وهكذا كان على أمي أن تعمل، فعملت في متجر كبير في بلدة أوين ساوند، حيث أصبحت مسئولة عن المنسوجات والملابس الجاهزة وأدوات الحياكة الصغيرة، وخطبها شاب ظل شخصية غامضة غير واضحة؛ فلم يكن شريرا صريحا كشقيقها أو قريب الجدة سيلي، ولكنه ليس واضحا ومحبوبا، ليس كالآنسة راش. ولأسباب غامضة اضطرت لأن تفسخ الخطبة («اتضح أنه ليس الشخص الذي ظننته».) ولاحقا بعد فترة غير محددة قابلت أبي، الذي لا بد وأنه لم يخذلها؛ لأنها تزوجته رغم أنها كانت تقسم لنفسها دائما أنها لن تتزوج من مزارع (كان يربي الثعالب، وفي وقت من الأوقات ظن أنه قد يحقق الثراء من ذلك، فهل مثل ذلك فارقا؟) وبدأت عائلته بالفعل تبدي ملاحظات عليها لم تكن بنية طيبة.
ولكنني كنت أذكرها بحزم وقلق تدفعني رغبة في تسوية هذا الأمر للأبد: «ولكنك أغرمت به، لقد وقعت في الحب.» «حسنا، بالطبع أغرمت به.» «ولم أحببته؟» «كان والدك دوما رجلا مهذبا.»
أهذا كل شيء؟ كان يؤرقني هنا غياب التناسب؛ رغم أنه كان من الصعب تحديد الحلقة المفقودة أو الخطأ الذي وقع. ففي بداية قصتها، ترسم أمي صورة الوقوع في الأسر الكئيب والمعاناة، ثم الجرأة والتحدي والهروب، بالإضافة إلى الصراع والإحباط والمزيد من الصراع وأمهات روحيات وأشرار. والآن كنت أتوقع كما في كل القصص العظيمة، تفجر لحظات المجد والمكافأة. الزواج من أبي؟ كنت آمل أن يكون كذلك، وتمنيت ألا تتركني في حيرة من أمري.
وأنا أصغر سنا عندما كنا نقطن في نهاية طريق فلاتس، كنت أشاهدها وهي تسير عبر الفناء كي تفرغ مياه غسل الصحون، أشاهدها وهي تحمل الوعاء عاليا كما لو كانت كاهنة تسير بطريقة متأنية مهيبة وتلقي بالمياه بإيماءة شامخة عبر السياج. في ذلك الوقت، اعتقدت أنها قوية، أنها مسيطرة، أنها راضية أيضا. كانت لا تزال تتمتع بالقوة، ولكن ليس بالقدر الذي تظنه هي، كما أنها لم تكن راضية بأية حال من الأحوال، ولا كاهنة. كانت معدتها تصدر صوت قرقرة تثير لديها الضحك أو التجاهل، ولكنها كانت تحرجني على نحو لا يطاق. كان شعرها ينمو في خصل صغيرة جامحة لونها بني مائل إلى الرمادي، وكل محاولة لفرد الشعر تنتهي بها إلى التجعد. أكان لزاما على كل قصصها أن تنتهي بها هي فقط، بالحال التي هي عليها الآن، مجرد أمي التي أراها في جوبيلي؟
ذات يوم أتت إلى المدرسة ممثلة عن شركة الموسوعات لتقدم جائزة لأفضل مقال عن الأسباب التي تدفعنا لشراء سندات النصر. كان عليها أن تذهب إلى المدارس في بورترفيلد وبلو ريفر وستيرلينج وتقوم بالمهمة نفسها، وكان هذا الأسبوع مصدر فخر بالنسبة لها. كانت ترتدي حلة رجالية بشعة، لونها أزرق داكن، ذات زر واحد على الخصر وقبعة كستنائية من اللباد، وهي أفضل ما لديها، وما آلمني أنني رأيت عليها ترابا دقيقا. ألقت خطبة قصيرة، فأخذت أحدق في سترة الفتاة التي تقف أمامي - التي كانت ذات لون أزرق باهت وتبرز منها قطع من الصوف الخشن - كما لو كان التعلق بقشة الواقع اللامبالية سوف ينقذني من الغرق في بحر الإذلال. لقد كانت مختلفة للغاية، هذا كل ما في الأمر، تبدو نشيطة ومفعمة بالأمل وساذجة في قبعتها الكستنائية، تطلق نكاتا صغيرة وتظن نفسها ناجحة. وكانت مستعدة في مقابل الحصول على سنتين أن تخوض في وصف تاريخها التعليمي؛ بدءا من رحلة السفر تسعة أميال إلى المدينة، إلى تنظيف المباول. من له أم كهذه؟ كان الناس يرمقونني بنظرات خبيثة شامتة مشفقة، وفجأة لم أستطع أن أحتمل أي شيء يخصها؛ نبرة صوتها والطريقة الطائشة المسرعة التي تتحرك بها وإيماءاتها الحيوية السخيفة (في أية لحظة قد تطيح بزجاجة الحبر من على مكتب المدير) وقبل كل شيء براءتها وطريقتها في تجاهل متى يضحك الآخرون واعتقادها أنها سوف تنجو من الموقف بسلام.
