليومية التي كتبتها:
الاثنين 18 يونيه سنة 1928
ذهبنا صباحا إلى طوب قبو سراي وبحثنا في مكتبتها وعثرنا فيها على كتب قيمة، وفي المساء قابلنا علي بك فوزي ومكثنا معه نحو ثلاث ساعات تحدثنا فيها في شئون مختلفة.
سألته عن الحالة الاجتماعية في تركيا، فقال: يجب أن ترقبوا التطور الحادث في تركيا مراقبة دقيقة، فمصر مرتبطة بتركيا ارتباطا كبيرا من الناحية الاجتماعية، وكثير من عادات المصريين وتقاليدهم مأخوذة عن تركيا، فإذا تغيرت تركيا يوشك أن تتغير مصر، أضف إلى ذلك أن الآستانة هي البوغاز الذي تمر منه المدنية الغربية إلى مصر. ورأيي أن التيار الغربي لا يمكن مقاومته، فخير أن نستعد للسير معه قبل أن يجرفنا رغم أنوفنا.
إن أكبر مظهر للانقلاب التركي هو السفور، وقد أفاد الأمة التركية من حيث إصلاح الزواج، فكل من الزوجين يرى صاحبه ويأنس به قبل عقد الزواج، ثم إن السفور مكن المرأة من معرفة كثير من شئون الدنيا وكانت تجهلها. والسفور في صالح المرأة فالحجاب كان يحيط المرأة بهالة تمكن الرجل من الإمعان والتخيلات والجري وراء التصورات، ولذلك كثر الغزل في الأدب العربي وأمعن الغزلون في التخيلات.
وسألته عن القبعة فحبذها، وقال إنها أفضل من الطربوش للرأس والعين، وإنه يكره الطربوش ولا يحس له طعما، وحبذ تقليم الحكومة لأظفار رجال الدين لأنهم كانوا نصراء الرجعية وأداة في يد السلاطين الظالمين، ينكلون بالأمة بواسطتهم، وكان سلطانهم كبيرا على الناس، وقد استخدموا هذا السلطان في غير مصلحة الأمة، وقال إنه كان يندس بين رجال الدين من لا يتصلون بالدين، وكثير من الناس كانوا يلبسون العمامة ويغرون بها الناس، فالمتسول والمنجم وكاتب الأحجبة والدجال كل هؤلاء كانوا يلبسون العمامة ويتزيون زي رجال الدين، فما فعلته الحكومة التركية من تحريم لبس العمامة إلا لرجال الدين الرسميين عمل نافع قطع دابر كثير من وسائل التخريف والتدجيل. ولابد لكل إصلاح من ضحايا، ولابد عند منح الحرية أن يعقبها إفراط، فالتشديد على رجال الدين استتبع بعض أخطاء، وسفور المرأة استتبع بعض الزلات، ولكن الزمن كفيل بإصلاح ذلك.
قال: ومن الإفراط في الثورة الدينية ما قرأته اليوم في بعض الجرائد التركية من دعوة إلى تنظيم المساجد والصلاة تنظيما يتفق مع المدنية الحديثة، فالرجل يلبس الجزمة ويصعب عليه خلعها والرجل يلبس القبعة ويصعب عليه أن يسجد بها.
قال: وقد دهش العالم الغربي من ثورة تركيا وتمام هذا الانقلاب الخطير من غير سفك دم، وقال: إن كثيرا من الأوربيين نقموا على هذا الانقلاب لسببين: فبعضهم كرهه لأنه كان يعد الأتراك في ملبسهم وعاداتهم وتقاليدهم متحفا يستمتع به ويذكره بالقرون الوسطى، وكثير منهم كرهه لأنه سلبه الامتيازات التي كان يتمتع بها في العهد السابق.
سألته: هل يعتقد أن تركيا ستستمر في سيرها في طريقها نهضتها؟ فقال: إن كل الظواهر تدل على ذلك، فالجيل الجديد يؤيد الحركة ويحافظ عليها، والناس جميعا أسعد حالا في ظل هذا العهد منهم قبله.
وانتقلنا من هذه الأحاديث الاجتماعية إلى أحاديث شخصية فسألته: هل لا يزال يحن إلى مصر؟ فقال: إن حنينه شديد، ولكنه يفضل الإقامة في تركيا، فقد جرب وفاء الأصدقاء فرأى في مصر ما آلمه، وخير له أن يكون بعيدا فيقاطعوه من أن يكون قريبا منهم ويقاطعوه. قال: وقد فضلت تركيا لأنه إسلامي مستقل، وفيه الصدر الرحب الشرقي، والأوربي - على العموم - متقدم في المدنية ويفوقنا في كثير من الأمور ولكن فيه جانبا وحشيا - وقد عشت في إنجلترا وفرنسا وألمانيا فلم أجد هذا الصدر الرحب الحنون الذي أشعر به في إقامتي في تركيا، وإذا كنت في الآستانة فموطني الحي الشرقي منها وأكلي في مطعم شرقي، ولا أذهب إلى الحي الأوربي إلا نادرا، ويسرني أن أكون في حي مملوء بالمآذن.
سألته: هل هو راض عن خطته التي اختطها في امتناعه عن الزواج؟ فقال: إنه آسف على هذه الخطة، ويود لو عاد إلى الشباب فتزوج، فالزواج هو الذي يبعث الأمل في الحياة، وأنا الآن - من غير زواج - في شيخوخة بائسة تنتظر الوفاة.
وانتقل الحديث إلى الأدب التركي، فقال: حبذا لو تعلمتم التركية لا لأن أدبها واسع وأرقى من الآداب الأخرى الشرقية، ولكن لتروا كيف استخدم الأتراك لغتهم وأدبهم في إصلاح شئونهم الاجتماعية والعقلية والنفسية - لا أمل في إصلاح مصر ما دام هناك لغة للعلم ولغة للكلام، فإما أن ترقى لغة الكلام وإما أن تنحط لغة العلم حتى تتحدا، وحينئذ فقط يكون التفكير الصحيح واللغة التي تستمد روحها من الحياة الواقعية.
الخميس 5 يوليو
قضينا الصباح في المكتبة السليمانية، وبعد الظهر زرنا فؤاد بك كوبرلي تلبية لدعوته في منزله قرب مسجد السلطان أحمد.
بيت قديم عظيم يظهر أنه بيت الأسرة، في غاية النظافة والنظام، فرشت سلالمه بالسجاد الفاخر، ووصلنا إلى حجرة كبيرة صففت في جوانبها دواليب الكتب على أجمل وضع، ووضعت في وسطها مائدة كبيرة للمطالعة.
استقبلنا فيها فؤاد بك وهو شاب في نحو الثلاثين من عمره مملوء نشاطا وأدبا، يلمع في عينه الذكاء، وقد كان يحضر موضوعا لمؤتمر المستشرقين. تحدثنا في جامعتنا وجامعتهم والنشرات والكتب التي تنشرها الجماعتان، ثم تكلمنا عن المستشرقين وما يؤدونه من خدمة للعلم لولا لعب السياسة بعقول بعضهم، وانتقلنا إلى الفرق الإسلامية وصعوبة الوصول فيها إلى حقيقة، لأن الذين يكتبون فيها إما مؤيد غال، أو معارض غال وسألني: هل الإسلام شجع الصوفية أو ناهضها؟ وكان من رأيي أنه شجعها.
وكنت أعلم أن فؤاد بك أحد دعاة الإصلاح الديني والاجتماعي القائم الآن في تركيا، فأثرت هذا الموضوع مرتين لأعلم ما عنده وعند أصحابه من قواعد يبنون عليها إصلاحهم، فكان في كل مرة يغلق هذا الباب في مهارة، وينقل الحديث إلى موضوع آخر.
الأحد 8 يوليو
ذهبنا صباحا إلى مكتبة «شهيد علي» فوجدنا المكتبة غنية بالكتب القيمة المخطوطة، ولكن - مع الأسف - وجدنا الرطوبة قد أثرت فيها بشكل عرضها للتلف، وعلمنا أن سبب ذلك أنها أغلقت أربع عشرة سنة لأن جاسوسا أخبر السلطان عبد الحميد أنه يجتمع قوم يتكلمون في السياسة.
وكان أمين المكتبة أفغانيا فتحدثنا عن السيد جمال الدين الأفغاني واستفسرنا منه عن موقع قبره في الآستانة، فأرشدنا إليه، فذهبنا عصرا إلى جهة يقال لها «متشكه»، وصلنا إليها بالترام وتصل لها الباخرة أيضا لأنها قريبة من محطة «برجة السراي» قريبا من مدخل البسفور. رأينا مقبرة قريبة من البحر تبلغ نحو خمسين مترا في مثلها، وقد سورت بسور له باب، سألنا البواب عن مقبرة الشيخ جمال الدين فلم يعرف، ولكنه أحضر لنا شيخ المقبرة فسألناه فدلنا على القبر. قبر عادي ليس فيه ضريح ولا حوله بناء، ويظهر أنهم عند دفنه تعمدوا ألا يشيدوا بذكره، وأن يدفنوه كما يدفن أي رجل عادي، ولكن أخيرا وضع على القبر تركيبة من الرخام حولها سور صغير من حديد وقرأنا على التركيبة اسم الشيخ جمال الدين وتاريخ ولادته ووفاته، وفي ناحية أخرى سطران تركيان ترجمتهما: «أنشأ هذا المزار الصديق الحميم للمسلمين في أنحاء العالم، الرجل الخير الأمريكاني المستر تشارلس كرين سنة 1926».
وقفنا عند قبر الأستاذ نستحضر حياته وثورته وجهاده وأنه أول من بذر نواة الإصلاح في مصر، فتأثرت نفوسنا بذكراه وقرأنا له الفاتحة وترحمنا عليه وفارقناه ونفوسنا مملوءة بالذكريات.
وقد كنا سألنا الشيخ الأفغاني - خازن مكتبة شهيد على - عن قبر عبد الله نديم فأخبرنا أنه في جهة «بكطاش» ولكن لا يدري بالضبط موضع دفنه.
الخميس 12 يوليه
ذهبنا صباحا إلى القنصلية المصرية وودعنا من فيها، ثم ذهبنا إلى جامع بايزيد وتغدينا في مطعم بجواره بدعوة من علي بك فوزي ثم ودعناه وداعا مؤثرا، فقد كان الرجل قد وجد فينا أنسا من وحشته ورائحة من وطنه في غربته. فلما استأذناه في السفر قال: إنكم تستأذنونني في فقد حياتي، فدمعت عيني سماع هذه الجملة.
والرجل - من غير شك - شخصية غريبة لم أر مثلها، يحب بلده مصر من صميم قلبه، ويحب المسلمين ويرثي لحالهم، ويتدين تدينا مزيجا من قلبه وعقله، فهو يصوم مثلا على طريقة خاصة، فيفطر على كوب من اللبن عند شروق الشمس، ولا يحرم عليه الماء، ويبقى على ذلك إلى موعد الإفطار، فيفطر، ويعني بصيامه عدم كثرة الأكل، والامتناع عن أكل الأشياء الدسمة، والامتناع عن الأقوال والأعمال المؤذية.
ومما دعاه إلى ذلك أنه كان يسكن في إستامبول، فوق جماعة من الإفرنج، يخشى إن هو تسحر في رمضان أن يزعجهم بحركاته، فهو يصوم هذا الصيام الذي ذكرنا من غير سحور.
أهداني يوم وداعه مجلة إنجليزية كان يصدرها عنايت خان في سويسرة في التصوف، يدعو فيها إلى التصوف العام من غير تقيد بتفاصيل دين خاص، ولذلك كان من أعضائها المسلم واليهودي والنصراني.
وقد أخبرني علي بك فوزي أنه عرض عليه بعد وفاة عنايت خان أن يرأس هذه الجمعية فأبي، لأنه لا يحب أن يتقيد بالتقاليد والشعائر على أي شكل كانت.
منشأ عذاب هذا الرجل وشقائه، رقة إحساسه ودقة شعوره إلى حد بالغ.
السبت 14 يوليو
ذهبنا عصرا إلى «يلدز» قصر السلطان عبد الحميد، وقد كان كعبة القاصدين وملعب السياسيين ومخبأ الدساسين، تصدر عنه القرارات الهامة التي تحرك العالم الإسلامي وترسم خططه وتقرر مصيره. يلتقي فيه دهاة الغرب بدهاة الشرق، بالدجالين والمخرفين، بالمصلحين والمفسدين، وتسرح فيه الغانيات الجميلات والمماليك السود والبيض.
سراي كبيرة على البسفور، أقيم عليها من جانب البحر سور ويلي السور شارع وعلى جانبي الشارع أقيمت أمكنة للحرس، ثم السراي.
كان دليلنا عبد الله أفندي رجلا سودانيا طويل القادمة، خدم في السراي أربعين سنة، وهو يترحم على الأيام الماضية، أيام العز والمجد، ويأسف لضياعها وضياع الإسلام، سراي فخمة، وحدائق لا يرى الطرف منتهاها؛ وتمشي من أولها صاعدا نحو ثلث ساعة حتى تصل إلى باب البناء، هذا بناء أعد للضيفان والزائرين، رأينا منه حجرة كانت معدة لأكل الضيوف في عهد السلطان، وهي حجرة بديعة في حليتها وجمال صنعتها، قد عريت من أثاثها فلم يبق فيها إلا مرآة كبيرة، وأشار عبد الله أفندي إلى حجرة أخرى أكبر منها تسع أضعاف ما تسعه الأولى ولكنها مغلقة، وأخبرنا أن كل أثاث السراي قد نقل، وأن بناء الحريم الذي كان يسكنه السلطان قد احترق أيام الحرب.
ورأينا فسقية كبيرة في الحديقة قال لنا عبد الله أفندي؛ إنه منذ أيام قليلة زارنا الخديو عباس، ووقف عند هذه الفسقية، وحكى لنا أنه حين ولي على مصر حضر إلى الآستانة وجلس مع السلطان عبد الحميد بجوار هذه الفسقية هو وأمير بلغاريا، وإذ ذاك أنعم عليهما السلطان، ثم ترحم على تلك الأيام، وظهر على وجهه الحزن والأسف، وهكذا الدنيا وهم خادع وظل زائل.
الاثنين 16 يوليه
قررنا السفر والعودة إلى مصر، فأخذنا السيارة إلى الجمرك ومنه ركبنا السفينة واسمها «الروضة» فكانت مدة إقامتنا بالآستانة نحو أربعين يوما.
فلأنظر نظرة عامة في الرحلة، أنفقنا نفقات كثيرة في الأيام الأولى، لأننا كنا نجهل كيف نعيش، وكان يصحبنا دليل سوري أثقلنا بأحاديثه وتكاليفه فاستغنينا عنه.
كان جو الآستانة في الأربعين يوما جميلا، فلم نشعر فيه بحر القاهرة، بل كنا أحيانا نشعر بالبرودة، ولكن حدثنا بعضهم أن الحر في هذه السنة كان خفيفا أقل من المعتاد، وفي بعض السنين يكون شديدا لا يطاق في بعض الأيام.
وقد أفادتني هذه الرحلة اتساعا في أفقي، فأصبحت أنظر إلى مصر وحوادثها وشئونها من عل وكأني في طيارة، وغلبتني وأنا في الآستانة العاطفة الدينية، لا من ناحية كثرة الصلاة ونحوها، ولكن من ناحية الشعور القلبي.
أحسست عند مقارنتي لرفقائي في السفر أنني أكثرهم تحفظا وأقلهم مرحا وأشدهم حنينا إلى أهلي ووطني، واعتزمت أن أنصف أهلي وولدي عند عودتي فأكون معهم ألطف وأعطف وأرق وأحسن معاملة وأكثر مرحا.
فكرت أن أبحث عند عودتي مشروعا مفيدا وهو إنشاء مطبعة أنشر فيها خير الكتب القيمة التي عثرت عليها في الآستانة فيكون عملا مربحا ماديا وأدبيا.
قلت في نفسي: إن الأربعين يوما التي قضيتها في الآستانة موضوع لرواية جيدة بل روايات، ففيها المناظر وفيها الأشخاص، وفيها الأحداث ولا ينقصها شيء إلا المرأة والتحرير الروائي.
لاحظت كثرة الشيب في رأسي، فبدأ شعوري بكبر سني، وزاد هذا الشعور ما كان يبدو على بعض الشبان من تقديمي أمامهم في السير وإخلاء أماكنهم ليجلسوني، وكان كل هذا إكراما لاذعا.
لتمنيت أن تنقلب السفينة طائرة.
وختمت هذه الرحلة بمأساة سماها أستاذنا علي بك فوزي لما علم بها «آية الكرسي»؛ ذلك أنه قبل وصول الباخرة إلى الإسكندرية بيوم صعدت فوق ظهرها وأردت الجلوس على كرسي من قماش من النوع المعروف الذي يقفل ويفتح، وكان كرسيا قديما فتحته وأخذت أجلس عليه مستندا بيدي على خشبتيه الجانبيتين، فانفلتت خشبته الخلفية ووقعت إصبعي الخنصر من اليد اليمني بين الخشبتين فانقطع طرفها العلوي وتدلت لحمته وسال دمه، وذهبت إلى طبيب الباخرة فأعاد اللحمة المدلاة إلى مكانها وربطها ربطا محكما. واستثارت الحادثة عطف كل من كان في الباخرة. ولما حضرت إلى مصر ذهبت إلى الجراح فأمر بالكشف بالأشعة على عظمة الإصبع فوجدت والحمد لله سليمة، ولم يلتئم الجرح إلا بعد علاج طويل وقد ترك أثرا في إصبعي بينا.
كتب على السفينة (الروضة) في 16 يوليو سنة 1928.
الفصل السادس والعشرون
وانتهزنا فرصة إجازة نصف السنة، فدبرنا رحلة إلى الشام في خمسة عشر يوما والزمن شتاء والبرد قارس، فخرجنا من مصر في ديسمبر سنة 1930 في رهط من الطلبة والأساتذة، وعهدت إلي الكلية الإشراف على الرحلة، فها نحن نرحل من القاهرة إلى القنطرة ونعبر القنال، ونخترق صحراء سيناء بالقطار ونمر على غزة ثم بعض المستعمرات الصهيونية؛ ونستمع إلى بعض الأحاديث عن منشآتهم في مستعمراتهم، فنشعر الخوف من المستقبل، حتى نصل إلى محطة «اللد» فنستقل قطارا آخر إلى بيت المقدس، وبين اللد والمقدس نستمتع بالمناظر الطبيعية من جبال ووديان نشأت - ولابد - من ثورات أرضية عنيفة فعلت أفاعيلها القاسية فرفعت بعضها إلى أعلى وسميناه جبلا، وخفضت جزءا آخر وسميناه وهدة أو واديا، وهي مناظر تملأ القلب روعة وهيبة، حتى نصل إلى المقدس فيستقبلنا بعض علمائه وأدبائه، وعلى رأسهم المرحوم إسعاف بك النشاشيبي، ويبالغ في إكرامنا، ونلتقي بالأستاذ السيد الحسيني مفتي فلسطين فيوحي إلي منظره بقوة إرادة وتصميم وعزم ونفس لا تهدأ حتى تتسلط. وأنتهز الفرصة فأجتمع برؤساء بعض الأحزاب في فلسطين، فأستمع إلى أحاديثهم وأعرف كيف يتنازعون على المصالح الشخصية لا على المبادئ العامة، فأرثي لحالهم وأتوقع من ذلك الشر لبلادهم - ونزور بيت لحم، ونرى كيف تتنازع الطوائف المسيحية المختلفة على الأمكنة وكيف يتقاسمونها شبرا فشبرا، فأعجب بسماحة الإسلام وعده الأرض كلها مصلى، والأرض كلها لله، ونذهب إلى قرية الخليل ونزور مسجده ونعجب ببنائه الضخم ونرى فيه مظهرا من مظاهر البناء الروماني وطابعا من طوابعه.
ونزور المسجد الأقصى فنعجب بفنائه، وننتقل إلى الصخرة ونقف تحت القبة العظيمة، وننظر إلى الأبنية الجليلة التي بناها صلاح الدين.
ونرحل بعد ذلك إلى البحر الميت، ويقص علينا الدليل ما يحوي هذا البحر من ذخائر كيماوية سيستغلها العلم الحديث، وينتفع بها مستخرجوها، ونعود هنا أيضا فنستشعر الخوف من الصهيونية المقبلة. ونسير إلى أريحا، ونهر الشريعة، ونرى الجسر الذي يفصل بين فلسطين وشرق الأردن، ثم نمر على نابلس ونصل بعدها إلى الناصرة بلد المسيح عليه السلام. ثم نصل إلى طبريا ونشعر بالدفء الذي يطرد ما حزناه من برد، ونعجب بما حولها من جبال عالية تتفجر منها مياه حارة أنشئت حولها حمامات. ثم نسير بعدها إلى دمشق، ونحن متطلعون إلى رؤيتها، نحمل ذكريات من أحداثها من عهد أن كانت مركز الخلافة الإسلامية في عهد معاوية والخلفاء الأمويين من بعده، ونتجول في أنحائها ونزور مصانعها ومساجدها ونخرج إلى ضواحيها ننعم بجمالها؛ ولكن كانت دمشق وسورية كلها إذ ذاك في حوزة الفرنسيين، وهم يخشون من طلبة الجامعة وأساتذتها لأنهم يعتقدون أنها بؤرة أفكار وطنية ثورية، فخشوا أن نلتقي بأمثالنا من الناقمين على الاستعمار، فأحاطونا بسياج لطيف الملمس في شكل إكرام، فكنا كلما سرنا احتاط بنا موظفو الحكومة يستقبلوننا ويطلعوننا على ما أحبوا لا على ما نحب، وهذا ظن ظننته، دل عليه ما رأيته.
ونزور المسجد الأموي بدمشق فنسحر بعظمته وجلاله، وسعته وجماله. وضريح شيخ الصوفية محيي الدين بن عربي، وقبر صلاح الدين الأيوبي وأستاذه نور الدين محمود زنكي، ونقضي سهرة لطيفة في نادي الموسيقى بدمشق.
ثم نركب القطار إلى حلب، ونزورها ويستقبلنا رجال المعارف أيضا فنتجول معهم في المدينة، وقد أعجبتنا نظافتها وجد أهلها، ونرى استحواذ الأرمن على أهم الصناعة فيها، ونزور الجامع الأموي فيها أيضا كما نزور قلعتها العظيمة وتثور في نفوسنا ذكريات سيف الدولة في حلب ومجلسه الأدبي الفخم يصول فيه المتنبي ويجول.
ثم نقصد إلى زيارة أبي العلاء المعري في معرة النعمان، فنرى بناء متواضعا يحتوي على فناء صغير وحجرتين، وفي إحدى الحجرتين قبر كتب عليه: أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري. فنقف على قبره طويلا نذكر لزومياته وسقط زنده، وزهده واحتقاره للدنيا ونعيمها، وجرأته التي ليس لها مثيل في نقده اللاذع للتقاليد والأوضاع.
ونمر بحماه ونخترقها ونسر بنواعيرها، ونصل إلى بيروت فنزور (كلية المقاصد) الإسلامية والجامعة الأمريكية ومدرسة الآباء اليسوعيين، ونعود على الباخرة إلى الإسكندرية.
كل هذا في خمسة عشر يوما حتى لكأننا نرى هذه الأماكن من طيارة، أو نستعرض فيلما سينمائيا سريعا.
