Hayat Wa Haraka Fikriyya Fi Britania
الحياة والحركة الفكرية في بريطانيا
Genres
أثر الرياضة البدنية في تكوين الخلق
الثقافة الإنجليزية وأثرها في تقدم العالم
مساهمة العلماء البريطانيين في تقدم العلوم
النظم البرلمانية في بريطانيا
أثر الرياضة البدنية في تكوين الخلق
الثقافة الإنجليزية وأثرها في تقدم العالم
مساهمة العلماء البريطانيين في تقدم العلوم
النظم البرلمانية في بريطانيا
الحياة والحركة الفكرية في بريطانيا
الحياة والحركة الفكرية في بريطانيا
Unknown page
تأليف
طه حسين وأحمد محمد حسنين باشا وعلي مصطفى مشرفة وحافظ عفيفي
المجموعة الأولى للمحاضرات العربية التي نظمها الاتحاد المصري الإنجليزي بقاعة الجمعية الجغرافية الملكية، وألقاها حضرات أصحاب المعالي والسعادة والعزة: أحمد محمد حسنين باشا - الدكتور طه حسين بك - الدكتور علي مصطفى مشرفة بك - الدكتور حافظ عفيفي باشا.
أثر الرياضة البدنية في تكوين الخلق
لحضرة صاحب المعالي أحمد محمد حسنين باشا
أيها السادة
كان مزمعا أن ألتقي بحضراتكم في هذا الحرم العلمي في يوم من أيام الشهر المقبل؛ لأكون آخر متحدث في موسم الاتحاد الإنجليزي المصري الثقافي لهذا العام، غير أن الاتحاد شاء أن يجعلني أول من يفتتح برنامج محاضراته، وبهذا قصر علي الطريق، فما بقي لي الوقت الذي يستلزمه بحث موضوع عميق كهذا البحث، فإن رأيتم أن حديثي اليوم غير موفى، وأنه ظاهرة فيه العجلة وأنه مجرد خطوط وحدود أكثر مما هو جوهر ولباب؛ فمعذرة كريمة.
وأرى لزاما علي قبل أن ألقي كلمتي هذه أن أشكر هيئة الاتحاد الموقرة أجزل الشكر؛ إذ أتاحت لي هذه الفرصة السعيدة، فرصة التحدث إليكم في الرياضة والأخلاق، لعل في هذا الحديث بعض فوائد ينتفع بها شباب مصر الناهضة، وخاصة في مثل هذا الظرف الدقيق الذي تجتازه بلادنا التاريخية العزيزة، والذي نشهد فيه عن بعد وقرب براكين الحرب تتفجر فوق بقاع الأرض، تتنقل حممها المستعرة من ميدان إلى ميدان، والذي نستطيع أن نقف منه على مدى ما يمكن لذلك السلاح المستتر وراء السيف والمدفع أن يؤدي من واجبات وفروض، وأعني بهذا السلاح، وهو عندي أقوى الأسلحة وأمضاها، الأخلاق.
ولست بمطيل الكلام في موضوع بديهي وليس منكم من يجهله، ألا وهو شأن الأخلاق في بناء الأمم، وأثرها في تدعيم أركانها وتشييد مجدها، فذلك أمر معروف سجله التاريخ في صحفه، ولم يعد يحتاج إلى بيان.
ولقد عمد علماء الأخلاق والاجتماع والفلاسفة إلى التنافس في وضع الكتب الخاصة بالأخلاق، ونشرها بين أبناء أجيالهم، وتحايلوا على استنباط أسهل الطرق التي تؤدي إلى أن يفيد النشء بها ويتأثر.
Unknown page
وراقت هذه الموضوعات رجال التربية والتعليم، فسارعوا إلى تضمينها برامج التثقيف في المدارس على أنها عنصر رئيسي في مناهج التعليم المدرسي يبذل الأساتذة جهدهم في بث هذه النظريات في أنفس أبنائهم، وغرس أصولها في عقولهم من طرق شتى.
التمسوا في سبيل ذلك الكتب الملأى بالنصائح والمثل العليا، والمؤلفات الفياضة بالقصص التاريخية والخيالية، والمصنفات المحتوية رسالة الكتب السماوية في الأخلاق، ملتمسة في ذلك الحض والترغيب تارة، والوعيد والتخويف تارة أخرى.
وكان الرأي الأساسي في هذا الموضوع أن يزود النشء بهذه الدروس النظرية الأخلاقية؛ حتى إذا أكمل الفتى دراسته وأوشك أن يدخل ميدان الحياة، أفاد مما تلقن من هذه الدراسات العقلية، واستطاع أن يطبقهما على شئون الحياة تطبيقا عمليا.
جاء الإنجليز أيها السادة آخر الأمر، وكانوا قد أخذوا بما أخذت به مدارس غيرهم من البلاد، متبعين نفس الطريق، طريق الكتاب والمدرس في تلقين أصول الأخلاق للنشء، جاء الإنجليز وهم قوم عمليون طبعوا على تبسيط الطرق ليسهل إدراك الغايات، وفاجئوا العالم المتمدن باكتشاف جديد في هذا الموضوع، اكتشاف ما أكاد أسميه علما جديدا، وما يسميه آخرون فتحا جديدا في عالم التربية القومية، ذلك هو تطبيق أصول الأخلاق منذ الصغر تطبيقا عمليا على شئون الحياة، متخذين من ميدان الألعاب الرياضية الحقل التجريبي لهذا الإعداد النفسي الشاق.
ولقد هداهم إلى هذا الاكتشاف أمران:
أولهما:
قلة ما رأوا من فوائد إيجابية للدراسات الأخلاقية النظرية، فالآخذ بها يكاد ينساها عندما يصدم بالصخرة الأولى من صخور الحياة.
ثانيهما:
أن نفس النشء الصغير لينة كقطعة العجين صالحة أيما صلاح للتأثر، وهي في تلك السن المبكرة بكل ما يراد لها أن تتأثر له وللتشكل على كل ما يحب لها أن تتشكل عليه، فإن أنت أردتها شيطانا فهي شيطان، وإن أنت أحببت أن تكون ملكا فهي ملك.
آثر الإنجليز إذن أن تدرس الأخلاق دراسة عملية منذ الصغر، واتخذوا ميدان الألعاب الرياضية ليكون الحقل التدريبي لهذه الدراسة الأخلاقية، وبذلك اختصروا طريقا طويلة ووفروا سنين عدة، ومكنوا لأبنائهم إذا خرجوا من أبواب المدارس ليدخلوا أبواب الحياة أن يكونوا مزودين سلفا بالسلاح الذي يخوضون به غمار الحياة، سلاح الأخلاق، وهو - كما قلت - أقوى الأسلحة وأمضاها.
Unknown page
لننتقل الآن أيها السادة إلى ميادين الألعاب؛ لنرى أولا ماذا يفيد منها اللاعب، ولنرى ثانيا كيف أنها تمثل في صورة مصغرة ميادين هذه الحياة.
ها نحن أولاء نرى بين أيدينا طريقين للألعاب عن طريق الألعاب الفردية وطريق ألعاب الجماعة، فالميدان الأول - ميدان الألعاب الفردية - وأعني بها الألعاب التي يواجه فيها اللاعب الفرد خصما واحدا، هذه الألعاب تروض اللاعب على الشجاعة والصبر، وبذل الجهد، والجرأة، واستخدام الفكر، وحسن التصرف، وتجنب اليأس إذا غلب، والتواضع حين ينتصر، والاعتماد على النفس، وخلق الأمل في الصدر، ثم إنكم ترون - أيها السادة - كيف يتعلم الفرد - في هذا الميدان - أقدس الواجبات الاجتماعية التي ترسم له حدود خصمه، وتعلمه أنه خصم شريف وليس عدوا، فهو إذا وقع في أثناء اللعب أنهضه، وإذا جرح ضمده، وإذا انتصر عليه صافحه بقلب صاف لا يعرف الضغن ولا الشماتة.
إذا رأيتم أيها السادة كل هذه الأخلاق الفاضلة تنبت وتزدهر وتقطف ناضجة في الحقل الرياضي؛ فاذكروا أن ثمة صفات عالية أخرى مختفية وراء جدران الملعب الرياضي، وأن أثرها في خلق الرجولة المبكرة لا يقل عن أثر الأخلاق التي لمستموها في شيء، وأعني بهذه الصفات ما يتطبع بها النشء تطبعا من تلقاء نفسه في أثناء تحضيره لألعابه، إنه ليروض نفسه على الحد من رغباتها، والتسكين من قلقها، والكبح من شهواتها، والتضحية بما تنزع إليه من ملذات وصبوات.
ترون أيها السادة أن كل خلق من هذه الأخلاق وكل صفة من تلك الصفات إنما هي هي بعينها الأخلاق والصفات التي ينشدها المجتمع في المثل الإنساني الكامل، فإذا ما مرن عليها اللاعب وهو صغير، وتأثرت بها نفسه وهي لينة، وفهم روحها منذ حداثته، وأحاطت به جوانبها وهو بعد في سن مبكرة؛ لم يعد ثمة شك في أن يصبح هذا اللاعب حين يكبر الرجل الكامل المرتجى، ولن يتغير منه خلق ولا صفة وهو ماض في طريق الحياة، فهي ثابتة في نفسه متمكنة من طبعه، إنما الذي يتغير هو محيط حياته فقط، ولن يكون في نظره سوى الميدان الرياضي القديم اتسعت أرجاؤه وتشعبت نواحيه.
ذلك - أيها السادة - ميدان الألعاب الفردية.
فلننتقل بعد ذلك إلى ميدان ألعاب الفرق أو ألعاب الجماعة، ولنر مرة أخرى ما يفيد منها اللاعب، ومدى آثارها في تكوين الخلق.
ويجب ألا يغيب عنا - قبل كل شيء - أن كل ما يتأثر به اللاعب الفردي إنما هو متوافر للاعب الجماعة، ثم ماذا تكون ألعاب الجماعة؟ إن هذه الألعاب حركة مشتركة وأداء مشتبك وعمل واحد، وإذن فمثل هذا النوع من اللعب عبارة عن تنظيم دقيق لعلاقة اللاعب بفريقه، كما أنه تنظيم دقيق لعلاقة اللاعب بخصمه، وفي هذا الميدان ينمحي الفرد أمام الفريق، وينمحي الفريق أمام الغاية الكبرى من اللعب، ولكن ليس معنى ذلك فناء الشخصيات اللاعبة، بل إن معناه تحديد عمل هذه الشخصية وتنظيم خطاها وتعيين وظيفتها، فاللعب المنظم يخلق أحسن الفرص، ويهيئ أنسب الظروف لإظهار مقدرة اللاعب؛ ذلك لأنه يجعل عمله ومجهوده مشتبكا اشتباكا وثيقا مع عمل فريقه ومجهوده.
وهكذا - في مثل هذا الميدان أيها السادة - تنكر الذات كما ترون، وتتحمل المسئولية عن طيب خاطر، وينظم عمل الجماعة بين أفرادها من ناحية، وبينها وبين خصومها من ناحية أخرى، وتشيع روح التضامن القوي، ويتجلى مظهر التعاون الوثيق في أروع الصور.