كنت أكره قيامها ببيع الموسوعات وإلقاء الخطب وارتداء تلك القبعة، وكنت أكره قيامها بكتابة خطابات إلى الصحف. وكانت خطاباتها عن المشاكل المحلية، أو تلك التي تشجع فيها التعليم وحقوق المرأة وتعارض التعليم الديني الإلزامي في المدارس؛ تنشر باسمها في جريدة «هيرالد أدفانس»، التي تصدر في جوبيلي. وتنشر مقالات أخرى في صفحة في جريدة المدينة مخصصة لمراسلات السيدات؛ حيث كانت تستخدم الاسم المستعار «الأميرة إيدا»، المستمد من شخصية في أحد أعمال تينيسون التي كانت تروق لها كثيرا. كانت مقالاتها مليئة بالوصف التفصيلي المزخرف للريف الذي هربت منه («في هذا الصباح، كان ثمة صقيع فضي رائع يبهج العين على كل غصن من أغصان الشجر وعلى أسلاك الهاتف، يجعل العالم يبدو عالما سحريا على أرض الواقع ...») بل كانت أيضا تضم إشارات لي ولأوين («كانت ابنتي التي أوشكت أن تتجاوز مرحلة الطفولة تنسى وقارها المكتسب حديثا أمام اللهو في الثلج») تجعل جذور أسناني تؤلمني خجلا. وكان أناس آخرون - بخلاف العمة إلسبيث والعمة جريس - يقولون لي «لقد رأيت ذلك الخطاب الذي كتبته والدتك في الجريدة»، فكنت أشعر كم كانوا يشعرون بالازدراء والاستعلاء والتحفظ والحسد، هؤلاء الأشخاص الذين قد يظلون طوال حياتهم ساكنين دون حاجة لفعل أو قول أي شيء مميز.
أنا نفسي لم أكن أختلف كثيرا عن أمي، ولكنني كنت أخبئ تلك الحقيقة؛ إذ كنت أدرك مدى الأخطار الكامنة. •••
وفي الشتاء الثاني الذي مر علينا في جوبيلي طرق بابنا زائرون. كان عصر أحد أيام السبت، وكنت أجرف الثلج عن رصيف منزلنا عندما رأيت سيارة ضخمة تتحسس طريقها بين تلال الجليد في صمت كما لو كانت سمكة وقحة. لوحة السيارة المعدنية أمريكية. ظننت أن شخصا ما قد ضل الطريق. كان الناس يسيرون في طريقهم باتجاه نهاية شارع ريفر؛ حيث لم يأبه أحد بوضع لافتة تحذيرية تقول إنه طريق مسدود، وعندما يصلون إلى منزلنا يكونون قد بدءوا في التساؤل.
خرج شخص غريب من السيارة يرتدي معطفا وقبعة رمادية من اللباد ووشاحا حريريا في الشتاء. كان طويلا وبدينا، ووجهه حزين وواهن لكن لا يخلو من الفخر، وفتح ذراعيه لي بطريقة مخيفة. «تعالي هنا وألق علي التحية، إنني أعرف اسمك ولكنك لا تعرفين اسمي!»
فأتى نحوي مباشرة وأنا أقف ساكنة أحمل الجاروف في يدي وقبلني على خدي. كانت رائحته رائحة ذكورية حادة تميل لأن تكون حلوة، رائحة كريم الحلاقة، ويبدو قلقا ومضطربا، يرتدي قميصا منشى نظيفا، وتنبعث منه القليل من الرائحة الكريهة بسبب الشعر الزائد. «كانت والدتك تدعى آدي موريسون، أليس كذلك؟»
Unknown page