عرفت من اختلاف مستوى الأصوات خلفي أنه هنا، فقد تباعد الناس جانبا وأحسست بفراغ خلفي يقف فيه جسد ما لكنه لا يغني. شممت رائحة القميص القطني الساخن الخفيف، ورائحة البشرة التي أحرقتها الشمس، ورائحة الصابون وزيت الماكينات. مس ذراعه كتفي (لمسة كالنار، بالضبط كما يقولون) ثم انسل ليقف بجانبي.
نظر كلانا نحو خشبة المسرح مباشرة، كان القس المعمداني قد قام بتقديم واعظ النهضة الدينية الذي بدأ يتحدث بطريقة ودودة حوارية. بعد فترة قصيرة، أرحت يدي على ظهر المقعد الذي كان أمامي، والذي كانت تجلس عليه فتاة صغيرة انحنت تنتزع قشرة متجلطة من على ركبتها. ثم وضع هو يده على ظهر المقعد على مسافة بوصتين من يدي، وقتها شعرت أن كل ما في جسدي من إحساس، وكل الآمال والاحتمالات قد تدفقت إلى تلك اليد.
أما واعظ النهضة الذي بدأ حديثه برفق وهو واقف خلف حامل القراءة فقد أطلق العنان لمشاعره تدريجيا، وبدأ يقطع المسرح جيئة وذهابا وتزداد نبرة صوته توترا ويأسا وحزنا. وبين الحين والآخر، كان يهجر تلك النبرة الحزينة ويدور فوق خشبة المسرح ويصرخ في الجمهور بصوت مرتفع كزئير الأسد. رسم صورة لجسر مصنوع من الحبال مثل ذلك الذي رآه عندما كان في بعثة تبشيرية في أمريكا الجنوبية - على حد قوله - وكان ذلك الجسر الهش المتأرجح معلقا فوق واد سحيق تضطرم فيه النيران. كان ذلك هو «نهر النار»، كان نهر النار في الأسفل، وجميع الكفرة الصارخين المستغيثين المعذبين مغموسين فيه - دون أن يغرقوا حقا - ثم أخذ يعد من بينهم الساسة ورجال العصابات والمقامرين والسكيرين والزناة ونجوم السينما والمرابين والكفرة. وقال إن كلا منا له جسر من الحبال خاص به يتأرجح فوق الجحيم، مربوط من الجانب الآخر بضفاف الفردوس. لكن هذه الفردوس لا تراها أعيننا ولا تسمعها آذاننا، وفي بعض الأحيان لا نستطيع تخيلها أيضا، وذلك بسبب الزئير والصراخ المنبعث من الجحيم، ومن أثر دخان الخطايا الذي تبعثه من كل جانب. ما اسم هذا الجسر؟ اسمه «رحمة الرب»، وجسر رحمة الرب هذا متين بصورة رائعة، لكن كل خطية من خطايانا، وكل كلمة وكل فعل وكل تفكير في الخطايا يحدث قطعا في هذا الحبل ويبليه أكثر ...
وبعض حبالكم لا تحتمل المزيد! بعض حبالكم تجاوزت نقطة اللاعودة. لقد أضعفتها الخطايا، لقد أبلتها الخطايا، لم يبق منها سوى خيط! لم يبق منها سوى خيط واحد هو ما يحميكم من السقوط في الجحيم! كلكم تعرفون، كل واحد منكم يعرف كيف هي حال جسره! ما هي إلا قضمة أخرى من فاكهة الجحيم، ما هو إلا يوم وليلة واحدة من الخطايا، وما إن ينقطع ذلك الجسر لن تجدوا غيره! لكن خيطا واحدا فقط كاف لأن تتعلقوا به إذا أردتم! لم يلق الرب بكامل معجزاته في زمان الإنجيل! كلا، أقول لكم من كل قلبي ومن خلال خبرتي إن الرب يلقي بمعجزاته هنا والآن وبيننا. فلتتعلقوا بالرب، وتتمسكوا بحبله جيدا حتى يوم الحساب، ولا تخشوا الشر.
في الظروف العادية كنت سأهتم بسماع هذا الحديث ومراقبة أثره على الناس. معظمهم كانوا هادئين مستمتعين كما لو كان يغني لهم تهويدة نوم. أما السيد ماكلوفلين - الذي كان يجلس على المسرح - فكان ينظر إلى الأرض وعلى وجهه تعبير مهذب لكنه غير صادق، فلم يكن ما يسمع هو نوعه المفضل من المواعظ. أما القس المعمداني فكانت ترتسم على وجهه ابتسامة عريضة كالتي ترتسم على وجه منظمي الحفلات. وكان الحضور من كبار السن يستمرون في ترديد «آمين» وهم يتمايلون في رفق. إن نجوم السينما والساسة والزناة قد فات أوان إنقاذهم، بدت هذه فكرة مريحة للكثيرين. أضيئت المصابيح، ودخلت الحشرات الطائرة من النوافذ، فقط تلك الحشرات القليلة التي تظهر في تلك الفترة من العام. وبين الحين والآخر كنا نسمع صوت صفعة دفاعية سريعة.
غير أني كنت مستغرقة بكامل حواسي في متابعة يدينا المستندتين إلى ظهر المقعد. حرك هو يده قليلا، وحركت يدي، ثم تحرك وتحركت مرة أخرى، حتى تلامست يدانا برفق وحيوية، ثم سحب كل منا يده، لكن لم نلبث أن أعدناهما، فظلت أيدينا معا. ظلت إصبعانا الصغيرتان تحتكان ببعضهما برفق، ثم تسللت إصبعه فوق إصبعي، ترددت قليلا فانفرجت يدي قليلا فلمس بإصبعه الصغرى خنصري، حتى وقعت في أسر يديه، وهكذا بخطوات رسمية محتومة - وبقدر هائل من التحفظ والثقة - غطت يده يدي. وعندما حدث هذا رفع يدي من فوق ظهر المقعد وأمسك بها بيننا. انتابني إحساس ملائكي يغمره الامتنان وكأنني أخرج إلى مستوى آخر من الوجود، أحسست أنني لا أريد شيئا آخر، فلا توجد حميمية أكثر مما أشعر به.
ثم دوت الترنيمة الأخيرة.
أحب أن أروي قصة.
ستكون عن المجد.
أن أحكي قصة قديمة قديمة ...
Unknown page