فلا تعجبوا إذن أيها السادة إذا رأيتم بلاد هذه الإمبراطورية كلها تهب هبة رجل واحد تحمل السلاح دفاعا عن مثلها المشتركة العليا، إنما ذلك وحي الملاعب الرياضية الذي بدأ بالفصل المدرسي، ثم بالمدرسة، ثم بالجامعة، ينبعث في الأيام الشداد، ويأخذ يذكر من جديد بأن التضامن والمسئولية هما الدين القومي لكل بريطاني لزام أن تؤدى فرائضه عند ما يدق ناقوس الخطر.
مع هذا كله لم يترك الإنجليز ميدان اللعب يوجه اللاعب الوجهة التي يراها من غير قيد، ولم يتركوا كذلك للاعب حرية الإفادة من اللعب بلا ضابط، بل إنهم حدوا هذه الحرية بحدود، وفرضوا على الميدان قوانين، وركزوا الألعاب على قواعد، وأحاطوا اللاعبين بقيود أدبية قد تكون في كثير من الأحيان مسرفة في القسوة، وجعلوا عماد ذلك التشريع الفني الأخلاق.
Unknown page
فعلوا ذلك أيها السادة، وبالغوا فيه كما سترون، حتى لقد استهدفوا من أجله لتنديد أكثر البلاد؛ وما ذلك إلا لأن تلك البلاد لم تكن تفهم أول الأمر من أسرار الروح الرياضية ما فهمه الإنجليز، ولعلها فهمته اليوم حق الفهم، وفهمت ضمنا أن هذا الشعب العملي كان على حق حينما عني بالألعاب هذه العناية كلها، وحين أحلها من برامج تعليمه المحل الأول، وحين لم يعتبرها - كما لا يزال يعتبرها كثير من الناس - ميادين لهو مبتذل، وأنها مضيعة للوقت، ومعينة على بلادة الذهن، بل ومفسدة للأخلاق أيضا.
ولنر الآن ما هي تلك القيود والقوانين التي شرعتها التقاليد الرياضية الإنجليزية، وأحاطت بها الميادين واللاعبين، ولست بذاكر نصوصا ولا مواد، بل إني سأسوق بعض حوادث وقع شيء منها لي، وشيء لغيري، وأشياء عامة أخرى، وأرجو أن يكون فيها غناء، وأن تستخلصوا منها مدى تقدير القوم لهذه الألعاب تقديرا يتسامى إلى مقام التقديس.
فقد حدث أني لما كنت ملتحقا بالفريق الثاني لكرة القدم بكليتي «أكسفورد» أن استقرت الكرة يوما بين قدمي وأنا قريب من المرمى، فأوعز إلي رئيس الفرقة ألا أمس الكرة وأن أدعها لزميلي الذي كان عن يميني، فلم أفعل وصوبت الكرة نحو المرمى، ولكنها لم تصب الهدف، وفي أثناء الراحة أقبل رئيس الفرقة علي، وأخبرني أني أخطأت في عدم الاستماع إليه، ولفتني إلى ألا أخالف أمره مرة أخرى، واتفق في أثناء الشوط الثاني أن استقرت الكرة ثانية بين قدمي في اللحظة التي كنت فيها أواجه الهدف، فأوعز إلي الرئيس - كما فعل أول مرة - أن أتركها لزميل آخر، فلم أستمع لرأيه، وضربت الكرة ضربة موفقة فأصابت الهدف، وفرحت أيما فرح - وكنت إذ ذاك مرشحا لأن أنتقل من الفريق الثاني إلى الفريق الأول للكلية - وقدرت أني لا شك مدرك هذه الترقية، وخاصة بعد أن أصبت الهدف ونصرت فريقي، ولكن شد ما كان عجبي واندهاشي حينما ناداني الرئيس بعد انتهاء اللعب، وأخبرني أنه يأسف أولا لعدم إطاعتي للأمر في كلتا الحالتين، ويأسف ثانيا لأنه يرى نفسه مضطرا للاستغناء عني حتى في الفريق الثاني، فجادلته محتجا بأني في المرة الثانية أصبت الهدف، وبفضلي انتصر الفريق، فقال لي بصوت هادئ متزن: «قد يكون الانتصار رغبتنا الشديدة في اللعب، ولكن قبل ذلك يجيء النظام.»
وحدث في أثناء المباريات الأوليمبية التي أقيمت بمدينة استكهولم سنة 1916 أن كان بين أفراد فريق للألعاب الرياضية عداء ماهر ملأت شهرته الأسماع، وأبهر الصحف لما أبدى في فنه من تفوق بعد تفوق، وكان مزمعا بالطبع أن تشترك الفرقة في المباراة الدولية، وكان مقدرا كذلك أن يأتي هذا العداء بنتائج ترفع من شأن فرقته وبلاده، وكان محتما على أعضاء هذا الفريق أن يكونوا في مخادعهم في تمام الساعة العاشرة ليلا، ولكن لأمر ما تأخر هذا العداء في إحدى الليالي نصف ساعة عن الموعد المقرر للنوم، فما كان من رئيس الفرقة إلا أن أعاده فورا إلا بلاده على ظهر أول باخرة أبحرت إليها.
ولعلكم تعلمون أيها السادة أن طالب العلم في جامعة أكسفورد أو كمبردج؛ ليعتز جد الاعتزاز إذا ما اختارته جامعته ليمثلها في لعبة من الألعاب الرياضية، وليس من عجب أن يخالجه، وهو الذي يمثل نحوا من ثلاثة آلاف طالب أو يزيد، شعور خفي ببطولته الرياضية لتفوقه في هذه اللعبة على أقرانه أجمعين، ولكن هذا الانتخاب الإجماعي لا يكفي لتمتع الطالب بشرف المباراة إذا أعوزه جانب ظاهر أو خفي من جوانب الرجولة الحقة، ولا يتردد المسئولون عن الأمر عن التضحية به والتخلية بينه وبين النزول إلى ميدان اللعب مهما كان تفوقه الرياضي والثقة التامة بانتصاره.
فلقد حدث يوما في جامعة أكسفورد أن كان أحد الطلاب مرشحا لتمثيل جامعته في لعبة الكركت، ولم يشك أحد منا في أن لهذا الطالب زميلا منافسا أو في احتمال استبداله بآخر لأمر ما؛ نظرا لما كان يمتاز به في هذه اللعبة امتيازا كبيرا، واتفق في أثناء مباراة تجريبية أقيمت قبل اللعب لانتخاب الفريق الذي يمثل الجامعة أن جاء صاحبنا متأخرا بعض الوقت عن بدء اللعب، فقد كان متعبا من جراء سهرة اضطرته إلى أن يطيل في النوم أكثر مما يجب، فما كان من رئيس الفرقة إلا أن نحاه عن اللعب واستبدل به آخر، وكان القانون الذي اعتمد عليه في هذا الحكم الجائر قوله في لهجة حادة: «إذا لم تكن تقدر المسئولية في اللعب التجريبي؛ فلا يمكن أن أعتمد عليك إذا ما كنت ممثلا للجامعة يوما ما.»
انظروا إلى ناحية أخرى في هذا الموضوع أيها السادة، وقعت لي في حلبة السلاح، فقد كنت ألاعب زميلا لي في الجامعة فأصبته إصابة لم يفطن إليها الحكم، فمر بها كريما، فاندهش صاحبي وهمهم في أثناء اللعب وقال: «ولكنك أصبتني»، قلت له: «إن الحكم لم يفطن لما أصبت»، واسترحنا وما كدنا نبدأ الدورة الثانية حتى فتح صدره غير مدافع فأصبته طبعا، فقال: «لقد أخذت حقك، هيا إذن نتم اللعب.»
أيها السادة
ما أشبه ميادين الحياة بميادين الألعاب كما قلت، بل إنها هي بعينها تلك الميادين الرياضية في صورة أوسع وأرجأ وأفسح، وما نحن الرجال في كل ما نضرب فيه ونتحايل وننشط في مناكب الأرض إلا أولئك الصبية أو التلاميذ وهم ينشطون ويتحايلون ويتواثبون في ميادين الألعاب، إن كل ما يعرض لنا في طرق هذه الحياة من شدة ويسر، وضيق وفرج، ونجاح وفشل، إنما عرض لنا يوما في صورة مصغرة في ميادين الألعاب، وإن كل ما أفدناه من تلك الميادين الرياضية من صفات وأخلاق إنما هو تراث معنوي مستقر في أعماق النفس يظهر أثره في الحوادث؛ فيمدنا بالرأي ويلهمنا الحكمة، ويبعث فينا الهمة ويضيء صدورنا بالأمل، ويملأنا ثقة بالمستقبل، ويدفعنا إلى طلب النصر من الطريق الشريف، وإلا فالفشل الشريف أحق وأولى.
قفوا أيها السادة عن كثب من حلقة الملاكمة في جامعة، وتمثلوا قصة هذين المتلاكمين التي أقصها عليكم، لقد كان أحدهما أكفأ من صاحبه، ولقد أثقل الأكفأ على زميله في الشوط الأول، ونال منه في الشوط الثاني، فأسر إلى مدربه بقوله إنه لا يستطيع المضي في مقاومة خصمه، فقال له مدربه: «تحمل واستمر»، وجاء الشوط الثالث، ولكن خصمه القوي لكمه لكمة أوقعته على الأرض يتوجع، فنظر إلى مدربه نظرة يرجو منه فيها أن يعفيه من مواصلة اللعب فحسبه ما ألم به، وهنا أهاب المدرب بصوت عال: «اصمد له واستمر»، فما كان منه إلا أن نهض مستجمعا كل ما له من قوة، ولكم خصمه لكمة خر من أثرها على الأرض واستسلم، وبذلك انتصر اللاعب الأقل كفاءة بفضل تلك المعجزة النفسية.
Unknown page
مضت بعد ذلك السنون أيها السادة وتركنا الجامعة، وشبت الحرب وانتهت، واتفق أن قابلت ذلك الملاكم المنتصر في أحد شوارع لندن، وسألته عن أمره، فقال إنه انخرط في الجيش وسرح بعد أن خمدت الحرب، وكان أبوه قد أضاع كل ما كان يملك، وتعطل فلا رزق ولا مال، وأظلمت الدنيا في عينيه، ووطن نفسه بعد أن باع كل ما كان يملك على أن يبدأ حياة جديدة في إحدى المستعمرات، غير أن نظره وقع عفوا ذات يوم على صورة له ومدربه القديم بمكتبه، فتذكر من فوره صيحته له «أن اصمد له واستمر»، وكأنها على حد تعبيره هاتف سماوي يسخر من النفوس المستضعفة، فسرعان ما صمد للحوادث، وما لبث بعد ذلك أن وفق إلى عمل وفقه إليه عزمه وأمله وصبره ومثابرته.
