Hayat Sharq
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Genres
طالما نسب بعض الناقدين تأخر الإسلام وانحطاط دوله إلى المتصوفين والدراويش، وفي الحق كان لهذه الفرق مضار كثيرة في بلاد تركيا القديمة والحديثة، حيث كانت التكايا حاشدة بأشخاص قادرين على الكسب والعيش في بحبوحة من ثمرة أعمالهم ولكنهم عاكفون على الأكل والنوم وتقوية أعضائهم بحجة العبادة، وما العبادة إلا تابعة للعمل في الحياة، وليست الحياة تبعا للعبادة، وبالرغم من أن الرهبانية محرمة في الإسلام فكنت ترى هذه الألوف من الرجال يعيشون عيشة الرهبان في مقصوراتهم مع أن ظواهرهم لا تدل على رهبنتهم، وفي الحق لا ترى من هؤلاء العماليق خيرا لا لأنفسهم ولا للجماعة، وأفضل ما نراه من أعمال هذه الفرق في عصرنا هذا هو الذكر على أنغام الموسيقى، وقد أطلق السائحون على طائفة المولوية اسم «الدراويش الرقاصة».
ولكن قد ظهر في أوروبا بعض الفرق المتصوفة مثل فرقة اليسوعيين، فكان لهم نصيب عظيم من الأعمال العامة في الدين والسياسة والتعليم، واليسوعي يعطي عهدا بالفقر والعفة والطاعة، وقد انتشرت تلك الطريقة اليسوعية في أنحاء أوروبا انتشار النار في الهشيم، فكانوا في القرن السابع عشر نحو ثلاثين ألفا، وقبل أن يقاومهم البابا كليمنتس الرابع عشر في 1759 بلغوا ثلاثة وعشرين ألفا، وهم الآن حوالي عشرين ألفا من الجيزويت.
ويرجع الفضل في نجاح تلك الفرقة إلى شخصية ليولا مؤسسها في أواسط القرن السادس عشر، وقد قضى سبع سنين في التقشف والاستعداد لتأسيس فرقته منقطعا في صومعة في مونمارتر بباريس 1528-1535، ومذهب ليولا يلخص في كلمتين هما «الجمع بين الذكاء والإرادة» في خدمة مبدئه، وأن لا يكون الجمع بين تينك الفضيلتين قاصرا على الأفراد بل شائعا بين الجماعة، وقد رأى ليولا أنه إذا توافرت هاتان الخلتان للفيف من البشر فلن يقوى عليه إنسان، كما أن سائر الأنظمة السياسية والدينية تتلاشى أمام تلك القوة. وقد جاءت الحوادث مصدقة لما كان يراه ليولا، فتحكم هو وفرقته في تسعة أعشار الحوادث التي حدثت في أوروبا ولا يزال سرها غامضا.
وقد كان التهذيب الخلقي الذي تحلى به اليسوعي منطويا على خلاص عضو الجمعية من الأهواء والانفعالات التي تعصف بأخلاق الرجال وتعبث بحياتهم، فيتغلب الرجل على الحب والبغض والطمع والطموح والشهوة والتمتع، وبالجملة يقطع كل أوتار الآمال من صدره ويبقى أداة لتنفيذ إرادة شيخه.
وفي الوقت الذي كان فيه شيخ الجبل يؤلف فرقة من الحشاشين والعدميين والفوضيين يطيعون أوامره ويبذلون حياتهم في سبيل طاعته - ولكنهم مسخرون لخدمة الفرد وبغير دافع ديني أو معنوي، بحيث كان أحدهم يلقي بنفسه من شاهق طاعة لأمر زعيمهم الذي مناهم بالجنة وعودهم تدخين القنب الهندي ليسبحوا في عالم الأحلام والخيالات، وجعل مثلهم الأعلى صورة من شهوات البدن - رأيت هؤلاء اليسوعيين يؤسسون فرقتهم أو طريقتهم على أساس الخلاص من حكم البدن. ولا فرق بين اليسوعيين والمتصوفين فإن كلا منهما فرقة دينية، ولكن الأولى اتبعت مثلا صحيحا في الزهد والتقشف والتخلي عن الأهواء، والثانية اتبعت طريقة استدراج الأنصار جزاء تمتع الجسد في حياة مستقبلة، فقد روى مؤرخو الإفرنج والعرب أن حسن بن الصباح - وكان يسمى شيخ الجبل - قد بنى قصورا وزرع بساتين وحدائق وجعلها في مجموعها تشمل نعيما كالنعيم الذي جاء في وصف الجنة، وكان يذيق مواليه المخدرين لذة اليقظة في وسط هذا النعيم ويمنيهم بمثله إذا هم أطاعوه في أوامره ونفذوا إرادته في الحرب والقتل والاغتيال.
