Hayat Sharq
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Genres
في حين أن الاستعمار الفرنسي في أول أمره كان كالوباء الأسود ينزل بالجسم فينهكه ثم يهلكه في عشية وضحاها. ولو شاءت أوروبا لاتحدت مع الشرق لخير الجميع.
فوجب إذن والحالة هذه أن هؤلاء العلماء والعظماء والنجباء الذين ينفقون أموالهم وعلمهم لتنوير أوروبا أن يوفروا هذا المجهود ويبذلوه في تنوير أممهم، فإن أمم الشرق العربي أحق بالتنوير في تاريخهم وماضيهم وفي رسم خطة للمستقبل بعد درس حاضرهم، وهم أجدر بالتعليم من أوروبا المتعلمة، ويا حبذا لو أنفق هذا المجهود في تأليف عصبة أمم شرقية وغربية.
فإن في الشرق كنوزا من الحمية والعاطفة والحماسة، وهذه يجب السيطرة عليها وتوجيهها في أقوم السبل بدلا من بذل القوى الطاهرة في تدوين ما يضحك منه بعض سفهاء أوروبا الذين يكرهون الإسلام والمسلمين ويتمنون زوالهم من الوجود، وأفضلهم يعتبر الإسلام في أفريقيا قنطرة بين الوثنية والمسيحية كأنه المطهر أو الأعراف الذي ورد ذكره في جحيم دانتي ونعيمه، فإنه لا يسهل على الوطني الوثني من أفريقيا أو من آسيا أن يتنصر مباشرة، بل يجب عليه أن يمر أولا بالإسلام ليخلص من أدران الوثنية ثم يترقى ليصل إلى حياض المسيحية السمحاء! هذا رأي فضلائهم فما بالك برأى سفهائهم؟>
إن أوروبا التي أنجبت فطاحل القانون الروماني وجهابذة القوانين الفرنسية وأساتذة الفقه في ألمانيا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا، ووزنت في كتبها وأحكامها الحق والباطل بميازين المبادئ المقررة، وجعلت الكلمة العليا للعدل الذي يقره العقل الإنساني؛ إن أوروبا هذه التي أنجبت فلاسفة أمثال ليبنتز واسبينوزا وهيجل وسبنسر وأوجست كونت وبرجسون، إن أوروبا هذه التي عنيت بالقواعد والمبادئ حتى يكاد أحد علمائها لا يكتفي بأن يفلق الحبة في سبيل العدل فيحاول شق الشعرة إلى شقين أو ثلاثة.
إن أوروبا هذه التي ملئت مكاتبها بمؤلفات القانون الدولي ومبادئ العدل الإنساني، وهي التي تدعي أنها آخر طبعة منقحة من الجنس البشري، وقد ورثت فضائل العالم المتحضر من عهد الرومان إلى وقتنا هذا؛ إن أوروبا هذه يجب أن تخضع للعدل والحق لا أن تخضع للقوة.
وينبغي أن كل عمل من أعمالها يثبت ذلك، وأن كل تصريح من ساستها يؤيد هذا الرأي ويدعمه ويقويه ويجزم به، فيقولوا في جوامع كلمهم: «الحق يغلب القوة» لا أن يقولوا: «القوة تغلب الحق.» وقال إمبراطور ألمانيا في بداية الحرب: «ويل للمغلوب»، فلما قهر لم يتأفف ولم يتضجر لأنه أنذر خصومه بأشنع وأبشع مما وقع له في هزيمته. ووصفوا الاتفاقات الدولية والمعاهدات بأنها قصاصات ورق، وسواء أقالها بتمان هولويج كما نسب إليه الحلفاء أم أن الحلفاء دسوها عليه وأذاعوها من قبيل الدعاية ليحقروا من شأنه، فقد قيلت من أحد الطرفين وصورت في ذهن أوروبي ونفذت فعلا قبل الصلح وبعده. وهذا لا يليق بأوروبا المتحضرة.
وقد التقى المرحوم جمال الدين الأفغاني بهربرت سبنسر في لندن في أواخر القرن التاسع عشر، فسأله سبنسر: ما هو العدل؟
فأجاب الأفغاني: يوجد العدل عندما تتعادل القوى.
وإنما أجاب هذا الجواب لأنه يعلم أن الفيلسوف الإنجليزي لا ينتظر غير هذا الجواب، وأن التبحر في الخيال أو التعلق بأهداب المثل الأعلى في وصف العدل لن يجدي لدى فيلسوف أمة عرفت بما عرفت به الأمة الإنجليزية.
قد يكون الأوروبيون عادلين في أحكامهم الفردية إذا حكموا بين رعاياهم، ولكنهم في أحكامهم على أبناء الأمم الأخرى لا يعدلون، كذلك حكمهم في المسائل الدولية خال من العدل، فقد فر هندي اسمه ساڤاركار إلى فرنسا وسبح في الماء من خارج ثغر مرسيليا إلى أن وصل إلى الميناء واستغاث بالشرطة الفرنسية وهو يصرخ عاليا ويقول: «لاجئ سياسي»! وخلفه ديدبان إنجليزي يقول: «لص فار»!
Unknown page