Hayat Sharq
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Genres
وكانت نتيجة تلك الحروب البلقانية أن خرج الترك من أوروبا وتقلص ظلهم عن تلك الديار حتى أدرنه مدينتهم المقدسة المحبوبة، وإذ رأوا ذلك أخذوا يحصرون آمالهم في آسيا. وكانت الدعوة الطورانية قد اشتد ساعدها وظهرت قوتها وأراد الأتراك أن يضموا إليها فكرة الجامعة الإسلامية، ولكن العرب كانوا قد خرجوا من أيديهم. فلما جاءت الحرب العظمى انضمت تركيا إلى دول الوسط وتنمرت للحلفاء الذين كانوا يحكمون أعظم عدد من المسلمين والعرب في العالم، لأنهم - أي الحلفاء - الأعداء الفطريون للدولة العثمانية ولدول الشرق الإسلامي.
قلنا إن الترك لم يستطيعوا استنفار العرب لأن العرب خرجوا من أيديهم للعوامل التي فصلناها آنفا. وإن العرب كانوا في نفس العاصمة العثمانية يجتمعون ويتآمرون ليفصلوا ويمزقوا أجزاء الدولة العثمانية مملكة مملكة بحجة اللامركزية وهي فكرة في ظاهرها عادلة وفي حقيقتها خبيثة ضارة، لأنها تؤدي حتما إلى الانفصال والتمزيق لا سيما بعد أن ظهرت نيات العرب الذين كانوا يسلمون لحاهم لفئة المغامرين والأفاقين من السوريين المسيحيين والمسلمين، الذين كانوا يعيشون كالأفاعي في باريس والقاهرة ولقينا بعضهم أحياء، وعلمنا أن رءوس بعضهم قد طارت عن أكتافهم، ولا يزال بعضهم على قيد الحياة.
وقد وصف لنا أحد ثقات المؤرخين المسلمين أنه في سنة 1913 كان في الأستانة فدعي إلى اجتماع في إدارة جريدة الحضارة، التي كان ينشئها عبد الحميد الزهراوي واتخذ لها دارا في عمارة بجادة نوري عثمانية أمام نادي الاتحاد والترقي، فوجد بالاجتماع عشرين شخصا من خيرة رجال العرب في الأستانة وكلهم من رجال البرلمان والجيش والبحرية والعلماء ومعظمهم من سوريا، وكان هؤلاء السادة قد اجتمعوا لينظروا في الوسيلة التي يطلبون بها وضع بلادهم تحت حكم فرنسا، فاعترض عليهم أحد الحاضرين وبين لهم ما في ذلك العمل من الخيانة لأنفسهم ولدولتهم، وأن فرنسا إذا دخلت بلادهم لا ترحمهم وتاريخ استعمارها حافل بالمظالم والمغارم وظاهر كالشمس في أفريقيا وآسيا، فانبرى له بعضهم واتهمه بالجهل وعدم الحضارة، وكان في مقدمة المعترضين عليه الزهراوي، الذي كان سليم النية وجاهلا بالأمور السياسية وكان ظاهره يخدع ويغر، ولم يكن يصلح لأكثر من كتابة مقال في تاريخ الإسلام على الطريقة القديمة، لأنه لم يكن يعرف لغة أجنبية ولم يكن له اطلاع على العلوم الحديثة، وقد راح ضحية استسلامه لعمون وسمنة ومطران وغيرهم من الخونة.
فلما أخذ المعترض يشرح بعض مظالم فرنسا ويتهم المجتمعين بالغفلة والغرور، انبرى له قبطان في البحرية العثمانية وهو سوري الأصل اسمه «سالم الغلبان»، وقال له: «كم قبضت من طلعت أمس؟» يتهمه بالرشوة وبيع الذمة، وكان هذا دائما دأب الشرقيين لا يثق بعضهم ببعض ويسيئون الظن بأفاضلهم ولا يحسبون أحدا يخلص لله، لأنهم خلو من فضيلة الإخلاص وأسهل شيء لديهم اتهام الناصح أو المخالف للرأي بالخيانة والرشوة! فسكت الناصح، وانسحب.