وكم من ليال قضيتها في الصحراء - أيها السادة - وأنا مسهد الجفن، شارد الذهن، حيران لا أدري ماذا أصنع، فهناك حين تبعث إلي الصحراء من جوفها المجهول العاصفة السافية، فتنهد خيمتي وتتعطل أدواتي العلمية، وينضب الماء وينفق الجمل في إثر الجمل، ويسأل الدليل أين نحن؟ فيقول - وهو كالحالم - الله أعلم، هناك حين تنمحي معالم الطريق، ونكاد ننتهي في كل خطوة إلى قبر، وأسمع همهمة من رجال القافلة، هي ولا شك تذمر مكبوت مما تعاني صدورهم من ضيق في هذا المنبسط الرملي الغامض، وتخور قواي ويأخذ مني التعب، فلا أستطيع أن أنقل قدما بعد قدم، وأشعر بأن هذا الفراغ المصفر الفسيح قد استحال إلى طوق حديدي صغير، أخذ يحتوي رقبتي ويضيق عليها شيئا فشيئا، هنالك في أمثال هذه اللحظات، وهي مفارق يسيرة بين حياة مشكوك فيها وموت محقق، هنالك كنت أنتقل من فوق الرمال إلى ملاعبي الرياضية القديمة، وأسكن ساعة إلى ذكريات عزيزة، فأراني قد وقفت من أزمات مواقف تشبه من وجوه موقفي في ذلك القفر الموحش اللانهائي، وأراني قد تغلبت عليها في النهاية وانتصرت، بماذا؟ بالصبر - أيها السادة - والتحمل، وضبط النفس، وهدوء الأعصاب؛ حتى لا يختل تقديري ويشط فكري، فسرعان ما ألمح قبس الأمل يختلج بين عيني، وما ألبث أن أجمع زمامي وأتغلب على ما يعرض لي من صعاب، وأرى القافلة تستأنف مسيرها على هدى، وأرى رجالي وقد سرى إليهم المرح فانطلقوا يغنون ويتضاحكون.
هناك أثر آخر من آثار الرياضة في النفس، وغلبتها على طبيعة الإنسان، حتى في وقت الخطر، فقد حدث عندما أردت أن أهبط مصر طائرا أن انكسرت بي الطائرة في بدء الرحلة، فأصلحتها ومضيت بها، فسقطت في إيطاليا وتحطمت، ثم حلقت في طائرة جديدة أخرى، فسقطت في مياه صقلية، واستخدمت طائرة ثالثة كان من حظها أن سقطت هي أيضا، وعدت إلى مصر على غير متن الهواء؛ لأن رغبة ملكية كريمة اقتضت ذلك، ترون أن الفشل المتلاحق والتعرض لشر الأخطار لم يكونا أبدا ليثنياني عن عزمي، ولعل سر هذا الشعور الغريب ملاحظة عابرة كان أبداها لي أستاذ الرياضة بجامعتي في أثناء مباراة الهوكي، وقد غلب فريقنا ب 11 جولا ل 3، ولما ذهبت إليه أبين له عبث الاستمرار في اللعب، ولا سيما بعد أن أخذ المطر ينهمر، قال لي وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة: «تفضل، وأتم أنت وزملاؤك اللعب إلى النهاية، وهذا ما أتيتم لأجله اليوم.»
هذه الجملة أيها السادة هي التي كنت أسمع دويها في أذني بعد أن غادرت إنجلترا بسنين، وهي التي يرجع إليها فضل مواجهتي الموت غير مرة كما ذكرت.
أيها السادة
لئن كان من الميسور أن أبين لحضراتكم في مثل ذلك الوقت المحدود أثر الروح الرياضية في تكوين الأخلاق، فإنه من الصعب أن أبين هذا الأثر في نفسية الشعوب وسائر الأمم، أما الآن وهذه الحرب قد شبت، وحدث من شئونها ما حدث، ووقع من ويلاتها ما وقع، وكان من صروفها ما لم يكن يخطر لأحد منا على بال، فإن أمامكم أكبر مثل وأروعه يطالع التاريخ به العالم حين يسجل موقف هذه البلاد منها، ذلك الموقف الذي لم تكن إنجلترا مدينة فيه لصفحات الكتب ولا لمنابر الخطابة، ولكن لميادين الألعاب الرياضية.
اضطرت إنجلترا إلى خوض غمار الحرب - كما تعرفون - وهي غير مستعدة لها، ولكنها حين رأت الواجب يقضي عليها بتجريد السلاح بعد عشرين عاما من حرب طاحنة عانت فيها ما عانت، ودفعت من الثمن المبهظ ما دفعت، مضت تتحمل التبعة غير ضجرة، ونهض الشعب كله، بل وشعوب الإمبراطورية جميعا نهضة رجل واحد، كل فرد رجلا كان أو امرأة، شيخا كان أو صبيا، يسعى في صمت للأخذ بنصيبه وأداء واجبه.
وهكذا الشعوب أيها السادة تردد صدى ميادين ألعابها، فإذا رأيتم لاعبا في أمة من الأمم قد استأثر بالكرة مثلا، ملتمسا إعجاب الجمهور به وتصفيقه له، فثقوا أنه إذا كبر ودخل ميادين المجتمع فسيكون فيها كما كان في ميدان اللعب، سيكون الفرد الذي يؤثر نفسه على الجماعة، ويضحي في سبيل أنانيته بكل مثل من المثل العليا.
وإذا وجدتم لاعبا في ملعب من الملاعب يتهرب من المسئولية، ويلقيها على زميل له، ويحتكم إلى الجمهور بطريقة من الطرق مبتغيا أن يكبره وينتصر له، فاذكروا أنه بمثل هذه الأخلاق سيعيش في المجتمع.
واذكروا كذلك أيها السادة أن أمة يرضيها أن تسود الفوضى فيها ميادين الألعاب، ويتنصل أبناؤها من التبعات بسهولة لهي في الواقع أمة منحلة العرى مفككة الروابط.
Unknown page
الأمم مرايا ميادين ألعابها، والشعوب تمثل في حياتها أخلاق لاعبي الرياضة من بنيها.
لا عجب إذن أن نرى الإنجليز وهم يسيرون إلى ميادين الحرب، وعلى كل شفة ابتسامة وكل وجه آية الرضا، وكل لسان نكتة ذات معنى.
إن أغرب ما سمع العالم اليوم عن البلاد المتحاربة ما سمع عن مبلغ الاستخفاف الذي يبديه الإنجليز بويلات الحرب وكوارثها، فلقد علقت أندية الجولف بجدرانها نشرات تبين القواعد الجديدة التي أدخلت على هذه اللعبة، متمشية في ذلك مع ظروف الحرب الراهنة، كأنما هي إجابة غاية في التهكم المر على ما تحدثه الطائرات المغيرة بالبلاد من تخريب وتدمير.
استمعوا أيها السادة إلى بعض تلك القواعد الجديدة:
أولا:
المرجو من الأعضاء أن يضعوا جانبا شظايا القنابل إذا ما وجدوها في طريقهم؛ لكي يسهلوا بذلك عمل البستاني في تعهد الخضرة.
ثانيا:
إذا ما ألقيت قنبلة في ملعب الجولف وأحدثت حفرة اعتبرت هذه الحفرة كالحفر الصناعية الموجودة بالنادي، ويسري على اللاعبين القوانين التي تسري على حفر النادي الأصلية.
ثالثا:
إذا ما هم لاعب بضرب الكرة، ودوى صوت قنبلة طائرة معادية، أو سمع صوت قذيفة مدفع مضاد للطائرات فشغله هذا الصوت أو ذاك عن إحكام ضرب الكرة، فللاعب الحق في أن يعيد ضربها، ولكنه يخسر نقطة، ولعل هذه العقوبة جزاء له؛ لأنه سمح لنفسه أن تضطرب ولو بأثر أدوات الموت في الوقت الذي يؤدي فيه عمل مقدس.
Unknown page
وتذكر هذه المسألة بقصة شبيهة لها من بعض الوجوه، فقد كانت بارجة إنجليزية تجوب أنحاء البحر، وكان ربانها قد أمر بإقامة مباراة بعد الظهر لبعض الألعاب، واتفق أن ظهرت بعد ذلك بوارج للعدو، ورئي أن لا مناص من موقعة هائلة بعد قليل، فتقدم خادم القبطان إلى سيده، وهو في غاية من الهدوء، وحياه التحية العسكرية وسأله: «متى يرى سيدي أن تقام المباراة؟ أقبل الموقعة أم بعدها؟»
أيها السادة
بمثل هذه الروح العظيمة المستمدة من ميادين الألعاب الرياضية يعيش هذا الشعب، ويحافظ على إمبراطوريته المترامية الأطراف.
والآن وقد حدثتكم عن الرياضة وأثرها في تكوين الخلق، أتوجه إليكم يا شباب مصر لا بحض على أن تذهبوا للملاعب، فأنتم تذهبون إليها، وإنما أتوجه برجاء شديد أن تذهبوا إلى هذه الملاعب وأنتم صادقو النية في الأخذ بهذين القانونين من قوانين الرياضة، وهما ما يقولون عنهما:
أي: اللعب حتى نهاية الشوط، واللعب العادل الشريف، وأن تجعلوا أيها الشبان من أهداف ملاعبكم رمزا لأهدافكم الوطنية، اذكروا أنكم تعدون أنفسكم اليوم للمستقبل، واذكروا أنكم ستقفون غدا في الملعب العالمي حراسا أوفياء على مجد الوطن، والله أسأل أن يجعلكم خيرا منا وأكثر توفيقا.
الثقافة الإنجليزية وأثرها في تقدم العالم
لحضرة صاحب العزة الدكتور طه حسين بك
سيداتي وسادتي
من الموضوعات التي يتناولها الناس في المحاضرات ما لا يمكن التعمق فيها؛ لأنها أوسع وأخطر من أن يتناولها المحاضر في ساعة أو ساعات؛ ولأنها أوسع وأخطر من أن يتناولها المؤلف في كتاب يتألف من جزء أو جزئين، فالمحاضر إذن مضطر إلى أن يمس هذه الموضوعات مسا رفيقا، وأن يدور حولها أكثر من أن يهاجمها ويتعمق فيها، والموضوع الذي طلب إلي أن أتحدث إليكم فيه الليلة من هذه الموضوعات.
فالثقافة البريطانية شيء لا يمكن أن يحاط به في حديث أو أحاديث، ويكفي أن نلاحظ أن الثقافة البريطانية الحديثة في هذا العصر الحديث إنما هي مجموعة ما أنتجه العقل الإنجليزي في القرون الأربعة منذ القرن السادس عشر إلى الآن، ويكفي أن نلاحظ أن كثيرا جدا من الذين اشتركوا في تكوين هذه الثقافة من الأدباء والعلماء والفلاسفة وأصحاب الفن، وقد كان موضوعات الكتب ضخمة مطولة، مفضلا عن أن يكون موضوعات الأحاديث كثيرا ما يمكن أن تكون في ساعة أو ساعات، فلا تنتظروا مني إذن أن أتحدث إليكم في هذه الليلة حديثا عميقا عن الثقافة البريطانية وعن مكانتها في الثقافة العالمية، وإنما انتظروا مني أن أخصص لكم بعض الصفات التي يمكن أن تمتاز بها هذه الثقافة الإنجليزية من الثقافات الأخرى الأوروبية، وبعض الصفات التي مكنت هذه الثقافة من أن يكون لها مكان ممتاز في الثقافات الأوروبية المختلفة.
