135

Hayat Sharq

حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره

Genres

الفصل الثالث والعشرون

العراق قديما وحديثا

العراق من العباسيين إلى العثمانيين

إن شعب العراق شعب مسلم شرقي، وهو قريب الشبه إلى المصريين من حيث الأخلاق، ولكن فيه علماء وأدباء من أهل المكانة السامية في العالم الإسلامي.

بيد أن حب الرخاء والترف الذي اشتهر به الأغنياء والسادة في عهد الدولة العباسية لا يزال سائدا في بعض البيوت والأسر، وربما كانت حياة أهل بغداد التي وصفت في القصص لم تكن كلها من صنع الخيال، وبعض مظاهر تلك الحياة ما زالت في العراق ولم يكن العهد التركي ليزيل آثارها وإنما كان ذلك العهد من مسببات قوتها. ولكن معظم أهل العراق فيما عدا المدن هم من القبائل العربية ذات العصبية، وهذه القبائل لا تزال قوية الشكيمة ذات شجاعة وإقدام في الحرب وكثيرون منهم على الفطرة من حيث أخلاق العرب وكرم أخلاقهم ونخوتهم (قتل أحد أفراد أسرة السعدون رجلا بسبب زواج شرعي).

1

وربما كانت حياتهم العقلية كذلك على الفطرة، فإن الحكم العثماني لم يعمل شيئا في سبيل تعليم هذا الشعب الذي كان يبلغ ثلاثة ملايين ونصف مليون، وكانت بلاده ووديانه مقر مدنيتين من أعظم مدنيات العالم وهما المدنية البابلية الآشورية والمدنية الإسلامية.

بل تركه الأتراك يسير سيرا حثيثا في سبيل الخراب ولم يفتحوا به مدارس ولا معاهد للعلم ولم يصلحوا من أموره شيئا، وكانوا يحتقرون العرب ويحاربون اللغة العربية ويرسلون إلى البلاد ولاة من الترك دأبهم إذلال العربي مهما بلغت مكانته، وكان في البلاد علماء أعلام أمثال آل بيت الألوسي يصح أن يتولوا القضاء فلم يعيروهم التفاتا، وأرسلوا إليهم قاضيا تركيا ليقضي بينهم بما يعلم وهو أقل مما يعلم هؤلاء العلماء من أهل البلاد، وكان من بينهم رجال يصلحون للاستعمال ولكن الترك لم يعينوا منهم واليا. وقد سرى على العراق ما سرى على جميع أجزاء الدولة العثمانية من الإهمال والتأخر، فكانت البلاد مقضيا عليها حتما أن تقع في يد الأجنبي (راجع كتاب «ولاية بغداد» تأليف نجيب شيحة بالفرنسية، طبع مصر 1908).

بيد أن هؤلاء العراقيين حاربوا في سبيل استقلالهم وحريتهم حروبا شهدت لهم بعلو الكعب وسمو الأخلاق وحب الوطن والشجاعة الفائقة.

ومما يكتب بمداد الحسرة أن الأتراك أهملوا استثمار البلاد لمصلحتهم أنفسهم ولمصلحة أهليها، فإن بلاد العراق من أغنى بلاد العالم وثروتها مزدوجة، فمن حيث الزراعة يوجد بها ستون مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة وقد أهملت جميعها ما عدا بضعة آلاف من الأفدنة، ولما جاء الاتحاديون شرعوا في الإصلاح الاقتصادي فكلفوا سير ويليام ويلكوكس ببحث مشروعات الري في العراق، فأقام هناك عاما وبعض عام وعرض عليهم مشروع إصلاح واسع النطاق يقتضي خمسة عشر مليونا من الجنيهات ليعيد العراق إلى حالته الأولى ولكن خزانة الأتراك كانت شبه خالية، ثم إنهم لم يرغبوا في تحسين حال العراق ليجعلوا منه مقر دولة إسلامية جديدة ربما تزاحمهم بثروتها وقوتها، فأنفقوا مليونا واحدا تمكن ويلكوكس بواسطته من تصليح مليون فدان، وقد علمت من بعض العارفين أنه قبض المبلغ قبيل إعلان الحرب الكبرى. والأراضي الزراعية في غاية القوة لأنه قد مضى عليها أكثر من سبعة قرون بغير زرع فتجددت قوتها وأصبحت في حكم البكر، حتى إن القمح والشعير قد تعلو سنابلهما على الفرس والفارس. وهناك ثروة أخرى منحتها الطبيعة للعراق وهي الزيت أو البترول، ومنه يخرج البنزين وغاز الاستصباح وغيرهما من العناصر النافعة للصناعة، وشهرة آبار الموصل قد طبقت الخافقين. وهذه الثروة العظيمة كانت في زمن الترك وكانوا يرونها بأعينهم، لأن البترول طافح على الأرض وقد كون بركا وبحيرات فلا يمكن أن تخفى رؤيته على أحد، وفيه ثروة تقدر بملايين الملايين من الجنيهات مما كان يعود على الدولة العثمانية كلها بخير لا حد له، ومع ذلك فإنهم لم يوجهوا أقل عناية نحو استثمار تلك المنابع الطبيعية العظيمة إلى أن جاء الأجنبي بخيله ورجله ووضع يده على تلك الآبار واستغلها وسلمها إلى شركة تجارية أجنبية ومدوا الأنابيب من بغداد إلى حيفا لينقل البترول بسهولة عظيمة من منابعه إلى شاطئ البحر فالبواخر النقالة.

Unknown page