وقد شاءت الأقدار أن يلقى المعترض ذلك القبطان بعد عشر سنين في أشد حالات الشقاء في شرق الأردن يستجدي بعد أن ملك الفرنسيون بلاده وطردوه منها وكان بالأمس قبطانا في البحر ، وكان يمكن أن يكون أميرالا لو أنه أخلص لدولته.
وكان بعض المجتمعين مواليا للأتراك، ويدفع مشروع التنازل عن الوطن بكل ما أوتي من قوة، ولكن التيار كان جارفا فاستدرجوهم إلى مؤتمر باريس الذي عقد في تلك السنة نفسها برياسة عبد الحميد الزهراوي الذي لم يكن إلا صورة، يخفون مقاصدهم السيئة وراء عمامته وجبته ولحيته الحمراء، رحمه الله وغفر له!
وكانت الروح المحركة لهذا المؤتمر هم شكري غانم وجورج سمنة ويوسف هاني وأيوب ثابت وشفيق المؤيد وندرة مطران وخليل زينية، ومنهم من وقع على المضبطة التي عثر بها جمال باشا في سورية وفيها يطلبون حكم فرنسا في الشام، وبناء عليها شنق بعضهم ولم تصل يده إلى الآخرين، ولا أشك في أن بعض الذين حضروا هذا المؤتمر كانوا مخلصين للأتراك مثل المرحوم مختار بيهم وغيره ولكنهم قلة.
وقد نشرت أعمال هذا المؤتمر في الصحف وفي كتاب خاص.
ولكن المسيو باريتو دي لاروكا أحد كبار موظفي وزارة الخارجية الفرنسية أفضى في سنة 1920 بحقيقة أعمال هذا المؤتمر التي كانت جارية وراء الستار، فقد قال: «إنه لما طلب السوريون الأحرار (كذا) عقد المؤتمر في باريس لوضع سورية تحت الحكم الفرنسوي (كذا) وطلبوا التصريح بذلك، طلبنا منهم أن تكون جميع قراراتهم من صورة مزدوجة، واحدة منهما ترسل إلى وزارة خارجية إنجلترا والأخرى ترسل إلى كي دي أورساي مقر وزارة الخارجية الفرنسوية. وقد طلبوا الحماية الفرنسوية رسميا. وإن طلب السوريين حكم فرنسا لم يكن نتيجة الحرب العظمى ولا ثمرة المعاهدات السرية ولا معاهدة سايكس بيكو، بل كان قديما جدا.» ا.ه. كلام دي لاروكا. أما الذين ذهبوا ضحية بريئة وشنقوا ظلما على يد جمال باشا فهم شكري العسيلي وعبد الوهاب الإنجليزي وعبد الغني الفرنسي ولا رابع لهم.
وكان حنق الفرنسيين على الإنجليز بعد الحرب بالغا، لأنهم أضاعوا عليهم آبار الموصل وكليكية ولم يعطوهم سوى سورية ولبنان، مع أن سورية ولبنان - على حد قولهم - كانت مضمونة لهم من قبل الحرب، فكأنهم لم يربحوا شيئا. وإن حقدهم على فيصل لا يزول مطلقا، لأن الإنجليز اتخذوه وسيلة للمساومة فدخل دمشق في سنة 1920 بوصف كونه قائدا خاضعا للقائد اللنبي، فعقد المؤتمر السوري وأعلن استقلال سورية ونودي به ملكا عليها، وعين رضا الركابي حاكما للبلاد الداخلية، فكلفهم ذلك العمل ثمنا غاليا لأنهم حشدوا جيشا قوامه 100 ألف عسكري وهاجموا دمشق بثلثيه وحارب فيصل حربا صورية في موقعة ميسلون الشهيرة باستسلامه، حيث مات يوسف العظمة وزير حربيته شهيدا وقبض على بقية الوزراء وحوكموا وحكم عليهم بالسجن المؤبد في جزيرة أرواد، ومنهم الدكتور عبد الرحمن شهبندر الذي كان وزير الخارجية في تلك الحكومة الخيالية التي لم تدم أكثر من بضعة أشهر.
Unknown page