Unknown page
وهناك خطأ لا بد من أن نتفق على إصلاحه واجتنابه، فقد يظن بعض الناس أن هناك أمما تستطيع أن تعطي دون أن تحتاج إلى أن تأخذ، فهي مؤثرة في الثقافات الأخرى، وهي غير متأثرة بهذه الثقافات، وهذه الأمة لم توجد بعد ولا ينتظر أن توجد، والحياة العقلية شيء متبادل بين الأمم، كما أنه شيء متبادل بين الأفراد، فكما أن الفرد لا يستطيع أن يعطي ولا أن يفيد الحياة العقلية إلا إذا أخذ هو واستفاد من حياة غيره العقلية، فالأمم كذلك لا تستطيع أن تعطي إلا إذا أخذت.
فإذا تحدث محدث عن الثقافة الإنجليزية وعن أثرها في الثقافات الأخرى، فلا بد له من أن يفكر قبل هذا في الثقافة الإنجليزية من حيث إنها ثقافة قد تأثرت بثقافة الأمم الأخرى، وليس من شك في أن الأمة الإنجليزية قد تأثرت في عصر النهضة بما تأثرت به الأمم الأوروبية المختلفة من هذه الثقافة القديمة، الثقافة اليونانية والثقافة اللاتينية، وكلكم يعرف أن الحياة الأوروبية الحديثة إنما هي نتيجة لهذه الثقافة اليونانية واللاتينية التي بعثت من نومها في القرن الخامس عشر وفي القرن السادس عشر بعد المسيح، وكلكم يعرف أن أول هذه النهضة إنما كانت في إيطاليا، ثم انتقلت النهضة من إيطاليا إلى غيرها من الأقطار الأوروبية.
وفي هذا العصر - عصر النهضة - كانت السيادة العلمية أو العقلية منذ القرن السادس عشر بنوع خاص مقسمة تقريبا بين أمتين تنازعتاها تنازعا شديدا، وتعاونتا عليها تعاونا تاما، هما الأمة الفرنسية والأمة البريطانية، وكانت الأمم الأوروبية الأخرى تأخذ من هذه النهضة - نهضة الثقافة القديمة - بحظوظ مختلفة تختلف قوة وضعفا، ولكن الثقافة في القرن السادس عشر كانت في هاتين الأمتين، الأمة الفرنسية والأمة الإنجليزية، ولم تكن هناك حدود ولا حواجز بين الأمم الأوروبية في المسائل الثقافية في ذلك الوقت؛ لأن نظم الحكم لم تكن قد بلغت من الشدة والعنف ما بلغته في القرن السابع عشر أو القرن الثامن عشر؛ لأن فكرة الوطنية وافتراق الأمم في هذه الفكرة، وحرص الأمم على أن تكون لكل منها وطنيتها الخاصة واستقلالها الخاص، هذا الحرص لم يكن قد عظم بعد، وإنما كانت هذه الأمم الأوروبية قد خرجت شيئا فشيئا من النظام القديم الذي كان معروفا في القرون الوسطى، وأخذت الوطنيات تنشأ، ولكن ظلت هذه الأمم محتفظة بشيء كثير من التسامح واليسر، وكانت متأثرة بهذه الفكرة العامة، فكرة أوروبا المسيحية أكثر من تأثرها بهذه الأفكار التي جاءت فيما بعد، وهي فكرة الوطنية والحدود الجغرافية الضيقة التي تكون الأمم باستقلال دقيق بالمعنى الصحيح، وأخص ما امتازت به الثقافة التي كانت شائعة في ذلك الوقت في القرن السادس عشر في أوروبا كلها، وفي فرنسا وبريطانيا العظمى بنوع خاص، أخص ما امتازت به هذه الثقافة شيء من الرجوع إلى الحياة اليونانية واللاتينية القديمة، وما كان يميز هذه الحياة من طموح إلى المثل العليا الفلسفية كما صورها أفلاطون وأرسطوطاليس، وإلى المثل العليا في الآداب والفنون كما صورها الأدباء والفنانون من اليونان والرومان.
ومعنى هذا أن هذه النهضة التي تأثرت أحيانا باليونانية واللاتينية قد تأثرت بما كانت تمتاز به هذه الآداب والفنون اليونانية واللاتينية من نزعة حرة إلى الوثنية، أو التي لم تتقيد بما تقيد به الناس حين كانت المسيحية متسلطة على العقول والقلوب وعلى الحياة الخاصة والعامة، وأخذ الناس يشعرون كما كان الشعراء من قبل يشعرون، وأخذوا يحبون الطبيعة ويكلفون بها، ويصورونها كما كان الشعراء اللاتينيون واليونانيون يشعرون ويصورون هذه الطبيعة ويكلفون بها، بل أخذوا يقلدون هؤلاء الناس، اليونان والرومان، يقلدونهم في التفكير، ويقلدونهم في التأثر بالأشياء الواقعة التي تحيط بهم، ثم يقلدونهم في التعبير وفيما يشعرون به، وفيما يجدونه من التأثر بهذه الأشياء التي تحيط بهم، فهم إذا وصفوا الحياة أو وصفوا الألم أو وصفوا اللذة أو وصفوا منظرا من المناظر التي تعجبهم، لم يتخذوا ما كانوا يألفون من عبارات ومن أساليب العرض ما يريدون أن يصفوا، إنما يتخذون ما كان يألفه اليونان والرومان، ويخضعون اللغة الفرنسية واللغة الإنجليزية للأساليب أو الأصول التي كان الرومان واليونان يتخذونها إذا تكلموا أو شعروا أو نثروا، ثم هم قد تجاوزوا هذا الحد من التقليد إلى ما هو أبعد منه، فقلدوا حتى في الآراء والأفكار والعادات، وأصبح رأي الفلاسفة والعلماء من القدماء شيئا أساسيا، يتخذونه أصلا للتفكير وأصلا لما يؤلفونه من الكتب، وأصلا في كل ما يحاولونه من التأليف والتعليم، بل من الحياة نفسها، وكذلك يمكن أن يقال إن عصر النهضة في أوروبا وفي فرنسا وإنجلترا بنوع خاص قد كان عصر انحراف عن الدين المسيحي إلى حد بعيد، وقد كان عصر رجوع إلى الوثنية اليونانية في كثير من مظاهره، وفي كثير من المظاهر الأدبية والفنية بنوع خاص.
لذلك اشتد الصراع بين هذه النزعة الجديدة إلى المذاهب القديمة من جهة، وبين المحافظة على الأصول المألوفة لأصول الدين وأصول الحضارة في القرون الوسطى من جهة أخرى، واضطرت الحكومات في فرنسا وفي إنجلترا وغيرهما من البلاد الأوروبية، اضطرت هذه الحكومات إلى أن تقاوم هذه النزعة مقاومة شديدة، حتى كان من العسير أن يؤلف المؤلفون أو ينشروا كتبهم دون أن يحتاجوا إلى من يعينهم ويؤيدهم ويحميهم من بطش الدولة، ومن بطش الذين تقوم الدولة على حمايتهم وعلى تأييدهم من رجال الدين، ولست في حاجة إلى أن أتحدث عما لقي العلماء والأدباء في القرن السادس عشر من الاضطهاد الذي كان يصل أحيانا إلى التحريق فضلا عن التعرض للسجن وكثير من الأخطار التي هي أقل من الموت والسجن، ولست في حاجة إلى أن أتعرض لما لقيته الكتب والمؤلفات والآثار الأدبية التي كانت تنشر في ذلك العصر من عنت المراقبة التي كانت تقوم بها الدولة، والتي كان يقوم بها رجال الدين، فكان هذا شيئا معروفا، وهو يصور الصراع بين نشأة الحياة الأوروبية الحديثة، ومحافظة القرون الوسطى على حضارتها التي أخذت تتقهقر أمام الحضارة اليونانية واللاتينية القديمة.
وفي ذلك العصر كانت فرنسا وإنجلترا - كما قلت لكم - تتنازعان أو تتقاسمان سيادة الحياة العقلية في أوروبا، ولكن بين طبيعة الأمتين شيئا عظيما من الاختلاف، فطبيعة العقل الفرنسي تميل إلى الاحتياط والاتزان والتقيد بأصول محدودة في القول والعمل والتأثر بالعقل اليوناني القديم إلى أبعد حد ممكن، على حين تختلف الطبيعة البريطانية عن هذه الطبيعة الفرنسية اختلافا شديدا، فهي تميل إلى الحرية، وإلى الحرية الجامحة التي لا تعرف قيدا ولا تتأثر بقانون، والطبيعة الفرنسية تميل إلى التأثر بالحياة الاجتماعية، وبالنظام الاجتماعي الدقيق، وتميل إلى تأثر الفرد بالجماعة، وإلى فناء الفرد في الجماعة إلى حد بعيد جدا، على حين تميل الطبيعة البريطانية إلى شيء آخر ليس هو خروج الفرد على الجماعة، ولكنه ليس في الوقت نفسه إذعان الفرد للجماعة، إنما هو شيء بين ذلك فيه كثير من التناقض، فالفرد الإنجليزي حريص أشد الحرص على شخصيته وعلى وجوده الخاص، وعلى حريته فيما بينه وبين نفسه، ولكنه في الوقت ذاته حريص على أن تكون حياته في ظاهرها - على أقل تقدير - ملائمة للحياة الاجتماعية العامة، فإذا كان الفرنسي في خضوعه وإذعانه لسلطان الجماعة مخلصا صادقا ملائما بين هذا وبين طبيعته الوطنية، فالبريطاني في خضوعه للجماعة لا يخلو من شيء من النفاق وهو يحافظ على نظام الجماعة؛ لأنه مضطر إلى هذه المحافظة؛ لأنه لا يستطيع أن يعيش إلا إذا كانت الصلة بينه وبين الجماعة مقبولة أو محتملة، ولكنه فيما بينه وبين نفسه حريص على حريته مهما تكن هذه الحرية.
فالاختلاف بين طبيعة الأمتين ظاهر بين ما أنتجه الفرنسيون والإنجليز في الآداب والعلوم والفلسفة في هذا العصر من عصور النهضة، وفي أول العصر الحديث بنوع خاص، فبينما كانت الآثار الأدبية الفرنسية معتدلة وحريصة على ألا تقيد المؤلف إلا بمقدار حرصها على أن تلائم بين ما تنتج على ما فيه من التجديد وبين ما هو قائم من النظام والتقليد من الذي ينتجه الأدباء الإنجليز والعلماء الإنجليز ثائر على المألوف، وثائر على المألوف ثورة عنيفة حقا بحيث إذا أردنا أن نلتمس الآداب والفنون القديمة عند الإنجليز وعند الفرنسيين رأينا هاتين الظاهرتين متناقضتين، وتأثير اليونان في الأمة الفرنسية ظاهر جدا وقوي جدا؛ لأن الأمة الفرنسية التي هي متأثرة بالطبيعة اللاتينية ومتأثرة بطبيعة هذه الحضارة، حضارة البحر الأبيض المتوسط، قريبة في عقلها وشعورها من اليونانية واللاتينية، ولكن التأثر الذي نراه عند الفرنسيين ظاهرا قويا نراه في الوقت نفسه متضائلا في نتائجه من ناحية الحرية.
