تمهيد
صورته
نسبه ومولده
علمه وثقافته
في الوظيفة
شاعر الحسن
شعراء عصره
بين أهله
من الشعر إلى الكتابة
في سنوات الحرب
Unknown page
أغاني الشعب
الرافعي العاشق
في النقد
كيف كان يكتب؟
عمله في الرسالة
قصص الرافعي
عود على بدء
نقلة اجتماعية
مقالات منحولة
من شئونه الاجتماعية
Unknown page
في يومه الأخير
الخاتمة
تمهيد
صورته
نسبه ومولده
علمه وثقافته
في الوظيفة
شاعر الحسن
شعراء عصره
بين أهله
Unknown page
من الشعر إلى الكتابة
في سنوات الحرب
أغاني الشعب
الرافعي العاشق
في النقد
كيف كان يكتب؟
عمله في الرسالة
قصص الرافعي
عود على بدء
نقلة اجتماعية
Unknown page
مقالات منحولة
من شئونه الاجتماعية
في يومه الأخير
الخاتمة
حياة الرافعي
حياة الرافعي
تأليف
محمد سعيد العريان
تمهيد
سمعت اسم الرافعي لأول مرة منذ بضع عشرة سنة، وكنت يومئذ غلاما حدثا لا يكاد يفهم ما يلقى إليه، فسمعت اسما له جرس ورنين، وله نشيد تتجاوب أصداؤه في جوانب نفسي؛ فحبب إلي من ذلك اليوم أن ألقاه ...
Unknown page
ورأيته لأول مرة بعد ذلك بأشهر، فرأيت رجلا كبعض من أعرف من الناس، وكان جالسا وقتئذ في قهوة على الطريق وبين يديه صحف يقرؤها، فوقفت هنيهة أنظر إليه، لا أكاد أصدق أن هذا الشخص الماثل أمامي هو الشخص الذي أعرفه في نفسي ...
وقرأت له أول ما قرأت، نشيده المشهور «اسلمي يا مصر ...» ثم دفع إلي صديق من أصدقائي كتاب «رسائل الأحزان».
كنت يومئذ في بكرة الشباب، في تلك السن التي تدفع الفتى إلى الحياة بعينين مغمضتين وفكر حالم ورأس يزدحم بالأماني وقلب مملوء بالثقة، ثم لا يكاد يفتح عينيه على حقائق هذا الوجود حتى يعرف أن أمانيه ليست في دنيا الناس، ويجد الفرق بين عالم قلبه وعالم حسه، وتسخر منه الدنيا سخريتها الأليمة، فيلجأ إلى وحدته الصامتة مطويا على آلامه!
واستهواني عنوان الكتاب الذي دفعه إلي صاحبي، فتناولته أقلب صفحاته لا أكاد أفهم جملة إلى جملة، حتى انتهيت إلى قصيدته «حيلة مرآتها»،
1
فإذا شعر عذب يخالط النفس وينفذ في رفق إلى القلب، فأخذت أعيدها مرة ومرة، فلم أدع الكتاب حتى استظهرت القصيدة، وحبب إلي هذا الشعر الساحر أن أعود إلى الكتاب فأقرأه على مهل وروية؛ لعلني أستدرك ما فاتني من معانية وأدخر لنفسي قوة من سحر بيانه وصدق عاطفته، وعدت إليه أقرؤه قراءة الشعر: أفهمه بفكري ووجداني، وأنظر فيه بعيني وقلبي، فإذا الكتاب يكشف لي عن معناه ...
وأحببت الرافعي من يومئذ، فرحت أتتبع آثاره في الصحف وفي الكتب، لا يكاد يفوتني منها شيء، وعرفته، ولم أزل كل يوم أزداد عرفانا به، ولكني لم أعرفه العرفان الحق إلا بعد ذلك بعشر سنين ...
كان ذلك في خريف سنة 1932 وقد قصدت إليه في داره مع وفد ثلاثة نسأله الرأي والمعونة في شأن من شئون الأدب، فلقينا مرحبا مبتسما وقادنا إلى مكتبه، ثم جلس وجلسنا، وفي تلك الغرفة التي تتنزل فيها عليه الحكمة ويلقى الوحي، جلسنا إليه ساعة يجاذبنا ونجاذبه الحديث، لا نكاد نشعر أن الزمن يمر ...
كان جالسا خلف مكتب تكاد الكتب فوقه تحجبه عن عيني محدثه، وعن يمينه وشماله مناضد قد ازدحمت عليها الكتب في غير ترتيب ولا نظام، تطل من بين صفحاتها قصاصات تنبئك أن قارئها لم يفرغ منها بعد، أو أن له عند بعض موضوعاتها وقفات سيعود إليها، وعلى حيطان الغرفة أصونة الكتب المتراصة لا يبدو من خلفها لون الجدار ...
ومضى يتحدث إلينا حديث المعلم، وحديث الأب، وحديث الصديق؛ فما شئت من حكمة، وما أكبرت من عطف، وما استعذبت من فكاهة، وطال بنا المجلس حتى خشينا أن نكون قد أثقلنا عليه فهممنا بالانصراف، فإذا هو يطلب إلينا البقاء، ويرجونا ألا نغب مجلسه، وعرفت الرافعي عرفانا تاما من يومئذ فلزمته، وعرفني هو أيضا فأصفاني عطفه ومودته.
Unknown page
وجلست إليه في الزورة الثانية وبين يديه صحف، فدفع إلي صحيفة منها، كان منشورا فيها يومئذ قصيدة للشاعر خليل مطران بك، فطلب إلي رأيي في القصيدة، ولم أتنبه ساعتئذ إلى غرضه، وحسبته يقصد إلى أن يشاركني في لذة عقلية وجدها في هذا الشعر، فتناولت الصحيفة وقرأت القصيدة، ثم دفعتها إليه وقد أشرت بالقلم إلى عيون أبياتها، وتناول الصحيفة مني؛ ليرى اختياري ورأيي، فما عرفت إلا وقتئذ أنه كان يختبرني، ولكني - والحمد لله - نجحت في الامتحان قدرا من النجاح!
وتكرر هذا الاختبار، وهو لا يحسبني أدرك ما يعني، على أن إدراكي هذا قد جعلني من بعد أكثر تدقيقا في اختيار الحسن مما أقرأ، وأولاني ثقته على الأيام، فكان علي أن أقرأ أكثر ما يهدى إليه من الكتب؛ لأشير له إلى المواضع التي يعنيه أن يقرأ منها، وأدع ما لا جدوى عليه من قراءته؛ ضنا بوقته، وكنت أنا أكثر ربحا بذاك!
