Hayat Sharq
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Genres
في الغرب يظهر أعاظم الرجال بكثرة مهولة، وينبغون بسهولة، ويتقدمون في طريق الحياة يقودهم النجاح ويكللهم الظفر بأكاليل الغار، لأسباب لا توجد في الشرق، فإن الغرب ميال بطبيعة شعوبه لتشجيع النابغين والإقبال عليهم وتعضيدهم والانتفاع بهم، وربما كان الرجل العظيم في الغرب غالبا ذا ميل اجتماعي، أي إنه يفضل الصالح العام على الصالح الخاص، بل الأعجب من ذلك أن الطبقات الوسطى من الشعوب الغربية تفضل الصالح العالم على الصالح الخاص، وترى أفرادها على ما هم به من خصاصة يقدمون منفعة المجموع على منفعتهم الذاتية. وقد سمعت حديثا بين شرطي أجنبي وعامل مصري، قال الأجنبي: نحن في بلادنا ننظر أولا إلى المصلحة العامة والمصلحة الخاصة تأتي عرضا، أما في بلادكم فالمنفعة الشخصية عندكم مقدسة ولو أخذت في سبيلها المنفعة العامة وقضت عليها. لقد صدق هذا الشرطي وأصاب كبد الحقيقة، أصاب ليس لأنه عبقري أو قوي البصيرة أو عالم اجتماعي، بل لأن الأمر ظاهر كالشمس، الشرقي بصفة عامة والمصري بصفة خاصة يفضل نفسه وذويه ويقدمهم، وقد يقدم قريبه أو صديقه مع عجزه وضعف خلقه على الغريب عنه ولو كان من أهل الكفاية وذوي الخلق القويم.
وهذا الأمر ظاهر في مناصب الحكومة، وفي الأعمال الرسمية، حيث يمكن الحصول على المنافع المادية على حساب الغير، ولكن ربما يتردد الشرقي في مصلحته الخاصة في تفضيل قريبه أو صديقه المضر على الأجنبي النافع، وهذا أيضا من الأنانية وحب النفس؛ لأنه هنا يدافع عن مصلحته الشخصية ولا يريد أن يعبث بها القريب الفاسد، إذا كان لديه أجنبي صالح يقوم بالعمل. إذن رابطة الدم أو رابطة المودة تنفع صاحبها ما دام الغرم واقعا على الغير، أي على المنفعة العامة، أما إذا كان الغرم واقعا على الشرقي صاحب العمل فهو يقصي قريبه أو صديقه، وحينئذ يجد الحجة الدامغة يقابل بها من يعترض عليه، حينئذ يقول الحق ويراه واضحا ويدافع به عن خطته. وهو نفسه يجد مثل هذه الحجة الدامغة إذا اعترضت عليه عند تفضيله القريب أو الصديق في العمل العام على الغريب ذي الكفاية، أقصد بالغريب عنه لحما ودما أو عصبية وصداقة، فهو يقول إن فلانا ليس أقل كفاية من غيره، إنه على الأقل يطيعني، ولا يخونني، وهو صادق إذ يقول ذلك لأنه ما دام لا يحتك مع قريبه أو صديقه في منفعة خاصة فيندر أن يحدث بينهما خلاف.
أرأيت كيف أن الشيء يمكن أن يكون حقا وباطلا في وقت واحد، وكل ذلك لدى تضحية المنفعة العامة. إن هذا الأمر مع فظاعته وهوله صحيح ومشاهد وواقع في كل مكان تجده وتجد آثاره حيث تضع أصبعك.
إن مضار هذه الحالة الخلقية عظيمة جدا، عظيمة لا تحد، ونتائجها الفاجعة لا تحصى. ليس هذا فقط، بل إننا نحن الشرقيين وبصفة خاصة المسلمين قد لدغنا منها مرات في التاريخ، وقد قال النبي: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين»، لأن الموعظة الأولى أو التجربة الأولى كافية لحمايته.
لقد حدث هذا في فجر تاريخ الإسلام، في حادثتين من أهم الحوادث: الأولى في خلافة عثمان، والثانية في خلافة علي.
أما في خلافة عثمان فإن الخلاف الذي نشب بين المسلمين أولا كان لأنهم انتخبوا عثمان دون علي، وكان فريق من أقارب علي يفضلونه لا لأنه من أبطال الإسلام ولا لأنه بذل في سبيل الدعوة ما بذل ولا لفصاحته وشجاعته، بل لأنه ابن عم النبي وابنه بالتبني وصهره بزواج السيدة فاطمة. قالوا إنه من العترة النبوية وإنه والد الحسن والحسين وكانا أحب الناس إلى جدهما الرسول، فلأجل هذا كان علي أحق بالخلافة من عثمان، وغضبت السيدة فاطمة وقالت ألفاظا رواها المؤرخون، ويفهم منها أنها دهشت لأن زوجها لم يكن الخليفة والأمر أمرهم وشأنهم. على أنني أعذر السيدة فاطمة - عليها رضوان الله - لأنها سيدة. وقد كانت بداية الفتنة هذا الخلاف العائلي.
بعد ذلك صار عثمان خليفة فوقع في عين الخطأ الذي قاومه أنصاره، لقد قرب أقاربه وأصهاره وأحبابه وعينهم في المناصب واستعملهم وولاهم شئون المسلمين في أنحاء الدولة، واستعمل حقه في الخلافة استعمال ملك شبه مطلق. لاحظ أنني أحب عثمان وأعجب به ولا أريد أن أمس شخصه الكريم، لا لأنه ثالث الخلفاء الراشدين ولا لأنه صهر النبي، بل لأنه مات شهيدا، وذاق أهوال الاضطهاد وهو في الثمانين من عمره، ورشق بالحجارة في شوارع مكة، ثم ذبح في بيته وهو يقرأ القرآن، ومن ذبحه؟ أحق الناس بالدفاع عنه محمد بن أبي بكر الذي يعد ولدا لعثمان. فانظر إلى هذا المصاب العظيم يصيب المسلمين في فجر تاريخهم!
وليت الأمر وقف عند هذا الحد، وليت هذه الجناية كانت الأولى والأخيرة من حوادث القتل السياسي!
إن عثمان مات فكان دمه سببا في فتنة عظيمة هي الفتنة التي عانى الإسلام نتائجها أجيالا، ولا تزال آثارها باقية حتى الآن في انقسام السنة والشيعة.
وفي هذه المرة كانت زعيمة الثورة والمعادية لعلي السيدة عائشة أم المؤمنين نفسها، التي كانت تحفظ نصف دين المسلمين وأمر المسلمون أن يأخذوه عنها، لقد هاجت الرأي العام ضد علي، واتخذت المطالبة بدم عثمان سببا لهذا الهياج.
Unknown page