لقد استفدت من هذه الرحلة رؤية هذه البلاد وأهلها، وعرفت طرفا من حياتها الاجتماعية ومشاكلها السياسية ومناظرها الطبيعية، ولكن عكر صفوها أني لم أستطع أثناءها الانفراد بنفسي، وأنا أكره اليوم الذي لا تتاح لي فيه فرصة الوحدة والعزلة، أحلم فيها وأتأمل.
والرحلة في نظري لا تكون لها قيمة حقة إلا إذا تفتح القلب لما يرى، وجال الخيال في ذلك جولته، ومزج الإنسان ما يرى بنفسه. ولم أتمكن في هذه الرحلة من ذلك كله، فاعتزمت في هذا المأزق أن أجتر كما يجتر الجمل ويخزن سريعا ما يأكل، ثم يمضغه ويهضمه بعد ذلك على مهل. وكان مما أتعبني في هذه الرحلة كثرة ما أدعى إلى الأكل وكثرة ما يلقي من الخطب على الموائد، فلا يزال الشرقيون يتصورون الكرم أكلا وخطابة، وكلما كثر الأكل وكثرت الخطابة كان عنوان الكرم. وإني لأرجو أن يتحول هذا الكرم في المستقبل إلى اقتصاد في الموائد وتوسع في الإفادة بالمعاني؛ وبخاصة مع رجال العلم. وزاد العبء على أنني كنت الخطيب الوحيد غالبا، فكلما دعينا إلى مأدبة خطب صاحبها وطولبت بالرد عليه؛ لهذا ملئت هذه الرحلة بالرسميات، والرسميات عدو الرحلات ومضيعة لبهجتها؛ ومع هذا فالأديب والفيلسوف من طبيعتهما أن يختزنا في أنفسهما كل ما يقع تحت حسهما في وعي أو من غير وعي. ولا يدري أحدهما متى ينتفع بهذا وكيف ينتفع، ولكنه سينتفع حتما على كل حال.
ولا بأس هنا أن أذكر رحلة أخرى رحلتها إلى بيت المقدس كانت عجيبة حقا مربكة حقا ذلك أني تلقيت يوما خطابا من جمعية الشبان المسيحية في القدس، تطلب مني محاضرتين في أي موضوع أختاره، وحددت لي موعدا بعد شهر تقريبا، فقبلت الدعوة واخترت موضوعا هو: «ما الذي يعوق المسلمين اليوم عن المشاركة في بناء المدنية الحديثة؟» وعكفت على كتابة المحاضرتين حتى تممتهما وتهيأت للسفر، وإذا بتلغرافات، ترد إلي من جمعيات الشباب المسلمين في القدس ويافا وحيفا وغيرها تحذرني من الحضور من غير أن تذكر سببا، فلم أعبأ بذلك، وسافرت، فلما وصلت إلى القدس لم أجد من يستقبلني إلا مندوبا من جمعية الشبان المسيحية وأستاذا في القدس كان طالبا في كلية الآداب
1
فدعاني مندوب الجمعية إلى النزول في بنائها فاعتذرت، ودعاني الأستاذ تلميذي أن أنزل في بيته إذ كان يسكن بمفرده فقبلت، وقد أسر إلي صاحبي بأن الأستاذ المفتي وإسعاف بك النشاشيبي والأستاذ الثعالبي يعتذرون إذ لم يقابلوني ويطلبون إلي أن أقابلهم، فقابلت الأستاذ إسعاف فشرح لي الموقف وقال: إن مركز جمعية الشبان المسيحية متهم الآن بأنه مركز تبشير للمسيحية ومركز تبشير للاستعمار الإنجليزي، وقد ثبتت عليه بعض الأحداث فقاطعه المسلمون من أجل ذلك، وقد أرادت الجمعية أن تكسر هذه القطيعة وتبطل الإضراب بدعوتك لإلقاء هذه المحاضرات. فقلت: كان عليكم أن تخبروني بهذه التفاصيل من قبل حين أعلنت الجرائد عن سفري ولنتدبر الآن في الحل. فطلب أحدهم إلغاء المحاضرات فأبيت، وطلب آخر أن ألقي المحاضرات نفسها في جمعية إسلامية، فقلت إن هذه المحاضرات قد أصبحت ملكا للداعي إليها. وأخيرا اتفقنا أن ألقى محاضرة في موضوع آخر في جمعية إسلامية قبل إلقاء هاتين المحاضرتين، وأعددت العدة لإلقاء محاضرة في نادي مدرسة روضة المعارف. وكان عنوانها تفسير آية
إن الله يأمر بالعدل والإحسان .
وقد بدأت المحاضرة ببيان وجهة نظري في المحاضرة التي أتيت من أجلها، مستندا إلى أن المسئول عن ذلك هم لا أنا، إذ كان الواجب عليهم أن يخبروني بمقاطعتهم قبل حضوري. ثم إن موضوع المحاضرة التي سألقيها يدور حول الإشادة بالإسلام والمسلمين، وأن السبب في أنهم لم يبنوا في المدنية الحديثة مع البانين لا يرجع إليهم ولكن يرجع إلى أن الاستعمار الأوربي يأبى رقيهم، ويعمل على إضعافهم لاستغلالهم. ولو أنصف الأوربيون لمهدوا للمسلمين سبيل القوة حتى يقفوا على أجلهم وبينوا في صرح الحضارة معهم. ومثل هذا الكلام إذا ألقي في جمعية مسيحية كان له الأثر الأكبر؛ ثم هبوا أنه قد دعي قسيس مسيحي للتبشير بدينه في مسجد إسلامي ألا ترون أنه يعد ذلك فرصة عديمة النظير. وأخيرا سألقي محاضرتي فمن لم يقتنع بما قلت وشاء مقاطعة المحاضرة فليفعل، ومن شاء أن يسمعها ثم يقاطع فليفعل؛ ثم بدأت في محاضرتي عن العدل والإحسان. ومع هذا البيان خرجت جرائد بيت المقدس تندد بي وتطالب بعدم إلقاء المحاضرة ومقاطعتي إن ألقيتها - وحين ذهبت لإلقائها كان بعض الشبان في مفترق الطرق يحرضون من توسموا فيه الذهاب إلى الجمعية على عدم الذهاب، ولما ذهبت وجدت - مع الأسف - القاعة الكبيرة الفسيحة مملوءة بالمستمعين.
وانتهت المحاضرتان بعد أن لقيت فيهما من العناء الشيء الكثير، ولم أستمتع بطبيعة ولا منظر، فكان درسا قاسيا لا رحلة هادئة.
الفصل السابع والعشرون
وفي السنة التي تليها رتبت كلية الآداب رحلة إلى العراق في إجازة نصف السنة اشترك فيها بعض أساتذة الحقوق وكلية الآداب وبعض الطلبة وعهد إلي أيضا الإشراف عليها، وكانت الرحلة أشق وأعنف، اجتزنا فيها الطريق الذي اجتزناه في الرحلة السابقة، إلى دمشق تقريبا، ثم ركبنا السيارات من دمشق إلى بغداد في نحو سبع وعشرين ساعة، قطعنا فيها بادية الشام، وهي بادية منبسطة فسيحة الأرجاء جدباء ليس فيها إلا قليل من الأعشاب، سرنا فيها ليل نهار لا نستريح في الطريق إلا قليلا لنأخذ أكوابا من الشاي أو أقداحا من القهوة، وسير السيارات في الليل المظلم والبرد القارس والريح العاصف مهيب مخيف، إلى أن لاح لنا نهر الفرات فبلعنا ريقنا بعد أن جف من منظر الصحراء، وعبرنا جسرا على نحو ما كان في عهد الرشيد والمأمون سفن ضم بعضها إلى بعض، فكانت جسرا، ووصلنا الأنبار وتسمى الآن الفلوجة، وكم نبغ من الأنبار هذه نوابغ في العلم والأدب يلقب كل منهم بالأنباري، وظللنا نسير فيما بين النهرين دجلة والفرات أكثر من ساعة في أرض طيبة خصبة، ولكنها مهملة مهجورة تنتظر اليد العاملة والرءوس المفكرة والأموال المدبرة حتى وصلنا بغداد - قارنت بين بغداد الرشيد والمأمون وبغداد العهد الحاضر، وخصب العراق ومزارعه في الماضي والحاضر، فحزنت، ولم أستطع أن أكتم حزني فكنت قليل الذوق في أول حفلة أقيمت لنا عقب وصولنا؛ إذ طلب مني الكلام فتكلمت فيما كان بين بغداد في القديم والحديث، وفيما مررنا عليه من أرض جيدة التربة، ولكنها جرداء كالصحراء، ودعوت إلى أن ينهض أهل العراق فيستغلوا كنوز الذهب في ديارهم، والمياه المتدفقة في أراضيهم، ولم أكن في هذا الحديث لبقا، إذ ليس هذا الكلام مما يصح أن يكون تحية القدوم، ولكن كان هذا أثرا للصدمة التي صدمناها عند رؤية ما بين الأنبار وبغداد، وقد أمكنني في خطبة أخرى في حفل آخر أن أتدارك هذا الخطأ، فأشيد بما فعل العراقيون من جهد جبار في إصلاح الأحوال، وكلا القولين حق، ولكن ما كل حق يقال.
تجولنا في بغداد وزرنا الإمام أبا حنيفة في مسجده بالأعظمية والإمام الكاظم والإمام الجواد في الكاظمية، والمتحف العراقي، إلخ، وأنسنا بلقاء الشاعرين الكبيرين جميل الزهاوي ومعروف الرصافي واستمعنا إلى شعرهما فيما أقيم لنا من حفلات. وقد أكرمنا العراقيون إكراما فاق الحد فقلما خلت ليلة من دعوة وكنا في رمضان، حتى لقد دعينا ليلة واحدة إلى ثلاث دعوات اضطررنا إلى إجابتها.
وقد دعانا المرحوم الملك فيصل إلى الإفطار على مائدته ووجه إلي السؤال الآتي: هل من مصلحة بلد كالعراق أن يكثر من التعليم العالي؛ ولو أدى ذلك إلى كثرة العاطلين من المتعلمين، أو أن يقتصر فيه على قدر ما تحتاجه من موظفين؟ وهذا السؤال يستتبع مسألة أخرى نتيجة للجواب، وهي: هل ننشئ هنا مدارس عالية يكثر فيها الطلاب أو نكتفي بإرسال بعثات إلى أوروبا بقدر ما نحتاجه من غير داع إلى إنشاء مدارس عالية هنا؟ وقد وفقني الله فأجبت بأن مصلحة الأمة في كثرة المتعلمين تعلما عاليا وإنشاء المدارس العالية لهم في البلاد نفسها، ثم إرسال بعثة من النابغين، وأن التعليم العالي كله خير وبركة مهما كانت النتائج. وقد علمت بعد أن هذين الرأيين كانا يتصارعا في العراق وأتى هذا السؤال من الملك فيصل نتيجة لهذا الصراع.
ولمست في العراق الانقسام بين الشيعة والسنية، وقد زرت النجف وكربلاء وغيرهما، وهي حصون الشيعة، وصادف ذلك أيام العزاء وذكرى مقتل الإمام علي بن أبي طالب، ورأينا العامة في كربلاء يضربون صدورهم ضربا شديدا حتى ليدموا أجسامهم حزنا على الإمام، ومنهم من يضربون أنفسهم بالسيوف، ومنهم من يضربون ظهورهم بسلاسل من حديد، والنساء يولولن على نحو ما كان معروفا من عمل الشيعة في القاهرة إلى عهد قريب. وقد أسفت لهذه المناظر وحملت مسئولية ما يعمل في هذا الباب علماء الشيعة، وفيهم فضلاء أجلاء مسموعو الكلمة يستطيعون أن يبطلوا كل هذا بكلمة منهم، ولكن لا أدري لماذا لا يفعلون.
وهذا الخلاف بين السنية والشيعة في العراق جر عليه كثيرا من المصائب والمحن - وبذل جهود ضاعت فيما لا يفيد، لو صرفت في خير الأمة وتقدمها - بقطع النظر عن سني وشيعي - لعادت على أهلها بالخير العميم؛ ولأن الخصومة بين أصحاب علي وأصحاب معاوية معقولة في زمنهما أو بعد زمنهما فلم تعد معقولة الآن، إذ ليس هناك اليوم نزاع على خلافه ولا إمامة، وإنما هو نزاع على أيهم أفضل أبو بكر وعمر أم علي؛ وهذه لا يبت فيها إلا الله، ومن السخافة أن نضيع أوقاتنا في مثل هذا الكلام، وكل العقلاء متفقون على أن كلا من الثلاثة رجل له فضله ومزاياه، والله وحده هو الذي يتولى مكافأتهم على أعمالهم، ويزنهم بالميزان الصحيح ويقدرهم التقدير الحق، وما عدا ذلك فالخلاف بين الشيعة والسنية كالخلاف بين حنفي وشافعي ومالكي لا يستدعي شيئا من الخصومة؛ ولكن أفسد الناس ضيق العقل وعواطف العامة ومصالح بعض رجال الدين وصبغ المسائل السياسية بالمسائل الدينية.
ولما أخرجت كتاب «فجر الإسلام» كان له أثر سيئ في نفوس كثير من رجال الشيعة، وما كنت أقدر ذلك، لأني كنت أظن أن البحث العلمي التاريخي شيء والحياة العملية الحاضرة شيء آخر، ولكن شيعة العراق والشام غضبوا منه وألفوا في الرد عليه كتبا ومقالات شديدة اللهجة لم أغضب منها، ولما لقيت شيخ الشيعة في العراق الأستاذ آل كاشف الغطاء عاتبني على ما كتبت عن الشيعة في فجر الإسلام. وقال: إني استندت فيما كتبت على الخصوم، وكان الواجب أن أستند إلى كتب القوم أنفسهم، وقد يكون ذلك صحيحا في بعض المواقف، ولكني لما استندت على كتبهم في «ضحى الإسلام» ونقدت بعض أرائهم نقدا عقليا نزيها مستندا على كتبهم غضبوا أيضا، والحق أني لا أحمل تعصبا لسنية ولا شيعة، ولقد نقدت من مذاهب أهل السنة ما لا يقل عن نقدي لمذهب الشيعة وأعليت من شأن المعتزلة بعد أن وضعهم السنيون في الدرك الأسفل إحقاقا لما اعتقدت أنه الحق.
وقد حدث وأنا في بغداد حادث خطير، فقد دعينا لنشهد مجلسا من مجالس العزاء يقيمها الشيعة في ليالي مقتل الإمام علي، فذهبنا إلى «الحسينية» بالكرخ - ضاحية من ضواحي بغداد - فرأينا دارا واسعة احتشد فيها عدد لا يقل عن أربعة آلاف، وقد سرى في القوم أن وفد مصر حضر، فازدحموا على استقباله، وأخليت لنا ناحية جلسنا فيها، وخطب بعض الخطباء لتهنئتنا ورد عليهم الأستاذ عبد الوهاب عزام التحية بمثلها، ثم قام خطيب الليلة الأستاذ كاظم الكاظمي، وهو خطيب طلق اللسان حسن التأثير في السامعين، فرحب بالوفد وبأحمد أمين ولكنه عرج من ذلك على كتاب فجر الإسلام وما فيه من تجن على الشيعة وأكثر الحاضرين من عوام الشيعة الذين تؤلمهم هذه الأقوال أشد الألم، ولا يمنعهم مانع أن ينكلوا بكل من يعتدي على عقيدتهم، ولكن الخطيب ماهر، إذ أحس هياج الجمهور وتحفزهم اقتبس جملة من فجر الإسلام فيها مدح الشيعة، وهكذا ظل الرجل يلعب بعواطف الناس بين مد وجزر وتهييج علي وتهدئة؛ فلما طال هذا وخشي بعض الحاضرين سوء العاقبة نصحنا ناصح أن ننسل من باب خلفي ففعلنا ونجونا بأنفسنا - وقد علمنا أن الأمر بلغ الملك فيصل، فغضب على الخطيب وشاء أن يعاقبه، ولكنا طلبنا من ناقل الخبر إلينا أن يرجوه ألا يفعل، فقد انتهى الأمر بسلام.
وكان يوما أيوم، يوم «سر من رأى» وقد شاء الله أن تكون «سيء من رأى» ذلك أننا اعتزمنا زيارة سامراء، وقد قيل لنا إن المسافة بين بغداد «وسامرا» نحو ساعتين، فقدرنا أن نزورها ثم نعود ونتناول الإفطار على مائدة قنصل مصر في العراق، ولكن ساء سير السيارات فلم نصلها إلا قبيل الغروب، وأبرقنا إلى قنصل مصر أن يجعل إفطارنا سحورا، ومررنا في الطريق على قنوات معطلة، وأرض زراعية فسيحة مخربة. وآثار عمران عظيمة مهدمة، وعبرنا نهر دجلة إلى «سامرا» ورأيناها وأطلالها القديمة، وشاهدنا جامع المعتصم فيها، وقد بني على نمط جامع ابن طولون بمصر وبخاصة منارته، وشاهدنا بعض آثارها الباقية، فلما حاولنا الرجوع وقد أظلم الليل، قيل لنا إن ذلك مستحيل، لأن الطريق غير مأمون فألححنا على رئيس البلدية فقبل وأرسل معنا سيارة مسلحة تخفرنا.
وحدث أن أراد طالب معنا أن يعبر الجسر المقام على دجلة فسقط بين المركبين، فبعثت من أنقذه وكانت الدنيا شتاء والبرد قارسا؛ فأخرجناه والحمد لله سليما، وغيرنا له ملابسه المبلولة، وأشعلنا له نارا تدفئه، وعلى هذه الحال انتهت الحادثة.
1
وكنا كلما سرنا مسافة ارتطمت سيارة في الوحل فتعطلنا حتى ننقذها ونصلحها، وسمعنا في الطريق أن لصوصا قد سطوا على قوم يمرون أمامنا، فدخلنا الرعب، ووصل الخبر إلى بغداد بأن السطو حدث علينا نحن في الطريق، فخرج مدير شرطة بغداد ببعض الجنود لاستطلاع الخبر وإنجادنا فلقيناهم في الطريق، ولم نصل إلى بغداد إلا بعد الفجر، وفاتنا الفطور والسحور، وكان يوما خالد الذكر في حياتنا لا ننساه، لما رأينا من بلواه.
ويوما قررنا السفر إلى الموصل ووصلنا بالقطار إلى كركوك وبتنا فيها ورأينا منابع البترول وكيف تحفر الآبار، وعاقنا المطر الغزير عن متابعة السير إلى الموصل فعدنا من كركوك إلى بغداد وودعنا أهلها وأخذنا طريقنا إلى تدمر، فجسنا خلالها ورأينا قبورها وآثارها، ووقفنا على أطلالها، ولفت أنظارنا جمال أهلها، وذكرنا الزباء وما قال العرب والإفرنج عنها، وبتنا فيها ليلة، ثم قفلنا إلى دمشق ومنها إلى بيروت مخترقين جبال لبنان العالية وحولنا الثلج، وعدنا إلى مصر سالمين. وقد انطبعت في نفوسنا صور شتي من صور العالم العربي فلسطين وسورية والعراق ولبنان - كلها بلاد تتقارب في الحياة الاجتماعية وتقف على درجات من سلم واحد، فكلها تتوزع مزايا الشرق وعيوبه، هذه مصر تتقدم الجميع في مظاهر المدنية والحضارة والثروة، وهذا لبنان يمتاز بجد أهله ونشاطهم وثقافتهم وتقدم المرأة عندهم، وهذه الشام تمتاز بالنشاط والنجاح التجاري الذي عرف فيهم من عهد الآراميين، وهذا العراق يشعر بثقل الدين القديم، فينهض أهله، وبخاصة شبانه بتأسيس نهضة جديدة تستغل فيها موارد البلاد معيبة بالبطء الحكومي في تصريف الشئون، وضعف الابتكار، والحاجة إلى الأجنبي النزيه في رسم الخطط للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وكلها معيبة في نظام الحكم وعدم رعاية حقوق الشعب، وقلة شعور الشعب بحقوقه وواجباته وإن اختلفت درجاتها في ذلك، ولكل أمة من هؤلاء مشاكلها. فمشكلة لبنان انقسام أهله إلى مسلمين ومسيحيين، واختلاف نزعاتهم بين ميل إلى فرنسا وكره لها، ومشكلة القدس الخلاف بين زعمائه وأحزابه على الغلبة والرياسة، مع أن الصهيونية تنخر في عظامهم، ومشكلة العراق تقسم أهله بين سنية وشيعة وبدو وحضر، وهكذا رأيت كل هذه المناظر واختزنتها في نفسي وأثرت في تفكيري.
وسافرت إلى الحجاز للحج سنة 1937 مع بعثة الجامعة المصرية، ولا أطيل في وصف الطريق والمراحل التي يقطعها الحاج، فقد ذكرت كثيرا قبل، وكل ما أريد ذكره أن عادة الحجاج أن يغمرهم الشعور الديني، فلا يشعروا بما تحملوا من متاعب، ولا بما صادفوا في الطريق من عقبات، ولا ما شاهدوا من فوضى وعدم نظام ونحو ذلك، أو يشعرون بها ولكن يحملهم الورع الديني ألا يفوهوا بها، ولا ينطقوا إلا بما رأوا من محاسن، أما أنا فقد غمرني أيضا الشعور الديني وكان في الحج مواقف اهتز لها قلبي ودمعت لها عيني، وأروعها - على ما أذكر - مشاهدة الكعبة وطوافي طواف الناس حولها، ثم وقوفي بعرفات وعشرات الآلاف من الحجاج يلبسون لباسا أبيض بسيطا كأنهم تجردوا من الدنيا ونعيمها وطرحوا زخارفها. ووجهوا قلوبهم كلها إلى خالقهم يبتهلون إليه أن يغفر لهم ما تقدم من ذنبهم، وأن يعينهم على حياة جديدة ملؤها الطاعة والتقوى، ثم زيارتي للحرم المدني في المدينة ووقوفي أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، أستحضر تاريخه ومواقفه وعظمته، فكل هذه المواقف كانت جميلة حقا رائعة حقا.
ومع ذلك فكان عقلي مفتحا أيضا لرؤية المتاعب ومنشئها وإدارة الحج وتقدير إحسانها أو إساءتها، وتدوين كل ذلك في مذكرتي؛ فهذا الزحام يشتد في أيام الحج وتضطرب حركة السير، وبخاصة عند نزول الناس من عرفات إلى منى، وفي الإمكان تنظيمه وترتيبه بشيء من العناية، وهناك قلة الماء في منى وصعوبة الحصول عليه، وفي الإمكان ترتيب ذلك. وهناك عدم العناية بالنظافة حول الحرم المكي والمدني وفي المساكن والشوارع. وهناك سوء الطريق بين جدة والمدينة إلى كثير من أمثال ذلك، ألمت لها، وفكرت في وجوه الخلاص منها، وأيقنت أن إدارة الحج بمعاونة العالم الإسلامي لها تستطيع بجهد قليل أو كثير أن تتلافى هذه العيوب وتريح الحجاج مما يلحقهم من أذى قد يصرفهم في كثير من الأحيان عما حجوا لأجله، من فراغ للعبادة واتصال بالله.