فرابليه الكاتب الفرنسي في القرن السادس عشر مضطر إلى أن يغير اسمه عندما يريد أن يصدر كتبه التي أخذ يقص فيها قصصه المشهورة، مضطر إلى أن يحرف اسمه حتى يكون بمأمن من العقاب، ومن عقاب رجال الدين؛ لأنه كان من رجال الدين، ومن عقاب رجال السياسة؛ لأنه كان بكتبه هذه يعرض بكثير من رجال الدين والسياسة، فكان يقرر حقائق ربما لم يقرها نظام الدين المسيحي، فهو كان محتاجا إلى أن يحتاط، وإلى أن يتحفظ في إعلان اسمه عندما ينشر كتبه، وإلى أن يتحفظ في تعبيره أيضا كلما أصدر طبعة لكتاب من كتبه ولاحظ مقدار ما يكون لهذا الكتاب من تأثير في القراء، ولاحظ ما يمكن أن يستتبعه هذا الكتاب من رد الفعل، فإذا أعاد طبع الكتاب انتفع بهذه الملاحظات، فلطف ما كان يحتاج إلى التلطيف، وخفف ما يحتاج إلى التخفيف، واجتنب ما استطاع أن يجتنب؛ ليتقي الشر الذي يمكن أن يأتيه من رجال الدين أو رجال السياسة، على حين كان البريطانيون في هذا العصر مندفعين مع أمزجتهم إلى أبعد حد ممكن، فالشعر الذي نتج في هذا العصر والآثار المختلفة التي أنتجوها في هذا العصر، كل هذه الآثار كانت متأثرة بطبيعة الحال باليونانية واللاتينية، لكنها في الوقت نفسه كانت متأثرة بالجموح الطبيعي في المزاج البريطاني بهذه الحرية الواسعة التي يحرص عليها البريطانيون، والتي يبذلون في سبيلها كثيرا من الجهود، من هنا كانت الآداب التي أنتجها الإنجليز أشد تأثرا باليونانية واللاتينية من ناحية الحرية، وأقل تأثرا باليونانية واللاتينية من ناحية المزاج، فالأثر الإنجليزي خاضع لتأثير الآداب اليونانية واللاتينية إلى أبعد حد ممكن؛ لأن المزاج البريطاني حريص على الحرية التي تمكنه من أن يجاري هذا المذهب القديم، ومن هنا كانت الحياة البريطانية حياة ربما كانت أدنى إلى الحرية المطلقة التي لا تعرف حدا ولا قيدا.
وظهر هذا الإنتاج الأدبي عندما جاء القرن السابع عشر، وأخذ الفرنسيون ينتجون آدابهم التي تسمى الآداب الكلاسيكية، وظهر الفرق الهائل بين هذه الحرية الإنجليزية المطلقة التي تنشأ عن مزاج جامح والتي تنشأ على هذا المزاج في وقت قد تعرضت فيه النظم السياسية إلى كثير من الخطر بين هذا الإنتاج الفرنسي الذي يخضع لسلطان العقل المتأثر بالصبغة اليونانية وبالانسجام اليوناني، وبهذه الحدود والقيود التي يفرضها اليونانيون على أنفسهم، فإذا قرأنا قصة من قصص «كرونيل» أو قصة من قصص «راسين»، وحاولنا أن نوازن بينها وبين قصة من قصص «شكسبير» ظهر الفرق بين هاتين القصتين، وسنرى أن الكاتب الفرنسي قد وضع لنفسه نظاما دقيقا محدودا عليه يسير في وضع قصته ولا يتجاوزه بحال من الأحوال، فلا بد مثلا من الوحدة المشهورة؛ وحدة الزمان ووحدة المكان، ولا بد أن يتقيد الكاتب بهذه الوحدة، ولا بد أن يتقيد الكاتب بما يحيط به من خصائص البيئة الفرنسية في ذلك العصر، وبما يحيط به من نظام القصر خاصة.
فالأثر الفرنسي إذن شيء دقيق جدا مقيد، رسمت له خطط لا يستطيع الكاتب أن يتجاوزها، وهو إذا تجاوزها فقد أفسد عمله وعرضه للخطر ولضياع الفن، على حين أننا نأخذ القصة من قصص «شكسبير» فنرى الشاعر قد عمد إلى الموضوع، وأراد أن يصوره، ولكنه لم يقيد نفسه بما قيد الكاتب الفرنسي نفسه من الخطط المرسومة أو الحدود والقيود الضيقة التي لا يتجاوزها ولا يخرج عنها، إنما الكاتب أو الشاعر حر، يعالج موضوعه كما يشاء، ولا يتقيد بوحدة الزمان ولا وحدة المكان، فليس من الضروري أن تقع حوادث القصة في مكان واحد من ابتدائها إلى نهايتها، وليس من الضروري أن تقع حوادث القصة في 24 ساعة، إنما القصة حرة تقع في الوقت الذي تقتضيه، سواء أطال هذا الوقت أم قصر، وتقع في الأماكن التي تقتضيها، فالمسارح أو الملاعب تتغير بمقتضى ما تحتاج إليه القصة من التغيير، فليس من الضروري أن يشهد النظارة مكانا واحدا منذ ابتداء القصة إلى نهايتها، وليس ضروريا للنظارة أن يشعروا بأن هذه القصة تقع في وقت معين، بل وحدة العمل ليست ضرورية، فيجوز أن يكثر الأشخاص جدا، وأن يتعددوا وأن يختلفوا، وأن يناقض بعضهم بعضا في كثير من الأعمال والأقوال، أفهم من هذا أن الكاتب نفسه ليس مقيدا بشيء، ولكنه يمضي في موضوعه كما يحب، ويمضي إليه مسرعا إن رأى الإسراع، ولكن يجوز أن يلقى في طريقه منظرا يقتضيه أن يقف عنده شيئا ما، فيترك الموضوع الأساسي الذي وضع القصة من أجله ويقف عند هذا المنظر الخاص، ويطيل عنده الوقوف، ويطيل عنده الحديث، ويشرك السامعين من النظارة أو القراء الذين لم يشاهدوا القصة ولم يحسوا بها وهم من جميل هذا المنظر، أو مما يثيره هذا المنظر من التأثير مهما يكن هذا التأثير، وهذا الفرق الهائل بين طبيعة المزاج الفرنسي وطبيعة المزاج البريطاني في إنتاج الآداب، وفي التصور الفني في التأثر بالنهضة، أو بما ترك اليونان والرومان من آثار أدبية وفنية.
Unknown page
هذا الفرق الهائل بين طبيعة هذين الشعبين كان له آثار بعيدة جدا فيما نتج لهذين الشعبين من الثقافة، وكان له أثر أبعد من الآداب أو من الآثار الأدبية، وكان له أثر في الحياة العقلية بوجه عام، وإذا أردنا أن نشخص العقل الإنجليزي أثناء القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، فقد نستطيع أن نشخصه بأنه عقل متمرد مندفع إلى الثورة على المألوف بغير تحفظ ولا احتياط.
ومن هنا نستطيع إذا تتبعنا فكرة الحرية في العصر الحديث أن نقول: إن الحرية في العصر الحديث الأوروبي ربما كانت نتيجة للحياة العقلية الإنجليزية أكثر من نتيجة أي حياة عقلية أخرى، ومن أروع الأشياء أن نتتبع تطور فكرة الحرية عند الإنجليز، ولا أريد الحرية السياسية التي كثر فيها القول، ولا أريد ما تستتبعه الحرية السياسية من النظم البرلمانية أو الديمقراطية التي عرف بها الإنجليز، إنما أريد الحياة العقلية الخالصة، وبالطبع يعرف الناس عن إنجلترا أنها موطن النظام البرلماني، وموطن الحرية، وموطن الديمقراطية ، ولكن ربما كان علمهم بهذه النظم البرلمانية، وبما لإنجلترا من تفوق في هذه الناحية، ربما كان علمهم محتاجا إلى أن تكون أكثر تعمقا، وهذا التعمق يتحقق إذا عرفنا مقدار تأثر الإنجليز بفكرة الحرية في حياتهم العقلية، أولا عندما تظهر الثورة على الفلسفة القديمة وعلى فلسفة أرسطوطاليس وعلى النظام العقلي، كما تركه لنا اليونان والرومان والعرب، وهي تظهر عند الإنجليز بفضل «بيكون» الذي يستعرض حياة العقل ويستعرض الفلسفة، ويريد أن يحرر العقل أمام العقل نفسه، ويريد أن يخرج العقل من هذا التأثر الذي طال عليه العهد بقواعد «أرسطوطاليس» وأصوله ونظمه الدقيقة التي خضعت لها القرون الوسطى خضوعا تاما، يريد أن يرد على العقل هذه الحرية التي تمكنه من نقد هذه الفلسفة التي كان الناس مؤمنين بها كما يؤمنون بالدين، يريد أن ينقد هذه الأصول الفلسفية نقدا حرا، وهو من أجل هذا يصل إلى ما تعرفون من وجوب تحرير العقل من الخضوع لهذه الأصنام التي نشأت عن تعدد القواعد والأصول الفلسفية التي تركها أرسطوطاليس بنوع خاص.
فالعقل إذن يجب ألا يتأثر بهذه القواعد التقليدية، ويجب أن يأخذ هذه القواعد واحدة واحدة، فينقدها نقدا حرا صريحا، ويجب ألا يستبقى من هذه القواعد إلا ما يثبت لهذا النقد، فما يثبت له يجب أن يبقى، وما لم يثبت له يجب العدول عنه في حرية وصراحة وفي غير تحفظ ولا احتياط.
ولا يكاد بيكون يصل إلى ما يريد من تحرير العقل مما فرضته القواعد الفلسفية وقواعد أرسطوطاليس بنوع خاص حتى تظهر فكرة أخرى عند الإنجليز تتصل بالحرية العقلية، ولكنها تتجاوز الناحية الفلسفية التي رأيناها إلى ناحية أخرى، فتحرير العقل من القواعد التقليدية يمكنه من أن يفكر تفكيرا صحيحا مستقيما منتجا، وهذا حسن، ولكن ما فائدة الحرية الفكرية إذا لم تنته إلى حرية التعبير؟ فحرية العقل أمام الدولة إذن يجب أن تتحقق من طريقين أو يجب أن يكون تحقيقها مؤلفا من مرحلتين:
الأولى:
حرية العقل في التفكير كما يحب هو لا كما يحب غيره.
والثانية:
حرية العقل في أن يعلن تفكيره دون أن يتعرض لخطر ما، دون أن يتعرض للرقابة، ودون أن يتعرض للمحاكمة من حيث إنه قد فكر وأعلن رأيه، ودون أن يتعرض للاضطهاد.
وقد كان الشاعر العظيم ملتون بطلا من أبطال المطالبة بهذا النوع من حرية العقل أمام السلطان، فبعد أن عني الفلاسفة وفرغوا من تحديد حرية العقل أمام العقل جاهد ملتون في تحقيق هذه الحرية جهادا هائلا، وأنفق حياته كلها تقريبا في هذا الجهاد محتملا كل ما كان يمكن أن يحتمل من مقاومة الخصوم ومقاومة السلطان، جاهرا في ذلك بكل ما كان يمكن أن يجاهر به من الأقوال التي تصل بالحرية إلى أبعد مدى.