إني لأحس حين أذكره الساعة كأنني لست وحدي، وكأن روحا حبيبة تطيف بي وترف حولي بجناحين من نور، وكأن صوتا نديا رفيع النبرات يتحدث إلي من وراء الغيب حديثا أعرف جرسه ونغمته، ولكنني لا أرى، ولكنني لا أسمع، ولكنني هنا وحدي، تتغشاني الذكرى فتخيل إلي ما ليس في دنياي ...
لقد كان هنا صوت يتجاوب صداه بين أقطار العربية، لقد كان هنا إنسان يملأ فراغا من الزمان، لقد كان هنا قلم يصر صريرا، فيه رنات المثاني وفيه أنات الوجع، وفيه همسات الأماني وفيه صرخات الفزع، فيه نشيج البكاء وفيه موسيقى الفرح ... خفت الصوت، ومات الإنسان، وتحطم القلم، ولكن قلب الشاعر ما زال حيا ينبض؛ لأن قلب الشاعر أقوى من الفناء! •••
وجاءني نعي الرافعي في جريدة «البلاغ» بعد ظهر الإثنين 10 مايو سنة 1937، فغشيتني غشية من الهم والألم؛ سلبتني الفكر والإرادة وضبط النفس، فلم أكد أصدق فيما بيني وبين نفسي أن «صادق الرافعي» الذي ينعاه الناعي الساعة، هو الرجل الذي أعرف ويعرف الناس، ودار رأسي دورة جمعت لي الماضي كله بزمانه ومكانه في لحظة فكر، وتتابعت الصور أمام عيني تنقل إلي خيال هذا الماضي بألوانه وأشكاله ومجالسه وسمره وأحاديثه، من أول يوم لقيت فيه الرافعي إلى آخر يوم جلست فيه إليه ...
وعدت إلى النعي أقرؤه وفي النفس حسرة والتياع، فما زادتني قراءته شيئا من العلم، إلا أن مصطفى صادق الرافعي قد مات!
حينئذ أحسست كأن شيئا ينصب انصبابا في نفسي، وأن صوتا من الغيب يتناولني من جهاتي الأربع يهتف بي، وأن حياة من وراء الحياة تكتنفني ساعتئذ لتملي علي شيئا أو تتحدث إلي بشيء، وكأن عينين تطلان علي من وراء هذا العالم المنظور لتأمراني أمرا وتلهماني الفكر والبيان، هما عينا الرجل الذي أحببته حبا فوق الحب، وأخلصت له وأخلص لي إخلاصا ليس منه إخلاص الناس، ثم نزغ الشيطان بيني وبينه ففارقته وفي نفسي إليه نزوع وفي نفسه إلي، فلم ألقه من بعد إلا رسما في ورقة مجللة بالسواد ...!
2
وعرفت منذ الساعة أي واجب علي لهذا الراحل العزيز. •••
لقد عاش الرافعي في هذه الأمة وكأنه ليس منها، فما أدت له في حياته واجبا، ولا اعترفت له بحق، ولا أقامت معه على رأي، وكأنما اجتمع له هو وحده تراث الأجيال من هذه العربية المسلمة، فعاش ما عاش ينبهها إلى حقائق وجودها ومقومات قوميتها، على حين كانت تعيش هي في ضلال التقليد وأوهام التجديد، ورضي هو مقامه منها غريبا معتزلا عن الناس، لا يعرفه أحد إلا من خلال ما يؤلف من الكتب وينشر في الصحف، أو خلال ما يكتب عنه خصومه الأكثرون، وهو ماض على سنته سائر على نهجه، لا يبالي أن يكون منزله بين الناس في موضع الرضا أو موضع السخط والغضب، ولا ينظر لغير الهدف الذي جعله لنفسه منذ يومه الأول، وهو أن يكون من هذه الأمة لسانها العربي في هذه العجمة المستعربة، وأن يكون لهذا الدين حارسه وحاميه، يدفع عنه أسباب الزيغ والفتنة والضلال، وما كان - رحمه الله - يرى في ذلك إلا أن الله قد وضعه في هذا الموضع؛ ليكون عليه وحده حياطة الدين والعربية، لا ينال منهما نائل إلا انبرى له، ولا يتقحم عليهما متقحم إلا وقف في وجهه، كأن ذلك «فرض عين» عليه وهو على المسلمين «فرض كفاية»، وأحسبه قال لي مرة وقد كتب إليه صديق يلفته إلى مقال نشرته صحيفة من الصحف لكاتب من الكتاب تناول فيه آية من القرآن بسوء التأويل: «من تراه - يا بني - يقوم لهذا الأمر إن سكت الرافعي؟»
Unknown page
3
وما كان هذا من اعتداده بنفسه، ولكنه كان مذهبه وإليه غايته، وكأن القدرة التي هيأته وأنشأته بأسبابها لهذا الزمان، وقد فرضت عليه وحده سداد هذا الثغر، وكان إلى ذلك لا ينفك باحثا مدققا في بطون الكتب حينا وفي أعماق نفسه المؤمنة حينا آخر؛ ليستجلي غامضة من غوامض هذا الدين، أو يكشف عن سر من أسراره فينشر منه على الناس، وأحسبه بذلك قد أجد على الإسلام معاني لم تكن تخطر على قلب واحد من علماء السلف، وأراه بذلك كان يمثل «تطور الفكرة الإسلامية» في هذا العصر. فإذا كانت الأمة العربية المسلمة قد فقدت الرافعي، فما فقدت فيه الكاتب، ولا الشاعر، ولا الأديب، ولكنها فقدت الرجل الذي كان ولن يكون لها مثله في الدفاع عن دينها ولغتها، وفي النظر إلى أعماق هذا الدين، يزاوج بينه وبين حقائق العلم وحقائق النفس المستجدة في هذا العصر، ولقد يكون في العربية اليوم كتاب وشعراء وأدباء لهم الصيت النابه، والذكر الذائع، والصوت المسموع، ولكن أين منهم الرجل الذي يقوم لما كان يقوم له الرافعي، لا يترخص في دينه، ولا يتهاون في لغته، ولا يتسامح لقائل أن يقول في هذا الدين أو في هذه اللغة حتى يرده من هدف إلى هدف، أو يفرض عليه الصمت ...