ورأيت من واجب الخاصة أن يدرسوا ما رأوا ويفكروا في العلاج ويقترحوا سبل الخلاص من الأدواء ويرفعوا صوتهم بها، فذلك خير من السكوت عليها. من أجل هذا كتبت تقريرا عن كل ما رأيت من داء وما أصف من علاج، ولم أبخس فيه الإدارة الحجازية فضلها في بسط الأمن ونشر الطمأنينة بين الحجاج على أنفسهم وأموالهم؛ ورفعت نسخة من هذا التقرير إلى وزارة الخارجية المصرية والجامعة، وتحدثت بخلاصة ذلك في الإذاعة المصرية، فكلمني المرحوم طلعت باشا حرب بأنه يريد مني أن أقابله ففعلت، وكان من رأيه ألا أثير هذه المسائل الشائكة، ولا أذكر هذه المعايب والمتاعب، لأنها تصرف كثيرا ممن يريدون الحج عنه، وتسيء إلى الإدارة الحجازية من غير داع، فشرحت له وجهة نظري في أن الإعلان عن هذه العيوب يدعو إلى إصلاحها، وما دمنا ساكتين فلا أمل في الإصلاح؛ وأخيرا تقاربت وجهة نظرنا واتفقنا على أن أكتب تقريرا مفصلا لا أذيعه في محطة الإذاعة ولا أنشره في الجرائد، ولكن أقدمه إليه وهو يرفعه إلى الإدارة الحجازية ويعمل ما وسعه في التفاهم معها ومع الحكومة المصرية على بذل الجهد في الإصلاح.
الفصل الثامن والعشرون
أتيحت لي فرصة أخرى سنة 1932 لأرى الغرب كما رأيت الشرق، وأرى المدنية الحديثة كما رأيت مدنية القرون الوسطى، وأرى من يسمونهم المتقدمين كما رأيت من يسمونهم المتأخرين، فيكون لي بدل العين عينان وبدل المنظر الواحد منظران، فاخترت عضوا في مؤتمر المستشرقين الذي ينعقد في ليدن بهولنده، وقررت السفر قبل الموعد بنحو شهرين، حتى أزور ما أمكنت زيارته من مدن أوربية، فركبت البحر إلى مرسيليا مع صديقي الدكتور عبد الرزاق السنهوري - وقد خبر فرنسا خبرة طويلة ودقيقة وعرف أهلها وبلادها إذ أقام فيها سنين يدرس القانون - وزرنا مرسيليا وتجولنا فيها وخرجنا إلى ضواحيها، ثم سافرنا إلى ليون ونزلناها وأقمنا فيها ثلاثة أيام رأينا فيها معالمها وجامعاتها وخرجنا إلى ريفها، ثم سافرنا إلى باريس ونزلنا في أوتيل فوايو بجانب مجلس الشيوخ وأقمت فيه نحو عشرة أيام، وقد وضع لي صديقي برنامجا دقيقا وطويلا رتبه بإمعان وبعد طول تفكير، ليريني أهم ما في باريس من جد ولهو وعلوم وفنون وأبنية ضخمة وآثار رائعة، ويريني المدينة والريف والعاصمة والضواحي، فكان برنامجا شاقا صعبا، كل يوم رؤية صباحا ورؤية مساء، ولم يسمح لي أن أستريح ولو قليلا، ولا أن أتذوق ما أرى، وأنا رجل بطيء الحركة أحب أن أتحرك على مهل وأتذوق على مهل وأستطعم ما آكل، وأحب أن أتغدى ثم أغفو قليلا بعد الغداء فلم يمكني من شيء من ذلك، فيوما يريني ميدان الباستيل وشوارع باريس الكبيرة وكنيسة مادلين وميدان الكونكورد ومنتزه الشانزليزيه، وفي المساء نذهب لمشاهدة رواية في الأوبرا، ويوما نرى برج إيفل ونصعد إليه، ونستمع للدليل يشرح لنا الغرض منه وكيفية تأسيسه ونزور الجماعات وبعض المدارس، ويوما نزور غابة بولونيا وقصر فرساي وقاعاته ومتحفه، ويوما نزور معامل سيفر المشهورة بعمل الصيني، ويوما نزور اللوفر ومتاحفه، ونخرج إلى حديقة لوكسمبورج وسرايها وكنيسة نوتردام، ويوما نزور مونمارتر وملاهيه والمكتبة الأهلية ونلتقي نظرة عامة على ما فيها، ويوما نزور سوق باريس في الصباح المبكر لنرى منظرا غريبا في البيع والشراء، ويوما نخرج إلى ضاحية بعيدة من ضواحي باريس نرى فيها ريف فرنسا وجماله، ويدعونا بعض أصدقاء الدكتور لنرى بيوتهم وعائلاتهم ونتعشى معهم إلخ.. إلخ.. كل ذلك في عشرة أيام كنت فيها متحركا لا أسكن، ونشيطا لا أخمد، ومجهدا لا أستريح إلا وقت النوم في أوتيل فوايو.
وأذكر مرة أننا نفذنا برنامجنا الصباحي ثم تغدينا في مطعم وجلسنا بعد الغداء نشرب القهوة لنستعد لتنفيذ برنامج بعد الظهر، ولكن السماء أمطرت في غزارة، وأحسست حاجتي الشديدة إلى الاستقرار بعد الغداء فلم يسمح لي، وأبى إلا أن يطبق البرنامج بكل دقة، فكنا نمشي في المطر الشديد لنصل إلى حيث نريد طبقا للبرنامج، وقد أتخمت من هذه الأيام العشرة بالمعلومات والمناظر والمعارض والأحداث حتى لكأنني أشاهد رواية سينمائية دام شريطها عشرة أيام واحتجت إلى سنين بعدها أهضم ما أتخمت به؛ ثم ودعت صديقي ذاهبا إلى إنجلترا.
وأبرق إلي صديق لي
1
يعد لي مسكنا في لندن ويستقبلني في محطتها، ويصل القطار إلى كاليه، وأعبر بحر المانش إلى دوفر، وأركب القطار إلى لندن فيستقبلني صديقي ويريني مسكني فيها؛ حجرة واسعة لطيفة فيها سرير، مفروشة فرشا بسيطا لطيفا في بيت من بيوت الطبقة الوسطى وفي حي كذلك، وتعد صاحبته ما أحتاجه من فطور وعشاء أما الغداء ففي المطعم، وأتعرف في المنزل بفتاة إنجليزية من أصل ألماني سألتها أن تصحبني في الخروج إلى معالم لندن ومشاهدها فقبلت، فزرنا المتحف البريطاني، واستعرضت فيه بعض المخطوطات، ودار بلدية لندن «جولد هول» وبنك إنجلترا وبرلمانها؛ ومسلة كليوبترة، وجريدة التيمس وميدان الطرف الأغر وتمثال نلسن وكنيسة «وستمنسر أبي» وجامعة لندن وقصر سنت جيمس وحديقة هايد بارك والمتحف الحربي إلخ.. وكنت في لندن أشعر ببعض الحرية وبعض الاستقلال، لمعرفتي اللغة الإنجليزية وقدرتي على التفاهم بها، على عكس ما كنت في فرنسا، إذا كنت عالة على صديقي لا أكاد أستطيع الحركة إلا معه، فإذا تخلى عني لم يكن أمامي إلا الجلوس في قهوة ، أو السير في شارع من شوارعها الفسيحة كما يسير الأصم الأبكم؛ والمسافر من فرنسا إلى إنجلترا يشعر بالفرق الكبير، حين يطأ أول أرض إنجليزية؛ فمن ساعة أن يتلقاه الحمالون الإنجليز ليحملوا أمتعته ويوصلوه إلى القطار يشعر بالهدوء التام والنظام الشامل وسير الأعمال فيها كأنها آلة دقيقة منظمة كل جزء منها منسجم مع ما حوله.
وأحببت أن أزور الريف الإنجليزي فرتب صديقاي الأستاذ حافظ وهبة وزير المملكة العربية السعودية في لندن والمرحوم الأستاذ أمين جمال الدين مدير البعثات في لندن رحلة إلى ويلز في عربة الأستاذ حافظ يسوقها الأستاذ جمال الدين، فكانت رحلة ممتعة عرفنا فيها الريف الإنجليزي، وكنا نسير على مهل، فإذا جاء وقت الغداء تغدينا في مطعم في الطريق، وإذا جاء المساء بحثنا عن بيت في الريف لقروي يضيفنا، ومازلنا في رحلتنا حتى وصلنا إلى كارنارفون فأقمنا فيها أياما.
وأقمت في إنجلترا نحو أربعين يوما، اهتممت فيها أن أرى أكثر ما يمكن أن أرى، وأتعرف من أحوالها الاجتماعية بقدر ما أستطيع، ولكن شيئا واحدا أسفت له أشد الأسف، وهو أني كنت حضرت بحثي الذي اعتزمت إلقاءه في مؤتمر المستشرقين باللغة العربية، وقد قيل لي بعد إن لغة الإلقاء لا بد أن تكون بالإنجليزية أو الفرنسية، فشغلت نفسي وأنا في لندن بالاستعانة بمترجم إلى الإنجليزية، وبكتابة ذلك على الآلة الكاتبة، فاستغرق مني ذلك مجهودا كبيرا وأضاع على زمنا كان يجب أن أصرفه في معرفة الحياة الإنجليزية في نواحيها المختلفة، والاستمتاع بمناظرها ومباهجها، وأخيرا سافرت إلى ليدن بهولنده حيث ينعقد المؤتمر.
رأينا ليدن وكأنها دير كبير يتعبد فيه رجال العلم، تموج بالعلماء والمكاتب وفيها مطبعة بريل الشهيرة التي كان لها الفضل الكبير في طبع كثير من الكتب العربية، وكنا قد كتبنا إلى سكرتارية المؤتمر بحجز أمكنة لنا، فلما رأيناها لم تعجبنا كثيرا لأنها كانت أشبه بمساكن الطلبة، ففضلنا أن نسكن في لاهاي وننتقل كل يوم إلى ليدن، وكان يصحبني في هذه الرحلة الدكتور إبراهيم بيومي مدكور الذي آنسني بمصاحبته، وخفف عني بعض أعبائها، فجزاه الله خيرا.
وانعقد المؤتمر واستمعنا فيه إلى أبحاث المستشرقين في الإسلاميات والأدب العربي والهنديات والصينيات وما إلى ذلك، وجاء يوم بحثي، وكان موضوعه «نشأة المعتزلة» وكان يوما عسيرا فلم أعتد في حياتي أن أخطب أو أحاضر باللغة الإنجليزية، وقد كنت وجهت أكبر اهتمامي عند تعلمي لها إلى الإجادة في فهم ما أقرأ من كتب والترجمة منها إلى العربية، لا في الكتابة بالإنجليزية ولا بانطلاق اللسان في الحديث بها، وكان رئيس اليوم الذي ألقيت فيه محاضرتي هو الأستاذ مرجوليوث، وقد استأذنته في إلقاء المحاضرة باللغة العربية فأبى، وقال إن أكثر المستمعين لا يفهمون العربية إلا قليلا، وخير أن تلقيها بالإنجليزية، فألقيتها في خجل، لا من الموضوع ولا مما كتب، ولكن لأنها أول تجربة لي من هذا النوع، وما إن انتهيت من إلقائها حتى بلعت ريقي وتنفست الصعداء. ورجعت من هولنده إلى فرنسا وأقمت فيها أياما أخرى في باريس واستقبلني فيها صديق آخر
2
لم يكن عنيفا كالصديق الأول، بل كان رفيقا بي، وأراني ما لم أكن رأيت، واستمتعت فيها بالراحة والهدوء والأحلام أكثر مما كنت استمتعت وأخذت السفينة
3
من مرسيليا إلى مصر فانكسرت في الطريق واضطرت أن تعرج على إيطاليا، واستغرق إصلاحها أياما، فانتهزت هذه الفرصة لزيارة المدن الإيطالية القريبة كميلانو وجنوة فشاهدت كنائسها الضخمة وأبنيتها الفخمة ومقبرتها الجميلة وفنها البديع، ثم عدت إلى مصر بعد أن شاهدت معالم المدنية الحديثة ووقفت على بعض أسرار تقدم هذه الأمم، وكنت في أكثر ما أرى يشتغل ذهني في المقارنة بين الشرق والغرب - أذكر ذلك إذا رأيت الآلات والمصانع وتقدمها، والشوارع والبيوت ونظافتها، والناس ونظامهم، والمرأة وأهمية مركزها في الحياة الاجتماعية، حتى لو نسب الفضل الأكبر في المدينة الحديثة لكان أكثره يرجع إلى المرأة. فالمرأة التي تربي الأمة وهي التي تعود أبناءها النظام والأخلاق، والمطر هو الذي يهيئ الطبيعة ويصوغها صياغة جميلة ويكسو الجبال الصخرية بالأشجار والنبات فيكون من ذلك منظر بديع. وعلى الجملة فالمرأة والمطر من وراء كل مظهر من مظاهر المدنية ، حتى لو قلت إن مقياس رقي الأمم التي شاهدتها هو درجة المرأة في الرقي وانهيار الأمطار في أوقات مختلفة لم أكن بعيدا عن الصواب؛ أعجبني في فرنسا ذكاء أهلها ونشاطهم وكثرة حركتهم، وأعجبني في إنجلترا نظامهم وتعقلهم وضبط عواطفهم وهدوؤهم في أعمالهم، وأعجبني في هولنده نظافتهم ونجاحهم في الحياة وجدهم وعلمهم، وأعجبني في إيطاليا فنهم.
وعلى الجملة فلا أستطيع أن أحصر ما استفدت من هذه الرحلة فقد اختزنت منها كثيرا، وفي كل مناسبة كنت أستخرج من هذا المخزن ما أستفيد منه مما لم يكن يخطر لي حين الرحلة على بال، وأهم ما استفدته هو تمكني من المقارنة بين الشرق والغرب، فقد كانت رحلتي إلى الغرب معادلة رحلتي إلى الشرق، فكنت دائما أنظر إلى هذا نظرة وإلى ذاك نظرة، وأستخرج الحكم بعد المقارنة، وكنت قبل ذلك لا أرى إلا لونا واحدا ولا أسمع إلا صوتا واحدا.
وأتممت الاستفادة من هذه الرحلة برحلة أخرى إلى أوروبة نفسها سنة 1938، فقد اختارتني الجامعة أيضا عضوا في مؤتمر المستشرقين في بروكسل، وزرت إيطاليا وفرنسا مرة أخرى، واستعدت ذكريات ماضية، وأردت أن أستفيد جديدا فذهبت إلى سويسرا وأقمت فيها أياما فنزلت في مدينة لوسرن، وركبت بحيرتها واستمتعت فيها بجمال مناظرها الباهرة.
ويوما ركبت بحيرة لوسرن مع صديقي الدكتور عبد الوهاب عزام، فأعجبنا منظر قرية على البحيرة اسمها كيرسبتن، نزلناها وتجولنا فيها وصعدنا في مرقاتها إلى أعلاها فوجدنا فندقها وبيوتها، فطفناها وتوغلنا فيها، فرأينا غابات جميلة ورأينا في مدخل إحدى الغابات بيتا صغيرا لطيفا زرعت أمامه أشجار التفاح، فسألنا أصحابه: هل يقبلوننا نزلاء فيه؟ فقبلوا ونقلنا أمتعتنا من فندق لوسرن إلى هناك - وأقمنا فيه أياما ننعم بمنظر الغابات ومنظر الجبال المزروعة، والأبقار ترعى في الحقول وكل بقرة تحمل جرسا يناسب حجمها، فتتكون من أصوات هذه الأجراس موسيقى جميلة تأخذ بلب السامع في هذا الفضاء الواسع والسكون الشامل، ونرى بيت هذه الأبقار فنتمنى لو تيسر مثل هذه البيوت لفلاحينا في مصر: نظيفة جميلة أضيئت بكهرباء وفرشت بألواح الخشب ، وحدد لكل بقرة منامها ومجرى ما يخرج منها، فلا ترى في بيوتها إلا نظافة وأناقة، وكنا في أغسطس، وكان الجو باردا كصميم الشتاء في مصر. وخرجنا من سويسرا بعد أن امتلأنا روعة من جمالها وصحة ونشاطا من طيب هوائها، واتجهنا إلى بروكسل حيث المؤتمر، وقد تعلمت من الدرس الماضي في لندن فآليت ألا أحاضر إلا باللغة العربية، وكان من حظي أن أكثر المستمعين يجيدونها، وكان موضوع محاضرتي «أبو حيان التوحيدي وكتابه الإمتاع والمؤانسة» وقد تحدثت وأنا مالئ يدي من موضوعي ومن لغتي فنجحت وحدثت لي حادثة طريفة في بروكسل، فقد ذهبت إلى حلاق لا يعرف كلمة إنجليزية وأنا لا أعرف كلمة فرنسية فكان كلما حدثني وأنا
Oui
وإذا حدثته بالإنجليزية قال لي
Yes
بالفرنسية قلت لا أفهم ما يقول، وهو لا يفهم ما أقول حتى رأيت آخر الأمر رأسي وليس بها إلا شعر خفيف جدا قصير جدا والدنيا برد، وأنا مضطر عند دخولي قاعة المؤتمر أن أخلع قبعتي، فلا أجد بها شعرا يقاوم بردا ولا يجمل منظرا، وقصصت القصة على زميلي الدكتور طه حسين والدكتور عبد الوهاب عزام فضحكا وأغرقا في الضحك، وقال الدكتور طه: إني سأضع رواية اسمها «حلاق بروكسل» على نمط «حلاق إشبيلية» ونظم الدكتور عزام قصيدة أذكر منها:
ونظر الأستاذ في (المرايه)
فلم يجد في رأسه (شعرايه)
ورأيت في هذه الرحلة الناس في بلجيكا وفرنسا وقد عراهم الذعر مما يرونه من طوالع الحرب وكثرة الحديث عنها وكثرة الاستعداد لها، حتى لقد أسرعنا في العودة خوف أن تقفل الطريق أمامنا.
ولئن كانت الرحلة الأولى قد أطلعتني على جوانب من المدينة الغربية، فهذه الرحلة قد نمتها وثبتتها.
الفصل التاسع والعشرون
أعود بعد الرحلات إلى وصف حياتي العامة والخاصة، فقد رقيت في كلية الآداب من مدرس إلى أستاذ مساعد، فأمكنني بذلك أن أكون عضوا في مجلس إدارة الكلية، أتصل فيه بالأساتذة المصريين والفرنسيين والإنجليز والبلجيكيين، وأرى في كل جلسة كيف تعرض الأمور وكيف ينظر إليها وكيف تدخل النزعات والأغراض في تكوين الآراء . لقد تعلمت أن المنطق آخر أدوات الحكم على الأشياء؛ وأن النزعات والأغراض والبواعث هي التي تتحكم في المنطق لا التي يحكمها المنطق؛ فليس المنطق ما عرفنا تعريفه، من أنه آلة تعصم الذهن عن الخطأ في الحكم، ولكن هو القدرة على تبرير البواعث والنزعات والأغراض لتتخذ شكلا معقولا، وكان المجلس كبرج بابل يتكلم متكلم بالعربية وآخر بالفرنسية وثالث بالإنجليزية، وإذا حزب الأمر ترجمت كل لغة إلى اللغات الأخرى، وأحيانا في الأمور العامة تلعب السياسة لعبها من وراء ستار، فالفرنسيون مثلا يريدون أن يسيطروا على قسم الفلسفة، والإنجليز يريدون أن يتدخلوا فيه وأن يسيطروا على الكلية بواسطة عميدها، وأكبر ما يتجلى هذا عند خلو كرسي من كراسي الأساتذة أو عند خلو مكان العميد.
وقد صاحبت التطور الذي حدث، من تحول عدد الأساتذة المصريين من قلة إلى كثرة، ومن قلة ما بأيديهم من توجيهات إلى أن ملكوا زمام الأمور في الكلية بتعيين عميد مصري لها، وعاصرت الصراع الشديد بين محاولة الحكومة التدخل في شأن الجامعة أحيانا، ومحاولة الجامعة المحافظة على استقلالها، وأكثر حادثة من هذا القبيل هي حادثة نقل الدكتور طه حسين من كلية الآداب إلى وظيفة في وزارة المعارف من غير أخذ رأي الكلية ولا إدارة الجامعة واستقالة الدكتور طه وإضراب الطلبة عن الدروس، وانقسام الأساتذة إلى قسمين قسم مسالم وقسم مناهض وكنت إذ ذاك من المناهضين، وأوذيت في ذلك كثيرا حتى فكر في نقلي من الجامعة.
وحدث - وأنا أستاذ مساعد - أن منعت من أن أكون أستاذا لعدم حصولي على الدكتوراه أنا وبعض زملائي، وإن كان القانون يسمح أن يرقى الأستاذ المساعد في اللغة العربية بكلية الآداب والشريعة الإسلامية بكلية الحقوق إلى أستاذ من غير دكتوراه، فواجهت المسألة بروح رياضية، وقدمت طلبا لنيل الدكتوراه بالدخول في الامتحان، على النظام الذي يتبع مع الطلبة في الحصول عليها، وقدمت لذلك كتاب فجر الإسلام وضحى الإسلام كرسالة للمناقشة، واعترض إذ ذاك بأن الأساتذة بالكلية قد يحابونني لأنني أحدهم، فاقترحت أن يكون أكثر الممتحنين من الأساتذة الأجانب المستشرقين، فصمم وزير المعارف إذ ذاك على رفض هذا الطلب، وكان هذا أيضا تدخلا في شئون الجامعة لا مبرر له، فلم يتم امتحاني.
وشعر بعض إخواني من أساتذة الجماعة وأعضاء لجنة التأليف بعدم عدالة هذا التصرف، فأقاموا حفلة تكريم لي، وكان ذلك سنة 1935، وانتهزوا فرصة مرور عشرين سنة على لجنة التأليف والترجمة والنشر ورياستي لها طوال هذه المدة، فسألتهم العدول فلم يقبلوا، وسألتهم أن تكون الحفلة صامتة فلم يقبلوا أيضا، وأقاموا بالفعل حفلة ضخمة دعوا إليها أعضاء لجنة التأليف وكبار رجال المعارف وكبار رجال السياسة من مختلف الأحزاب، وأقاموها في «سنت جيمس» وقسموها إلى موائد، وعلى كل مائدة رئيس من علية القوم، فمائدة يرأسها مدير الجامعة أحمد لطفي السيد، وأخرى المرحوم أحمد ماهر، وثالثة المرحوم الدكتور على إبراهيم، ورابعة المرحوم إبراهيم الهلباوي، وخامسة المرحوم عبد العزيز فهمي، وسادسة المرحوم الشيخ محمد مصطفى المراغي، والأستاذ أحمد لطفي السيد، والمستشرق الكبير نللينو، وقد افتتح خطبته بقوله «إن عند الرومانيين قولة مشهورة: أنه يحق لكل إنسان أن يجن مرة، وأريد أن أجن هذه المرة فأخطبكم باللغة العربية»، كما كان من الخطباء الدكتور عبد الوهاب عزام والدكتور عبد السلام الكرداني والأستاذ محمد كرد علي، ورددت عليهم آخر الأمر خجولا متواضعا شاكرا، ومما قاله الدكتور علي إبراهيم في هذه الحفلة: إنه لو استطاع أحد أن ينظم مثل هذا الاحتفال ويجمع رؤساء الأحزاب والسياسة كما جمعوا في هذا الحفل، ويؤلف بينهم في موضوعات الخلاف كما ألف بينهم اليوم لكان هذا نجاحا سياسيا باهرا. وقد أثرت هذه الحفلة في نفسي أكبر الأثر، واغتبطت بها أكبر الاغتباط، وعددتها مكافأة أكبر من نجاحي في الدكتوراه.