وملتون هو الذي قال في رجال الدين إنهم قوم لم يستطيعوا أن يرفعوا أنفسهم إلى السماء، فأنزلوا الله إلى الأرض ليكون معهم، وملتون الذي استطاع أن يواجه السياسة بهذه الفكرة الرائعة، فكرة أن الكتاب أو الفصل الذي يكتبه الكاتب وكذلك الأثر الأدبي إنما هو صورة حية من صاحبه، فكل مساس بهذا الأثر الأدبي إنما هو مساس بمؤلفه، فإذا كانت التقاليد الدينية والقوانين تمنع أحد الناس من أن يؤذي الناس في أنفسهم بغير حق، فيجب أن تمنع القوانين الدولة من أن تقتل الكتاب؛ لأن قتل الكتاب ليس أقل خطرا من قتل المؤلف؛ ذلك لأن مؤلف الكتاب شخص محدود الأجل محدود الحياة، يوجد وقتا ما ثم ينتهي بالموت، فحياته محدودة وآثاره محدودة بحياته، على حين أن الكتاب أجله أطول وأوسع من أجل مؤلفه، وهو الوسيلة التي يتمكن بها العقل من أن يكون طويل التأثير عميقه وبعيده، فالكتاب لا يؤثر في البيئة التي يؤلف فيها وقتا معينا، ولكنه يؤثر في هذه البيئة، ثم يمضي بتأثيره إلى بيئة أخرى بعده، وربما يكون بينه وبين مؤلفه قرون وعصور.
Unknown page
فالاعتداء على حرية التعبير إنما هو اعتداء على شيء أغلى من حياة الأفراد؛ ولأنه اعتداء على شيء للناس فيه منفعة دائمة.
في هذا الوقت وصل الإنجليز إلى تحديد حرية العقل أمام العقل، ووصلوا إلى تحديد حرية العقل أمام السلطان، ولم يكد القرن الثامن عشر يأتي حتى كانت بلاد الإنجليز وحدها هي البلاد التي يستطيع الناس فيها أن يفكروا أحرارا وأن يقولوا أحرارا، وأن يخاصم بعضهم بعضا في حرية مطلقة، لا يتعرضون للرقابة ولا لغضب السلطان أو الاضطهاد، ولكن هذا النوع من الحرية ليس كل ما حاول الإنجليز أن يحققوه للعقل، فهم بعد أن حققوا حرية العقل أمام العقل، وبعد أن حققوا حرية العقل أمام السلطان حاولوا أن يحققوا حرية العقل أمام الجماعة وأمام العرف، أو حاولوا أن يحققوا حرية الأديب أمام البيئة التي يعيش فيها.
فليس يكفي أن يكون الأديب حرا يستطيع أن يفكر كما يريد هو لا كما يريد «أرسطوطاليس»، وليس يكفي أن يفكر ويعلن آراءه دون أن يتعرض لغضب السلطان، بل لا بد أن يكون الأديب حرا يستطيع أن يفكر، وأن يعلن آراءه دون أن يتعرض لسلطان الجماعة ودون أن يلقى من الجماعة عنتا أو أذى، وهنا اضطربت ميول الأدباء.
فإذا كان الفلاسفة الإنجليز قد استطاعوا أن يحرروا الفلسفة، وإذا كان الأدباء الإنجليز قد استطاعوا أن ينتصروا على السلطان السياسي، وأن يكسبوا لأنفسهم حرية التعبير، فهم لم يستطيعوا أن يقهروا سلطان الجماعة وسلطان العرف، وكان أمرهم ثورة مستمرة بينهم وبين الجماعة الإنجليزية.
ذلك لأن الجماعة الإنجليزية تخضع لكثير جدا من المحافظة، وقد قلت لكم في أول هذا الحديث إن المزاج الإنجليزي فيه هذان الأمران المتناقضان؛ فيه الميل إلى الحرية الفردية إلى أبعد حد، وفيه الميل إلى موافقة الجماعة وتحسين الصلة بين الفرد وبينها إلى أبعد حد، ومن هنا نشأ ما يسمونه بالنفاق الإنجليزي، هذا النفاق الذي يفرض على الأفراد إذا لقي بعضهم بعضا في الأندية والمجالس والحياة العامة أن يكونوا مقيدين بقيود عنيفة جدا، ومتأثرين بهذه النزعة التي لا يصح الانحراف عنها بحال من الأحوال مهما تكون الظروف في الحركات والألفاظ، وفيما يمكن أن يكون من الأوضاع الاجتماعية المختلفة، وهم في أثناء تقييدهم بهذه القيود إذا خلوا إلى أنفسهم يستمتعون بأعظم حظ ممكن من الحرية .
ومن هنا لقي الكثير من الأدباء الفرنسيين شيئا غير قليل من الشطط، وأحسوا شيئا غير قليل من الغرابة عندما ذهبوا إلى بلاد الإنجليز؛ لأنهم لم يصادفوا في بلاد الإنجليز ما تعودوا في بلادهم من هذه الحرية الاجتماعية التي يحرص الفرنسيون عليها قبل كل شيء، «فروسو» مثلا أنكر حياته في بريطانيا العظمى إنكارا شديدا؛ لأنه كان حريصا على أن يتكلم كما يريد في الاجتماعات، وأظنكم قد سمعتم أن «روسو» كان مسرفا في هذه الحرية، وأنه في بعض الولائم جعل يتحدث عن مرضه وكان مريضا بالمعدة، فلم تكد سيدة البيت تسمعه يتحدث عن مرضه حتى تركت المائدة وانصرفت.
وهذا الحرص على المحافظة الاجتماعية مع الحرص على الحرية الفردية كان مصدر اصطدام عنيف بين أدباء الإنجليز وبين الجماعة الإنجليزية، وربما كان من أهم ما يحبب الأديب الإنجليزي إلى كثير من قرائه هذا النوع من الاصطدام وهذا النوع من الحذر بين الأفراد والجماعة في إنتاج الأدب الإنجليزي.
فالكاتب الإنجليزي «سويفث» حريص أشد الحرص على حريته، وثائر أشد الثورة على النظام الاجتماعي، وهو من أجل هذا يقول ما يريد، ويفكر كما يحب، ويعلن آراءه في صراحة، وينشر هذه الآراء مهما يكن رضاء الناس عنه أو سخط الناس عليه، وهو في علاقته الاجتماعية ثائر على النظم، يتكلف هذه الثورة ويتعمدها مهما تكن النتيجة، وهو قابل لما تنتجه هذه الثورة من سخط الناس عليه، وهو ينتهي إلى أن يخيف الناس منه؛ لأنه متمرد ويصل بهذا التمرد إلى أبعد حد ممكن، ولكن شاعر آخر مثل بيرون يخرج على هذا النظام، ويخرج عليه في آرائه وفي حياته العملية، وفي آثاره الأدبية والفنية، يقاومه المجتمع ويقاوم هو المجتمع، ولكن ينتهي الأمر بأن يقهره المجتمع، وإذا هو مضطر إلى أن يغادر بلاد الإنجليز؛ لأنه لا يستطيع أن يخضع للنظم الاجتماعية والتقليدية.
كل هذه الملاحظات ليست إلا شيئا يسيرا جدا مما كنت أحب أن أتحدث إليكم به عن الثقافة الإنجليزية، ومن هذه الملاحظات نستطيع أن نستنتج: أن الإنجليز بمزاجهم الخاص من جهة ، وبتأثرهم بالثقافة القديمة كما تأثر بها غيرهم من الأمم الأوروبية من جهة ثانية، وباتصالهم بالأمم الأخرى وتأثرهم بالثقافة الأوروبية الحديثة من جهة ثالثة، قد استطاعوا أن يكونوا لأنفسهم ثقافة خاصة لها طابعها الإنجليزي الخاص، وأخص ما تمتاز به هذه الثقافة هو هذا الذي حدثتكم عنه طابع الحرية، الحرية الفلسفية؛ أي: حرية العقل أمام العقل، وحرية العقل أمام السياسة والسلطان وحرية العقل أمام العرف الاجتماعي.
هذه الثقافة الإنجليزية التي طبعت بهذا الطابع الخاص لم يقتصر تأثيرها على الأمة الإنجليزية وحدها، بل أخص ما تمتاز به بعد هذه الصفة التي ذكرتها لكم أنها ثقافة قد حببت إلى نفوس الأوروبيين في القرن السابع عشر وفي القرن الثامن عشر بنوع خاص؛ ذلك لأنها ثقافة حرة لم يعرفها الأوروبيون.
Unknown page
ففولتير إذ ذهب إلى أن إنجلترا في أول القرن الثامن عشر فتن بهذه الحرية البريطانية، وعاد إلى بلاده وقد كتب رسائله الفلسفية التي كان لها أبعد الأثر وأعمقه في تكوين الحياة الفكرية في فرنسا في القرن الثامن عشر.
وبيرون بثورته هذه المعروفة، ثورة الأديب على الجماعة، في حياته الفنية والعملية استطاع أن يهز النفوس الفرنسية هزا عنيفا، وأن يوجد لنفسه مقلدين له مفتونين به بين كبار الشعراء والكتاب، هنالك شيء آخر حبب الثقافة الإنجليزية أو فرض الثقافة الإنجليزية على أوروبا منذ القرن السابع عشر، وقد نشأ عن هذه الحرية، وهو أن هذا الذي وصل إليه العقل البريطاني من التحرر أمام الفلسفة وأصولها القديمة قد جعل التجربة أصلا من أصول العلم.
فالعلم الإنجليزي كالفلسفة الإنجليزية يمتاز بالاعتماد على التجربة أكثر من الاعتماد على أي شيء آخر، وقد رأيتم كيف وصل بيكون إلى الاعتراف بحق العقل في النقد والتمحيص والتحليل والاختبار، ولست في حاجة إلى أن أعرض عليكم جهود «نيوتن» التي أقامت بناء العلم التجريبي.
فالفلسفة الإنجليزية والعلم الإنجليزي هما اللذان أهديا إلى أوروبا في القرن السابع عشر والثامن عشر بنوع خاص هذا العقل المجرب الذي لا يفنى في الاستنتاج والاستنباط الفلسفي الخالص، وإنما يستقري ويستقصي ويمتحن الظواهر ويستخرج قوانين العلم من الحقائق الخارجية لا من عند نفسه، ولست في حاجة إلى أن أعيد ما قيل ألف مرة ومرة من أن حضارة أوروبا الحديثة إن امتازت بشيء فأخص ما تمتاز به هو أنها تقوم على العلم التجريبي.
ويخيل إلي أيها السادة أن خير ما يمكن أن نشخص به الثقافة الإنجليزية هو أنها قد بذلت منذ عصر النهضة جهودا متصلة في سبيل الحرية فوفقت إليها، ثم لم تستأثر بها وإنما أذاعتها في فرنسا أولا ثم في أوروبا بعد ذلك، وعن هذه الحرية التي كسبتها الثقافة الإنجليزية لنفسها وأشاعتها في الثقافات الأوروبية الأخرى نشأ ما امتلأت به الحياة الأوروبية الحديثة من ألوان الصراع والاضطراب وما امتازت به الحياة الأوروبية الحديثة من هذه النظم الديمقراطية التي رفعت للأفراد والجماعات أعلام الحرية والحق والعدل، وما أظن أن الإنجليز يطمحون إلى شرف أرقى من هذا الشرف.
