كان دائما يتمتم بعد أن يقول أمرا كهذا: «تعلمين أنني أمزح.» لكنه كان يعني جائزة نوبل لا بشأن الحرب. فلم نستطع الفكاك من الاعتقاد السائد في جوبيلي، الذي يقول إن ثمة أخطارا هائلة خارقة للطبيعة تلازم المزهوين أو من لهم آمال وتطلعات للمستقبل. لكن في الواقع ما كان يجذبنا ويبقينا معا كانت هي تلك الآمال، تلك الآمال التي كنا ننكرها ونعترف بها ونحترمها ونسخر بعضنا منها لدى البعض.
في عصر أيام الأحد كنا نحب أن نذهب في نزهات طويلة سيرا على الأقدام على طول قضبان السكك الحديدية بادئين من خلف منزلي. كنا نسير حتى الجسر الممتد فوق الالتواء الكبير في نهر واواناش، ثم نعود أدراجنا. كنا نتحدث عن القتل الرحيم والسيطرة الجينية على أعداد السكان، وعما إذا كان هناك فعلا ما يسمى بالروح، وإذا ما كان من الممكن أن نعرف كل شيء عن الكون. ولم نكن نتفق على شيء. في البداية كنا نتنزه في الخريف ثم في الشتاء. فكنا نسير في العواصف الثلجية نتجادل خافضين رأسينا داسين أيدينا في جيوبنا، بينما تضرب حبات الثلج الرفيعة الحادة وجهينا، وبعد أن نتعب من الجدال كنا ننتزع أيدينا من جيوبنا ونمد أذرعنا أمامنا؛ لكي تمنحنا بعض التوازن ونحن نحاول أن نمشي على قضبان السكك الحديدية. كانت لجيري ساقان طويلتان ضعيفتان ورأس صغير وشعر مجعد وعينان مدورتان لامعتان، وكان يعتمر قبعة ذات نقوش مربعة ولها غطاء على الأذن مبطن بالصوف، وكنت أذكر أنه يرتديها منذ الصف السادس.
تذكرت أنني كنت أسخر منه مثلما كان يفعل الجميع، وكنت لا أزال أحيانا أستحيي من أن يراني أحد، مثل ناعومي، بصحبته. لكنني الآن بدأت أفكر أن به أمرا يثير الإعجاب، ميزة غريبة ولاذعة في طريقة التزامه بالنموذج، وتقبله لدوره في جوبيلي، وسخافته الضرورية التي تشعره بالرضا والسعادة، بما تحمله من نزعة حتمية، وهو ما لم أكن أنا نفسي قادرة قط على استجماعه. كانت تلك هي الروح التي يظهر بها في الحفلات الراقصة والتي يقودني بها بتشنج فوق أرضية قاعة الرقص الزلقة، والتي يتأرجح بها بلا جدوى نحو الكرة خلال مباراة البيسبول السنوية الإجبارية، والتي يمشي بها مع الطلاب في التدريب العسكري. كان يقدم نفسه دون أن يتظاهر بأنه ولد عادي، ولكن يفعل ما يفعله الولد العادي وهو يعلم أن أداءه لا يمكن أن يكون مقبولا وأن الآخرين سوف يسخرون منه لا محالة. لكن لم يكن بإمكانه سوى فعل هذا، فباطنه كظاهره. أما أنا - التي كانت حدودي الطبيعية أكثر غموضا، وحيث اعتدت أن أتماشى مع ما حولي قدر استطاعتي - فبدأت أرى أنه قد يكون من المريح أن أكون مثل جيري.