ولكن لا يصفو الزمان حتى يكدر، ولا يحسن حتى يسيء، فعقب هذا الحفل بأيام شعرت بخمود شديد في جسمي، وانقباض في صدري فعرضت نفسي على الطبيب فقرر أني أصبت بالبول السكري، وألزمني الصوم عن الأكل إلا السوائل أياما، ثم السير بعد ذلك على نظام في الأكل دقيق تتجنب فيه النشويات والسكريات، ومن ذلك الحين دخلت في حياتي حقن الأنسولين، وقد صحبني هذا المرض - إلى الآن - خمس عشرة سنة، أحاوره ويحاورني، ويصادقني أحيانا ويعاديني، وأمتنع من أجله عما أشتهي، وأتجنب الجهد الشاق على غير رغبتي، وأحيانا يرميني بالأفكار الحزينة وألوان الحياة القاتمة، وأحمد الله إذ لم يكن من الشدة كما هو عند غيري.
وبعد ذلك أريد أن يمنح غيري الأستاذية من غير دكتوراه، وأحرم أنا لمواقفي السابقة في المحافظة على استقلال الجماعة، فطلبت أن تؤلف لجنة لبحث مؤلفاتي، فاختيرت لذلك لجنة من الأستاذين المستشرقين الدكتور شاده والدكتور برجستراسر، فقرآ فجر الإسلام وضحاه، وقدما تقريرا باستحقاقي الأستاذية على هذين الكتابين، وقالا: إن عيبي الوحيد في تأليف هذين الكتابين هو أن هناك بحوثا في بعض موضوعات الكتابين عرض لها بعض الأساتذة الألمان، ولو اطلع عليها المؤلف لبنى عليها ولم يتعب نفسه في بحث أساسها؛ ولكن وزارة المعارف أخفت هذا التقرير لأنه مخالف لما كانت تأمل، فطلبت من العميد أن يطلب التقرير من الوزارة، فماطلت، ثم بعثته وعطلت أثره في مجلس الجامعة، ولم أحصل على الأستاذية إلا بعد عناء وبعد أن هدأت النفوس وبعد أن قدمت استقالتي لأني لم أعامل معاملة زملائي.
ووقع علي الاختيار لأكون ممثلا لكلية الآداب في مجلس الجامعة، فاستمررت على ذلك نحو عشر سنين، وقد مهد لي ذلك السبيل إلى سعة اختباري وكثرة تجاربي؛ فمجلس الجامعة يتكون من عمداء الكليات وبعض كبار الأساتذة من كل كلية ومن وكيل وزارة المالية ووكيل وزارة المعارف وبعض كبار البلد يعينون لخبرتهم العلمية، من رؤساء الوزارة أو وزراء سابقين، أو نحو ذلك، فكان هذا المجلس يمثل أعقل مجلس بمصر، شاهدت فيه العقليات المصرية الكبيرة كيف تتصرف بالأمور، وكيف تتكون لديها الآراء، والعوامل التي تعمل في اتجاهاتها وتكوينها، وكيف يتناقشون وكيف يحتجون. والحق أنه كان يستولي علي الوهم أن الرجل إذا كان ذا منصب كبير في الماضي أو الحاضر فذلك عنوان عبقريته ودليل نبوغه، وأن له من الآراء ما يفوق كل رأي، ومن الأفكار ما يتضاءل أمامها كل فكر، فزال هذا الوهم بهذا المجلس، ورأيت هؤلاء الكبراء يفكرون كما يفكر الناس ويخطئون كما يخطئ الناس، وتتغلب عليهم الأهواء - أحيانا - كما تتغلب على سائر الناس.
وكان من تجاربي أن رأيت أكثر الناس يسيرون مع العظماء في آرائهم وأفكارهم ولو اعتقدوا بطلانها، ولكن إذا تشجع أحد ودافع عن الحق وجهر به وصمم عليه تبعه هؤلاء وانضموا إلى جانبه ضد العظماء فليس عندهم من الشجاعة ما يبدئون به قول الحق، ولكن ليس عندهم أيضا من السفالة ما يناهضون به قائل الحق.
ولقد شعرت في هذا المجلس بفضل «عاطف بركات» وما علمنيه من قول الحق ولو كان مرا، والانتصار له ولو أوذيت في سبيله. وحدثت حادثة في أول انتخابي لمجلس الجامعة كانت محك الاختبار، فإما سير مع التيار حقا كان أو باطلا، وإما التزام للحق مهما استتبع من الضرر، وصدق الحديث: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» فقد أعلن عن كرسي لأستاذ القانون الروماني في كلية الحقوق. فتقدم إليه بعض العلماء أفضلهم أستاذ إيطالي وأستاذ فرنسي. قرأنا المؤهلات ففضلنا الأستاذ الإيطالي
1
لعظم مؤلفاته العالمية في الموضوع، وفضلت وزارة المعارف أو بعبارة أدق - وزير المعارف
2 - الأستاذ الفرنسي لاعتبارات نجهلها، ولم يكن معنا وزير المعارف. ولكن كان وكيله
3
عضوا في المجلس يتكلم برأي ويدافع بفصاحة وقوة عن اتجاهه. فوقفت مع اثنين من زملائي بجانب الأستاذ الإيطالي، وشغل الموضوع مجلس الجامعة عدة جلسات، كلما أقحمناهم بالحجج أجلوا الموضوع لإعداد حجج أخرى، وأخيرا بعث إلي وزير المعارف فقابلته وكلمني في موضوع آخر ليس هو الغرض من الدعوة فلما استأذنت في الانصراف قال: إنه بلغه أني أعارض أشد المعارضة في تعيين الأستاذ الفرنسي، وأن هناك اعتبارات تجعله أليق وأنسب، فقلت أظن أن معالي الوزير يسره أن يرى رجاله يدافعون عما يعتقدون أنه الحق، وأنهم يتحدثون بما في ضمائرهم وكما يتجلى الحق أمام أعينهم، وسلمت عليه وانصرفت، وأخيرا تقرر في مجلس الجامعة تعيين الأستاذ الإيطالي، فكان هذا نجاحا باهرا شجعني على المضي في هذا الطريق، وأشهد الله أني التزمته في كل ما عرض، وأني اتخذت المسائل المعروضة كالقضايا التي كانت تعرض علي إذ كنت قاضيا أنظر إليها وأدرسها وأسمع حجج المتخاصمين فيها، وأحكم حكما موضوعيا لا شان فيه لعواطفي ومشاعري ما أمكنني.
وقد استفدت من هذا المجلس تجربة أخرى، وهي أن كثيرا من الناس يتضايقون من المعارض وقد يحاولون إيذاءه والتنكيل به، ولكنهم إذا تيقنوا أنه إنما يدافع عما يعتقد، وأنه إذا دافع بأدب، وفي لياقة ولباقة، من غير أن يمس شعورهم وكرامتهم كان موضع الاحترام والإجلال والكرامة من مؤيديه وخصومه معا.
وكثيرا ما كانت تعرض مسائل شائكة، فأقف فيها - مع بعض إخواني - الموقف نفسه؛ يجتمع المجلس - مثلا فيقرر فصل طلبة لأنهم مشاغبون، ومن حزب غير حزب الحكومة، فإذا جاء حزبهم وتولى الحكم عرض على المجلس إرجاعهم والعفو عنهم فيرجعون، فكنت شديد المعارضة لهذا التصرف مما يغضب هؤلاء وهؤلاء.
ومرة أوعز إلينا بمنح درجات دكتوراه فخرية لبعض الأجانب الأوروبيين وهم في الخارج، وكان إيعازا قويا، ولم أتبين أنا وزملائي وجه الحق في هذا المنح، فوقفنا نعارض في منحهم هذه الدرجات، وأخذ القرار بمنحهم بالأغلبية ولكني غضب على غضبة شديدة. وفكر في إخراجي من مجلس الجامعة بل من الجامعة كلها، ثم لا أدري ماذا حدث حتى انتهت المسألة بسلام.
ولا أنسى مرة قرر مجلس الجامعة إرسال خطاب شكر للطفي باشا السيد عقب أن ترك مجلس الجامعة، ولكن الحكومة كانت غاضبة عليه، فلم يرسل الخطاب إليه، ثم تبدلت الحكومة، وجاءت حكومة أخرى مؤيدة للطفي باشا، فأرسل الخطاب، فوقفت في المجلس ويدي ترتعش وصوتي يتهدج، ألوم القائمين بالأمر على هذا التصرف، وأستحث الأعضاء على احترام كلمتهم والحرص على تنفيذ آرائهم، وهكذا وهكذا، فكانت كل جلسة درسا مفيدا وأحيانا درسا قاسيا.
وقابلني مرة الأستاذ مكي الناصري، المغربي المراكشي، وأخبرني أن المنطقة الخليفية وعاصمتها تطوان قد رأت من الخير أن ترسل بعثة إلى مصر من الطلبة المغاربة المراكشيين وأنه يريد مني الإشراف عليها وأنه يمد المشروع كل شهر بما يلزمه فقبلت.
واستأجرنا مكانا لبعثة الطلبة وكانوا نحو عشرين بعضهم يتعلم في كلية الآداب وبعضهم في دار العلوم وبعضهم في مدارس صناعية، ورتبت لهم معيشتهم في البيت ومن يشرف عليهم، ومن يشرف على صحتهم، وأجرت لهم ناديا للاجتماع ولإلقاء المحاضرات المناسبة وربطت المشروع بلجنة التأليف فنشرت كتبا كثيرة على حساب بيت المغربي هذا: مثل أكثر أجزاء «أزهار الرياض، للقاضي عياض» وترجمة كتاب «الحضارة الإسلامية» للأستاذ متز وكتاب في النهضة الغربية وأسسها، وأزمعت إخراج أطلس جغرافي يشمل بلاد المغرب جميعها، ورجوت المختصين في هذا الموضوع أن يقوموا به. ولم يمنع من إخراجه إلا قيام الحرب العالمية الثانية، وغلاء الورق، والطبع، وأخيرا حارب المشروع دولتا إسبانيا وفرنسا، فقضيتا عليه. فكان هذا أيضا مما استنفد مجهودا كبيرا مني.
وفي أول إبريل سنة 1939 كان قد خلا مركز عميد كلية الآداب بعد أن تولاه من المصريين الدكتور طه حسين والدكتور منصور فهمي والأستاذ شفيق بك غربال، ونظام الجامعة يقضي بأن مجلس الكلية يختار ثلاثة من بين الأساتذة يعين أحدهم وزير المعارف، فاختير ثلاثة وكنت أكثرهم أصواتا فيعينني المرحوم محمود فهمي النقراشي باشا عميدا، وقد عجبت أنا نفسي من هذا الاختيار، فأنا رجل دخيل على الجامعة بحكم تربيتي الأزهرية الأولى وتربيتي شبه الأزهرية في مدرسة القضاء، وأنا رجل لم أتعلم في جامعة مصرية ولا أجنبية، وأنا رجل لم يتعلم لغة أجنبية إلا ما تعلمته من اللغة الإنجليزية بعناء وبقدر محدود، فكيف أختار لهذا المنصب وأرأس الأساتذة الأجانب والأساتذة المصريين ممن تعلموا في الجامعات الأوروبية ونحو ذلك؟ الحق أني أكبرت هذا كله وشعرت بالمسئولية الكبرى الملقاة على عاتقي، ولكني تذكرت قول المرحوم الشيخ محمد عبده: «إن الرجل الصغير يستعبده المنصب، والرجل الكبير يستعبد المنصب» أو ما معناه ذلك.
ها أنذا في عمادة كلية الآداب، قد شغل وقتي كله بأعمال إدارية أكثرها لا قيمة له، فكل الأوراق تعرض علي حتى شراء مكنسة، وكل أعمال الطلبة والأساتذة تعرض علي حتى الكلمة النابية يلفظها طالب، إلى شكاوى الطلبة وما أكثرها! وتزاحم المدرسين والأساتذة على العلاوات والدرجات وتسوية الحالات وما أصعبها! فكان هذا يشغل وقتي، حتى لا أستطيع أن أفرغ للعلم إلا قليلا، ولا أن أفرغ للنظر في المسائل الأساسية كمناهج التعليم وطرق التربية إلا بقدر، وهذه عدوى من نظام الحكم في مصر حيث تتركز الأعمال كلها في يد رئيس المصلحة، وما كان أحرى الجامعة أن تتخلى عن ذلك، وتوزع الاختصاص ويتفرغ العميد للمسائل المهمة، ولكن أنى لنا ذلك!
مكثت على هذه الحال سنتين وأنا آسف على ضياع وقتي ووقوف عملي العلمي، فلم أؤلف في هذه الفترة كتابا، ولم أتمم بحثا، وأنا ضيق الصدر بكثرة الطلبات والشكايات والعلاوات والدرجات، ولكن أحمد الله إذ لم أكن أقل شأنا من غيري في إدارة الكلية بشهادة غيري.
وكانت مدة العمادة ثلاث سنوات حسب القانون، ولكن حدث بعد سنتين أن اختلفت وجهة نظري مع وجهة نظر وزير المعارف إذ ذاك، فتصرف في أمر هام من أمور الكلية من غير أخذ رأيي، فاعترضت على ذلك فاعتذر، وتكرر هذا الأمر ثانية فكان شأنه كذلك، ثم قرأت في الجرائد أن عددا كبيرا من مدرسي كلية الآداب وأساتذتها صدر قرار بنقلهم إلى الإسكندرية من غير أن يكون لي علم بشيء من ذلك، فقدمت استقالتي من العمادة وصممت عليها فقبلت، وحمدت الله أن تحررت منها ورجعت أستاذا كما كنت، وبدأت أتمم سلسلة فجر الإسلام وضحى الإسلام على النحو الذي رسمت، فأخرجت الجزء الأول من ظهر الإسلام.
وشاعت مرة شائعة بعد تغير الوزارة أني سأعود عميدا وسألني صحفي عن ذلك فقلت: «إنني أصغر من أستاذ وأكبر من عميد».
وحاولت أثناء عمادتي أن أحقق ثلاث مسائل لم أنجح فيها كثيرا.
الأولى: تنظيم الحياة الاجتماعية في الكلية، فقد رأيت أن الحياة فيها مقتصرة على دروس تلقى ودروس تسمع من غير أن يكون هناك حياة اجتماعية ترفه عن الطلبة وتوثق الصلة بينهم وبين أساتذتهم وتقلل من إضرابهم، فاتجهت إلى نادي الكلية أجهزه بمختلف الوسائل ليكون أداة صالحة لتنظيم الحياة الاجتماعية، وعهدت إلى بعض الأساتذة ممن تعلموا في جامعات أوروبة أن يحاضروا الطلبة محاضرات عامة في نظم الجامعات الألمانية والفرنسية والإنجليزية، وبخاصة في نظم الحياة الاجتماعية ونحو ذلك.
والثانية: أني حاولت تحسين العلاقة بين الطلبة والأساتذة من ناحية الإشراف الخلقي، فأردت أن أخصص كل أستاذ لعدد من الطلبة يشرف عليهم إشرافا أبويا، يفضون إليه بمشاكلهم المالية والنفسية والاجتماعية ويحاول هو علاجها ويعينهم على ذلك من الناحية المالية بمال الاتحاد.
والثالثة: محاربة الطريقة التي يتبعها كثير من الأساتذة من قلبهم المحاضرات إلى دروس إملاء، فهم يملون على الطلبة ما حضروا، أو يوزعون عليهم مذكرات مختصرة، وكنت أرى في هذا إماتة للروح العملية الجامعية، وإنما المنهج الصحيح إرشاد الطلبة إلى مرجع الدرس ثم إلقاء الأستاذ المحاضرة وتقييد الطلبة بأنفسهم لأنفسهم النقط الهامة مما فهموا واعتمادهم على أنفسهم في ذلك.
وعلى كل حال لم أحقق من هذه المطالب الثلاثة ما كنت أتمنى.
هذا وقد ترددت طويلا في كتابة هذه الفصول الأخيرة لأن فيها لونا من ألوان التقريظ النفسي، وهو لون لا أحبه وقد لا يحبه القارئ، ولكنني فضلت أن أقوله لأنه - على الأقل - يصور للقارئ عقيدتي في نفسي.
وأثناء عمادتي وقع الاختيار علي لأكون عضوا بمجمع فؤاد الأول للغة العربية في عهد وزارة الدكتور محمد حسين هيكل فساهمت في العمل فيه ما أمكنني، وقد شاهدت فيه نوعا من المجتمع من طراز خاص، تسوده - بحكم طبيعته - نزعة المحافظة، وكراهة الثورة والتجديد، والبطء في العمل وكثرة الجدل، ومع هذا فقد فتح لي آفاقا في الوقوف على مشاكلنا اللغوية والأدبية، ومكنني من الإطلاع على كثير من آراء الباحثين والمفكرين.
وكانت مأساة العمادة أني فقدت بها صداقة صديق من أعز الأصدقاء وما أقل عددهم. كان يحبني وأحبه، ويقدرني وأقدره، ويطلعني على أخص أسراره وأطلعه، وأعرف حركاته وسكناته ويعرفها عني، ويشاركني في سروري وأحزاني وأشاركه، وكنت هواه وكان هواي، واستفدت من مصادقته كثيرا من معارفه وفنه ووجهات نظره، سواء وافقته أو خالفته، فأصبح يكون جزءا من نفسي ويملأ جانبا من تفكيري ومشاعري، على اختلاف ما بيننا من مزاج ، فهو أقرب إلى المثالية وأنا أقرب إلى الواقعية، وهو فنان يحكمه الفن وأنا عالم يحكمه المنطق، وهو يحب المجد ويحب الدوي، وأنا أحب الاختفاء وأحب الهدوء، وهو مغال إذا أحب أو كره، وأنا معتدل إذا أحببت أو كرهت، وهو نشيط في الحكم على الأشخاص وعلى الأشياء وأنا بطيء، وهو عنيف إذا صادق أو عادى، وأنا هادئ إذا صادقت وعاديت، وهو واسع النفس أمام الأحداث، وأنا قلق مضطرب غضوب ضيق النفس بها، وهو ماهر في الحديث إلى الناس فيجذب الكثير، وليست عندي هذه المقدرة فلا أجتذب إلا القليل، وهو في الحياة مقامر يكسب الكثير في لعبة ويخسره في لعبة، وأنا تاجر إن كسبت كسبت قليلا في بطء وإن خسرت خسرت قليلا في بطء، يحب السياسة لأنها ميدان المقامرة وأنا لا أحبها إذ لا أحب المقامرة؛ ولعل هذا الخلاف بيننا في المزاج هو الذي ألف بيننا، فأشعره أنه يكمل بي نقصه وأشعرني أني أكمل به نقصي، جاءت العمادة مفسدة لهذه الصداقة، لأنه - بحكم طبيعته - أراد أن يسيطر وأنا بحكم طبيعتي أردت أن أعمل ما أرى لأني مسئول عما أعمل، ثم ولي منصبا أكبر من منصبي يستطيع منه أن يسيطر على عملي. فأراد السيطرة وأبيتها، وأراد أن يحقق نفسه بأن ينال من نفسي فأبيت إلا أن أحتفظ بنفسي، فكان من ذلك كله صراع أصيبت منه الصداقة، فحزن لما أصابها وحزنت، وبكى عليها وبكيت.
الفصل الثلاثون
وماتت أمي وأنا أستاذ بكلية الآداب سنة 1936 وقد ناهزت الثمانين، وكانت من أسرة من «تلا» بالمنوفية انتقلت إلى القاهرة لأسباب لا أدريها، واشتغل رجالها بالتجارة، فكان خالاي تاجري «عطارة» في الغورية.
وكانت أمي طيبة القلب أقرب إلى السذاجة، وكانت - كأكثر نساء وقتها أمية لا تقرأ ولا تكتب، وكانت محبوبة من أهل حارتها لطيب قلبها، وكنت شديد الحب لها والإشفاق عليها، لأنها تألمت كثيرا في حياتها، فقد مات من أولادها وهم في شبابهم، وعاملها أبي معاملة شديدة قاسية، سلبها كل سلطتها وكبت شخصيتها وحرمها دائرة نفوذها، وطغى بشخصيته على شخصيتها، فعاشت كسيرة القلب منقبضة النفس، لا يحملها على البقاء في البيت إلا حبها لأولادها، فكانت تحتمل ذلك كله وتطيل الاحتمال، وتصبر وتطيل الصبر، وتحن علينا، وإذا غضب علينا أبونا احتمينا بحنوها وأنسنا بعطفها.
ولهذا لما كان لي من الأمر شيء جهدت أن أريحها وأسعدها وأقضي دينها، وكم كنت أتمنى أن تعيش معي بعد وفاة أبي لأطالع وجهها وأتلقى دعواتها صباح مساء، ولكن صممت أن تكون في حيها بين جيرانها، وخشيت أن ينالها أذى ولو قليل من العداء الطبيعي بين الزوجة والأم، فجاريتها على رأيها وخضعت لمشورتها.
فقدتها وأنا كبير ولي زوجة وأولاد، ومع هذا أحسست بفقدها فراغا لم يملأه شيء، وبذلت جهدي في إراحتها، حتى لما هرمت كنت لا أستريح إلى سفري إلى الإسكندرية للتصييف إلا إذا كانت معي، أستبشر كل يوم برؤيتها والجلوس إليها، ومع هذا لا أرى أني قضيت لها بعض دينها، وكانت تبشرني من صغري بأني سأكون أسعد أولادها، لأنها رأت ليلة في منامها أني كنت بجانبها أسير معها، فدخلنا بيتا فتح لنا فيه كنز، وإذا غرف مملوءة ذهبا، فأمرتني أن أملأ حجري منه على عجل فقال لها الملك الموكل بالكنز: لا تعجلي فكل هذا لابنك هذا، ففرحت بهذا الحلم واعتقدت صحته واستبشرت به، وصارت تعيده علي في كل مناسبة وفي جميع أدوار عمري إلى أن ماتت.
سخية اليد على قلة ما تملك، لا تعبأ بالمال إلا ما يضمن معيشتها، فلما ركنت إلي ووثقت بي تنازلت عن مالها لأولادها. لم أسمع منها يوما تفكيرا في تدبير مال، ولا شكوى حال، ولا حسدا لغنى ولا اعتراضا على قدر، شأنها في ذلك شأن أخوالي، فليس منهم إلا من عاش عيشة طيبة وكسب كثيرا ومات فقيرا.
ساذجة في تفكيرها وفي حديثها وفي تصرفها وفي تصديق كل ما يقال لها.
فإن كان لي شيء من عناد وقوة إرادة وجلد على العمل وصبر على الدرس وسرعة غضب وميل إلى الحزن وكثرة تفكير في العواقب، فذلك كله من أبي رحمه الله .
وإن كان في شيء من سذاجة، وعدم حرص على مال، وحزن على أني حزين، وحسن ظن بالناس فيما يقولون ويفعلون، وندم على غضب، وسرعة تحول من غضب إلى هدوء ومن سخط إلى رضا، فذلك كله من أمي، رحمها الله.
وهل نحن إلا صور جديدة لآبائنا، يعيشون فينا، ويحلون في جسومنا ونفوسنا.
الفصل الحادي والثلاثون
ترك العمادة وعدت أستاذا وخلت يدي من كل سلطة إدارية، وأتت وزارة لا تعدني من رجالها، فلم يكن لي من شأن في علاوات وترقيات، وليس لي قبول في شفاعات، وإذ ذاك سفرت لي وجوه قبيحة من إنكار الجميل وقلة الوفاء.
هذا كان صديقي يوم كنت أستطيع نفعه، فلما سلبت مني هذه القدرة تلمس الوسائل ليكون عدوى، فإن لم يجد أسبابا اختلقها، وإن لم يجد فرصة لإظهار هذه الخصومة تعمد إيجادها، وهؤلاء الذين كانوا يتهافتون على إقامة حفلات تكريم لي يوم انتخبت عميدا، فأرفضها وأرفضها، لم يفكروا في إقامة حفلة وداع يوم تركت العمادة.