لقد حاول كثير من مؤرخي الأدب أن يتحدثوا عن الرافعي في حياته، فقالوا: شاعر، وقالوا: كاتب، وقالوا: أديب، وقالوا: عالم، وقالوا: مؤرخ، ولكنهم لم يقولوا الكلمة التي كان ينبغي أن تقال، لقد كان شاعرا، وكاتبا، وأديبا، وعالما، ومؤرخا، ولكنه بكل أولئك، وبغير أولئك، كان شيئا غير الشاعر والكاتب والأديب، وغير العالم والمؤرخ، كان هبة الله إلى الأمة العربية المسلمة في هذا الزمان؛ لينبهها إلى حقائق وجودها، وليردها إلى مقوماتها، وليشخص لها شخصيتها التي تعيش باسمها ولا تعيش فيها، والتي تعتز بها ولا تعمل لها.
يرحمه الله! لقد عاش في خدمة العربية سبعا وثلاثين سنة من عمره القصير، وصل بها حاضرها الماثل بماضيها البعيد، فهي على حساب الزمن سبع وثلاثون، ولكنها على الحقيقة عصر بتمامه من عصور الأدب، وفصل بعنوانه في مجد الإسلام!
لقد عاش غريبا ومات غريبا، فكأنما كان رجلا من التاريخ بعث في غير زمانه؛ ليكون تاريخا حيا ينطق بالعبرة ويجمع تجاريب الأجيال، يذكر الأمة العربية الإسلامية بماضيها المجيد، ثم عاد إلى التاريخ بعد ما بلغ رسالته.
لقد خفت الصوت، ولكنه خلف صداه في أذن كل عربي وفي قلب كل مسلم، يدعوه إلى الجهاد؛ لمجد العرب ولعز الإسلام! •••
وبعد؛ فماذا يعرف الناس عن الرافعي وماذا أعرف؟ هل يعرف الناس إلا ديوان الرافعي، وكتب الرافعي، ومقالات الرافعي؟ ولكن الرافعي الذي يجب أن يعرفه أدباء العربية ليس هناك، فماذا يكتب عنه الكاتبون غدا إن أرادوا أن يكتبوا هذا الفصل الذي تم تأليفه في تاريخ العربية؟
لقد عشت مع الرافعي عمرا من عمري في كتبه ومقالاته فما عرفته العرفان الحق، وعشت معه بعد ذلك في مجلسه وفي خاصته، وخلطته بنفسي وخلطني بنفسه؛ فما أبعد الفرق بين الصورتين اللتين كانتا له في نفسي من قبل ومن بعد، أفتراني بهذا أستطيع أن أقول عن الرافعي شيئا أؤدي به بعض ما علي من الدين للعربية وللفقيد العزيز؟
إنني لأحس عبئا ثقيلا على عاتقي لا طاقة لي بأن أحمله، وليس على أحد غيري أن يقوم به، ولقد كتبت منذ عامين - قبل منعاه - شيئا عن الرافعي يعرفه إلى قراء مجلة «الرسالة»، فما أحسبني لقيت في ذلك من الجهد إلا بمقدار ما استحضرت الفكر وتناولت القلم، على أن الرافعي كان يومئذ حيا، وكنت أحذر أن يغضب أو ينالني منه عتب، فكيف بي اليوم والرافعي بعيد في العالم الثاني، والكلمة للتاريخ، ووسائل العلم مني قريبة، ورسائل الأدباء تترى تستنجزني الوعد وتقتضيني الحق الذي علي للأدب والعربية، وصوت الفقيد العزيز يهتف بي حيثما توجهت: «إن لي عليك حقا، وإن للأدب عليك ...!»
ولكني ما أكاد أمسك القلم حتى يكتنفني الشعور بالعجز، فأكاد أوقن أنه لا أحد يستطيع أن يكتب عن الرافعي إلا الرافعي نفسه، ولكن الرافعي قد مات.
Unknown page
أيها الحبيب العزيز الذي ما أزال من كثرة ذكراه كأنني منه على ميعاد ... معذرة إليك!
وها أنا ذا أحاول أن أكتب عن الرافعي، فلا ينتظر أحد مني - في هذا الكتاب - أن أتكلم عن الرافعي الشاعر، أو الرافعي الكاتب، أو الرافعي الأديب، أو الرافعي الفيلسوف، فما يتسع له يومي، وما يرضيني عن نفسي ولا ينفعني بالوفاء أن أكتب عن هذه الحيوات الكثيرة التي اجتمعت في حياة إنسان، ولكني سأكتب - هنا - عن الرافعي الرجل الذي عاشرته زمنا، ونعمت بصحبته، وخلطته بنفسي، وتحدث قلبه إلى قلبي، وتكاشفت روحه وروحي، سأكتب عن الرافعي الذي عاش على هذه الأرض سبعا وخمسين سنة ثم طواه الموت، محاولا أن أجمع شتات حياة تفرقت أخبارا وأقاصيص ونوادر على لسان معاصريه، أو غابت سرا في صدور أهله وخاصته، أما الرافعي الشاعر الكاتب الأديب الفيلسوف، فللحديث عنه كتاب غير هذا الكتاب، وسيجد الباحثون مما أقول عنه مادة لما يقولون فيه، ولعلي أن أوفق في البلوغ إلى ما قصدت، وإنني لأتهم نفسي من كثرة ما أحب الرافعي أن أتحيف الأدب لو بدا لي في هذا التاريخ أن أقول: هذا رأيي، ولكني سأقول: هذا ما رأيت. فمن كانت له عين بصيرة تنفذ إلى ما وراء المرئيات وتربط الأسباب بالمسببات، فسيبلغ جهده ويرى رأيه.
ولقد كان الرافعي منذ قريب إنسانا حيا بعواطفه وأمياله وحبه وبغضه وشهوته النفسية، ولكنه اليوم فصل من تاريخ العربية بألوانه وفنونه، فلا علي اليوم إن قلت كل ما أعرف عنه خيرا وشرا، فإنما أكتب للتاريخ، والتاريخ لا يحابى ولا يحتسب، وستمر بي في تاريخ الرافعي حوادث وأسماء سأصفها وأعرف عنها بقدر ما، كما سمعتها أو عرفت عنها، فأيما كاتب أو أديب أو رجل أو امرأة أو ذي شأن أحس فيما أكتب شيئا ناله بما يوجب المدح أو المذمة، فلا يشكر ولا يتعتب، فإن التاريخ بعد أن يقع لا يمكن محوه ... وما فات من تاريخ الإنسان فهو جزء انفصل من حياة صاحبه، وإنما له ما هو آت، وما أحب أن يقول لي أحد: صدقت أو كذبت، فما هذا الذي أكتب رأي أراه، ولكنه رؤية رأيتها أو رواية رويتها فأثبتها مسندة إلى راويها وعليه تبعتها.
