160

Hayat Sharq

حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره

Genres

وأول ما سمعت عن الحبشة، عدا عما قرأته في كتاب الجغرافيا، كان في سنة 1896 عندما تعدت عليها إيطاليا في وطنها، فردتها جيوش الأسد الراحل منليك النجاشي وهزمتها شر هزيمة في موقعة عدوة الشهيرة، وكانت جيوش الحبشة هزمت جيوش مصر مرات قبل ذلك ومثلت ببعض جنودنا في عهد الخديو إسماعيل. وللحبشة يد على الإسلام لا تنسى، فإن أميرها المعاصر للبعث المحمدي استقبل المهاجرين من المسلمين وأكرم وفادتهم وأحسن معاشرتهم ولم يقبل فيهم دسائس وفد قريش الوثني وكان على رأسه عمرو بن العاص قبل إسلامه.

والأحباش شعب نبيل متدين قانع بأرضه من عهد سليمان وبلقيس ملكة سبأ إلى يومنا هذا، فإن نسب النجاشي الجديد هيلا سلاسي يمتد إلى تلك الملكة المجيدة، واللغة الحبشية من اللغات السامية المهمة وفيها مؤلفات جليلة مخطوطة، وكان ملوكها الأقدمون يحكمونها حكما مطلقا، ولكن هيلا سلاسي بعد تتويجه وبعد وفاة المرحومة زوديتو (جوديت أو يهوديت) تخلى عن شطر من سلطته الواسعة وأنشأ برلمانا على الطريقة الأوروبية وأخذ يعمل على إلغاء الرق في وطنه.

والعجيب أن الحبشة تتبع كنيستنا المرقصية، ولكننا لم نستطع الانتفاع بتلك العلاقة الروحية العظيمة لا في التجارة ولا في العلم ولا في السياسة، ويغلب على ظني أن اللوم في ذلك على السياسة الاستعمارية التي تحوط الحبشة بسياج من حديد، فهناك فرنسا في جيبوتي وإيطاليا في الصومال وإنجلترا في السودان.

ولا يزال نظام الأمومة (تقديس الأم والمرأة) سائدا في بعض القبائل (الأماراسي) فيقسمون بفراش الزوجة وسرير الأم، ويعدونه رمز القداسة والشرف. وهذا دليل على بقائهم في أحد أطوار الفطرة الأولى.

ومهما تكن حالة الحبشة من التقهقر أو الفقر أو الجهل فإنها في نظرنا في مصاف دول الدرجة الأولى، لأنها تمكنت من درء الاستعمار وصده وقد كاد يلتهمها، وهو يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، لو لم تشتر استقلالها بالحديد والنار والدم. وكادت الحبشة تقع فريسة للاستعمار البرتغالي لولا مسيحيتها، فإن البرتغاليين احترموا نصرانية الحبشة وساعدوها في حروبها ضد بعض المسلمين الذين ما كان لهم أن يشهروا في وجه الأحباش سيفا إن صحت قضية التجاء المهاجرين إليهم في صحبة عبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان وجعفر.

وقد ألف كاتب فرنسي كتابا مهما عن الحبشة في أثناء الحرب العظمى كشف به القناع عن مسألة تاريخية عويصة تتلخص في أن الرأس ميخائيل المتوفى، الذي كان مسلما وتنصر وصاهر النجاشي منليك فرزق من ابنته بالرأس ياسو، كان يخفي ويضمر إسلامه ويظهر مسيحيته، وقد أقنع النجاشي المتوفى بولاية عهد ياسو فانقاد له وأمر مطران الحبشة السابق بأخذ العهد على الأمراء والرءوس بذلك وأقسم رجال الكنيسة والبلاط بالوفاء لياسو، ومات منليك وهو يعتقد أن حفيده سيخلفه وقد خلفه فعلا لبضعة أشهر، ولكن دسائس أوروبا عملت عملها في الحبشة وانقسمت الحبشة فريقين: فريقا مع الحلفاء ومنهم الرأس ماكونين والد الرأس تفري (هيلا سلاسي)، وفريقا مع الألمان ومنهم ياسو. فأذاع خصوم ياسو أنه كان يلبس عمامة كتب على لفائفها لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنه صلى صلاة العيد مع الأتراك على حدود الحبشة، وأنه كان ينوي قلب نظام المملكة وتغيير دينها.

ثم حدثت حروب دامية ومواقع، وحارب الرأس ميخائيل لنصرة ولده ياسو ثم مات ووقع ياسو أسيرا وقيل إنه في أحد السجون أو القلاع، ولم يعلم من أمره شيء بعد وفاة زوديتو وتتويج الإمبراطور.

ونحن نحبذ تقوية الصلات بين مصر وبين الحبشة، وندعو إلى السياحة في تلك البلاد والتطوع لتعليم شبانها والتأليف بين قلوب أهليها وأهل مصر، لأن الحبشة قوة أفريقية لا يستهان بها وسوف يكون لها بعد البرلمان وعتق الرقيق شأن آخر.

الفصل السادس والعشرون

الحلف العربي قديما وحديثا

Unknown page