وهذه التليفونات التي كانت تدق كل حين للسؤال عن صحتي، وطلب موعد لزيارتي، لإظهار الشوق أولا، والاطمئنان على صحتي ثانيا، والرجاء في قضاء مسألة ثالثا، لم تعد تدق إلا للأعمال الضرورية التي ليس منها سؤال عن صحة، ولا إعلان أشواق.
وهذا صندوق البريد الذي كان يمتلئ بالخطابات المملوءة بالطلبات والرجاوات أصبح فارغا إلا من خطابات عائلية أو مسائل مصلحية.
وهذه أيام الأعياد التي كان يموج فيها البيت بالزائرين من الصباح إلى المساء يهنئون بالعيد، أصبحت كسائر الأيام، أجلس فيها على المكتب فأقرأ وأكتب، ولا سائل ولا مجيب.
وهذه صورة للناس لم تكن جديدة علي، فقد قرأت مثلها في المكتب كثيرا، وسمعت عنها في الأحاديث كثيرا، وشاهدتها في غيري كثيرا، ولكن لعل أسوأها أثرا في نفسي ما شاهدته من قلة الوفاء في بعض طلبتي، فقد كنت أعتقد أن الرابطة العلمية فوق كل الروابط، وأن حق الأستاذية فوق كل الحقوق، أما أن طالبا يخرج على أستاذ ويخاصمه، ويقدح فيه بالكذب والأباطيل فشيء لم أكن رأيته ، فلما رأيته استعظمته، وحز في نفسي وبلغ أثره أعماق قلبي؛ لم أعد بعد ذلك أثق بالناس كما كنت أثق، ولا أركن إليهم كما كنت أركن، فكانت إذا حدثت فصول من هذا القبيل تكسرت النصال على النصال:
وصرت أشك فيمن أصطفيه
لعلمي أنه بعض الأنام
وعدت إلى الكتاب فهو أوفى وفي وخير صديق.
ها أنا أعود إلى كتبي ومكتبتي، وأبدأ في إعداد الجزء الأول من ظهر الإسلام، والاشتراك في نشر كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، وأضع - مع الأستاذ زكي نجيب - خطة في وضع كتاب قصة الفلسفة اليونانية، ثم قصة الفلسفة الحديثة في جزءين، ثم قصة الأدب في العالم في أربعة أجزاء، وأشارك في تأليفها وإنجازها، وأجد بعد ذلك من الفراغ ما يمكنني من الاشتراك في المجالس العلمية والإشراف على أعمال لجنة التأليف والترجمة والنشر ونحو ذلك - حياة علمية هادئة لذيذة، لا خصومة فيها ولا رجاء فيها ولا أخذ ولا رد فيها. وهذا هو ما يتفق ومزاجي، فأنا لا أحب الجاه بالقدر الذي يجعلني أتحمل متاعب المنصب الإداري وما فيه من ضياع وقت واضطراب بال.
وقد كان بجانب عملي العلمي في البحث والتأليف والنشر أن اتجهت اتجاها أدبيا كان امتدادا لما بدأت به في الأيام الأولى من حياتي يوم اشتركت في تحرير السفور، في سنة (1933) فكر الأستاذ أحمد حسن الزيات في أن يشترك مع بعض أصدقائه من لجنة التأليف في إخراج مجلة الرسالة، وكنت أحدهم، فكنت أكتب في كل أسبوع - تقريبا - مقالة، وكان هذا عملا أدبيا يلذ نفسي بجانب بحثي العلمي، فأنا كل أسبوع أفكر في موضوع مقال وأحرره، واضطرني ذلك إلى قراءه كثير من الكتب الإنجليزية أستعرض فيها ما يكتب وكيف يكتب، وأعتمد أكثر ما أعتمد على وحي قلبي أو إعمال عقلي أو ترجمة مشاعري، وكانت مقالاتي تتوزعها هذه العوامل الثلاثة.
وأكثر ما اتجهت في هذه المقالات إلى نوع من الأدب تغلب عليه الصبغة الاجتماعية والنزعة الإصلاحية، فهذا أقرب أنواع الأدب إلى نفسي وأصدقها في التعبير عني، وخير الأدب ما كان صادقا يعبر عما في النفس من غير تقليد، ويترجم عما جربه الكاتب في الحياة من غير تلفيق، ولقد اطمأننت إلى هذا النوع من الكتابة، إذ كان يفتح عيني للملاحظة والتجربة. ويسري عن نفسي بالإفراج عما اختزنته من حرارة. فكنت أشعر بعد كتابة المقالة كما يشعر المحزون دمعت عينه أو المسرور ضحكت سنه. وكنت أحس كأن نحلة تطن في أذني لا تنقطع حتى أكتب ما يجيش في صدري، فإذا استولى موضوع المقالة على ذهني فهو تفكيري إذا أكلت أو شربت، وحلمي إذا نمت؛ وعمل لاوعيي الباطن إذا شغلت، ولهذا انقلبت هذه الظاهرة إلى عادة، ومن عادة إلى (كيف) متسلطن كما يشعر مدمن الدخان أو مدمن الخمر.
ولي تجربة في هذا الباب؛ وهي أني إذا عمدت إلى إعداد بحث علمي كفصل من فصول فجر الإسلام أو ضحى الإسلام فأنا أرى كل وقت صالح لهذا العمل ما لم أكن مريضا، أما في المقاولات الأدبية فلست صالحا في كل وقت، بل لابد أن تهيج عواطفي بعض الهياج، وتهتز نفسي بعض الاهتزاز، وأنسجم مع الموضوع كل الانسجام، فإذا لم تتيسر لي كل هذه الظروف كنت كمن يمتح من بئر أو ينحت من صخر.
وأحيانا أرى القلم يجري في الموضوع حتى لا أستطيع أن أوقفه، وأحيانا يسير في بطء وعلى مهل حتى لا أستطيع أن أستعجله، وأحيانا يتعثر فلا أجد بدا من الإعراض عن الكتابة. ومن الصعب تعليل ذلك، فقد يكون سببه صلاحية المزاج وسوءه، وقد يكون قوة الدواعي وضعفها، وقد يكون الاستعداد للتجلي وعدمه.
واعتدت منذ أول عهدي بالقلم أن أقصد إلى تجويد المعنى أكثر مما أقصد إلى تجويد اللفظ، وإلى توليد المعاني أكثر من تزويق الألفاظ، حتى كثيرا ما تختل (ضمائري) فأعيد الضمير على مؤنث مذكرا وعلى مذكر مؤنثا، لأني غارق في المعنى غير ملتفت إلى الألفاظ، ولا أتدارك ذلك إلا عند التصحيح، وقد يفوتني ذلك أيضا. ولتقديري للمعنى أميل إلى تبسيطه، حتى لأسرف أحيانا في إيضاحه، لشغفي بوصوله إلى القارئ بينا ولو ضحيت في ذلك بشيء من البلاغة.
وقد تعودت من الأدب الإنجليزي الدخول على الموضوع من غير مقدمة، وإيضاح المعنى من غير تكلف، والتقريب - ما أمكن - بين ما يكتب الكاتب وما يتكلمه المتكلم، وعدم التقدير للمقال الأجوف الذي يرن كالطبل ثم لا شيء وراءه. ومن حبي للإيضاح أفضل اللفظ ولو عاميا على اللفظ ولو فصيحا إذا وجدت العامي أوضح في الدلالة وأدق في التعبير، وأفضل الأسلوب السهل ولو لم يكن جزلا إذا وجدت الأسلوب الرصين يغمض المعنى أو يثير الاحتمالات، ويدعو إلى التأويلات.
ومن أجل هذا تشكك في بعض الأدباء: هل يعدونني أديبا أو عالما! ولم أقم لهذا الشك وزنا، فخير لي أن أصدق مع نفسي ومع غرضي ومع ميلي من أن أزوق أسلوبي وأكذب على نفسي ليجمع الناس على أدبي.
وقد اعتدت - عند كتابة مقال - أن أرسم الموضوع إجمالا لا تفصيلا، وإذا رسمته أبحت لنفسي أن أغيره وأبدله إذا جد جديد. وكثير من المعاني التفصيلية تأتي وأنا أكتب لا وأنا أفكر قبل أن أكتب، ولهذا لما أصبت في عيني ونهاني الأطباء عن الكتابة زمان صعب علي الإملاء، ولم أجد من غزارة المعاني ما كنت أجد عند مزاولة الكتابة بنفسي.
ظللت أكتب المقالات في مجلة «الرسالة» فلما حالت الحوائل دون الاستمرار فيها أخرجت لجنة التأليف مجلة «الثقافة» وعهدت إلي أن أكون مديرها، فكنت أقرأ أكثر ما يرد إليها من مقالات وأحرر فيها مثل ما كنت أحرر في «الرسالة». وكان خيرا لي لو جربت قلمي في أنواع الأدب الأخرى غير المقال لأجرب ملكاتي وأقف على موضع القوة أو الضعف فيها، كالقصة مثلا، وقد عالجت ذلك في بعض الأحيان ولكني لم أستمر فيه، وكان من الخير أن أستمر وأنتقل من القصص القصيرة إلى القصص الطويلة، فإما نجحت وإما أخفقت، ولكن فات الأوان.
وبعد أن كتبت هذه المقالات في «الرسالة» و«الثقافة» طلب إلي أن أكتب في مجلات أخرى: الهلال والمصور وغير ذلك ففعلت، ولما كثرت مقالاتي جمعت بعض ما كتبت وزدت عليها وأودعتها ثمانية أجزاء سميتها «فيض الخاطر».
وعلى هامش هذا طلب إلي أن أذيع أحاديث في محطة الإذاعة فأذعت، وكانت أحاديثي أشبه ما تكون بمقالاتي من حيث موضوعاتها وأسلوبها، إلا أنني تعمدت في هذه الأحاديث أن تكون أسهل موضوعا وأبسط تعبيرا، ونزلت في ذلك إلى أن دنوت من العامية لتناسب جمهور السامعين، ولم أر في ذلك بأسا بل لقد هممت أحيانا أن أتحدث بالعامية لأني أرحم الأميين وأشباههم ألا يكون لهم غذاء عقلي يستمتعون به. وأكره من الأدباء أرستقراطيتهم، فلا يكتبون إلا للخاصة ولا يتفننون إلا لهم. وواجب الأدباء أن يوصلوا غذاءهم إلى كل عقل، ونتاجهم الفني إلى كل أذن، فإذا لم يفعلوا فقد قصروا. وقد لفت نظري لهذا مرة أن حضر إلى مصر رجل كبير من مسلمي الصين، فتقابلنا مرارا وتحدثنا كثيرا، وفي مرة عرفته بالأستاذ توفيق الحكيم، وقلت له إنه أديب كبير، فسألني هل هو أديب شعب أو أديب أرستقراطي؟ فرن السؤال في رأسي، فلما قلت له هو أديب أرستقراطي، سألني: فمن من أدبائكم شعبي؟ فحرت جوابا، وآلم نفسي ألا يكون لجمهور الشعب أديب، وكثيرا ما شغلت ذهني مشكلة العلاقة بين اللغة الفصحى واللغة العامية وأن صعوبة اللغة الفصحي - ولاسيما من ناحية الإعراب - تحول دون انتشارها في جمهور الشعب وبخاصة إذا أردنا مكافحة الأمية وتعميم التعليم، فنحن لو أردنا تعميم التعليم بين الجماهير باللغة الفصحى المعربة احتجنا إلى زمن طويل، ولم نتمكن من إجادة ذلك كما نتمكن إلى اليوم من إجادة تعليم المثقفين إياها. فطلبة المدارس يقضون تسع سنين في التعليم الابتدائي والثانوي وأربع سنين في الجامعة ثم لا يحسن أكثرهم الكتابة والقراءة، وكثيرا ما يلحنون في الإعراب. ومن أجل هذا اقترحت في بعض مقالات نشرتها وفي محاضرة في المجمع اللغوي أن نبحث عن وسيلة للتقريب، واقترحت أن تكون لنا لغة شعبية ننقيها من حرافيش الكلمات (على حد تعبير ابن خلدون) ونلتزم في أواخر الكلمات الوقف من غير إعراب، وتكون هي لغة التعليم ولغة المخاطبات ولغة الكتابة للجمهور؛ ولا تكون اللغة الفصحى المعربة إلا لغة المثقفين ثقافة عالية من طلبة الجامعة وأشباههم، وإلا الذين يريدون أن يطلعوا على الأدب القديم ويستفيدوا منه وبهذا تكسب اللغة العامية والفصحى معا، فاللغة الفصحى الآن لا تتغذى كثيرا من استعمال الكلمات اليوم، وهذا الاستعمال اليومي في الشارع وفي البيوت وفي المعاملات من طبيعته أن يكسب اللغة حياة أكثر من حياتها بين الدفاتر، وفي الأوساط الخاصة، ويكسب اللغة العامية رقيا يقرب من الفصحى، وهو يمكننا من نشر الثقافة والتعليم لجمهور الناس في سرعة، ويمكننا من تقديم غذاء أدبي لقوم لا يزالون محرومين منه إلى اليوم. وهو إجرام كبير كإجرام حبس البريء وتجويع الفقير، ولكن هذا الاقتراح لقي معارضة شديدة بل وتجريحا عنيفا.
الفصل الثاني والثلاثون
انتدبت - وأنا أستاذ بكلية الآداب - مديرا للإدارة الثقافية بوزارة المعارف وكان ذلك سنة 1945، ووزير المعارف إذ ذاك الدكتور عبد الرزاق السنهوري، وهي إدارة ليس لها أول يعرف ولا آخر يوصف، واختصاصها واسع سعة لا حد لها لمن شاء أن يعمل، وضيق أشد الضيق لمن شاء ألا يعمل، ومن اختصاصها النظر في الأساتذة الذين يندبون إلى الأقطار العربية، والطلبة الشرقيين حين يريدون الدخول في المدارس المصرية، وتنظيم العلاقة بين مصر والبلاد الشرقية والبلاد الأجنبية في الشئون الثقافية، وتنظيم الإذاعة المدرسية، وتنظيم الحياة الاجتماعية للطلبة خارج المدرسة، واستخدام السينما في الثقافة وغير ذلك.
وقد نشأت عندي فكرة لا أدري من أين نبتت، فقد لاحظت خطأ وزارة المعارف في قصرها جهودها على التعليم داخل جدران المدرسة، مع أن في عنقها تثقيف الشعب بأجمعه في المدارس وغير المدارس بالصور المختلفة، وخطأ آخر وقعت فيه وهو فهمها أن نشر الثقافة لا يكون إلا بواسطة تعليم القراءة والكتابة، مع أنه يمكن نشر الثقافة بواسطة السمع، وبواسطة عرض الأشرطة السينمائية على الناس ونحو ذلك من وسائل من دون القراءة والكتابة؛ وقد كنت قرأت نتفا عن تعليم الكبار في الممالك الأجنبية، فعكفت - أنا وشابان ممن يعملون معي في الإدارة الثقافية - على قراءة الكتب التي تصف النظم التي اتبعت في هذا السبيل، فنحن نجتمع كل يوم عصرا في حجرة متواضعة في لجنة التأليف والترجمة، نقرأ ونترجم وندرس ونبحث: أي هذه النظم يصلح لمصر، وأيها لا يصلح، ونضع تقريرا مفصلا عن هذه الفكرة التي سميناها. «الجماعة الشعبية»، والتي سميت فيما بعد «بمؤسسة الثقافة الشعبية»، يشتمل على نوع من الطلبة والطالبات الذين تلقي عليهم المحاضرات من غير تقييد بسن ولا رغبة في شهادة ولا امتحان عند الدخول، كما يشتمل على شعب الدراسة من دراسة مهنية ودراسة نظرية وبرنامج مائع لكل هذا، يمكن تحويله حسب الظروف والمناسبات، فإذا جدت مسألة فلسطين مثلا ألقيت محاضرات عن فلسطين، وإذا جدت رغبة في تعلم الآلة الكاتبة أنشأنا لها فرعا. ومن حيث الإدارة فقد اقترح لها مجلس إدارة من خيار الرجال في مصر للإشراف عليها. ومن حيث المكان، فمدارس وزارة المعارف والورش الصناعية والميكانيكية أمكنة للجامعة الشعبية، ومدارس البنات أمكنة لتعليم البنات والسيدات. ومن حيث مدرسوها ومدرساتها، فكل المدرسين والمدرسات بوزارة المعارف صالحون لأن نختار منهم أساتذة الجامعة الشعبية. ومن حيث الزمان فهو في المساء من الخامسة إلى الثامنة.
وعرض كل هذا على وزير المعارف فقبله وشجع الفكرة، ورصد لها نحو عشرة آلاف جنيه للبدء بها، وأدخلت في خطاب العرش، وأصبحت حقيقية بعد أن كانت خيالا، وأعلن عن الجامعة الشعبية وشعبها، فكثر الإقبال عليها ونجحت نجاحا يدل على أن حاجة الناس كانت ماسة إليها، وكلما ظهرت فيها بعض العيوب تدوركت بقدر المستطاع، واتسعت شيئا فشيئا، وزادت ميزانيتها شيئا فشيئا، وبعد أن اقتصرت الفكرة أول أمرها على القاهرة عممت في سائر الأقاليم تقريبا، وأصبح موظفو السينما ينتقلون إلى العمال والفلاحين في القرى وإلى المصانع، يعرضون الأفلام الثقافية، ومعهم بعض المحاضرين، وترى فيها الموظف الكبير والعامل الصغير يدرسان جنبا إلى جنب فنا جديدا، وترى السيدة وبنتها بجانبها تتعلمان تدبير المنزل، والطبخ والخياطة وما إلى ذلك. ولم يمض إلا قليل حتى أصبح عدد الطالبين والطالبات فيها يتجاوز سبعة عشر ألفا، وأصبحت ميزانيتها نحو سبعين ألفا. ومع هذا نرى أننا إذا قسنا أنفسنا ببعض الممالك الأخرى لا نزال في حرف الألف.
وعنيت وأنا في الإدارة الثقافية هذه بتشجيع ترجمة أمهات الكتب الغربية إلى اللغة العربية، فكان هذا العمل نواة توسعت فيها الوزارة فيما بعد.. إلى غير ذلك. ولكني لم أعتز بشيء اعتزازي بابنتي العزيزة الجامعة الشعبية، ولذلك لما تخليت عن الإدارة الثقافية بعد سنة تقريبا كان لي شرف الاحتفاظ برياسة مجلس إدارتها إلى اليوم.
فلما مرضت المرض الأخير، استقلت من رياسة مجلس إدارتها وصممت على الاستقالة وتخففت من كثير من اللجان. وأرسل إلي وزير المعارف إذ ذاك بكتاب، جاء فيه: «كنت أود أن تحظى المؤسسة بجهودكم الطيبة، وآرائكم السديدة ولكني اضطررت عملا بنصح أطبائكم أن أقبل استقالتكم مع الأسف الشديد». «وإني أنتهز هذه المناسبة فأشكر لعزتكم ما قدمتم للثقافة عامة ومؤسسة الثقافة خاصة من عمل طيب وجهد مشكور راجيا لكم حياة سعيدة وصحة كاملة موفورة».
وحدث بعد ذلك حادث غريب يعد من أعاجيب القدر، ذلك أني في يوم من صيف سنة 1946 ذهبت إلى دار الحكومة في «بولكلي» بالإسكندرية لزيارة صديق لي هو سكرتير مجلس الوزراء،
1
وعند خروجي إلى فناء الدار وجدت سيارة وقفت ودعيت إلى الركوب، فإذا فيها أستاذنا أحمد لطفي السيد وزير الخارجية إذ ذاك، فدعاني أن أصحبه لتشييع جنازة فشيعناها ورجعنا، ودعائي أن أصحبه إلى حجرته بوزارة الخارجية فصحبته، وجاء وكيل الخارجية يعرض عليه أمرا لم أتبينه، ثم التفت إلى الوزير وقال: ما رأيك في السفر إلى لندن عضوا مع ممثلي مصر في مؤتمر فلسطين؟ فاعتذرت، فسألني عن السبب فقلت إني رجل علم أو - على الأصح - أنتسب إلى العلم، ولم أشتغل بالسياسة إلا على هامش حياتي، وأمور السياسة تحتاج إلى درس طويل ومران كثير، فقال: لا بأس من وجود العالم بجانب السياسي، وصمم فقبلت، واستأذن الجهات المختصة وأنا جالس فقبلت، وخرجت مستغربا كيف دخلت وكيف خرجت. واستعددت للسفر: وأخذت أبحث في المكتبات عن الكتب التي ألفت عن مشكلة العرب والصهيونية في فلسطين، وأقرأ التقارير التي كتبت وأودعت وزارة الخارجية أو الجامعة العربية، والكتاب الأبيض وغير الأبيض ... ثم ها أنا ذا أركب الطائرة من محطة ألماظة إلى لندن أول مرة من ركوبي الطائرة في حياتي، فما أعجب ما يفعله الزمان..! لقد كنت في مبدأ حياتي لا أعرف ركوب القطار حتى بلغت السادسة عشرة، ولما ركبته إلى طنطا حزنت وبكيت، وها أنا ذا أركب الطائرة من مصر إلى لندن وأنا لا أحزن ولا أبكي.
وأخاف أول الأمر والطائرة ترتفع وتضطرب، ودليل الطائرة يقول: إننا على ارتفاع ألفي قدم، ثم يقول أربعة آلاف ثم يقول ستة آلاف إلى ثمانية آلاف، لكن بعد أن استوت الطائرة وملكت زمامها في الجو اعتدناها واطمأنت نفوسنا بعض الشيء إليها، ورأيت من بجواري فيها من كبار رجال السياسة وممن اعتادوا ركوب الطائرات وضعوا رءوسهم على مقاعدهم وناموا نوما هادئا مطمئنا كأنهم في غرفة نومهم، فاطمأننت بنومهم، ولكني لم أستطع أن أسير سيرتهم، فلم تذق عيني النوم إلا إغفاءة غفوتها بين مالطة وباريس. ونزلت الطائرة لندن بعد سبع عشرة ساعة، فما أضعف الإنسان وأقواه، وما أقدره وما أعجزه!.
وأجد نفسي في جو سياسي لم أعتده، بين كبار الساسة من العرب يتناقشون ويتجادلون على غير النمط الذي ألفته في مجالس الكليات ومجلس الجامعة، فهم يراعون اعتبارات ونزعات واتجاهات لا يراعيها العالم، فأسمع أكثر مما أتكلم، ولا أشترك في المناقشة إلا بقدر، ولا أبدي الرأي إلا في المسائل الهامة.
ثم أنتقل خطوة أجرأ، فأنا والممثلون العرب على المائدة المستديرة أمام مستر بيفن وزير الخارجية البريطانية وأمام وزير المستعمرات والمختصين بالأمور الشرقية في إنجلترا، نتبادل الخطب والآراء ونستمر على ذلك أياما، ثم تشكل لجنة صغيرة من ممثلي العرب وممثلي الإنجليز، يضعون مشروع اتفاق ونستشار في كل خطوة من هذا الاتفاق، حتى إذا فرغت اللجنة عرض الاتفاق على الهيئة العامة من الإنجليز والعرب، فإذا بنا نسمع من الإنجليز أنهم عرفوا وجهة نظرنا وعرفنا وجهة نظرهم، وسيبحثون الأمر فيما بعد، وسيخبروننا بالنتيجة وسيدعوننا إذا دعت الحال، ومع السلامة!!