إن التاريخ الأدبي للرافعي يبدأ من سنة 1900، وتاريخ ميلاده قبل ذلك بعشرين سنة، وأنا ما بدأت صلتي بالرافعي إلا سنة 1932، فما كان من هذا التاريخ فسأرويه من غيب صدري أو مذكراتي وعلي تبعته، وما كان من قبل فقد سمعت به من أهله وأصدقائه الأدنين وخلطائه منذ صباه، أو كان مما قصه علي أو عرفت عنه من أوراقه الخاصة ورسائله إلى صحبه ورسائل صحبه إليه. فهذه مصادر علمي أقدمها بين يدي هذا الحديث؛ ليعرف قارئه أين مكانه من الصدق ومنزلته من الحق، على أن الذاكرة خئون، وما يمر على فكر الإنسان من مختلف الحوادث وصروف الأيام ينسيه أو يلهيه أو يخلط في معلوماته شيئا بشيء، فمن كان يعرف شيئا من تاريخ الرافعي ورأى أني تصرفت فيه بنقص أو تغيير أو تبديل، فليجعلني عنده بمنزلة من حسن الظن، والله أسأل أن يجنبني الخطأ، وأن يوفقني فيما أنا بسبيله.
محمد سعيد العريان
القاهرة في ربيع الأول سنة 1357/مايو سنة 1938
صورته
كان الرافعي رجلا كبعض من ترى من الناس، فلم يكن الناظر حين ينظر إليه ليلمح له امتيازا في الخلق يدل على نفسه أو عقله أو عبقريته.
بل قد يشك الناظر إلى وجهه في أن يكون وراء هذه السحنة وهذه الملامح نبوغ أو عبقرية أو فكر سام!
وجه ممسوح مستطيل، أقرب إلى بياض أهل الشام منه إلى سمرة أهل مصر، في وجنتيه احمرار دائم قد ترى مثله في شفتيه، وله عينان كأنما ينظر بهما إلى نفسه لا إلى الناس، فما ترى لهما بريقا في عينيك، ولا تسمع لهما همسا في نفسك، وجبهة عريضة تبدأ فوق الحاجبين غائرة نوعا ما، ثم تبرز مقوسة قليلا إذا اقتربت من فروة الرأس، وأذنان فيهما كبر ما، ولكنهما لا تؤديان عملا ولا تنقلان إليه معنى، ومن ذلك كان قليل التلفت في مجلسه، وأنف طويل مستدق من أعلاه منتفخ من أسفله، وكأنما صنعت له شفتاه ابتسامته الدائمة، فلا ترى فمه مغلقا إلا رأيته كأنما يحاول أن يحبس ابتسامة هاربة، وتحمل شفته شاربا كثيفا أشمط، تحيفته الأيام من أطرافه فتصاغر طرفاه بعد استعلاء وكبر ...
Unknown page
وصوت عال رفيع النبرات ليس له لون ولا معنى، تسمعه على أي أحواله كما تسمع صراخ الطفل، له عذوبته وتطربيه، ونغمة الحزن ونغمة الفرح عنده سواء!
وقامة رياضية متناسبة بريئة من الفضول، لا يشينها طول ولا قصر، ولا سمن ولا نحافة.
وكان أشمط خفيف شعر الرأس، حليق اللحية، دقيق الحاجبين، عريض المنكبين، غليظ العنق، قوي الكف والساعد؛ مما كان يعالج من تمرينات الرياضة.
تلقاه في الطريق في يده عصا لا يعتمد عليها، ولكنه يهزها في يمينه إلى أمام ووراء، ويتأبط بيسراه عديدا من الصحف والمجلات والكتب، ماشيا على حيد الطريق لا يميل، واسع الخطو لا يتمهل، ناظرا إلى الأمام لا يتلفت إلا حين يهم باجتياز الطريق.
تلك صفاته الجسمية التي واراها التراب كما لا تزال في ذاكرتي، أما صورته العقلية، أما حياته، أما أيامه على هذه الأرض منذ كان إلى أن زال، فذلك ما سأجلوه في الفصول التالية إن شاء الله.
نسبه ومولده
الرافعي سوري الأصل، مصري المولد، إسلامي الوطن، فأسرته من «طرابلس الشام»، يعيش على أرضها إلى اليوم أهله وبنو عمه، ولكن مولده بمصر، وعلى ضفاف النيل عاش أبوه وجده والأكثرون من بني عمه وخئولته منذ أكثر من قرن، وهو في وطنيته «مسلم»، لا يعرف له أرضا من أرض الإسلام ينتسب إليها حين يقول: وطني؛ فالكل عنده وطنه ووطن كل مسلم، فأنت لم تكن تسمعه يقول: «الوطنية المصرية ...» أو «الوطنية السورية ...» أو «الوطنية العراقية ...» إلا كما تسمع أحدا يقول: هذه داري من هذا البلد، أو هذه مدينتي من هذا الوطن الكبير الذي يضم أشتاتا من البلاد والمدائن، وإنما الوطن فيما كان يراه لنفسه ولكل مسلم: هو كل أرض يخفق فيها لواء الإسلام والعربية، وما مصر والعراق والشام والمغرب وغيرها إلا أجزاء صغيرة من هذا الوطن الإسلامي الأكبر، ينتظمها جميعا كما تنتظم الدولة شتى الأقاليم وعديدا من البلاد.
وكثيرا ما كانت تثور الخصومات بين الرافعي وبعض الأدباء في مصر،
1
فما يجدون مغمزا ينالون به منه عند القراء إلا أن يتهموه في وطنيته، أعني مصريته، وكان الرافعي يستمع إلى ما يقولون عنه في ذلك مغيظا حينا وساخرا حينا آخر، ثم يقول: أفتراهم يتهمونني في مصريتي؛ لأني في زعمهم غير مصري، وفي مصر مولدي وفي أرضها رفات أبي وأمي وجدي، أم كل عيبي عندهم في الوطنية أنني صريح النسب؟ ... وإلا فمن أبو فلان وفلان؟ ومن أين مقدمه؟ ومتى استوطن هذا الوطن ...؟
Unknown page
ورأس أسرة الرافعي هو المرحوم الشيخ عبد القادر الرافعي الكبير المتوفى سنة 1230ه بطرابلس الشام، ويتصل نسبه بعمر بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين - رضي الله عنه - في نسب طويل من أهل الفضل والكرامة والفقه في الدين.