بيد أن الشرق والغرب يلتقيان ويفترقان في صفات كثيرة، فإن الكنيسة في الغرب سواء أكانت كاثوليكية أو بروتستية أو كالڤينية تراها قابضة على زمام الدولة، وقد تجلى هذا في إسبانيا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا وألمانيا، فإن الكنيسة حكمت إسبانيا حتى خربتها ومن أعمالها هناك محكمة التفتيش، وعندما حل مذهب كالڤن في إنجلترا أحدث الحروب الأهلية وأدخل تعديلات خطيرة في الدستور الإنجليزي، ولما دخل مذهب كالڤن في فرنسا سبب حربا أهلية دامت من 1559 إلى 1593، ولا يزال أثر هذا المذهب في مقاطعة جنيف التي حكمها كالڤن بنفسه وكان فيها ملكا وقسيسا، ولا يزال تاريخ تلك المقاطعة وقانونها وأخلاق أهلها متأثرة بطابع هذا الرجل الديني الرهيب. أما في فرنسا فلم تتمكن الحكومة من الفصل بين الكنيسة والحكومة إلا في سنة 1904.
وفي ألمانيا حاول بسمارك في سنة 1874 بعد أن انتصر على فرنسا أن يخلص من كابوس الكنيسة فأصدر قانون مايو الشهير متمردا على البابا، ولكن بعد انقضاء ثمانية قرون على عهد جريجوري السابع وعلى إذلال هنري الرابع بباب خليفة القديس بطرس في كانوصا، فإن البابوية ما زالت قوية، واضطر المستشار الحديدي بسمارك لسحب قانونه والخضوع لرومة والانحناء أمام سلطة الحزب الكاثوليكي في الريشستاج، وفي العهد الأخير تآخت الفاشبزتيه مع البابوية واصطلح البابا مع الزعيم، وصار للبابا حق الخروج من قصر الفاتيكان في سيارة من «فضة» والكلام في التليفون مع أنحاء العالم بتليفون له مقبضة من ذهب.
ومعلوم أن البابا في نظر الكاثوليك معصوم من الخطأ كالأنبياء عند المسلمين 1869-1870، كما أن البابا أصدر في 1864 منشورا يصرح فيه بأن «الإنسان عاجز بفطرته عن الخلق والاختراع ولا يمكنه إيجاد الحقيقة، ولكنه يستطيع الفهم والإدراك للحقائق التي تتجلى له بفضل الله من زمن بعيد، وما العلم الحديث إلا مجموعة ألفاظ متناقضة.»
في حين أن الإسلام لا يتدخل في الحكومات ولا شأن لرجاله في تدبير الدولة، ولم يعرف أن عالما أو شيخا دينيا تدخل في شئون المملكة أو الدولة أو فسر الدين بما يؤخر تقدم الأمم أو يؤخر العلم؛ ترى بعض المؤرخين النصارى يدعون بأن تقدم التعليم وانتشار العلوم الرياضية والطبيعية سيدني ساعة الكنيسة الكاثوليكية لما بينهما من التناقض، وترى أن الإسلام يأمر بطلب العلم ويحث عليه ويكافئ العالم ويميزه ويضعه في موضع الشرف في أماكن شتى من كتابه المنزل وتعاليمه.
بيد أن هذا التضييق من رجال الكنيسة على أهل الفكر والعلم قد انقلب إلى ضده، فأخذ رجال من الفلاسفة الذين يحفظون تاريخ الكنيسة جيدا يهاجمونها في أصلها ويطعنون في جوهرها وينكرون عليها حق الوجود، ولم يكن هذا إلا من قبيل رد الفعل المنتظر حدوثه في كل الحركات العقلية والدينية، وقد وضعوا لمجموعة مباحثها اسم «النقد العالي» وقد ظهر هذا النوع من النقد في ألمانيا ثم في فرنسا، فأخذوا يدعون أن التعاليم المسيحية مشتقة من عقائد وثنية قديمة، وأن عيد نويل ورمز الصليب يرجع عهدهما إلى أجيال بعيدة قبل رومة، وأشهر من كتب في هذا فرنسوا ديبوي مؤلف كتاب «تاريخ الأديان»، وتلاه جودفري هيجنز فألف كتاب «أناكلبس»، وقد ردوا كثيرا من المعتقدات والطقوس إلى البوذية والبراهمانية.
Unknown page