كانت هذه الرحلة كبيرة الأثر في نفسي، فقد استطعت أن أخلو في لندن إلى أصدقاء لي ممن خبروا إنجلترا خبرة طويلة وأقاموا فيها زمنا طويلا قبل الحرب وأثناء الحرب وبعد الحرب؛ فأصغيت إلى حديثهم في شئون إنجلترا الاجتماعية وتطورها وما فعلت الحرب فيها، ورأيت كبار الإنجليز وسمعت أقوالهم، وأصغيت إلى تفكيرهم، فإذا هم ناس كسائر الناس، وعقليتهم كسائر العقليات، مزيتهم في اعتمادهم على الاختصاصيين الذين تخصصوا في كل موضوع وعرفوا دقائقه، فإذا جد أمر استعانوا بهؤلاء الخبراء وأصغوا إلى نتيجة خبرتهم وكونوا من ذلك آراءهم، وأكبر ما يمتازون به علينا توزيع الاختصاص، والنظام الدقيق، وثقة الكبير بالصغير والصغير بالكبير، ومعالجتهم الأمور معالجة علمية منظمة، فكل شيء مدروس ولا شيء مرتجل، والغرض محدود وأساليبه مرسومة، لا ارتجال ولا فوضى ولا تفكير عفو الساعة.
كما أعجبني بالشعب ديمقراطيته الحقة، فكل إنسان ينظر إليه على أنه إنسان كبيرا كان أو صغيرا، ولا يحق للوزير أن ينال شيئا يمتاز به عن الصانع الصغير؛ هذا وزير خارجية إنجلترا يلبس قميصا بليت ياقته، وهذا وزير المستعمرات يقول في بعض أحاديثه معنا: إنه لم يشتر بدلة جديدة منذ نشوب الحرب، وهذا الوزير الكبير يذهب بطبقه وسكينته وشوكته وفنجانه ليأخذ الشاي، وهذا وكيل وزارة يشهر بزوجته لأنها أخذت قنطارا من الفحم زائدا عن سائر الناس وإن كانت في حاجة إليه لأنها تسكن بيت مهجورا مرطوبا يحتاج إلى نار أكثر لتذهب برطوبته. وهذه «الطوابير» المنظمة في كل شيء لا يحق لأحد فيها أن يتقدم من قبله، والموظف الكبير يقف وراء العامل الصغير حتى يأتي دوره، وهذه الاشتراكية قد بلغت في الحياة الاجتماعية مبلغا كبيرا: فرفع مستوى العمال وطبق العدل الاجتماعي تطبيقا دقيقا، وعلا مستوى المعيشة للفقراء، وكثرت الضرائب على الأغنياء حتى لا يستطيع غني مهما كان أن يربح في العام أكثر من خمسة آلاف جنيه تقريبا، فاستوى الجميع في الحقوق والواجبات، وقلت الفروق بين الطبقات. حياة هادئة منظمة ومريحة، فإن أنا نظرت إلى الشعب وأخلاقه وسلوكه سررت وأعجبت، وإن أنا نظرت إلى السياحة الخارجية وما يفعل الاستعمار الإنجليزي في الشرق ألمت وتقززت.
وخطفت رجلي بعد ذلك فذهبت مع بعض أصدقائي إلى سويسرة، نعمنا بمناظرها الطبيعية أياما، ومنها إلى مرسيلية ننتظر الباخرة أياما، ونخرج كل يوم إلى ضاحية من ضواحيها فننعم بشمسها ودفئها ومناظرها، ثم نعود إلى مصر، وقد كسبنا كل شي إلا ما يتصل بفلسطين.
الفصل الثالث والثلاثون
وأحلت إلى المعاش بعد أن بلغت سن الستين، وكم كنت أتمنى أن أخرج من وظائف الحكومة وأنا في غير سن الكهولة لأعمل حرا؛ لا تقيده اللوائح والقوانين، ولا يطبع بطابع الموظفين، ولكن لم يكن لي من الشجاعة ما أرفض به الوظيفة و«الولد مجبنة مبخلة» وربما كان السبب أيضا أن وظيفة الأستاذ في الجامعة من أبعد الوظائف عن السلطة الحكومية، وأنها تتفق مع مزاجي إذا خلت من الصبغة الإدارية واقتصرت على الاتصال بالكتب والاتصال بالطلبة.
على كل حال بقيت في الوظيفة إلى الستين، وخفت من الفراغ الذي سأقابله إن خلصت من الوظيفة ففكرت ماذا أعمل: فكرت أن أكون هيئة لنشر الكتب القديمة، أستقل بالعمل فيها، ويكون لي ربحه المادي والأدبي أو خسارته، ولكن حال دون ذلك اتصالي بلجنة التأليف والترجمة وإشرافي عليها أكثر من ثلاثين عاما، فعمل اللجنة من جنس ما أنوي أن أعمل، ولكنه مقيد بمجلس إدارة قد يقيد حريتي فيما أنشر، ويسألني عن عملي هل خسر أو ربح وأنا أريد عملا لا يسألني عنه أحد، وعرضت على زملائي في لجنة التأليف أن أستقيل فأبوا، ولم يكن عندي من الحماسة ما يجعلني أصمم على الانفصال، وبقيت في اللجنة أشرف عليها وهي عزيزة علي، فقد صحبتها منذ أول عهدي بالشباب، وصارت جزءا من نفسي، نمت بنموي وإن لم تشخ شيخوختي - استفدت منها تجارب كثيرة في التأليف والترجمة والطبع والنشر ومتى تروج الكتب ومتى لا تروج، وعلاقتنا بالعالم العربي من حيث تصريف الكتب وما إلى ذلك. وحازت اللجنة ثقة الناس بما تخرج، إذ لا تقدم على طبع كتاب حتى يقرأه الخبيرون ويقروا صلاحيته، كما اكتسبت من زملائي في اللجنة آراء قيمة، إذ كانت اللجنة بجانب إنتاجها العلمي والأدبي منتدى يجمع الأصدقاء والزائرين وبخاصة في مساء الخميس من كل أسبوع، تطرح فيه الموضوعات المختلفة حيثما اتفق، وتتبادل الآراء من ثائرين ومعتدلين ومحافظين، ويتحدث المجتمعون عما طالعوا من كتب وما عرض لهم من آراء، أو تتبادل فيه الشكوى من حالة الشرق وعيوب المجتمعات، وما إلى ذلك من أحاديث ممتعة طريفة.
وقد نمت اللجنة نموا مطردا من حيث أعضائها، إذ تجاوزوا الثمانين من خيرة رجال مصر، ومن حيث إنتاجها إذ بلغ ما أخرجته أكثر من مائتي كتاب، ومن حيث ماليتها إذ بلغ ما تملكه من كتب في مخازنها ومال في مصرفها آلاف الجنيهات. وكانت أول مؤسسة في الشرق للتأليف والترجمة والنشر، ثم حذت هيئات كثيرة حذوها، وأنشئت الدور المختلفة في الشرق لهذا الغرض، وفاقها بعضها من الناحية التجارية والمالية وإن لم يفقها من الناحية العلمية.
عدلت إذن عن إنشاء مكتب للنشر - وفي ليلة من ليالي رمضان سنة 1946 - وكنت أصيف في الإسكندرية - أتتني دعوة من المرحوم النقراشي باشا لأقابله في مصيف في محطة فكتوريا برمل الإسكندرية، فذهبت إليه فعرض علي أن أكون رئيس تحرير جريدة يريدون إنشاءها لتكون لسان حزب السعديين وهي جريدة «الأساس»، فاعتذرت في الحال محتجا بأني لم أشتغل بالصحافة إلا على هامشها، وفرق بين صحيفة أدبية كالثقافة وصحيفة سياسية كالأساس، ثم هذا العمل يتطلب انغماسا في السياسة إلى الأعماق وقد كرهت العمل فيها من قديم، ثم هو يتطلب الكتابة في تأييد الحزب تأييدا مطلقا، والخضوع لآراء قادة الحزب وأفكارهم، ومهاجمة الآراء المعارضة وتوهينها والحط من شأنها، وهذا ما لم أرتضه لنفسي في حياتي، فقد تلونت باللون العلمي الذي يبحث الأمر وهو على الحياد، ثم يرتقب النتيجة كائنة ما كانت، وليس هذا منهج السياسة الحزبية؛ وأخيرا هذا العمل يتطلب سهرا بالليل ونوما بالنهار، ومقابلة زيد وعمرو وتلقي الأفكار من زيد وعمرو وهو عمل لا أرتضيه ولا تحتمله صحتي، فقال رحمه الله إنك تسرعت في الحكم، وخير أن تفكر يومين أو ثلاثة في الأمر، فقبلت وفكرت ثم قابلته ورفضت. واكتفيت أن أعمل الأعمال التي لا تتطلب جهدا عنيفا، فأنا أعمل في لجنة التأليف وفي الجامعة الشعبية وفي دار الكتب وفي المجمع اللغوي وفي اللجان المختلفة التي أنا عضو بها، وإلى جانب ذلك أستمر في الكتب التي أؤلفها والمقالات التي أنشرها، والأحاديث التي أذيعها.
ولم ألبث إلا قليلا حتى عرض علي أن أكون مديرا للإدارة الثقافية في الجامعة العربية، فقبلت بكل سرور، لأنه عمل ثقافي من جنس عملي، ومحقق لرغبتي في السعي للتعاون العلمي بين الأقطار العربية.
فأنا وإخواني في الإدارة الثقافية ننشئ معهدا للمخطوطات نريد به أن نصور كل المخطوطات القديمة في العالم على أفلام صغيرة ونشتري الآلات اللازمة لذلك، ونصور أهم المخطوطات في دار الكتب وفي الجامعة المصرية وفي بلدية الإسكندرية وفي سوهاج ونبعث لتصوير المخطوطات في الشام ولبنان، وأخيرا نبعث بعثة إلى الآستانة لتصوير جزء كبير من مخطوطاتها القديمة وهكذا، ونضع خططا للتعاون الثقافي عن طريق ترجمة الكتب القيمة، وعن طريق السينما والإذاعة.. إلخ. ونفتتح عملنا أيضا بالتحضير لمؤتمر ثقافي يبحث في مناهج اللغة العربية والجغرافيا والتاريخ والتربية الوطنية في الأقطار العربية والقدر المشترك الذي ينبغي أن يوحد بينها والقدر الذي تستقل به كل أمة. وقد تم تحضير هذا المؤتمر وتحضير مؤتمر آخر للآثار الشرقية في بضعة أشهر، وعقد المؤتمر الثقافي في بيت مري في لبنان في صيف سنة 1947 ومؤتمر الآثار في دمشق عقبه مباشرة، وقد كنت في هذين المؤتمرين أغبط نفسي على نشاطي وحركتي واشتراكي الجدي في العمل.. وتحاول هذه الإدارة الثقافية أن تنشئ متحفا للثقافة فتتمه، وأن تستخدم السينما والإذاعة في التقريب بين العالم العربي، كما تحاول أن تنشئ علاقة متينة بينها وبين اليونسكو في الشئون الثقافية وبخاصة ما يتعلق منها بالعرب.
وفي هذه الآونة انتقلت من مسكني بمصر الجديدة الذي سكنته أكثر من عشرين عاما إلى مسكني في الجيزة ليكون أبنائي قريبا من الجامعة.
الفصل الرابع والثلاثون
ويوما من الأيام، وكل شيء يسير على طبيعته والحياة تجري على سنتها، والآمال مفتحة كعادتها، والعمل يتبع نهجه المألوف، فأنا عاكف على القراء والكتابة والدرس والتحصيل والإنتاج، وإذا بي فجأة أرى كأن نقطة سوداء على منظاري، فأظنها أول الأمر نقطة ماء سقطت عليه فأمسحها، ثم أضعه على عيني فأرها كما كانت. وإذا العيب في العين وليس في المنظار، واليوم يوم وقفة عيد الأضحى والناس حتى الأطباء في شغل بأمر العيد، فأبحث عن طبيب فلا أجده ثم أعثر عليه بعد لأي.
هذا هو الطبيب يكشف على عيني وأنا واجف من النتيجة خائف أترقب، والطبيب يفحص ويطيل الفحص بأدواته، ثم تظهر في وجهه ملامح الكآبة ولا يلبث أن يقول: - خير لي أن أصارحك أن المرض انفصال الشبكية. - هل لها من دواء يا دكتور؟ - لا دواء إلا عمل عملية. - هل هي قاسية؟ - نعم، إنها تحتاج إلى شهر ونصف أو شهرين مغمى العينين، متخذا وضعا واحدا.
اضطربت لهذا النبأ وأحسست خطورة الموقف. وأكبر ما جال في نفسي شعوري بحرماني من القراءة والكتابة مدى طويلا، وأنا الذي اعتاد أن تكون قراءته وكتابته مسلاته الوحيدة.
ولكن كثيرا ما يخطئ الطبيب فيشخص المرض على غير حقيقته، فلعله واهم. ولعله أخطأ التشخيص، وكثيرا ما يحدث، وكثيرا ما نسمع الأحاديث عن أطباء شخصوا فأخطئوا التشخيص وعالجوا فأساءوا العلاج، فلأذهب إلى طبيب ثان وثالث من كبار الأطباء حتى أستيقن المرض، وهكذا فعلت، ولكن - مع الأسف - كلهم أجمعوا على التشخيص وطريق العلاج.
بدأ الطبيب المعالج يباشر علاجه: فها أنا في المستشفى والطبيب يعصب عيني قبل العملية بأسبوع، وها أنا ذا في ظلام حالك ليل نهار، دنياي كلها ليل، بل أكثر من ليل، فالجلسة محرمة، والتقلب على الجوانب محرم، كأني قد شددت على السرير شدا، بل أصعب من الشد، لأن إرادتي هي التي تشدني، فاحتملت في صبر، وبدأت أفكر في الدنيا وهوانها وسخافة الناس الذين يشغلون أنفسهم بالتافه من أمورها، ويتحاربون ويتشاجرون على الحقير من متعها، وهي عرضة في كل وقت للزوال، ولو عقلوا لما تخاصموا ولا تحاربوا وكانوا إخوانا متحابين متعاونين، يأخذون الأمور بهوادة وحكمة وحسن تقدير وتفكير في العواقب.
حاولت أن يكون ظلامي مضيئا، فلئن حرمت النور من العينين فليستنر قلبي، ولئن حرمت نور البصر فلتضئ بصيرتي، ولكن كنت أنجح في هذا حينا وأخفق أحيانا، فقد اختلف الإلف والعادة وكنت أشعر دائما أن العينين هما الكوتان اللتان تطل منهما نفس الإنسان على الدنيا، فإذا عدم النظر فقد أغلقت الكوتان، وحبست نفس الإنسان؛ وأحيانا كنت أتردد بين الأمل في عودتي إلى ما كنت عليه وأن تجري الأمور في المستقبل القريب كما جرت في الماضي، فأشعر بالطمأنينة والراحة، وبين اليأس والخوف من الظلام الدائم، فيستولي علي الفزع والهلع؛ وأرهب ما يكون إذا تقدم الليل وانقطع الزوار وانصرف الأهل، ونام الناس، واعتراني القلق، وشعرت بالوحدة، واستولت علي الأفكار المظلمة، فاجتمع علي ظلام الليل وظلام النفس.
أستجدي النوم فلا يجدي، وأفزع إلى الأفكار المطمئنة فلا تسعف، وأعد ساعة الجامعة بالقرب مني ربعا فربعا، وتغفو عيني غفوة فأظن أن الليل انقضى ببؤسه وشقائه، ثم أتسمع إلى حركة الشارع لعلي أتبين منها قرب النهار، فأسمع حركة عربات وسيارات ومارة، فأتساءل: هل الناس عائدون من آخر سهراتهم أو هم مستقبلون لبدء نهارهم؟ وهل هذه الحركة حركة متأخرة، أو حركة مبكرة؟ وأظل في هذا الشك زمنا بين رجاء أن يكون الصبح وخوف أن يكون الليل، وإذا بالساعة تدق الحادية عشرة أو الثانية عشرة، فأجزع من أني مقبل على ليل ليس له آخر، وأنشد مع الشاعر:
يا ليل بل يا أبد
أغائب عنك غد؟
وأعزي النفس بأن حولي في الحجر المجاورة في المستشفى مرضى يتألمون ولا أتألم، ويستغيثون ولا أستغيث، وأن بهم جروحا ولا جروح بي، ولكن سرعان ما تذهب هذه التعزية لأن الآلام متنوعة، وقد يكون ألم النفس أشد وقعا من ألم الجسم.
لم يكن لي من العزاء أحسن من الإيمان، فهو الركن الذي يستند إليه المرء في هذا الوقت الرهيب، ومن دونه يشعر كأن الهاوية تحت قدميه.
لو أدرك الناس هذا ما ألحدوا، فالإلحاد جفاف مؤلم، وفراغ مفزع، ومحاربة للطبيعة الإنسانية التي فطرت على الشعور بإله، والارتكان عليه والأمل فيه، وإلا كانت الحياة جافة فارغة مفزعة منافية للطبيعة. وكان من المصادفة الحسنة أن حضر إلي أحد أبنائي الأوفياء وأحب أن يسليني بالقراءة لي بعض الوقت، فكان مما اختاره لي كتاب «اعترفات تولستوي» فوقع في نفسي موقعا جميلا، إذ رأيته يصور حياته وقد ركن أول الأمر إلى العقل وحده، وإلى العقل الواقعي لا غير، فأسلمه الاعتماد على المقدمات المنطقية المادية وحدها إلى الإلحاد، وعد الدين خرافة من الخرافات، ولكنه شعر بعد حين بأن الحياة لا قيمة لها وأنها فارغة من المعاني.
إن هذه الحياة المادية التي تركن إلى العقل الجاف وحده لا تستطيع أن تجيب عن الأسئلة الآتية: ما قيمة الحياة؟ ما الذي يربط بين الحياة المادية المحدودة وبين الأبدية؟ وما الذي يربط بين حياة الإنسان الجزئية والإنسانية الكلية؟ إلى مثل هذه الأسئلة فكان لا يجد في قضايا العقل وحدها جوابا، وساءت نفسه وأظلم تفكيره، وأدرك أن الحياة على هذا الوضع نكتة سخيفة، وأنها لا تستحق البقاء، وحاول الانتحار مرارا، وفي كل ذلك كان يهزأ بالدين، ولا يريد أن يتجه إلى التفكير فيه؛ وأخيرا بعد الشقاء الطويل والعذاب الأليم اتجه إلى الدين لينظر كيف يحل الجزئية بالكلية، والنفس الفردية بالإنسانية، فاطمأنت نفسه وانقلب متدينا.
فكان في هذا الكتاب عزاء لنفسي ومجال لبعض تفكيري، وقارنت بين موقف تولستوي وموقف الغزالي، فقد كنت قرأت له كتاب «المنقذ من الضلال»، وكان مما حكى عن نفسه أنه مر بمثل هذا الدور؛ شك في كل التقاليد الدينية، واستعرض المذاهب المختلفة في الدين، وأحب أن يركن إلى الفلسفة وحدها فلم تسعفه، وإلى تعاليم الباطنية فلم يطمئن إليها، واستولى عليه الشك حتى غمره، ووقع في أزمة نفسية حادة، واحتقر سخافات الناس في التخاصم على المال والجاه والمنصب فنفر من كل ذلك.
وأخيرا بعد أن استحكمت أزمته النفسية وأخذت منه كل مأخذ مرض مرضا شديدا، ولا أشك في أن مرضه الجسمي كان نتيجة لمرضه النفسي، ثم أفاق قليلا قليلا وإذا هو يخرج من هذه الأزمة كما خرج منها تولستوي متدينا بالقلب لا بالمنطق، وبالشعور النفسي الغريزي لا بالمقدمات الفلسفية، وإن كان الفرق بينهما أن تولستوي آمن بعد إلحاد والغزالي آمن إيمان كشف بعد إيمان تقليد بينهما فترة شك.
ويأتي الطبيب بعد خمسة عشر يوما من العملية فيذكر لي أنه سيكشف عن قاع العين غدا، فأسأله: ما هي الاحتمالات المنتظرة؟ فيقول: هناك احتمالان: إما أن تكون أعصاب العين لم تقو على الالتحام، وإذ ذاك تكون العملية قد أخفقت، وإما أن تبدأ في الالتحام فيكون هناك الأمل في النجاح.
أربع وعشرون ساعة تساوي أربعة وعشرين شهرا أو تزيد، انتظار للخيبة أو الرجاء، وتردد بين اليأس والأمل، ثم لا ينفع بعد ذلك أيضا إلا الإيمان.
أحيانا أقول للنفس: ما هذا الجزع؟ وما أنت والعالم وما عينك في الدنيا؟ هلا قلت كما جاء في الحديث: (هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت).
إن الذي يوقعك في هذا التكفير المحزن هو انطواؤك على نفسك وتقويمك لها قيمة أكبر مما تستحق، وهل أنت إلا ذرة صغيرة على هذه الأرض ماضيها وحاضرها ومستقبلها؟ وهل الأرض كلها إلا هنة من هنات العالم، فلتتسع نفسك وليتسع تفكيرك ولتقدر نفسك قدرها ولتفكر في خارجك أكثر مما تفكر في داخلك؛ فإذا أنا استغرقت في مثل هذه التفكير هدأت واطمأننت؛ ولكن سرعان ما تذهب هذه الصورة كما يذهب المنظر في فيلم السينما، وتحل محلها صورة كئيبة حزينة جزعة، ولا تزال الصور تتعاقب، وكل صورة تطرد أختها، والصورة مختلفة الألوان مختلفة الأشكال، بين هادئة وعنيفة، وباسمة وباكية.
ونمت عندي حاسة السمع لتعوض ما أصاب أختها حاسة البصر، فكنت أعرف كل إنسان من صوته ومن أول كلمة ينطق بها، فلا أحتاج إلى تعريف، حتى لأذكر أن صديقا قديما انقطعت بيني وبينه الأسباب منذ نحو خمسة عشر عاما، لم أره ولم يرني، زارني فما نطق بالسلام حتى عرفت من هو وهتفت باسمه.
وتكاثر الزوار وكانوا موضع الملاحظة والنقد والتقدير: هذا زائر يحدثك الحديث فهو بلسم هموم، وموضع الماء من ذي الغلة الصادي، فيؤنسك ويسليك ويقول ما يحسن أن يقال؛ وهذا زائر قد عدم الذوق، فهو يراني في هذه الحال ويطلب إلي إذا زارني صديقي فلان أن أرجوه في أن يمنحه الدرجة الرابعة، ويشكو إلي تأخره عن زملائه ووقوع الظلم عليه، ثم هذا زائر كريم قد أنساه ما أنا فيه ما بيننا من خصومات عارضة فداس هذه الخصومات بقدميه، وكان وفيا كريما، قد نسي الحديث التافه في الخصومة، وذكر القديم القويم من الصداقة، وزائر يحز المنظر في نفسه فتكاد دموعه تسيل على خديه لولا أنه يجاهدها، وآخر يتجلد ويتصنع الثبات فإذا خرج سمعت نشيجه، إلى ما لا يحصى من مسموعات، وكل هذا يخزن في النفس طول النهار وتستعيده الذاكرة طول الليل.