وأول وافد إلى مصر من هذه الأسرة هو المرحوم الشيخ محمد الطاهر الرافعي، قدمها في سنة 1243ه (قريب من سنة 1827م)؛ ليتولى قضاء الحنفية في مصر بأمر من السلطان العثماني في الأستانة، وأحسب أن مقدمه كان أول التاريخ لمذهب الإمام أبي حنفية في القضاء الشرعي بمصر، ولم يعقب الشيخ محمد الطاهر غير فتاة وغلام، انتهى بموتهما نسبه، فليس في مصر أحد من ولده، ولكنه كان كرائد الطريق لهذه الأسرة،
2
فتوافد إخوته وأبناء عمومته إلى مصر يتولون القضاء ويعلمون مذهب أبي حنيفة، حتى آل الأمر من بعد أن اجتمع منهم في وقت ما أربعون قاضيا في مختلف المحاكم المصرية، وأوشكت وظائف القضاء والفتوى أن تكون مقصورة على آل الرافعي، وقد تنبه اللورد كرومر إلى هذه الملاحظة فأثبتها في بعض تقاريره إلى وزارة الخارجية الإنجليزية.
وقد تخرج في درس الشيخ محمد الطاهر وأخيه الشيخ عبد القادر الرافعي أكثر علماء الحنفية الذين نشروا المذهب في مصر، ومن تلاميذهما الأدنين المرحومان الشيخ محمد البحراوي الكبير والشيخ محمد بخيت مفتي الدولة السابق.
ولما توفي المرحوم الإمام الشيخ محمد عبده، كان شيخ الحنفية في مصر يومئذ هو المرحوم الشيخ عبد القادر الرافعي، فدعاه الخديو عباس إلى تولي وظيفة الإفتاء، وكان رجلا زاهدا ورعا فيه تحرج وخشية، فلم يجد في نفسه هوى إلى قبول هذا المنصب؛ تحرجا من فتنة الحكم وغلبة الهوى في شأن يتصل بحقوق العباد وفيه الفصل في الخصومات بين الناس ... فلما بلغته دعوة الخديو ذهب إلى لقائه وفي نفسه هم، وهو يدعو الله ألا يئول إليه هذا الأمر ضنا بدينه ومروءته ... وتمت مراسيم التولية وتلقى الأمر من صاحب العرش بقبول وظيفة «مفتي الدولة»، ثم نزل إلى عربته فركبها عائدا إلى داره وهو يتمتم ويدعو، فلما بلغ الدار نزل الحوذي ليفتح له العربة ويساعده على النزول، فإذا هو قد فارق الحياة قبل أن يجلس مجلس الحكم مرة واحدة ليقضي في شئون العباد ... واستجاب الله دعاءه ...!
وأبو الأستاذ الرافعي هو المرحوم الشيخ عبد الرازق الرافعي، كان رئيسا للمحاكم الشرعية في كثير من الأقاليم، وهو واحد من أحد عشر أخا اشتغلوا كلهم بالقضاء من ولد المرحوم الشيخ سعيد الرافعي، وكان آخر أمر الشيخ عبد الرازق رئيسا لمحكمة طنطا الشرعية، وفي طنطا كانت إقامته إلى آخر أيامه، وفيها مات ودفن، وفيها أقام المترجم وإخوته من بعد في بيت أبيهم، فاتخذوا طنطا وطنا ومقاما، لا يعرفون لهم وطنا غيرها، ولا يبغون عنها حولا، ولقد حاولت وزارة العدل (الحقانية) أكثر من مرة أن تنقله إلى غير طنطا، فكان يسعى سعيه لإلغاء هذا النقل؛ حتى لا يفارق البلد الذي فيه رفات أبيه وأمه، وفيه مسجد السيد البدوي.
3
وكان الشيخ عبد الرازق رجلا ورعا له صلابة في الدين وشدة في الحق، ما برح يذكرهما معاصروه من شيوخ طنطا.
حدثني نسيب قال: «كنت غلاما حدثا، وكان الشيخ عبد الرازق الرافعي من جيراننا وأحبابنا الأجلاء، وكان يتخذ مجلس العصر أحيانا في متجر جاره وصديقه المرحوم حسن بدوي الفطاطري، في شارع درب الأثر، ودرب الأثر يومئذ هو شارع المدينة وفيه أكبر أسواقها التجارية ، ففي عصر يوم من رمضان، كان الشيخ عبد الرازق يجلس مجلسه من متجر صديقه، فمر به رجل ينفث الدخان من فمه وبين أصبعه دخينة، فما هو إلا أن رآه الشيخ عبد الرازق، حتى اندفع إليه، فانقض عليه، فأمسك بثيابه، فدعا الشرطي أن يسوقه إلى «القسم»؛ لينال الحد على إفطاره في رمضان في شارع عام، وما أجدى رجاء الرجل ولا شفاعة الشفعاء، فسيق الرجل إلى القسم في «زفة» من الصبيان، ليتولى الشيخ حده بنفسه على إفطاره، وما كان القانون يأمر بذلك، ولكن الشرطة ما كانوا ليخالفوا أمر قاضي المدينة، وما كانوا يعرفون له عندهم إلا الطاعة والاحترام.»
Unknown page
وحوادث الشيخ عبد الرازق من مثل ذلك كثيرة يعرفها كثير!
واسم «الرافعي» معروف في تاريخ الفقه الإسلامي منذ قرون، وأحسب أن هناك صلة ما بين أسرة الرافعي في طرابلس الشام وبين الإمام الرافعي المشهور صاحب الشافعي، وقد سألت الرافعي مرة عن هذه الصلة، فقال: لا أدري، ولكني سمعت من بعض أهلي أن أول ما عرف منا بهذا الاسم شيخ من آبائي كان من أهل الفقه وله حظ من الاجتهاد والنظر في مسائله؛ فلقبه أهل عصره بالرافعي تشبيها له بالإمام الكبير الشيخ محمود الرافعي صاحب الرأي المشهور عند الشافعية، والله أعلم.