أتى جيري إلى منزلي يوما للعشاء، وكان هذا رغما عني؛ فلم أكن أحب أن أجلسه وجها لوجه مع أمي؛ فقد كنت أخشى أنها ستتحمس حماسا زائدا، وتحاول أن تتفوق على نفسها بطريقة ما بسبب شهرة جيري بالذكاء. وهذا هو ما حدث؛ فقد حاولت أن تجعله يشرح لها نظرية النسبية، وأخذت هي تومئ له وتشجعه وتكاد تقفز من مكانها مطلقة صيحات خافتة تدل على فهمها، وتلك المرة كان شرحه غير مترابط. وأخذت أنا أنتقد الطعام، كما كنت أفعل دائما قبل أن نحظى بهذه الصحبة؛ فاللحم يبدو ناضجا أكثر مما ينبغي، والبطاطس نيئة بعض الشيء، والفاصوليا المعلبة باردة جدا. أتى أبي ومعه أوين من طريق فلاتس لأنه كان يوم الأحد، وكان أوين يعيش في طريق فلاتس طوال الوقت آنذاك وصار فظا للغاية؛ فبينما كان جيري يتحدث، أخذ أوين يمضغ الطعام بصوت مرتفع وينظر إلى أبي نظرات تنم عن جهل وازدراء ذكوري. لم يتجاوب أبي مع نظراته تلك، وإنما اكتفى بقليل من الكلام، وربما كان محرجا من حماس أمي الذي ربما ظن أنه حماسا كافيا لكليهما. أما أنا، فكنت غاضبة من الجميع، كنت أعلم أن أوين وأبي أيضا يريان جيري شخصا غريب الأطوار طرد من عالم الرجال، ولا أهمية لما يعرفه. (ورغم أن أبي لم يكن يظهر ذلك؛ فإنه كان يعلم أن هناك طريقة واحدة للنظر إلى الأمور.) وقد بدا لي أنهما على درجة من الحماقة تمنعهما من رؤية ما يمتلكه من قوة. أما جيري، فقد كانت عائلتي في نظره جزءا من الجموع الحاشدة من البشر الذين لا يستحق الأمر تكبد مشقة شرح أي شيء لهم، ولم يكن يرى أنهم يملكون قوة بداخلهم. لقد كان عدم الاحترام ظاهرا من الجميع وموجها إلى الجميع. «مما يثير ضحكي ما يظنه الناس من أنهم يمكنهم أن يطرحوا أسئلة قليلة، ويستطيعون الفهم دون أن يعرفوا أي شيء من الأساسيات.»
قلت بمرارة: «فلتضحك إذن، أتمنى أن تستمتع بوقتك.»
لكنه كان يروق لأمي، ومنذ ذلك الوقت فصاعدا كانت تترقب مجيئه لتعرف رأيه في أشكال الحياة التي تخلق في المعامل، وفي احتلال الماكينات مكان البشر. كنت أتفهم كم كان ذاك السيل المحموم من الأسئلة يربكه ويثير ضيقه. ألم أشعر أنا نفسي بهذا عندما اختطف هو رواية «أيها الملاك تطلع إلى بيتك» من أعلى كومة الكتب التي كنت أزمع إعادتها إلى المكتبة، وفتحه ثم أخذ يقرأ في حيرة: «حجر، ورقة شجر، باب ... وهكذا أضاعت الرياح الشبح وأحزنته ...» فانتزعت الكتاب من يديه كما لو كان يعرضه لخطر. قال لي بعقلانية: «ماذا يعني هذا؟ ما أراه إلا هراء، فلتشرحيه لي، كلي آذان مصغية.»
وقالت عنه أمي: «إنه خجول للغاية، هو فتى ذكي لكن لا بد أن يتعلم كيف يعبر عن نفسه بصورة أفضل.»
كان الأسهل أن نتناول العشاء في بيته؛ فقد كانت والدته أرملة لمعلم وكان هو ابنها الوحيد. كانت تعمل سكرتيرة في المدرسة الثانوية ولهذا كنت أعرفها مسبقا. كانا يقطنان نصف بيت مزدوج يقع على طريق دياجونال. في ذلك البيت، كانت مناشف الأطباق مكوية ومطوية كما لو كانت أفضل المناشف الكتانية، وموضوعة في درج تفوح منه رائحة الليمون. وللتحلية تناولنا بودنج الجيلي ثلاثي الألوان الممتلئ بالفواكه المعلبة. بعد العشاء، دخل جيري إلى غرفة الاستقبال لحل مسألة الشطرنج الأسبوعية التي تلقاها عبر البريد (وهذا مثال على ما كنت أعنيه عن التزامه المثير للإعجاب بالنموذج) وأغلق الباب الزجاجي حتى لا يشتت حديثنا تركيزه. قمت أنا بتجفيف الأطباق، وأخذت والدته تتحدث عن معدل ذكائه، وكانت تتحدث عنه كما لو أنه شيء نادر، ربما كاكتشاف أثري، شيء قيم لدرجة هائلة ولكنه مخيف تحتفظ هي به مغلفا في خزانة.
ثم قالت بنبرة مطمئنة: «أنت أيضا معدل ذكائك مرتفع.» (فقد كانت كل سجلات المدرسة متاحة أمامها في المدرسة، بل إنها في الواقع كانت هي من تحتفظ بها)، واستدركت قائلة: «لكنك تعرفين أن معدل ذكاء جيري يجعله في الربع الأعلى من نسبة الواحد بالمائة من السكان الأكثر ذكاء. أليس من المذهل أن نفكر في هذا؟ وها أنا ذي، والدته، يا للمسئولية الملقاة على عاتقي!»
وافقتها على ذلك. «سوف يظل لسنوات وسنوات في الجامعة، وسوف يكون عليه أن يحصل على الدكتوراه، ثم سيكمل بعدها إلى دراسات ما بعد الدكتوراه وغير ذلك، هذا يستغرق سنوات.»
Unknown page