وأستعرض أحيانا أحوال من فقد بصره فأتأسى به. وأقول إن المسألة ليست مسألة بصر، بمقدار ما هي مسألة نفس تتلقى الحادث، هذان مثلان بارزان: بشار بن برد وأبو العلاء المعري فأما بشار فقد واجه فقد بصره في ثبات. وعاش كما يعيش ذوو الإبصار، يمزح ويضحك ويقول إنه إذا عدم العشق بالنظر فيعشق بالإذن، ويستمتع في الحياة المادية ويستغرق في الشهوات كأقصى ما يفعله بصير، وهو قوي جبار لا يمسه أحد بسوء إلا نكل به وانتقم منه، وهو عنيد فاجر، لا يأنف أن يصف في شعره كل الصور التي لا يستطيع وصفها إلا البصير، من غبار النقع وجمال العين ولطف القوام، فلا تكاد ترى في شعره أثرا من حزن على عين، أو بكاء على حرمان منظر.
وأما أبو العلاء فأصابته الكارثة نفسها فحزن واسترسل في الحزن، فأعرض عن لذات الحياة الدنيا، وبكى نفسه وبكى الناس وبكى كل ما حوله وتحول هذا الحزن إلى سخط على الناس من الأصناف والألوان، من أمراء وقادة ورجال دين ونساء ووعاظ ومنجمين، فلم يسره شيء في الدنيا لأنه فقد السرور بالعين وحبس نفسه في البيت إذ لم ير نفسه صالحا لأن يظهر أمام الناس وهو فاقد العينين، بل أضاف إليه محبسا آخر وسمى نفسه رهين المحبسين: محبسه بفقد نظره ومحبسه في بيته؛ ومع ذلك كله ملأ الدنيا بأثره. فقد انطوى على نفسه يستخرج منها كنوزا من معارفه وتأملاته وتفكيراته، فاستضاءت بصيرته بأكثر مما كان يضيء نظره، وتألم هو فلذ الناس. وفقد البصر فبصر الناس، وكانت حياته نفعا جما في الإملاء والتأليف والتعليم والتفكير الحر الطليق الذي لم يستطعه بصير.
وأنا لو أصبت في عيني - لا قدر الله - لكانت طبيعتي أشبه بطبيعة أبي العلاء لا بطبيعة بشار، على بعد الفرق بيني وبينه في أنه خصب النفس غزير التفكير متعدد النواحي قوي النقد؛ ولعل فقد البصر في الصبا أخف وقعا من فقده في الكبر، فالصبي مرن، نفسه كأعضائه. سرعان ما تتشكل حسب الوظيفة وحسب الظروف، والكبير نفسه كعظام الهرم إذا صدعت صعب أن يجبر صدعها، وما أبعد الفرق بين فقير عاش فقيرا طول حياته وفقير أصابه الفقر بعد أن عاش عيشة طويلة في الغنى.
أحاطوني بأنواع من المتع؛ فهذا الراديو بجانبي ولكني لا أستسيغ الغناء كما كنت أستسغيه قبلا، ولا تهتم نفسي بالمحاضرات كما كانت تهتم بها، إنما هو شيء واحد كنت أستمتع به في الراديو وهو دلالته على الصباح في أول إذاعته وسماع القرآن يهدئ الأعصاب فيبعث الطمأنينة.
هذا هو الطبيب بعد طول انتظار يفحص عيني ليرى نتيجة العملية وما يخبئه الغد وليقول كلمته الحاسمة. ثم يقول بعد طول الفحص: إن العين قد بدأ التحامها والحمد لله، ولكن الأيام الآتية أيام دقيقة تحتاج إلى شدة عناية وقلة حركة والتزام للنوم على جانب واحد، إذ أقل مخالفة تفسد ما تم. فأهوي على الطبيب أقبله، ثم لا ألبث أن أستصعب الأوامر الجديدة وافتتاح درس في الصبر جديد بعد طول الصبر القديم، فإلى الله أشكو وأضرع.
هذه هي الأيام تمر، وتبدأ النفس تفقد كثيرا من قوتها، فهي تتأثر بما لم تكن تتأثر به وتجزع مما لم تكن تجزع منه: هذا ابن يصاب بالزكام فلم أصيب ؟ وهذا ابن دخل الدور الثاني في الامتحان فماذا تكون النتيجة؟ وهذا ابن تخرج من مدرسته ولا يجد عملا فلم لم يوظف؟ وهذا ابن تأخر عن موعد حضوره فلم تأخر؟ وأصبحت الدنيا أوهاما وتأثرات مفتعلة، وإذا دنيا الإنسان ليست إلا مجموعة أعصاب، إن سلمت وقويت ابتهج بالحياة ولم يتأثر بأحداثها، وإن تلفت تهدم كيانه وخار بنيانه.
ها هو الطبيب يرفع الرباط عن العين السليمة بعد نحو أربعين يوما وهي في ظلام حالك، ويبقى الرباط على العين المريضة، فحتى هذه العين السليمة لا تكاد ترى إلا بصيصا، من طول ما حرمت من أداء وظيفتها فلا تميز الباب من الشباك، فما بال العين المريضة حين يرفع عنها الرباط؟ وأشكو ذلك إلى الطبيب فيقول: إن هذا طبيعي فالعين تسترد وظيفتها شيئا فشيئا وقليلا قليلا.
وأضيق ذرعا بالمستشفى وحياته الرتيبة، فما يجري في يوم يجري كل يوم، والأصوات هي الأصوات والطعام هو الطعام، والأنين حولي من كل جانب، والأجراس تضرب من حين إلى حين والحركات لا تنقطع ليلا ولا نهارا.
وفي المستشفيات نقص لا يلفت إليه. فالأطباء يعنون بمقياس حرارة الجسم وتحليل ما يريدون منه، كما يعنون بنوع الغذاء الذي يلائم المريض أو لا يلائمه، ولكن يفوتهم شيء هام جدا ربما كان أهم من ذلك كله، وهو معالجة النفس. فلماذا لا يكون في المستشفى ممرضات للنفس كممرضات الجسم، يؤنسن المريض بأحاديثهن أو يقرأن له ويكون لهن من الثقافة ومن الحسن ما يكون بلسما للنفوس وشفاء لما ينتابها من ضيق وكآبة. وذكرت ذلك لمدير المستشفى فأقرني على ملاحظتي واستصعب تنفيذها لأسباب ذكرها.
لذلك سألت الطبيب أن ينقذني من المستشفى في أقرب وقت ممكن، مع كل ما كان يحمد فيه من نظافة ورعاية ودقة وإتقان، وصرح لي الطبيب أن أخرج على شرط أن يحاط الخروج بكل عناية، فلا حركة عنيفة، ولا اهتزاز يرج الجسم، حتى إذا وصلت إلى البيت حملت في محفة إلى أن وضعت على السرير وضعا، وكنت إذا تحركت فحركة خفيفة في أناة وهوادة، ثم بدأت أتعلم المشي كما يتعلمه الطفل؛ فلا أكاد أخطو حتى يعتريني الدوار فأعود إلى السرير ثم أعاود المشي. وفي يومين أو ثلاثة استطعت أن أمشي مترين أو ثلاثة، ولا يسمح لي بالخروج من الغرفة.
ثم يسمح لي بالانتقال إلى غرفة مجاورة، ثم يسمح لي أن أمشي في مستوى واحد، فلا أنزل سلما ولا أطلع سلما، وأنتهي من هذا الدور كله وتضيء العين تدريجا ويشفى الجسم تدريجيا، ولكني أجد نفسي مستعصية على الشفاء، فهي متبرمة من كل شيء منقبضة أشد الانقباض، فأستدعي طبيب الجسم مرة ومرتين وثلاثا فيفحص ويطيل الفحص ثم يقول إن الجسم سليم. فضغط الدم جيد والصدر جيد والأعضاء كلها على أحسن حال. ولكن المسألة مسألة نفسك أنت وأنت القادر على مداواتها، غير أني لا أجدلها دواء. وأحلل أسباب ذلك فأرجعها إلى أمرين: أولهما أمن طول الرقدة مع الظلام قد هد أعصابي، وثانيهما أن طبيب العيون لا يزال يمنعني من القراءة والكتابة وكانت حياتي كلها قراءة وكتابة، فلما حرمتهما أحاطني فراغ رهيب مخيف، والفراغ أدهى ما يمنى به الإنسان. فليس في الحياة سعادة إلا إذا ملئت بأي نوع من أنواع الامتلاء، جد أو هزل، وعمل أيا كان نوعه. فإذا طال الفراغ فالوبال كل الوبال، إن فارغي العقل معذورون في أن يملئوا فراغهم بنرد وشطرنج أو أي حديث ولو كان تافها لأنهم يشعرون بثقل الفراغ، والحياة لا تلذ إلا بنسيانها، وخير لذة ما نسي الإنسان فيها نفسه واستغرق فيها حتى نسي التلذذ بها؛ فلو فكر لاعب النرد والشطرنج في أنه يتلذذ بهما لفقد لذته، وخير أنواع اللذائذ العقلية ما استغرق فيها الإنسان بتأمله وتفكيره حتى مر عليه الوقت الطويل دون أن يشعر، ففراغي هو أهم أسباب ضيقي، وأهم أسباب أزمتي النفسية.
ولقد اعتدت أن أعتمد على الكتب أتخير مؤلفيها، وأصغي إلى حديثهم، وأستلهم ما يقولون، وأفكر فيما يعرضون، فلما عدمت هذا عدمت الركن واحتجت إلى دعامة أخرى أستند عليها. وتلمستها فيمن يقرأ لي ويكتب لي، ولكن لابد من زمن حتى آنس بهذا الاعتياد الجديد، ثم هذا كله لا يغني غناء الاعتماد على النفس، فقد أحتاج إلى قارئ في وقت فألتمسه فلا أجده، وقد يكون القارئ الكاتب موجودا ولا رغبة لي في قراءة ولا كتابة، وقد أحتاج إلى قارئ من نوع معين ولا أجده؛ على كل حال ارتبكت النفس وطال اضطرابها. وأدخل المكتبة لذكرى الماضي فيزيد ألمي. غذاء شهي وجوع مفرط، وقد حيل بين الجائع وغذائه، وأتساءل: هل يعود نظري كما كان فأستفيد منها كما كنت أستفيد؟ وهذه الآلاف من الكتب آلاف من الأصدقاء، لكل صديق طعمه ولونه وطرافة حديثه، وقد كان كل يمدني بالحديث الذي يحسن حين أشير إليه، فاليوم أراهم ولا أسمع حديثهم، ويمدون إلي أيديهم ولا أستطيع أن أمد إليهم يدي.
ثم إني أشعر شعورا غريبا بحب الضوء وكراهية الظلام، فأحب النهار وأكره الليل، وأحب من الألفاظ كل ما يدل على الضوء، وأكره منها كل ما يدل على الظلام، وأحب النهار تطلع شمسه، وأكره السحاب يغشى الشمس؛ ومن أجل ذلك وضعت بجانب سريري زرا كلما شعرت بالظلام ضغطت عليه فأضاءت الحجرة.
وأهم ما لاحظته اختلال ما كان عندي من قيم لشئون الحياة، فأستعرض كثيرا مما كنت أقومه فلا أجد له قيمة، وتعرض علي متع الحياة المختلفة فلا أجد لها وزنا، وتعرض علي أخبار الناس يسلكون في الحياة سبلا مختلفة، فأهزأ بكل ذلك.
ثم لما فقدت قيم الأشياء التي اعتدتها لا أزال حائرا في وضع أسس جديدة لقيم جديدة ولما أستقر بعد على رأي.
لقد أفادتني هذه التجربة المرة أن خير هبة يهبها الله للإنسان مزاج هادئ مطمئن، لا يعبأ كثيرا بالكوارث، ويتقبلها في ثبات ويخلد إلى أن الدنيا ألم وسرور، ووجدان وفقدان، وموت وحياة، فهو يتناولها كما هي على حقيقتها من غير جزع؛ ثم صبر جميل على الشدائد يستقبل به الأحداث في جأش ثابت، فمن وهب هاتين الهبتين فقد منح أكبر أسباب السعادة.
وأخيرا لم أستفق مما أصابني من تدهور حالتي النفسية إلا بعد سنة تقريبا. أما عيناي فاليمني منهما قد استردت قدرتها كما كانت وهي السليمة التي لم تجر فيها عملية، وأما اليسرى وهي التي أجريت فيها عملية الشبكية، فقد قال الطبيب إن عملية الشبكية قد نجحت، ولكن يمنعها من الإبصار أن بها مرضا آخر وهو الماء الأبيض أو ما يسمونه «الكاتاراكت» وأنه لا يصح عمل عملية فيها إلا بعد أن يتجمد هذا الماء، وتجمده ليس له زمن محدود، وهو يختلف بإختلاف الأشخاص وأن العين ستزيد ظلاما كلما تحرك الماء نحو إنسان العين، وفعلا قد مضى الآن على العملية نحو سنتين وزادت العين ظلاما حتى كادت لا ترى، والطبيب يخبرني أنها قاربت التجمد وبعدها يجري العملية، وقد عرضت عيني على طبيب آخر مشهور فقال إن العملية لم تنجح أو على أحسن تقدير إن الشبكية التأمت أولا ثم انفصلت ولا أمل في العين والعوض على الله.
من أجل ذلك ضعفت قدرتي على القراءة والكتابة مع الرغبة الشديدة فيهما، واضطررت أن أستعين بعض الوقت بمن يقرأ لي ويكتب، وقد اعتدت الإملاء بعض الشيء ولم أكن أحسنه أول الأمر، لأني طول حياتي العلمية كنت لا أعتمد إلا على نفسي فيهما. وذهني يدرك بالعين ما لا يدرك بالسمع، وأفكاري ترد على قلمي أكثر مما ترد على قلم غيري، وذهني كثير الشرود عندما أسمع وقراءة العين تحصره؛ وفكري بطيء إذا أملى، وكنت إذا أمسكت القلم تواردت علي المعاني وأسرع قلمي في تقييدها.
الفصل الخامس والثلاثون
في سنة 1948 قرر مجلس كلية الآداب ومجلس جامعة فؤاد الأول منحي الدكتوراه الفخرية فلقبت: الدكتور أحمد أمين، ومنحت جائزة فؤاد الأول، وهي إحدى الجوائز التي تقدر بألف جنيه مصري وتمنح لمن ينتج أحسن عمل أو إنتاج في الآداب والعلوم والقانون؛ وقد أقيم حفل كالمعتاد في يوم 28 فبراير 1948 في قاعة الاحتفالات الكبرى للجامعة سلمت فيها الجائزة، وكان نص البراءة الملكية ما يأتي «من فاروق ملك مصر بعناية الله تعالى إلى حضرة صاحب العزة الدكتور أحمد أمين إبراهيم بك العضو بمجمع فؤاد الأول للغة العربية: بناء على ما أقرته اللجنة الدائمة لجوائز فؤاد الأول وفاروق الأول من استحقاقكم جائزة فؤاد الأول للآداب عن سنة 1948 لما امتاز به مؤلفكم «ظهر الإسلام» من دقة البحث، قد أمرنا بإصدار براءتنا الملكية هذه من ديواننا بمنحكم تلك الجائزة. وفقكم الله لخدمة العلم والوطن؛ تحريرا بقصر القبة الملكي بالقاهرة في اليوم التاسع عشر من شهر جمادى الآخرة لسنة ألف وثلاثمائة وسبع وستين من هجرة خاتم المرسلين وفي السنة الثانية عشرة من حكمنا» كما سلمت في اليوم نفسه براءة الدكتوراه الفخرية.
1
وكان الطبيعي أن أبتهج بهاتين المنحتين العظيمتين اللتين منحتا لي في يوم واحد تتويجا لجهودي في الجامعة وجهودي في الإنتاج الأدبي، ولكن جاءتا عقب العملية الجراحية في عيني وما أصابني من ذلك في نفسي، فلم يهتز لهما قلبي كما ينبغي ولا ابتهجت لهما نفسي كما يجب، يضاف إلى ذلك حالتي النفسية وهي أن تستجيب لداعي الحزن، ولو صغيرا، ولا تستجيب لداعي السرور، ولو كبيرا. إلا بقدر.
وفي هذه السنة أيضا أنشئ في الجامعة نظام «الأستاذ غير المتفرغ» وهو نظام
2
رأى واضعوه أن كثيرا من الممتازين في القانون والآداب والعلوم يشغلون مناصب كبيرة في الدولة، وليس من السهل إخراجهم من مناصبهم وتخصيصهم بأستاذية الجامعة، فمن الممكن تعيينهم أساتذة غير متفرغين مع بقائهم في مناصبهم الأخرى، فلما ووفق على هذا المشروع عينت أستاذا غير متفرغ مع من عين في كلية الآداب، وعين معي في كلية الآداب الأستاذ محمد شفيق غربال وكيل وزارة المعارف والأستاذ مصطفى عامر مدير جامعة فاروق إذ ذاك، ولم تحل إحالتي على المعاش دون ذلك، فعدت أستاذا كما كنت أحضر محاضرتي وألقيها؛ وأنا في هذا العام - عام 1949 - ألقي محاضرتين: إحداهما في النقد الأدبي وموضوعها كيف ينبغي أن يدرس الأدب، والثاني دراسة لكتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه.
الفصل السادس والثلاثون
وفي 5 يوليو سنة 1950 ذهبت إلى الإسكندرية لأصطاف ونزلت في بيتي في «سيدي بشر» وأخذت أستريح ونمت نوما هادئا لم أشعر فيه بشيء وقمت من نومي صباحا كالعادة وأفطرت على عادتي بكوب من اللبن وقطعة من الجبن وفنجان من القهوة وذهبت أغسل يدي فوقعت، فظننت أن رجلي عثرت بشيء فعاودت المشي ثانية فسقطت. ثم أحسست أن الجانب الشمالي كله من يد ورجل قد فقد حركته تماما؛ واستدعيت الطبيب فقال إنها جلطة خفيفة وإنه يلزم السكون تماما فسألته عن السبب؛ قال إن الجلطة تحدث في المخ فإذا تحرك الجسم تحركت فعاثت الجلطة في المخ وسببت مضاعفات - لا قدر الله - فوجب أن تبقى في مكانها حتى تصير كالإسفنج. وكان ذلك على أثر غلطات عملتها فقد أخذت حقنة من الأنسولين من «سنتيين» والجسم لا يحتمل إلا «سنتيا واحدا» وقمت بعد ساعتين من النوم وقد احترق السكر من دمي وطلبت ما عندهم من أكل فأكلت أكلا جما وكان يكفي لهذه الحالة كوب من ماء بسكر، وغلطت غلطة ثالثة فنمت فورا بعد هذا الأكل فتحولت حركة الدم إلى المعدة لتهضم فمضت بضع ثوان لم تتغذ فيها بعض خلايا المخ فماتت وقام مقامها خلايا أخرى لتحل محلها وهي تحتاج إلى ستة أسابيع أو ثلاثة أشهر على الأقل ليتم نموها، وهكذا مكثت أربعة أيام أشعر بنصفي الأيسر كأنه وعاء فارغ ثم شعرت بأنه ممتلئ رملا ثم شعرت بالقوة تدب فيه وكانت رجلي أسبق إلى الحركة من يدي.
ولما تقدمت في الصحة وزال من المرض نحو 95٪ في نحو ستة أسابيع بطؤ الشفاء في الأيام الأخيرة حتى احتاج إلى شهر آخر، لأن العمل على بناء الخلايا كان من عمل الشرايين ثم صار من عمل الشعيرات وهي بطبيعة الحال أبطأ عملا، وهكذا شاء القدر.
وعلى كل حال فقد استفدت من هذا المرض تجارب كثيرة إذ علمت أن حركة اليد والرجل عبارة عن عملية ميكانيكية مركبة لا يمكن أن تحسن إلا بسلامة أعضاء كثيرة، ولم أكن أستطيع إمساك علبة السجاير ولا علبة الكبريت ولا أن أشعل عودا من الكبريت وهكذا.
الفصل السابع والثلاثون
هذه أهم الأحداث التي مرت علي من صباي إلى شيخوختي فأثرت في تأثير دائبا متواصلا حتى صيرتني كما أنا اليوم، وكان يمكن أن تكون غير ذلك فأكون غير ذلك، ولكن شاء الله أن تجري علي كما جرت فتصوغ مني ما صاغت.
لقد كتبت مرة مقالا في وصف صديق وكنت أستملي وصف هذا الصديق من نفسي، إذ عنيت به شخصي، وقد جاء فيه: لا صديق اصطلحت عليه الأضداد، وائتلفت فيه المتناقضات سواء في ذلك خلقه وعلمه.
حيي خجول يغشى المجلس فيتعثر في مشيته، ويضطرب في حركته. ويصادف أول مقعد فيرمي بنفسه فيه، ويجلس وقد لف الحياء رأسه، وغض الخجل طرفه، وتقدم له القهوة فترتعش يده وترتجف أعصابه، وقد يداري ذلك فيتظاهر أن ليس له فيها رغبة ولا به إليها حاجة، وقد يشعل لفافته فيحمله خجله أن ينفضها كل حين، وهي لا تحترق بهذا القدر كل حين. وقد يهرب من هذا كله فيتحدث إلى جليسه لينسى نفسه وخجله، ولكن سرعان ما تعاوده الفكرة فيعاوده الهرب، حتى يحين موعد الانصراف فيخرج كما دخل، ويتنفس الصعداء بعد أن أدركه الإعياء.
من أجل هذا أكره شيء عنده أن يشترك في عزاء أو هناء أو يدعى إلى وليمة أو يدعو إليها إلا أن يكون مع الخاصة من أصدقائه.. يحب العزلة لا كرها للناس ولكن هروبا بنفسه.
ثم هو مع هذا جريء إلى الوقاحة، يخطب فلا يهاب، ويتكلم في مسألة علمية فلا ينضب ماؤه ولا يندى جبينه، ويعرض عليه الأمر في جمع حافل فيدلي برأيه في غير هيبة ولا وجل، وقد تبلغ به الجراءة أن يجرح حسهم، وينال من شعورهم، ويرسل نفسه على سجيتها فلا يتحفظ ولا يتحرز.
يحكم من يراه في حالته الأولى أنه أشد حياء من مخدرة، ومن يراه في الثانية أنه أجرأ من أسد وأصلب من صخر، ومن يراه فيهما أنه شجاع القلب، جبان الوجه.
وهو طموح قنوع، نابه خامل، تنزع نفسه إلى أسنى المراتب فيوفر على ذلك همه، ويجمع له نفسه، ويتحمل فيه أشق العناء وأكبر البلاء، وبينما هو في جده وكده وحزمه وعزمه إذ طاف به طائف من التصوف، فاحتقر الدنيا وشئونها، والنعيم والبؤس، والشقاء والهناء ، فهزئ به وسخر منه واستوطأ مهاد الخمول، ورضي من زمانه بما قسم له؛ وبينما يأمل أن يكون أشهر من قمر ومن نار على علم، إذا به يخجل يوم ينشر اسمه في صحيفة، ويذوب حين يشار إليه في حفل، ويردد مع الصوفية قولهم «ادفن وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه».
يعجب من يعرفه، إذ يراه معرفة نكرة، محبا للشهرة والخمول معا.
وأغرب ما فيه أنه متكبر يتجاوز قدره ويعدو طوره، ومتواضع ينخفض جناحه وتتضاءل نفسه، يتكبر حيث يصغر الكبراء، ويتصاغر حيث يكبر الصغراء. يتيه على العظماء ويجلس إلى الفقراء يؤاكلهم ويستذل لهم، لا تلين قناته لكبير، ويخزم أنفه للصغير.
يحب الناس جملة ويكرههم جملة، يدعوه الحب أن يندمج فيهم ويدعوه الكره أن يفر منهم. حار في أمره، وامتزج حبه في كرهه، فاستهان بهم في غير احتقار.
صحيح الجسم مريضه، ليس فيه موضع ضعف، ولكن كذلك ليس فيه موضع قوة.
