امتلأت القاعة ووقفت أنا في المؤخرة خلف آخر صف من المقاعد، وكان الناس لا يزالون يتوافدون ويتزاحمون في جانبي القاعة مالئين الفراغ الذي خلفي، وجلس الأولاد على حواف النوافذ. كانت النوافذ مرتفعة بما يسمح لهم بالجلوس عليها، ولا تزال ساخنة؛ لأن أشعة الشمس المنخفضة تضرب تلك الجدران القديمة المشققة الملوثة المكسوة بالخشب والجبس، لم أكن لاحظت من قبل كم هي مهترئة تلك القاعة.
أدى السيد ماكلوفلين من الكنيسة المتحدة الصلاة الافتتاحية للاجتماع. كان ابنه دايل قد هرب من المنزل منذ زمن طويل. أين هو الآن؟ آخر ما سمع عنه أنه كان يعمل في جز الحشائش بأحد ملاعب الجولف. شعرت كما لو أنني قد عشت عمرا طويلا في جوبيلي أشاهد الناس يرحلون ويعودون ويتزوجون ويبدءون حياتهم وأنا لا أزال أرتاد المدرسة. وهناك كانت ناعومي أيضا بصحبة الفتيات من محل الألبان، وكلهن صففن شعورهن بالطريقة نفسها، فعقصن شعورهن في جزأين خلف الأذن، ووضعن شرائط للشعر.
صعد إلى المسرح أربعة زنوج؛ رجلان وامرأتان، فاشرأبت الأعناق وصمت الجمع تقديرا لهم. كثير ممن كانوا في القاعة - وأنا من بينهم - لم يسبق لهم أن رأوا زنجيا كما لم يروا زرافة أو ناطحة سحابة أو عابرة محيطات. أحد هؤلاء الرجال كان نحيلا أسود البشرة عجوزا، وصوته قوي جهير مخيف، وكان هو المغني ذا الصوت الجهير. أما المغني ذو الصوت الصادح فكان بدينا بشرته مائلة إلى الشحوب وكان كثير الابتسام. كانت السيدتان ممتلئتا الجسم ترتديان مشدات للجسد ولون بشرتهما كلون القهوة، ترتديان فستانين جميلين لونهما أخضر زمردي وأزرق لامع. حين غنوا غطى العرق وجوههم وأعناقهم، وأثناء أداء الأغنية دخل بتواضع إلى المسرح واعظ النهضة الدينية، الذي تعرفنا عليه من صورته الملصقة على كل أعمدة أسلاك الهاتف وعلى كل واجهات المحال الزجاجية في المدينة منذ أسابيع - لكنه كان أصغر حجما ويبدو عليه الإرهاق والشيب أكثر مما يبدو في الصور - ووقف خلف حامل القراءة واستدار تجاه المغنين وعلى وجهه تعبير رقيق بالبهجة، رافعا وجهه كما لو كان غناؤهم يتساقط عليه كحبات المطر.
على الجانب الآخر من القاعة، كان ثمة شاب يحدق في بثبات، لا أذكر أنني رأيته من قبل. لم يكن فارع الطول، وكان أسمر البشرة وعظام وجهه بارزة، وله عينان غائرتان ووجنتان عريضتان غائرتان بعض الشيء، ويرتسم على وجهه تعبير وقور، متغطرس دون وعي. وبعد أن انتهى غناء الزنوج تحرك من مكانه تحت النوافذ واختفى بين الجمع في نهاية القاعة. للحظة ظننت أنه سيأتي ليقف بجانبي، ثم فكرت أن هذا محض هراء، مثل تعارف في حفل أوبرا أو أغنية عاطفية مثيرة رديئة.
نهض الجميع وهم يسقطون الأقمشة القطنية الغارقة في العرق التي كانوا يسندون إليها، كي يغنوا الترنيمة الأولى.
في خيمة يرقد صبي غجري
يموت وحيدا وقت الغروب
حملنا إليه خبر خلاصه
فقال لم يخبرني أحد بهذا من قبل ...
تمنيت بيأس أن يأتي، ركزت بكياني كله في الدعاء بأن يظهر إلى جانبي ، بل وكنت أقول لنفسي: «إنه الآن يدور من خلفي، ويتجه نحو الباب، الآن ينزل السلالم ...»
Unknown page