والأستاذ الرافعي حنفي المذهب كسائر أسرته، ولكنه درس مذهب الشافعي وكان يعتد به ويأخذ برأيه في كثير من مسائل العلم.
وأم الرافعي كأبيه سورية الأصل، وكان أبوها الشيخ الطوخي تاجرا تسير قوافله بالتجارة بين مصر والشام، وأصله من حلب، وأحسب أن أسرة الطوخي ما تزال معروفة هناك، على أنه كان قد اتخذ مصر وطنا له قبل أن يصل نسبه بأسرة الرافعي، وكانت إقامته في بهتيم من قرى مديرية القليوبية، وكان له فيها ضيعة، وفيها ولد الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في يناير من سنة 1880م؛
4
إذ آثرت أمه أن تكون ولادتها في دار أبيها.
وكانت أم الرافعي تحبه وتؤثره، وكان يطيعها ويبرها، وقد ظل إلى أيامه الأخيرة إذا ذكرها تغرغرت عيناه كأنه فقدها بالأمس، وكان دائما يحب أن يسند إليها الفضل فيما آل إليه أمره، وقد توفيت في أسيوط ودفنت بها، ثم نقلت إلى مدافن الأسرة بطنطا.
علمه وثقافته
لأسرة الرافعي ثقافة يصح أن نسميها «ثقافة تقليدية»، فلا ينشأ الناشئ منهم حتى يتناولوه بألوان من التهذيب تطبعه من لدن نشأته على الطاعة واحترام الكبير وتقديس الدين، وتجعل منه خلفا لسلف يسير على نهجه ويتأثر خطاه، والقرآن والدين هما المادة الأولى في هذه المدرسة العريقة التي تسير هذه الأسرة على منهاجها منذ انحدر أولهم من صلب الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
1
Unknown page
وعلى هذه النشأة نشأ مصطفى صادق، فاستمع إلى أبيه أول ما استمع تعاليم الدين وحفظ شيئا من القرآن، ووعى كثيرا من أخبار السلف، فلم يدخل المدرسة إلا بعد ما جاوز العاشرة بسنة أو اثنتين، فقضى سنة في مدرسة دمنهور الابتدائية، ثم نقل أبوه قاضيا إلى محكمة المنصورة، فانتقل معه إلى مدرسة المنصورة الأميرية، فنال منها الشهادة الابتدائية وسنه يومئذ سبع عشرة سنة أو دون ذلك بقليل.
ومن أساتذته في المدرسة الابتدائية شيخنا العلامة الأستاذ مهدي خليل المفتش بوزارة المعارف،
2
وكان يدرس له العربية، وكان الرافعي رديء الخط لا يكاد يقرأ خطه إلا بعد علاج ومعاناة، فكان الأستاذ مهدي يسخر منه قائلا: «يا مصطفى، لا أحسب أحدا غيري وغير الله يقرأ خطك»، وقد ظل خط الرافعي رديئا إلى آخر أيامه.
وهنا أذكر حكاية طريفة تدل على مبلغ وفاء الرافعي وتكشف عن شيء من خلقه، فقد صحبني مرة منذ عامين إلى نادي دار العلوم - وما أكثر ما كان يصحبني إليه إذا هبط القاهرة - وجلس وجلست معه في جمع كبير من المفتشين والمدرسين ورجال التعليم، وكان المرحوم الأستاذ أبو الفتح الفقي نقيب المعلمين السابق جالسا إلى جانب الأستاذ الرافعي يتحدثان، وأنا بينهما أترجم للرافعي حديث محدثه كتابة في ورقة، وإنا لكذلك والحديث يتشعب شعبه وينسرب في مساربه، والجمع حولنا مرهف الآذان يستمع إلى حديث الرجلين؛ إذ نهض الرافعي واقفا، فانتبهت، فإذا القادم الأستاذ مهدي خليل، يبدو من طوله وجسامته واكتمال عضله كأنما يطل علينا من نافذة ... وإذا الرافعي يطأطئ له وينحني يهم أن يقبل يده، ثم عاد إلى مجلسه فمال علي يقول في همس: «هذا أستاذي مهدي خليل ...» وكان في صوته رنة هي أقرب إلى صوت الطفل لأبيه حين يمر بهما معلم الغلام فيميل إلى أبيه يسر إليه ... ومضى الأستاذ مهدي غير عابئ ولا ملتفت، بما فيه من طبيعة المرح وعادة الإغضاء، وأحسبه لم يعن بالسؤال عن هذا الزائر الذي نهض له، أو بالنظر إلى وجهه، على حين ظل ذكره على لسان الرافعي طول اليوم. •••
وفي السنة التي نال فيها الرافعي الشهادة الابتدائية - وهي كل ما نال من الشهادات الدراسية - أصابه مرض مشف أثبته في فراشه أشهرا، وأحسبه كان التيفويد فما نجا منه إلا وقد ترك في أعصابه أثرا كان حبسة في صوته ووقرا في أذنيه من بعد.
وأحس الرافعي آثار هذا الداء توقر أذنيه، فأهمه ذلك هما كبيرا، ومضى يلتمس العلاج لنفسه في كل مستشفى وعند كل طبيب، ولكن العلة كانت في أعصابه فما أجدى العلاج عليه شيئا، وأخذت الأصوات تتضاءل في مسمعيه عاما بعد عام كأنها صادرة من مكان بعيد، أو كأن متحدثا يتحدث وهو منطلق يعدو ... فإن صوته ليتضاءل شيئا بعد شيء، حتى فقدت إحدى أذنيه السمع ثم تبعتها الأخرى، فما أتم الثلاثين حتى صار أصم لا يسمع شيئا مما حواليه، وانقطع عن دنيا الناس.
وامتد الداء إلى صدره فعقد عقدة في حبال الصوت كادت تذهب بقدرته على الكلام، ولكن القدر أشفق عليه أن يفقد السمع والكلام في وقت معا، فوقف الداء عند ذلك، ولكن ظلت في حلقه حبسة تجعل في صوته رنينا أشبه بصراخ الطفل، فيه عذوبة الضحكة المحبوسة استحيت أن تكون قهقهة ...
وكانت بوادر هذه العلة التي أصابت أذنيه هي السبب الذي قطعه عن التعليم في المدارس بعد الشهادة الابتدائية، لينقطع لمدرسته التي أنشأها لنفسه وأعد برامجها بنفسه، وكان هو فيها المعلم والتلميذ.