مساهمة العلماء البريطانيين في تقدم العلوم
لحضرة صاحب العزة الدكتور علي مصطفى مشرفة بك عميد كلية العلوم
يرجع تاريخ الحركة العلمية في الجزر البريطانية إلى عصر النهضة في البلاد الأوروبية، ونحن نتصور عصر النهضة على أنه الحد الفاصل بين القرون الوسطى وبين التاريخ الحديث، بين العصور المظلمة وبين نور المدنية الحديثة، كما أن لفظ النهضة في لغتنا يدل على الحركة بعد السكون والنشاط بعد الخمول، وفي اللغات الأوروبية تستخدم كلمة
renaissance
التي معناها الحرفي الولادة من جديد، والتي هي نوع من البعث أو النشور، كما استخدمت أيضا العبارة
Unknown page
revival of learning
أي: إحياء العلوم التي تنطوي على معنى العودة إلى القديم في معارف السلف ودراساتهم ونشرها مرة أخرى بعد طول الغفلة عنها، كل هذه المعاني مجتمعة تصلح إلى درجة ما من التقريب لتصوير معنى النهضة في تاريخ أوروبا.
ولست أريد أن أخوض في تفاصيل ما حدث في ذلك العصر الهام من عصور التاريخ، وما اشتمل عليه من حركات اجتماعية وفكرية وسياسية ودينية، فمن المعلوم أن هذه الحركات قد شملت الإصلاح الديني، والتحرر من سلطة الكنيسة، كما شملت إحياء الآداب الكلاسيكية، والرجوع بالفنون الجميلة إلى عهد الإغريق والرومان، وكما شملت أيضا طائفة من الأحداث السياسية والاجتماعية نبتت فيها فكرة القومية أو الوطنية وأدت إلى نشوء الدولة ذات السيادة بالمعنى الذي نفهمه اليوم، فتلاشى نظام الإقطاعيات، وتقلص ظل السلطة الزمنية أو الدنيوية للكنيسة، وتحولت أوروبا إلى مجموعة من الدول المستقلة على الصورة المعروفة في العصر الحديث، كل هذه أمور شائعة ومعروفة لا تحتاج مني إلى تبيين، إلا أن هناك أمرا أريد أن أشير إليه؛ لارتباطه بموضوع حديثي الليلة، ألا وهو أن النهضة وإن أمكن للمؤرخين أن يحددوا لها زمنا خاصا يشمل النصف الثاني من القرن الخامس عشر، والثلث الأول من القرن السادس عشر على وجه التقريب، إلا أنها ككل تطور في التاريخ لم تنشأ عن لا شيء، بل قامت على أسباب ومقدمات سبقتها وأدت إليها، فالعصور الوسطى على ظلامتها قد احتوت على العناصر التي أدى امتزاجها وتفاعلها إلى النهضة، ومن أهم هذه العناصر وأبعدها أثرا قيام الجامعات.
وسواء كان منشأ الجامعات راجعا إلى التقاليد الإغريقية الرومانية في العالم القديم، أم إلى التأثير المباشر للثقافة العربية؛ فمن الثابت أن هذه الجامعات قد تأثرت تأثرا عظيما بعلوم العرب ومؤلفاتهم وما ترجموه من الكتب الإغريقية وما نقلوه عن الإغريق من علومهم، ففي النصف الأول من القرن التاسع أرسل قيصر الروم في القسطنطينية إلى الخليفة المأمون في بغداد مجموعة كبيرة من المخطوطات الإغريقية، فقام العرب بترجمة هذه الكتب، ثم نقلت هذه التراجم العربية إلى اللغة اللاتينية، واستخدمت في التدريس في الجامعات الأوروبية في القرنين العاشر والحادي عشر وما بعدهما، وأقدم الجامعات الأوروبية جامعة
Salerno
بإيطاليا التي يرجع تاريخها إلى القرن التاسع، وقد بدأت كمدرسة للطب اعترف بها فردريك الثاني عام 1231 على أنها المدرسة الوحيدة لدراسة الطب في مملكة نابولي، ويلي جامعة
Salerno
في القدم جامعة بولونيا التي نشأت كمدرسة للحقوق حوالي سنة 1000 ميلادية، ثم جامعة باريس التي أنشئت بين عامي 1150 و1170، وجعل لها أربع كليات: كلية للدين، وكلية للحقوق، وكلية للطب، وكلية للآداب، كما جعل لها نظام حذي حذوه في إنشاء الجامعات الأخرى في القرون الوسطى ومنها جامعتا أكسفورد وكمبردج بإنجلترا.
واللفظ اللاتيني
Universitas
Unknown page
الذي يدل على الجامعة كان في الأصل يستخدم للدلالة على كل جمعية أو هيئة، فإذا أريد به الجامعة أضيفت إليه عبارة نحو
Magistrorum et Scholarium
للدلالة على معنى العلم والتدريس، ثم تطور الحال حتى صارت الكلمة تدل بذاتها في أواخر القرن الرابع عشر على الجامعة بالمعنى الذي نفهمه اليوم، وكانت الجامعات تعرف على أنها مدارس عامة
Studium Generale
وكانت مبانيها على نمط يقصد من ورائه حماية الطلبة والأساتذة باجتماعهم معا في صعيد واحد مع المحافظة على الأغراب منهم الذين كانوا يأتون من بلاد بعيدة لتلقي العلم على النحو المألوف عندنا في الأزهر الشريف، وقد استقر أمر الجامعات واستتبت نظمها في القرون الوسطى، ومنحها الملوك والباباوات حمايتهم ورعايتهم، وأصدروا المراسيم بإنشائها وتنظيمها، والجامعتان اللتان يهمنا أمرهما أكثر من غيرهما هذه الليلة هما جامعتا أكسفورد وكمبردج، وأقدمهما أكسفورد، ويرجع تاريخ إنشاء جامعة أكسفورد إلى النصف الثاني من القرن الثاني عشر بعد عام 1168 بمدة وجيزة.
ويظهر أن إنشاء جامعة أكسفورد إنما جاء نتيجة مباشرة لطرد الطلاب والعلماء الإنجليز الذين كانوا يدرسون في جامعة باريس حوالي عام 1167 ولقطع العلاقات بين إنجلترا وباريس في عام 1167 أو 1168، مما أدى إلى إنشاء مدرسة عامة أو جامعة في مدينة أكسفورد، أما جامعة كمبردج، فقد نشأت بعد جامعة أكسفورد بقليل، ولكن في نفس القرن أي في القرن الثاني عشر، ومع أن كلا من جامعتي أكسفورد وكمبردج قد نظمتا عند إنشائهما على أساس نظام جامعة باريس، إلا أن تطورهما في القرون الثلاثة الأولى من إنشائهما قد امتاز بميزات خاصة أبعدتهما تدريجيا في مظهرهما الخارجي ونظامهما الداخلي عن الجامعة التي أنشئا على نمطها، فإنشاء الوحدات التعليمية التي يسميها الإنجليز
Colleges
والتي يجب أن لا نخلط بينها وبين ما يسمونه
Faculties
قد أكسب كلا من أكسفورد وكمبردج شخصية خاصة تمتاز بها على سائر جامعات القرون الوسطى في أوروبا، وما يسمونه
Unknown page
Colleges
هي وحدات من البناء ينتمي إليها الأساتذة والطلبة، يتناولون فيها طعامهم، ويسكنها الكثيرون منهم، وأقدم هذه الدور ربما كان
University College, Oxford
التي أنشأها
William of Durham
عام 1249 و
Balliol College
التي أنشأها
John Balliol
والد ملك اسكتلاندا المسمى بنفس الاسم عام 1263، وأقدم دور كمبردج
Unknown page
التي أنشأها
Hugh Balsham
أسقف
Ely
عام 1284، ومن سوء الحظ أن كلا من كلمة
College
وكلمة
Faculty
قد عبر عنها في اصطلاحنا الحديث بكلمة واحدة، وهي كلمة كلية، مع عظم الفارق بين المعنيين؛ فالكلية بمعنى
Faculty
Unknown page
هي هيئة معنوية من الأساتذة والطلبة يتخصصون في دراسة فرع معين من فروع المعرفة كالطب أو كالعلوم أو كالحقوق إلخ، وهؤلاء لا يكونون بالضرورة مجتمعين في صعيد واحد، أما الكلية بمعنى
College
فيحسن أن يعدل عنها إلى لفظ مثل دار أو قاعة أو رواق؛ لأنها تدل على بناء محدود الأرجاء ينتمي إليه مجموعة من الطلبة والأساتذة ليسوا بالضرورة يدرسون فرعا واحدا من فروع العلم، وتجمعهم روابط اجتماعية وثقافية ليس بينها بالضرورة رباط التخصص في علم واحد، هذه الدور أو هذه الأروقة في كل من أكسفورد وكمبردج هي أساس الحياة الجامعية بالمعنى الصحيح، فكل طالب بل وكل أستاذ فخور بالدار التي ينتمي إليها حريص على تقاليدها، مطالب بالمحافظة على نظامها، وهو في الغالب يحافظ على هذه النظم بروح الولاء مما سيجيء الكلام عنه فيما بعد.
وفي القارة الأوروبية أنشئت جامعات متعددة في القرون الوسطى عدا سيلرنو وباريس؛ منها مونبلييه عام 1289، وتولوز عام 1233، وبلد الوليد عام 1346، وأشبلييه عام 1254، وفيينا عام 1364، وهيدلبرج عام 1385، وبودابست عام 1475، وفرايبرج عام 1455.
ومن ذلك يتضح أن إنشاء الجامعتين الرئيسيتين في إنجلترا حدث في القرون الوسطى، وأنه كان حلقة في سلسلة من الحوادث المشابهة في سائر أنحاء أوروبا، فالجامعات إذن ليست وليدة النهضة، بل سابقة لها ومؤدية إليها، والجامعتان الإنجليزيتان على وجه الخصوص ليستا قائمتين على الثورة الفكرية، بل على شيء آخر هو أقرب ما يكون إلى الرزانة التي يتميز بها رجال الدين، وإلى الثبات والتؤدة اللذين تتصف بهما الكنيسة، وفي الواقع إذا رجعنا إلى تاريخ إنشاء الجامعات في القرون الوسطى نجد أن القائمين بها كانوا في الغالب من رجال الدين، وكان بعضهم من الرهبان الذين وهبوا أنفسهم للكنيسة، وكانت الروح المتغلبة عليهم هي روح التقوى وروح الطاعة وروح النظام، وكانت الدراسات الجامعية في ذلك العهد ترتبط أشد ارتباط بالتعاليم الدينية، وكانت المسائل العلمية إذا استعصت رجع فيها إلى نص من النصوص التي اتفق على احترامها كالكتاب المقدس أو كمؤلف من مؤلفات بطليموس، فكلما ازداد فهم الطلبة والأساتذة لهذه الكتب الرئيسية ازداد فهمهم للدين وللعلوم والفنون، ومن أجل هذا كان منطق التعليم في القرون الوسطى منطقا قياسيا استنتاجيا يرجع فيه إلى مقدمات مسلم بها ثم تؤدي هذه المقدمات إلى نتائجها المنطقية.
