Hayat Sharq
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Genres
ولما تبادل خزعل ومبارك القصور كما كانا يتبادلان الكئوس كلما كانا يجتمعان على ضفاف قارون أو على شاطئ الخليج ليقضيا أياما وليالي بين أسراب من القيان والعازفات ويديران أقداح الطلا قبل أن تفاجئهما كأس المنون الدهاق، وقد سبق مبارك صديقه إلى العالم الآخر، أما خزعل فلا يزال على قيد الحياة في أحد سجون طهران. وخزعل هذا واسمه الرسمي أطول من أسماء أمراء الإسبان؛ سمو السردار أقدس معز السلطنة الشيخ خزعل خان بن نصرت الملك الحاج جابر خان الجاسبي المحيسني الكعبي العامري أمير نويان وسردار عربستان ... إلخ إلخ.
وهو من أمراء العرب ولكنه يحكم ولاية فارسية، وكان غنيا وكان كريما على الشعراء والغواني والندمان، كأنه أحد أمراء البرامكة في عهد الرشيد، يحب اللهو والغناء ويميل إلى الأدب والشعر، ويحب أن يهاجر إليه الشعراء بقصائدهم المسروقة أو المصطنعة فيجيزهم ويملأ أفواههم درا كما يملأ حقائب الغواني ذهبا وجوهرا، وكان شعاره وهو في إمارته «الدنيا بحذافيرها الخفض والدعة»، وقد قتل أخاه أيضا كما قتل مبارك أخويه.
لقد كان هذا الشيخ الخليع متفانيا في حب الجمال والفن كأنه أحد أعيان باريس في عهد الديكادنس، أو أحد أمراء الأندلس الذين سبقوا سقوط بني سراج. كانت تنقصه شجاعة مبارك وسياسته، ولكنه كان يحبه لتشابه بينهما في الدهاء والدس وحب الملذات. روى الأستاذ أمين الريحاني في كتاب «ملوك العرب» ج2 ص171 عنه ما يأتي:
تجيء المغنية من حلب أو الشام إلى المحمرة وهي لا تملك إلا خلخالها فتقيم عدة أشهر في القصر وتعود غنية مثقلة بالحلي. يجيء الأدباء والشعراء وفي جيوبهم قصائد المديح فيعودون من المحمرة وفي جيوبهم أكياس من المال. ا.ه.
وكان الرجل شيعيا ولكنه يحب أهل السنة، ومسلما ويكرم النصارى واليهود والوثنيين، ويقرب القسيس ويصادق المبشر ويستفيد من محادثة البنائين الأحرار، يعاقر بنت الحان، ويلعب البوكر مع أصدقائه وضيوفه، فإن عزوا دعا أولاده إلى المائدة الخضراء المخمسة الأضلاع.
أما الشريعة السمحاء فهو يحبها وينفذ منها زواج المتعة، وكان له في مقر ملكه ستون زوجة، وهو قل أن يعرف أولاده. وإذا ناوأه أحد من مشايخ القبائل وخرج عليه وكانت للشيخ الثائر بنت صالحة للزواج زاره خزعل وشرفه بالمصاهرة فتبرد نار الفتنة وتحل محلها أفراح التعريس والزفاف. وكان إلى سن الخامسة والستين يسافر من عاصمته في سبيل النكاح. وكانت علاقاته مع ملوك الأرض حسنة، فجمع بواسطة السفراء والقناصل والوسطاء عشرات الأوسمة والنياشين من سلطان تركيا وشاه الفرس وملك الإنجليز وبابا رومة بنديكتوس الخامس عشر، ولكن أعظم نيشان كان يحمله في قلبه الأخضر الخصب وهو نيشان الغرام وشعاره:
أدين بدين الحب كيف توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
هذا الشيخ الذي وصفناه، وكان صديق شيخ الكويت الخاص، وعندما أعلنت الحرب العظمى وسعت الوفود إليهما ذاك يجذبهما إلى الترك والألمان وهذا إلى الحلفاء، والشيخان يعدان ويخلفان ويقولان ولا يصدقان، ويتظاهران بالود للواحد في غيبة الآخر فإذا خلوا بهذا الآخر قالا له إننا معك إنما نحن مستهزئان. وهما في كل دقة يجلبان المال، ويخزنان التحف والهدايا، ويظنان أن الأمر قد ينتهي بفوز النفاق بغير حاجة إلى الطعان. يقول أحدهما: اكتب للترك تنفعك عندهم ولا تضرك عند الإنجليز، ويقول الآخر: ابتسم لليتشمان وشكسبير، أحسن معاشرة لورنس زعيمهم الكبير.
وما زالا هكذا حتى تمكن الإنجليز من هزيمة الترك في البصرة، فإنهم اتخذوا الكويت مخزنا للذخائر والسلاح، وأمروا خزعل بإعداد جيش جرار قوامه عشرة آلاف جندي، فقطعوا خط الرجعة على الأتراك وداروا حولهم، فاضطر الأتراك للتقهقر وفاز الإنجليز، وهكذا ضاع العراق على يدي هذين المجرمين الخائنين العابثين بحقوق الدول والشعوب.
Unknown page