وحظ الرافعي من الشهادت العلمية مثل حظ أبيه، فإن الشيخ عبد الرازق الرافعي - على علمه وفضله ومكانته، وعلى أنه كان رئيسا للمحكمة الشرعية في كثير من الأقاليم - لم تكن معه شهادة «العالمية» حتى جاء إلى طنطا، ولأمر ما نشب خلاف علمي بينه وبين بعض علماء طنطا حفزه وهو شيخ كبير إلى طلب الشهادة، فتقدم إلى امتحانها ونالها، لغير غرض تسعى إليه إلا أن يستكمل براهينه في جدال بعض العلماء.
Unknown page
وكان لأبي الرافعي مكتبة حافلة تجمع أشتاتا من نوادر كتب الفقه والدين والعربية، فأكب عليها إكباب النهم على الطعام الذي يشتهيه، فما مضى إلا قليل حتى استوعبها وأحاط بكل ما فيها وراح يطلب المزيد ... وكان له من علته سبب يباعد بينه وبين الناس فما يجد لذة ولا راحة في مجالسة أحد ... وكان ضجيج الحياة بعيدا عن أذنيه ... وكان يحس في نفسه نقصا من ناحية يجهد جهده ليداريه بمحاولة الكمال في ناحية ... وكان يعجزه أن يسمع فراح يلتمس أسباب القدرة على أن يتحدث ... وكان مشتاقا إلى السمع؛ ليعرف ماذا في دنيا الناس، فمضى يلتمس المعرفة في قراءة أخبار الناس ... وفاتته لذة السامع حين يسمع فذهب ينشد أسباب العلم والمعرفة؛ ليجد لذة المتحدث حين يتحدث ... وقال لنفسه: إذا كان الناس يعجزهم أن يسمعوني فليسمعوا مني ...
وبذلك اجتمعت للرافعي كل أسباب المعرفة والاطلاع، وكانت علته خيرا عليه وبركة، وعرف العلم سبيله من نافذة واحدة من نوافذ العقل إلى رأس هذا الفتى النحيل الضاوي الجسد الذي هيأته القدرة بأسبابها والعجز بوسائله ليكون أديبا من أدباء العربية في غد ...!
كانت مكتبة الرافعي في هذه الحقبة من تاريخه هي دنياه التي يعيش فيها، ناسها ناسه، وجوها جوه، وأهلها صحابته وخلانه، وعلماؤها رواته، وأدباؤها سماره، فأخذ عنها العلم كما كان يأخذ المتقدمون من علماء هذه الأمة عن العلماء والرواة فما لفم، فنشأ بذلك نشأة السلف، يرى رأيهم، ويفكر معهم، ويتحدث بلغتهم، وتستخفه أفراحهم، وتتراءى له أحلامهم ومناهم.
وإذ كان قد فقد السمع قبل أن يتم تمامه ويكون أهلا لغشيان المجالس يتحدث إلى الناس ويستمع إلى حديثهم، فإن حظه من العامية المصرية كان قليلا، وكان عليه أن يسألني أحيانا أو يسأل غيري من خاصته، عن كلمة أو عبارة أو مثل مما يقع من أمثال العامة حين تلجئه الحاجة الأدبية إلى شيء من ذلك، وكان يمزح معي أحيانا ويقول: «فلتكن أنت لي قاموس العامية ...»
وإذ كان أبوه وأمه قريبي عهد بمنبتهما في سورية، وكان لم يسمع أكثر ما سمع في طفولته إلا منهما، فإن لهجته في الحديث ظلت قريبة من السورية إلى آخر أيامه، على حين تسمع إلى كل أسرته وإخوته وبنيه يتحدثون باللهجة المصرية فما ينم صوت أو كلمة على أن أصلهم سوري، ولكنه كان بلغته ولهجة حديثه هو وحده النميمة على هذا الأصل، وكأنه لم يقدم من سورية إلا منذ قريب.
ولم تجد على الرافعي معرفته الفرنسية إلا قليلا أو أقل من القليل،
3
فمنذ انتهى من المدرسة لم يجد في نفسه إليها نزوعا قويا، فلزمها سنوات يقرأ فيها بعض ما يتفق له من الكتب القليلة المقدار في العلم والأدب، ثم هجرها إلى غير لقاء، على أنه كان يأسف أحيانا على هجرها ويمني نفسه بالعودة إليها في وقت فراغ، وهيهات أن يجد مثل الرافعي فراغا من وقته!
هذه ثقافة الرافعي وتلك وسائله إلى المعرفة، وقد ظل على هذا الدأب في القراءة والاطلاع إلى آخر يوم من عمره، يقرأ كل يوم ثماني ساعات متواصلة لا يمل ولا ينشد الراحة لجسده وأعصابه، كأنه من التعليم في أوله لا يرى أنه وصل منه إلى غاية.
وكان إذا زاره زائر في مكتبه جلس قليلا يحييه ويستمع لما يقوله، ثم لا يلبث أن يتناول كتابا مما بين يديه ويقول لمحدثه: «تعال نقرأ ...» وتعال نقرأ هذه معناها أن يقرأ الرافعي ويستمع الضيف، فلا يكف عن القراءة حتى يرى في عيني محدثه معنى ليس منه أن يستمر في القراءة ...
Unknown page
وفي القهوة، وفي القطار، وفي الديوان، لا تجد الرافعي وحده إلا وفي يده كتاب، وكان في أول عهده بالوظيفة كاتبا بمحكمة طلخا، فكان يسافر من طنطا كل يوم ويعود، فيأخذ معه في الذهاب وفي الإياب «ملازم» من كتاب أي كتاب ليقرأها في الطريق، وفي القطار بين طنطا وطلخا «وبالعكس» استظهر كتاب نهج البلاغة في خطب الإمام علي، وكان لم يبلغ العشرين بعد ...
في الوظيفة
في أبريل سنة 1899 عين الرافعي كاتبا بمحكمة طلخا الشرعية، بمرتب شهري أربعة جنيهات، وأعانه على الظفر بهذه الوظيفة ما كان لأبيه وأسرته من جاه في المحاكم الشرعية، وما كان الرافعي ليجهل جاه أبيه وأسرته في هذه المحاكم، وما كان منكورا لديه أن لهم يدا على كل قاض في القضاء الشرعي، فنشأ بذلك نشأة الدلال في وظيفته، لا يراها إلا ضريبة على الحكومة تؤديها إليه عمل أو لم يعمل؛ لمكانة أسرته من النفوذ والرأي، ولمكانته هو أيضا ...