والشيء الذي أريد أن أؤكده، والذي سأشير إليه فيما بعد في أمر هذه الجامعات، هو أن نشأتها كانت محاطة بجو من التقاليد ينطوي على روح المحافظة واحترام التقاليد، كما أن نظمها كانت تنطوي على نفس هذه الروح، فتجعل الأساتذة طبقات أو درجات، منها الكبير ومنها الصغير، وتوجب على ذي الدرجة الصغيرة احترام ذي الدرجة الكبيرة، فالحاصل على درجة الدكتوراه مميز على غيره، يرتدي أردية خاصة حمراء اللون تشبه أردية الأساقفة، ويحضر مجالس خاصة لا يحضرها غيره، هذه الأرستقراطية العلمية المقرونة بالمحافظة الشديدة هي التي أريد أن أوجه النظر إليها في هذه المرحلة؛ لما لها من ارتباط بما سيأتي ذكره فيما بعد عند الكلام عن العلم والعلماء في إنجلترا.
ننتقل بعد ذلك من القرون الوسطى إلى عصر النهضة، فنجد شيئا آخر غير المحافظة وغير الرجوع إلى الكتب وغير الخضوع لسلطة الكنيسة، فقد اتضح لكثير من المفكرين أن الكتب القديمة مهما كان تقديسنا لها واحترامنا إياها لا يمكن أن تحوي كل ما يمكن الوصول إليه من فروع المعرفة، وأن في العالم حقائق لا تحصى لم تدون في الكتب ولم تعها خواطر الأقدمين، كما اتضح أن العقل البشري يستطيع أن يصل عن طريق الحواس إلى معرفة ما يحيط بنا من ظواهر الطبيعة، والعقل البشري يستطيع أن يفعل ذلك بطريقة مباشرة ودون التجاء إلى الكتب أو إلى رجال الكنيسة أو إلى رجال الجامعات، وقد كان بعض الفلاسفة في القرون الوسطى في أوروبا قد اتجه إلى هذا النوع من التفكير، فمثلا نجد
Roger Bacon
الفيلسوف الإنجليزي الذي عاش في القرن الثالث عشر (1214-1292) نجد أن هذا الفيلسوف المنتمي إلى جامعة أكسفورد يتكلم عن حرية الفكر، وعن إمكان الالتجاء المباشر إلى الطبيعة في طلب المعرفة، وقد اضطهدت الكنيسة
Roger Bacon
Unknown page
كما اضطهدت كل من حدثتهم أنفسهم بالخروج على سلطتها من العلماء والمفكرين في القرون الوسطى، ويرجع الفضل في بحث الطريقة الجديدة في الوصول إلى المعرفة وفي تمحيصها ووضعها على أساس ثابت من الناحية الفلسفية إلى الفيلسوف الإنجليزي «السير فرنسيس بيكون»
Sir Francis Bacon
الذي عاش (من سنة 1561 إلى سنة 1626) ففي كتابات هذا الرجل الذي جمع بين صفات متعددة؛ منها صفة الفيلسوف وصفة السياسي وصفة الأديب نجد في كتابات هذا الرجل ما يكاد يكون دستورا كاملا للطريقة الجديدة في البحث والتفكير، وقد بحث السير فرنسيس بيكون في كتبه ومؤلفاته في هذا المنطق الجديد منطق الوصول إلى المعرفة عن طريق المشاهدة المباشرة وبين الطرائق الصحيحة لهذا المنطق، ووضع قواعد عامة لهذا النوع من التفكير، فخلد بذلك ذكره في تاريخ العلوم وفي تاريخ الفلسفة على السواء، وقد وصف السير فرنسيس بيكون مواهبه الخاصة وطبيعة عقله، والأغراض التي يرمي إليها وصفا دقيقا سأقرؤه على حضراتكم، قال:
I Found that I was fitted for nothing so well as for the study of truth; as having a mind nimble and versatile to catch the resemblances of things (which is the chief point) and at the same time steady enough to fix and distinguish their subtler differences; as being gifted by nature with desire to seek, patience to doubt, fondness to meditate, slowness to assert, readiness to consider, carefulness to dispose and set in order; and as being a man that neither affects what is new or admits what is old, and that hates very kind of imposture. So I thought my nature had a kind of familiarity and relation with truth.
ولا شك في أن هذا الوصف الذي صيغ على صورة نوع من التحليل النفسي يصلح لوصف عقلية العالم المدقق، ولتعريف المثل الأعلى لهذه العقلية بصورة لا تكاد تختلف في شيء عما هي عليه اليوم، وفي كتابه
Novum Organum ، أو الطريقة الجديدة يقول ما تعريبه: «إن المنهاج الذي أقترحه للكشف عن العلوم هو بحيث لا يترك إلا القليل لحدة الذهن وقوته، وهو يضع جميع العقول في مستوى واحد تقريبا، فكما أنه إذا أريد رسم خط مستقيم أو دائرة كاملة الاستدارة كانت النتيجة متوقفة على ثبات اليد التي ترسم وعلى مرانها إذا كانت اليد ترسم وحدها، أما إذا استخدمت مسطرة أو فرجار فإن جميع الأيدي تكاد تتساوى، فكذلك في الطريقة التي أقترحها تكاد جميع العقول تتساوى.»
ولا يتسع المقام للبحث في تعاليم بيكون الفلسفية وطريقته الاستقرائية ، فإن ذلك مفصل في كتب المنطق الحديث، ولكنه لا بد من الإشارة إلى أمرين؛ أولهما: أن من الخطأ افتراض أن المنطق الاستقرائي قد خلقه بيكون أو خلقته النهضة في أوروبا خلقا، فمن المحقق أن أرسطوطاليس قد بحث في هذا النوع من المنطق ووضع له حدودا وطرائق، كما أنه من المحقق أن العرب قد نقلوا عن أرسطوطاليس وأضافوا إليه، وأن كتبهم قد وصلت تراجمها اللاتينية إلى أوروبا، فمباحث بيكون تعتبر جمعا وتبويبا لآراء من سبقوه وإن كانت لا تخلو من كثير من الإضافات والابتكارات التي تدل على قوة شخصية المؤلف وعلو كعبه، والأمر الثاني هو أنه لا يجب أن يفترض أن العلماء والمفكرين لم يكونوا يستخدمون الأسلوب الاستقرائي قبل عصر بيكون، فالمعرفة البشرية منذ فجر التاريخ كانت دائما تستمد من المشاهدة المباشرة للطبيعة عن طريق الاستقراء المنطقي الصحيح، فوصول أرشميدس إلى قانونه المشهور عن دفع السوائل ووصول ابن الهيثم إلى معرفة قوانين الانعكاس والانكسار للضوء، ووصول كوبرنيكوس (1473-1543) قبل أن يولد بيكون إلى وصف حركات المجموعة الشمسية، كل أولئك أمثلة على تطبيق المنطق الاستقرائي في تاريخ العلوم، والفضل الحقيقي لبيكون إنما هو في إقراره الطريقة الاستقرائية في التفكير، وفي مناداته بها، وفي وضعه لها على أسس فلسفية ثابتة، ودعوته الناس إلى استخدامها وتطبيقها في وقت كانت فيه أوروبا لا تزال متأثرة أشد التأثر بالطريقة القديمة في التفكير، وبالرغم من تسلط الكنيسة على كثير من العقول والأرواح، ولا شك في أن للإنجليز أن يفخروا بالسير فرنسيس بيكون كمؤلف للمنطق الجديد وكمساهم في تأسيس النهضة الفكرية في أوروبا.
وقد أدت مجهودات بيكون الفكرية إلى نشوء فلسفة جديدة في أوروبا؛ فنشأت مدرسة جديدة من العلماء والمفكرين، أساسها هذه الفلسفة البيكونية، وكان من الطبيعي أن يتزاور هؤلاء العلماء، وأن يتراسلوا، وأن يجتمعوا للبحث والتذاكر في هذه الفلسفة الجديدة أو هذه الفلسفة التجريبية كما سميت ولا تزال تسمى، ففي لندن كان بعض هؤلاء الفلاسفة يعقدون اجتماعات أسبوعية منذ سنة 1645 يحضرها بعض الأشخاص الأفاضل الراغبين في استطلاع الفلسفة الطبيعية وغيرها من نواحي العلوم البشرية، وعلى وجه الخصوص في استطلاع ما سمي الفلسفة الجديدة أو الفلسفة التجريبية أو على حد التعبير الأصلي:
divers Worthy persons inquisitive into natural philosophy and other parts of human learning, and particularly of what hath been called the new philosophy or Experimental Philosophy .
وفي أكسفورد كان يختلف بعض الفلاسفة إلى مسكن الدكتور
Unknown page
Wilkins
في
Wadaham College
للمذاكرة والبحث، فنشأت جمعيتان: إحداهما الجمعية الملكية في لندن، والأخرى الجمعية الفلسفية في أكسفورد، ويرجع تأسيس الجمعية الملكية في لندن بصفة رسمية إلى عام 1660، ففي 28 نوفمبر من تلك السنة نشرت أول صحيفة لتلك الجمعية، وذكر فيها أنه قد استقر الرأي بعد سماع محاضرة المستر رن
Wren - وهو
Sir Christopher Wren
فيما بعد - على إنشاء هيئة لدراسة العلوم الرياضية والطبيعة التجريبية، وأنه قد انتخب 41 شخصا لعضوية هذه الهيئة، واختير الدكتور
Wilkins
رئيسا لها، وجعل رسم الدخول عشرة شلنات، ورسم الاشتراك في الجمعية شلنا واحدا في الأسبوع، وبعد مرور بضعة أيام على هذا الاجتماع التأسيسي أبلغ
Sir Robert Moray
Unknown page
أعضاء الجمعية أن الملك شارل الثاني ملك إنجلترا وافق على نظام الاجتماعات، وجعلت
Gresham College
مكانا لعقد اجتماعات الجمعية، ثم صدر مرسوم ملكي بإنشاء الجمعية، وعين اللورد
Brouncher
أول رئيس لها بعد صدور المرسوم بإنشائها.
فالجمعية الملكية أقدم جمعية علمية بالجزر البريطانية، كما أنها من أقدم الجمعيات أو الأكاديميات العلمية في أوروبا، وكلمة أكاديمية مشتقة من اسم حديقة الزيتون التي كان يختلف إليها أفلاطون، ولعل أقدم أكاديمية هو أكاديمية الإسكندرية الذي أسسه بطليموس الأول في القرن الثالث قبل الميلاد، وكان ملحقا بها مكتبة الإسكندرية المشهورة، وقد تلا إنشاء الجمعية الملكية بلندن جمعيات أخرى علمية؛ منها جمعية ملكية في
Dublin
بأيرلندا، وجمعية ملكية في أدنبره باسكتلندا، كما أنشئت جمعيات لدراسة فروع خاصة من فروع العلم الحديث أو الفلسفة الحديثة، لعل أقدمها الجمعية اللينية
Linnean
عام 1788 لدراسة علم النبات، وهذه الجمعية تشتق اسمها من
Unknown page