ورأسه كأنه مخزن مهوش أو دكان مبعثر وضع فيه الثوب الخلق بجانب الحجر الكريم، يتلاقى فيه مذهب أهل السنة بمذهب النشوء والارتقاء، ومذهب الجبر بمذهب الاختيار، وتجتمع في مكتبته كتب خطية قديمة في موضوعات قديمة، قد أكلتها الأرضة ونسج الزمان عليها خيوطا، وأحدث الكتب الأوروبية فكرا وطبعا وتجليدا. ولكن من هذين ظل في عقله وأثر في رأسه.
إن طاف طائف الإلحاد بفكره لم تطاوعه طبيعته، وإن شك حينا عقله آمن دائما قلبه، ومن أصدقائه السكير والزاهد، والفاجر والعابد، وكلهم على اختلاف مذاهبهم؛ يصفه بأنه يجيد الإصغاء كما يجيد الكلام.
وأزيد على ذلك أني غضوب حليم، وكل من يراني يصفني بالهدوء والاتزان والحلم والسكينة، ولكني إذا غضبت تعديت طوري وخرجت عن حدي في قولي وتصرفي، فيظهر أن التربية هي التي خففت من حدتي، وضبطت من نفسي، أما مزاجي الطبيعي فعصبي غير هادئ، ولذلك أنفعل للحوادث أكثر مما ينفعل لها صحبي، فقد أكون جليسا لبعض الأصدقاء، فيأتينا خبر موت صديق أو كارثة نزلت بمن نعرف، فألاحظ أني أكثرهم انفعالا وأشدهم تأثرا.
ثم قد ورثت من أبي «حمل الهم» والخوف من العواقب، والحياة قلما تخلو من هم - هم الأولاد ودراستهم، والمعيشة وتكاليفها، والوظائف ومتاعبها ونحو ذلك، والناس حولي تعتريهم هذه الهموم وأكثر منها فلا يأبهون كما آبه، ولا يفزعون منها كما أفزع، ويضحكون وسط همومهم ملء أفواههم ولا أستطيع أن أسير سيرهم، حتى لو عرض علي عشر حوادث تسع منها تستوجب السرور، وواحدة تستوجب الهم لغلبت الواحدة التسع.
شديد الحساسية للكلمة تمسني أو الفعل يجرحني، وقد لا أنام الليل لكلمة نابية سمعتها أو صدرت عني في حق صديق لي، ولكن كما أني شديد التأثر شديد التسامح، أغضب ممن يسيء إلي، ثم سرعان ما يصفو له قلبي ويتسع له صدري.
شديد الخوف على سمعتي الخلقية، فأتألم أشد الألم من كلمة تنشر إذا مست خلقي، ولكني واسع الصدر جدا فيما يمس آرائي وأفكاري. فليس يحزنني نقد كتبي ولا نقد آرائي، بل أرتاح له وأغتبط به إذا اقتصر على حدود الرأي والفكر، ولم يتعده إلى حدود الخلق.
نعم يسرني كل السرور أن يقدر الناس كتبي وأفكاري ولكن إذا نقدوها في أدب عددت ذلك ضربا من ضروب تقديرها والاهتمام بها.
لدي الشجاعة في قول الحق والتزام الصدق واحتمال الحرمان من مال أو جاه، ولكن ليس لدي الشجاعة في احتمال شوكة تصيب أولادي أو شيء يمس شرفي.
لست كثير الثقة بنفسي، ولا بما يصدر عني، فالكتاب أؤلفه أو المقال أكتبه لا أثق بحكمي عليه بأنه جيد أو رديء حتى يقرأه الناس فيحكموا بجودته أو تفاهته، قد ألمح فيه الجودة أو التفاهة، ولكني لا أثق بحكم نفسي على نفسي حتى يؤيد الناس ظني أو يكذبوه. وأذكر مرة أني أعددت يوما - وأنا مدرس بمدرسة القضاء - محاضرة موضوعها «دقة الملاحظة» وكان من عادتنا أن نعرض ما نكتب على عاطف بك بركات ناظر المدرسة فيجيزه أو لا يجيزه، وقل أن تخلو محاضرة يقرؤها من ملاحظات عليها يقيدها بالقلم الأحمر، فبعد يوم رد إلي المحاضرة، وليست عليها أية إشارة ، فأيقنت أنها لم تعجبه جملة، ولم يرض عن شيء فيها، وأسفت لذلك أسفا شديدا، وجعلت أبرر حكمه عليها، وأقول ماذا تحتوي هذه المحاضرة من أفكار: فكرة كذا تافهة، وفكرة كذا مسبوقة، وفكرة كذا ليست بذلك. وهكذا حتى استسخفت كل ما فيها. ويوم الثلاثاء وهو موعد المحاضرة استدعاني صباحا وسألني: لم لم أعلن عن محاضرتي؟ فقلت: إنك استسخفتها. فقال: من قال لك ذلك؟ قلت كل الدلائل، فلم تحدثني بشأنها. ولم تؤشر عليها وأرسلتها إلي مع الساعي، ونحو ذلك. فقال: إني وجدتها كاملة فليس لي انتقاد عليها فلم أؤشر على شيء فيها، وسألت عنك فقيل لي إنك في الدرس فأرسلتها مع الساعي، والمحاضرة قيمة جدا. فأخذت أستعيد في ذهني نقطها وأقول إن فيها فكرة كذا وهي جيدة وفكرة كذا وهي جديدة، وفكرة كذا وهي قيمة، وألقيتها فاستحسنت فعددتها حسنة.
وهذا عيب في لم أدر كيف نشأ، فخير للإنسان أن يثق بنفسه من غير غلو ويقدر إنتاجه على حقيقته من غير إفراط أو تفريط.
أحب النظام حبا شديدا، فكل شيء في موضعه وكل شيء في وقته، كما أحب البت السريع في الأمور من غير تردد طويل، وأفضل سرعة البت ولو أنتج الخطأ على طول التردد ولو تبعه الصواب.
أما حياتي اليومية فإنها تكاد تكون حياة رتيبة كأني قطار لا ينحرف عن السير على قضبانه، فلا مغامرات ولا مفاجآت؛ أصحو قبل الشمس دائما مهما تأخرت في النوم، وتلك عادة اعتدتها منذ كان أبي يوقظني في طفولتي لأصلي معه الفجر؛ فإذا طلعت الشمس أفطرت فطورا خفيفا غالبا عماده اللبن، وإذا كان لدي عمل خرجت إليه، وإلا ذهبت إلى مكتبتي أو حديقتي أقرأ وأكتب إلى ما بعد الظهر، وهذا خير الأوقات عندي فائدة وأكثرها إنتاجا، فإذا تغديت نمت بعد الغداء، وهي نومة تكاد تكون مقدسة، إذا لم أنمها تعكر علي سائر يومي. وكثيرا ما كانت هذه النومة سببا لمتاعب كثيرة، فأنا لا أنام إلا في هدوء تام، وأي صوت ينبهني، وأي حركة تقلقني، فإذا بكى طفل أو حدثت حركة في البيت ذهب عني النوم، وغضبت وأغضبت، وكثيرا ما ثرت فآلمت، ويكفيني في هذا النوم نصف ساعة أو ما دونه، فإذا صحوت شربت قهوتي، وإذا لم يكن ثمة داع إلى الخروج عدت إلى مكتبي لأقرأ لا لأكتب، فقلما ألفت في المساء لأني إذا كتبت هاج مخي، فإذا ما نمت بعد الكتابة لم أنم نوما هادئا، وظل عقلي يحلم ويحلم، ويبدي ويعيد فيما كنت أكتب؛ وليس الحال كذلك إذا اقتصرت على القراءة. ولذلك اعتدت أن أفكر وأقرأ مساء ثم أكتب صباحا غالبا.
ولا أستطيع الكتابة إلا في هدوء تام، فأي صوت يزعجني، وكم تمنيت أن يكون للأذن غطاء خاضع لإرادة الإنسان كما هو الشأن في العين.
وقد أستريح يوم الجمعة فأخرج إلى حلوان أو الأهرام أو القناطر الخيرية أو نحو ذلك لأنسى القراءة والكتابة؛ وأصيف في الإسكندرية أو رأس البر، فأحمل أهم كتبي معي وأشتغل بها كما أشتغل في أيام عملي، فلا أستمتع إلا بحسن الجو والسير أحيانا على شاطئ البحر، ولم أعتد - ولله الحمد - كيفا إلا الدخان أدخنه ولا أبتلعه، كما لم أعتد أن أضيع وقتي في الجلوس إلى مقهى إلا لمقابلة في عمل، فإن ملت إلى اجتماع بالناس فمع أصدقائي في لجنة التأليف، كما لم أعتد ضياع وقت في لعب نرد أو شطرنج.
وكنت في بدء حياتي العملية كثير الفراغ، أصرفه في القراءة والكتابة، فألفت «فجر الإسلام وضحاه» ثم قل فراغي باشتغالي بكثرة المجالس واللجان، فأنا عضو في المجمع اللغوي وفي مجلس دار الكتب ومجلس كلية الآداب ودار العلوم، ورئيس لجنة التأليف والجامعة الشعبية إلخ. إلخ، ومذيع في الراديو، وكل هذه أكلت من وقتي، وبعثرت زمني، ووزعت جهدي، مع قلة فائدتها فيما أعتقد. ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لرفضت كل هذه الأمور ونحوها وفرغت لإتمام سلسلة فجر الإسلام وضحاه وظهره وعصره، فقد كان ذلك أجدى وأنفع وأخلد، ولكن للظروف أحكام.
ولست أميل إلى الاجتماع كثيرا، ولا أحب يوما يمر دون أن أخلو فيه إلى نفسي بعيدا عن أهلي وولدي.
وأستمر في القراءة إلى نحو الحادية عشرة فأنام، وقد وضعت مصباحا كهربائيا بجانب سريري أقرأ عليه حتى يغشاني النوم، ولما أصبت في عيني منعني الأطباء من القراءة ليلا فاستعنت على ملء وقتي بمن يقرأ لي.
وإذا علقت فكرة بذهني كانت شغلي الشاغل - أقرأ الكثير عنها وأفكر فيها وأحلم بها، وقد يخطر لي فيها خاطر إذا صحوت أثناء الليل، فأذهب إلى مكتبتي وأضيئها واستحضر الكتاب الذي أظنه يعالجها وأقرؤه لتحقيق الفكرة والوصول فيها إلى نفي أو إثبات ثم أعود إلى فراشي.
وإذا حدث حادث سياسي أو اجتماعي - قومي أو إنساني - تأثرت به تأثرا يغطي على تفكيري العلمي، وها أنذا في هذه الأيام مرتاع لما أصاب البلاد العربية من أحداث فلسطين. يقلقني جد الصهيونيين وهزل العرب، واجتماع كلمة الأولين وتفرق الآخرين ووقوف الأولين على أساليب السياسة الأوروبية والأمريكية والروسية، وفهمهم الدقيق للأوضاع واستغلالهم الفرص السانحة، وجري الآخرين على سياسة الارتجال، وجهلهم بما يجري خلف الستار. وتقصيرهم في جمع كلمتهم وتوحيد خططهم. ويفزعني ما أحرزه الصهيونيون من نجاح لم يكن يتوقعه حتى أكثرهم تفاؤلا وأوسعهم أملا، وأكرر السؤال على نفسي ماذا سيكون المصير لو استمر الصهيونيون في جدهم واستعدادهم وتكاتفهم، واستمر العرب في هزلهم وتخاذلهم؟ وكثيرا ما أحاول الكتابة في موضوع علمي أو أدبي ثم أصرف عنه بهذا الحزن وهذا الجزع، وأقول إني كنت أعجب من ضياع الأندلس من يد المسلمين وسائر الأقطار لا تحرك ساكنا للإغاثة ولا تمد يدا للمعونة، واليوم بعد قرون طويلة تتجدد المأساة فتضيع فلسطين من يد المسلمين ولا عبرة من الأحداث ولا استفادة من التاريخ، ويغيث المسلمون شكل إغاثة لا حقيقة إغاثة، ويعاونون معاونة كان خيرا منها عدمها، فيالله للمسلمين ...
ثم لي نزعة صوفية غامضة، فأشعر في بعض اللحظات بعاطفة دينية تملأ نفسي ويهتز لها قلبي، وأكبر ما يتجلى هذا عند شهود المناظر الطبيعية الرائعة، كالمزارع الواسعة، والأشجار اليانعة، والنجوم اللامعة، وطلوع الشمس وغروبها، والبحار وأمواجها، والطيور وتغريدها، فأشعر - إذا ذاك - بميل إلى احتضانها ، وأود لو ركزت في كأس فأشربها، وأحس بنشوة إذ أراها وأرى الله فيها، ولكني - مع ذلك - أشعر بأسف على أني لم أنم هذه النزعة كما يجب، ولم أتعهدها وأرعها كما كان ينبغي.
ومزاجي فلسفي أكثر منه أدبيا؛ حتى في الأدب، أكثر ما يعجبني منه ما غزر معناه ودق مرماه، فيعجبني الحريري والقاضي الفاضل والصاحب بن عباد وطريقته، والعماد الأصفهاني ومدرسته، ويعجبني المتنبي لولا إغرابه أحيانا وتكلفه، والمعري لولا تعالمه، وأفضلهما على أبي تمام وتقعره، ولا يعجبني من البحتري إلا قصائد معدودة، ولا يهتز قلبي لأكثر شعر الطبيعة في الأدب العربي، لبنائه على الاستعارة والتشبيه لا على حرارة العاطفة ولهذا كان لي ذوق خاص في تقدير الأدب، فضلت اتباعه مجتهدا - ولو كنت مخطئا - على تقليد غيري في تقديره ولو كان مصيبا. •••
لو استعرضت حياتي من أولها إلى آخرها لكانت «شريطا» فيه شيء من الغرابة وفيه كثير من خطوط متعرجة، فما أبعد أوله عن آخره، وما أكثر ما فيه من مفارقات، وتغير في الاتجاهات، ومخالفة للاحتمالات، فمن كان يراني وأنا في مدرسة أم عباس الابتدائية يظن أنني سأكمل دراستي الابتدائية والثانوية، وقد أكمل الدراسة العالية وأشغل الوظيفة التي تتفق ونوع الشهادة: معلما أو قاضيا أو مهندسا أو نحو ذلك. ثم تغير هذا الاتجاه فجأة إلى الأزهر، فمن كان يراني في الأزهر يظن أني إما أن أنقطع عن الدراسة فأكون إماما في مسجد، وإما مدرسا في مدرسة أهلية أو نحو ذلك، وإما أتممها فأكون عالما في الأزهر، له كرسي بجانب عمود من عمده يجلس عليه بعمامته الكبيرة وجبته الواسعة، يشرح المتن والشرح والحاشية، ثم تغير هذا الاتجاه أيضا فجأة إلى مدرسة القضاء، فكان أكبر الظن أن أكون كزملائي قاضيا شرعيا يتنقل في مناصب القضاء حتى يكون رئيس المحكمة الشرعية العليا أو قريبا منه، ولكن تغير أيضا هذا الاتجاه فاتصلت بالجامعة، وكنت أستاذا بكلية الآداب وعميدا لها.
وتغيرت عقليتي تبعا لهذا التغير، فلم تعد عقليتي تنسجم مع العقلية الأزهرية؛ بل ولا مع زملائي من مدرسة القضاء. ومنذ قليل قابلت صديقا كان من أحب الأصدقاء إلي في مدرسة القضاء وأقربهم إلى عقلي، فحادثته وأطلت الحديث معه، فإذا أنا في واد وهو في واد.
وكم من الفروق بين معيشتي الأولى ومعيشتي الأخيرة! وإن الفرق بينهما - كما قال الجاحظ - كالفرق بين امرئ القيس إذ يقول:
تقول وقد مال الغبيط بنا معا
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
وقول علي بن الجهم:
فبتنا جميعا لو تراق زجاجة
من الخمر فيما بيننا لم تسرب
كنت في البيت كالذي وصفته - أولا - في منتهى السذاجة والبساطة، لا ماء في المواسير، ولا آلة من آلات المدنية الحديثة، فأصبحت أسكن في بيت فيه الحديقة، وفيه أثاث المدنية الحديثة، فيه الراديو والتليفون وما إلى ذلك.
ولم أركب القطار في حياتي الأول إلا وأنا في السادسة عشرة من عمري، ركبته إلى طنطا فحزنت وبكيت، وفي آخر حياتي ركبت الطيارة من القاهرة إلى لندن وأنا مسرور مبتهج.
وكنت أمشي على رجلي من بيتي في المنشية إلى الأزهر، وأعود من الأزهر ومعي منديل كبير فيه (الجراية) أنقله بين يدي اليمني ويدي اليسرى، ومن كتفي اليمنى إلى كتفي اليسرى فأصبحت أنتقل حتى المسافات القصيرة في سيارة. وكان أبي يعلمني في كتاب كالذي ذكرت، فأصبحت أعلم أولادي في رياض الأطفال وما إليها. ولا يعجبهم أن ينتقلوا في الدرجة الأولى في الترام والأمنيبوس، ويتطلبون سيارة ينتقلون بها، وكنت أضرب على الشيء التافه الصغير فأحتمل، ولا أثور ولا أغضب، فصار أبنائي يغضبون من الكلمة الخفيفة والعتاب المؤدب، وكنت لا أؤاخذ أبي على حرماني من الضروريات، فصار أبنائي يؤاخذوني على حرمانهم من الإسراف في الكماليات. وكنت وصوت، وكنت وصرت مما يطول شرحه، فما أكثر ما يفعل الزمان.
لقد بدأت في شبابي أرسم حياتي المستقبلة من خيالي، وأرسم المثل العليا لي في خلقي ومسلكي وإصلاحي، ثم اصطدمت هذه المثل بالواقع، وبالبيئة التي حولي، وبالصعاب التي صادفتني، وبكثير من الناس أخلفوا ظني، كل هذا وأمثاله كان يأكل من البنيان بنيته للمثل الأعلى الذي وضعته ، لقد حاولت أن أقف أمام هذه التيارات ولكني لم أستطع أن أثبت في مركزي، فجرفني التيار معه قليلا أو كثيرا، ومن أجل هذا كنت في شبابي خيرا مني في شيخوختي، وفي أول عهدي أكثر تفاؤلا مني في آخر عهدي. لكم تمسكت في شبابي بالمبدأ وإن ضرني، واستقلت من عمل يدر علي الربح لأني رأيته يمس كرامتي، وبنيت آمالا واسعة على ما أستطيعه من إصلاح وما أحقق من أعمال، ثم رأيت كثيرا من هذه الآمال يتبخر، وما أنوي من أعمال يتعثر، وها أنذا في شيخوختي قد أقبل ما كنت أرفض، وقد أتنازل عن بعض المبادئ التي كنت ألتزم؛ فالوسط وأحاديث الناس وكثرة الأولاد وتوالي العقبات وضعف الإرادة بطول الزمان قد تضطر الإنسان إلى التنازل عن بعض مثله العليا، ويعجبني قول من قال:
عصيت هوى نفسي صغيرا وعندما
رماني زماني بالمشيب وبالكبر
أطعت الهوى، عكس القضية، ليتني
ولدت كبيرا ثم عدت إلى الصغر
ومع هذا فإني أحمد الله إذ من علي بالتوفيق في أكثر ما زاولت من أعمال: فيما ألفت من كتب - في عملي بلجنة التأليف - في الجامعة الشعبية - في الجامعة المصرية - في الجامعة العربية - في عمادة كلية الآداب؛ كذلك كان الشأن في حياتي العملية والأدبية والمالية والعائلية: نعم من الله لا أستطيع أن أقوم بالشكر عليها.
وهي ظاهرة يصعب تعليلها العقلي، أو تفسيرها بالتحليل الاجتماعي والنفسي. فكم رأيت من أناس كانوا أذكى مني وأمتن خلقا وأقوى عزيمة، وكانت كل الدلائل تدل على أنهم سينجحون في أعمالهم إذا مارسوها، ثم باءوا بالخيبة ومنوا بالإخفاق، ولا تعليل لها إلا أن
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
قالوا
لقد أهدى أحمد أمين إلى العالم الحديث بتأليف «فجر الإسلام وضحاه وظهره» كنزا من أقوم الكنوز وأعظمها حظا من الغنى وأقدرها على البقاء ومطاولة الزمان والأصراح. «طه حسين»
من ألف فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام أبقى على الأيام من أن يدركه الموت. «طه حسين»
إن سلسلة فجر الإسلام وضحاه وظهره من أقوم وأروع ما وضع عن الحياة العقلية والفكرية للإسلام. «عبد الرزاق السنهوري»
لقد أسس أحمد أمين مدرسة في الفكر الإسلامي لا أعرف أن معاصرا قام بعمل يدانيه وستبقى هذه المدرسة راسخة الأصل باذخة الفروع، وسيظل هو إمامها وزعيمها الفكري الكبير. «عبد الرزاق السنهوري»
لقد أخرج أحمد أمين من ذخيرته الغنية تاريخا جامعا دقيقا للتفكير الإسلامي في عصوره المختلفة، ولعل أكبر أثر له هو سلسلة فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام. «عبد الواحد خلاف»
اقرأ كتابه فجر الإسلام وصنويه الضحى والظهر تلمح خلف مظاهر البحث والدرس لوامع الروح الأصيلة التي تميط الغبار عن معالم الفكر العربي وتريك الضوء من مصابيحه. «محمود تيمور»
إن السلسلة الرائعة من تاريخ الأدب العربي التي تبدأ بفجر الإسلام وتنتقل إلى ضحى الإسلام فإلى ظهر الإسلام، كنوز من المعرفة كتبت بأسهل لسان، ونقلت من أصح مصادر واشتملت على أدق الآراء العلمية. «الأمير مصطفى الشهابي»
حسب أحمد أمين أنه حلل الحياة العقلية للعرب والمسلمين في كتبه: فجر الإسلام وضحاه وظهره، تحليلا لم يتهيأ مثله لأحد من قبله. وستظل هذه الكتب الخالدة شاهدة على الجهد الذي لم يكل، والعقل الذي لم يضل، والبصيرة التي نفذت إلى الحق من حجب صفيقة واهتدت إليه في مسالك متشعبة. «أحمد حسن الزيات»
لم يظفر كتاب من الذيوع والانتشار والتأثير بمثل ما ظفرت به مجموعة الكتب التي أصدرها أحمد أمين حين أصدر فجر الإسلام وتبعه بضحى الإسلام ثم ظهر الإسلام. «أحمد فؤاد الأهواني»
أصبح الفجر والضحى والظهر مرجع كل طالب، ومرشد كل باحث والمنارة التي يهتدي بها الناظر في التاريخ الإسلامي وحضارته. «أحمد فؤاد الأهواني»
حين صور أحمد أمين الحياة العقلية في فجر الإسلام وفي ضحاه وظهره أخرج للعالم كله مرجعا من أجمل المراجع وأحسنها نسقا وتوثيقا. «وداد السكاكيني»
Ahmad Amin, who rose to a leading role in Egypt’s cultural life, is well known by his works tracing the story of Islam from what he called its Dawn to High Noon. (The Middle East Journal. Vol. 9, No. 1, London 1955)
The recent death of Dr. Ahmad Amin deprived the world of letters in the Middle East of an honored and influential leader. (Then and Now in Egypt by Kenneth Cragg)
The book, “Hayati” written by Ahmad Amin, the distinguished Cairo scholar and educator, is impressive in its simplicity and sincerity. (Middle Eastern Affairs Vol. 7, No. 1, January, 1954)
Unknown page