Hayat Wa Haraka Fikriyya Fi Britania
الحياة والحركة الفكرية في بريطانيا
Genres
فالاعتداء على حرية التعبير إنما هو اعتداء على شيء أغلى من حياة الأفراد؛ ولأنه اعتداء على شيء للناس فيه منفعة دائمة.
في هذا الوقت وصل الإنجليز إلى تحديد حرية العقل أمام العقل، ووصلوا إلى تحديد حرية العقل أمام السلطان، ولم يكد القرن الثامن عشر يأتي حتى كانت بلاد الإنجليز وحدها هي البلاد التي يستطيع الناس فيها أن يفكروا أحرارا وأن يقولوا أحرارا، وأن يخاصم بعضهم بعضا في حرية مطلقة، لا يتعرضون للرقابة ولا لغضب السلطان أو الاضطهاد، ولكن هذا النوع من الحرية ليس كل ما حاول الإنجليز أن يحققوه للعقل، فهم بعد أن حققوا حرية العقل أمام العقل، وبعد أن حققوا حرية العقل أمام السلطان حاولوا أن يحققوا حرية العقل أمام الجماعة وأمام العرف، أو حاولوا أن يحققوا حرية الأديب أمام البيئة التي يعيش فيها.
فليس يكفي أن يكون الأديب حرا يستطيع أن يفكر كما يريد هو لا كما يريد «أرسطوطاليس»، وليس يكفي أن يفكر ويعلن آراءه دون أن يتعرض لغضب السلطان، بل لا بد أن يكون الأديب حرا يستطيع أن يفكر، وأن يعلن آراءه دون أن يتعرض لسلطان الجماعة ودون أن يلقى من الجماعة عنتا أو أذى، وهنا اضطربت ميول الأدباء.
فإذا كان الفلاسفة الإنجليز قد استطاعوا أن يحرروا الفلسفة، وإذا كان الأدباء الإنجليز قد استطاعوا أن ينتصروا على السلطان السياسي، وأن يكسبوا لأنفسهم حرية التعبير، فهم لم يستطيعوا أن يقهروا سلطان الجماعة وسلطان العرف، وكان أمرهم ثورة مستمرة بينهم وبين الجماعة الإنجليزية.
ذلك لأن الجماعة الإنجليزية تخضع لكثير جدا من المحافظة، وقد قلت لكم في أول هذا الحديث إن المزاج الإنجليزي فيه هذان الأمران المتناقضان؛ فيه الميل إلى الحرية الفردية إلى أبعد حد، وفيه الميل إلى موافقة الجماعة وتحسين الصلة بين الفرد وبينها إلى أبعد حد، ومن هنا نشأ ما يسمونه بالنفاق الإنجليزي، هذا النفاق الذي يفرض على الأفراد إذا لقي بعضهم بعضا في الأندية والمجالس والحياة العامة أن يكونوا مقيدين بقيود عنيفة جدا، ومتأثرين بهذه النزعة التي لا يصح الانحراف عنها بحال من الأحوال مهما تكون الظروف في الحركات والألفاظ، وفيما يمكن أن يكون من الأوضاع الاجتماعية المختلفة، وهم في أثناء تقييدهم بهذه القيود إذا خلوا إلى أنفسهم يستمتعون بأعظم حظ ممكن من الحرية .
ومن هنا لقي الكثير من الأدباء الفرنسيين شيئا غير قليل من الشطط، وأحسوا شيئا غير قليل من الغرابة عندما ذهبوا إلى بلاد الإنجليز؛ لأنهم لم يصادفوا في بلاد الإنجليز ما تعودوا في بلادهم من هذه الحرية الاجتماعية التي يحرص الفرنسيون عليها قبل كل شيء، «فروسو» مثلا أنكر حياته في بريطانيا العظمى إنكارا شديدا؛ لأنه كان حريصا على أن يتكلم كما يريد في الاجتماعات، وأظنكم قد سمعتم أن «روسو» كان مسرفا في هذه الحرية، وأنه في بعض الولائم جعل يتحدث عن مرضه وكان مريضا بالمعدة، فلم تكد سيدة البيت تسمعه يتحدث عن مرضه حتى تركت المائدة وانصرفت.
وهذا الحرص على المحافظة الاجتماعية مع الحرص على الحرية الفردية كان مصدر اصطدام عنيف بين أدباء الإنجليز وبين الجماعة الإنجليزية، وربما كان من أهم ما يحبب الأديب الإنجليزي إلى كثير من قرائه هذا النوع من الاصطدام وهذا النوع من الحذر بين الأفراد والجماعة في إنتاج الأدب الإنجليزي.
فالكاتب الإنجليزي «سويفث» حريص أشد الحرص على حريته، وثائر أشد الثورة على النظام الاجتماعي، وهو من أجل هذا يقول ما يريد، ويفكر كما يحب، ويعلن آراءه في صراحة، وينشر هذه الآراء مهما يكن رضاء الناس عنه أو سخط الناس عليه، وهو في علاقته الاجتماعية ثائر على النظم، يتكلف هذه الثورة ويتعمدها مهما تكن النتيجة، وهو قابل لما تنتجه هذه الثورة من سخط الناس عليه، وهو ينتهي إلى أن يخيف الناس منه؛ لأنه متمرد ويصل بهذا التمرد إلى أبعد حد ممكن، ولكن شاعر آخر مثل بيرون يخرج على هذا النظام، ويخرج عليه في آرائه وفي حياته العملية، وفي آثاره الأدبية والفنية، يقاومه المجتمع ويقاوم هو المجتمع، ولكن ينتهي الأمر بأن يقهره المجتمع، وإذا هو مضطر إلى أن يغادر بلاد الإنجليز؛ لأنه لا يستطيع أن يخضع للنظم الاجتماعية والتقليدية.
كل هذه الملاحظات ليست إلا شيئا يسيرا جدا مما كنت أحب أن أتحدث إليكم به عن الثقافة الإنجليزية، ومن هذه الملاحظات نستطيع أن نستنتج: أن الإنجليز بمزاجهم الخاص من جهة ، وبتأثرهم بالثقافة القديمة كما تأثر بها غيرهم من الأمم الأوروبية من جهة ثانية، وباتصالهم بالأمم الأخرى وتأثرهم بالثقافة الأوروبية الحديثة من جهة ثالثة، قد استطاعوا أن يكونوا لأنفسهم ثقافة خاصة لها طابعها الإنجليزي الخاص، وأخص ما تمتاز به هذه الثقافة هو هذا الذي حدثتكم عنه طابع الحرية، الحرية الفلسفية؛ أي: حرية العقل أمام العقل، وحرية العقل أمام السياسة والسلطان وحرية العقل أمام العرف الاجتماعي.
هذه الثقافة الإنجليزية التي طبعت بهذا الطابع الخاص لم يقتصر تأثيرها على الأمة الإنجليزية وحدها، بل أخص ما تمتاز به بعد هذه الصفة التي ذكرتها لكم أنها ثقافة قد حببت إلى نفوس الأوروبيين في القرن السابع عشر وفي القرن الثامن عشر بنوع خاص؛ ذلك لأنها ثقافة حرة لم يعرفها الأوروبيون.
Unknown page