ألوان وصور، ملائكة وشياطين، نفوس تتعذب، قلوب تحترق، أنات وابتسامات، دنيا لم يكن للرافعي بها عهد، ولم تكن تخطر له على بال.
وثمة لون آخر من الرسائل: ... المحامي الشاعر الأستاذ إبراهيم ... شاب له خلق ودين، وفيه اعتزاز بالعربية والإسلام، فهو من ذلك يحب الرافعي وينتصر له، ويتتبع بشوق وشغف كل ما ينشر من كتب ومقالات، ولكنه مع ذلك يحب العقاد وينتصر له، ويراه صاحب مذهب في الشعر ورأي في الأدب جديرا بأن يتأثر خطاه ويسير على نهجه، وليس عجيبا - فيما أظن - أن يجتمع الرأي لأديب من الأدباء على محبة الرافعي والعقاد في وقت معا، كما أنه ليس عجيبا أن يتعادى الرافعي والعقاد أو يتصافيا ما دام لكل منهما في الأدب طريق ومذهب، ولن يمنع ما بينهما من الخلاف، أو من الوفاق، أن يكون لكل منهما قراؤه المعجبون به، أو يكون لهما قراء مشتركون يعجبون بما ينشئ كل منهما في فنون الأدب، وإنما العجيب أن يبلغ إعجاب القارئ بالكاتب الذي يؤثره درجة التعصب، فلا يعتبر سواه ولا يعترف لغيره بأن يكون له مكان بين أهل الأدب.
على أن شأن صاحبنا المحامي الشاعر الأستاذ إبراهيم مع الرافعي والعقاد يبعث على أشد العجب وأبلغ الدهشة ... إنه يحب الرافعي ويؤثره، ويعجب به إعجابا يبلغ درجة التعصب، وإنه يحب العقاد كذلك، ويعجب به، ويتعصب له ... لكل منهما في نفسه مكان لا يتسع إلا له، ولا يزاحمه فيه خصمه، ولكنهما يحبهما معا، ويتعصب لهما معا!
رأيان يتواثبان، وشخصيتان تتناحران، وإسراف في التعصب لكل منهما على صاحبه، فأين يجد نفسه بين صاحبيه اللذين يؤثر كلا منهما بالحب والإعجاب والأستاذية؟
صورة طريفة وقعت عليها فيما وقعت بين رسائل الرافعي!
وهذه رسالة منه إلى الرافعي يقول فيها:
1
سيدي، إنني أحبك، وأعجب بك، وأتعصب لك، ولكن موقفك من العقاد يا سيدي! ... ليت شعري! لماذا تتخاصمان؟ ... لقد كنت على حق ... ولكن العقاد على حق! ... هل تأذن لي أن أكون رسول السلام بينكما؟
ثم لا تمضي أيام حتى يعود فيكتب إلى الرافعي رسالته الثانية: «معذرة، إنك لتتجنى على العقاد تجنيا ظالما، فما لك وجه من الحق في عدائه والحملة عليه، لقد عقمت العربية فلم تنجب غير العقاد ... وإنك أنت ... إنك كبير في نفسي، كبير جدا، وإني لأقلب تاريخ العربية بين يدي فلا أجد غير الرافعي ... أنت ... والعقاد ... أين ترى يكون اللقاء؟»
وعلى هذا المثال قرأت لصاحبنا المحامي الشاعر بضع رسائل بين ما خلف الرافعي من أوراق تملأ النفس عجبا ودهشة، وآخر ما وصل إلى الرافعي من رسائله، رسالتان؛ كتب إحداهما في المساء، وكتب الثانية في صباح اليوم التالي، ولولا خط الكاتب، ونوع الورق، وخاتم البريد، لما حسبتهما إلا رسالتين من شخصين لو أنهما التقيا في الطريق لتضاربا بالأكف ...!
Unknown page