ألم يكن يرشح نفسه ليكون أديب هذه الأمة؟ ... هكذا كان يرى نفسه من أول يوم، وظل كذلك يرى نفسه لآخر يوم ...
وكانت إقامته بطنطا في هذه الحقبة، فمنها مغداه وإليها مراحه في كل يوم، يتأبط حقيبة فيها غداؤه وفيها كتابه، وما كان أحد ليستطيع أن يلفته إلى ضرورة التبكير إن جاء في الضحى، أو يسأله الانتظار إذا دنا ميعاد القطار ولم يفرغ من عمله.
لم يكن يرى الوظيفة إلا شيئا يعينه على العيش؛ ليفرغ لنفسه ويعدها لما تهيأت له، فما انقطع عن المطالعة والدرس يوما واحدا، وما أكثر ما كان ينقطع عن وظيفته.
وقضى الرافعي في طلخا زمنا ما، ثم نقل إلى محكمة إيتاي البارود الشرعية، ثم إلى طنطا، وفي طنطا انتقل من المحكمة الشرعية إلى المحكمة الأهلية بعد سنين؛ لأنه رأى المجال في المحاكم الأهلية أوسع وأرحب، والعمل فيها أيسر جهدا وأكثر أجرا، وظل في محكمة طنطا الأهلية إلى يومه الأخير.
وحياة الرافعي في طلخا وإيتاي البارود وطنطا لا تخلو من طرائف، وتاريخه في الوظيفة حافل بالصور والمشاهد التي كان لها أثرها من بعد في حياته الأدبية، ففي طلخا عرف الكاظمي شاعر العراق الكبير واتصل به وانعقدت بينهما أواصر الود على ما سيأتي تفصيله، وفي إيتاي البارود تفتحت زهرة شبابه للحب وتعطشت نفسه إلى لذاته، وعلى «جسر كفر الزيات» فيما بين إيتاي البارود وطنطا مسته شعلة الحب المقدسة فكشفت عن عينيه الغطاء ليرى ويحس ويشعر ويكون «شاعر الحسن» من بعد، وفي طنطا كان نضجه وتمامه وإيناع ثمره.
وما أستطيع أن أصف بتفصيل واضح كيف كان يعيش الرافعي في تلك الأيام البعيدة، ولا كيف كانت صلته بالناس، ولكني أعرف أن روحا رفافة كانت تطيف به في تلك الأيام فتنتزعه من وجوده الذي يعيش فيه لتحلق به في أجواء بعيدة وتكشف له عن آفاق مجهولة لم يسمع بها ولم يعرفها، فتوحي إليه الشعور بالقلق وألم الحرمان والإحساس بالوحدة، فلا يجد متنفسا ينفس به عن نفسه غير الشعر، وكان ذلك أول أمره في الأدب، وإليه كان آخر ما يمتد أمله، فما كانت له أمنية إلا أن يكون شاعرا، شاعرا وحسب. •••
وعرف حبيبته الأولى «عصفورة» فتعلم الحب، ولكنه لم يتعلمه مما يسمع في مجالس الشبان كما يتعلم أبناء هذا الجيل من أكاذيب المنى التي يتداولونها في مجالسهم فيتعلمون الحب منها فنا له قواعد مرسومة وغاية محتومة ... لكنه استمع إلى وحي الحب أول ما استمع في همسات روحه، وخلجات وجدانه، وخفقات قلبه، وانفعال أعصابه، إلى ما كان للحب في نفسه من صورة مشرقة شائقة مما قرأ من أخبار العذريين من شباب العرب، فأحس كأن شيئا ينقصه فراح يفتقده، وشعر كأن إنسانة من وراء الغيب تناديه وتهتف باسمه في خلوة نفسه وجلوة خاطره تقول: ها أنا ذي ... فهام بالحسن ينشده شعره وينشد فيه مثاله الذي يدور عليه، وطار على وجهه كالفراشة الحائمة تقول لكل زهرة: أأنت التي ...؟ فلا يستمع إلى جواب، والصوت البعيد دائب يهتف في أذنيه: إنني هنا، إنني هنا يا حبيبي فاقصد إلي ...
Unknown page
لم يكن يحب إنسانة بعينها يناديها باسمها ويعرفها بصفتها، بل كانت محبوبته شيئا في نفسه وصورة من صنع أحلامه، يرى في كل وجه فاتن لمحة من جمالها، وفي كل طلعة مشرقة بريقا من فتنتها، وفي كل نظرة أو ابتسامة معنى من معاني الحبيبة النائمة في قلبه وفي أمانيه ... فمضى يتنقل من زهرة إلى زهرة، عفيف النظر والشفة واللسان، حتى انتهى أمره إلى أمر ...
لم ينس الرافعي إلى آخر أيامه ما كان من شأنه وشأن قلبه في صدر حياته، فكان دائم الحديث عن هذا العهد كلما رفت به سانحة من سوانح الماضي تذكره ما كان من أمره وما آل إليه من أمره.
ليس قصدي الآن أن أتحدث عن الحب في تاريخ الرافعي، فإن للحب في تاريخه فصلا ضافي الذيول كثير الألوان متعدد الصور له مكانه المفرد في غير هذا الباب، ولكني أتحدث عن الرافعي في بكرة الشباب، فما لي مندوحة عن الإلمام بما كان يصطرع في نفس الرافعي في بكرة الشباب. •••
عاش الرافعي لفنه ولنفسه من أول يوم، فما عاقته الوظيفة عن أن يكون كما أراد أن يكون، على أنه كان إلى اهتمامه بفنه وعنايته بما يكمله، وعلى أنه كان لا يرضى أن تتعبده قوانين الوظيفة، وتقيده أغلال النظام الحكومي، كان إلى ذلك دقيقا في عمله الرسمي دقة تبلغ الغاية، وكان إليه تقدير رسوم القضايا والعقود ونحوها مما يتصل بعمل المحكمة، فكان كاتبا حاسبا لا يفوته شيء مما يسند إليه، حتى آل أمره إلى أن يكون المرجع في هذا العمل لكتاب المحكمة جميعا يستفتونه فيما أشكل عليهم من الأمر في تقدير الرسوم، ثم لكثير من كتاب المحاكم في مختلف البلاد، ثم لوزارة العدل نفسها وهي المرجع الأخير، تكتب إليه في زاوية مكتبه من محكمة طنطا تسأله الرأي في حسبة أو إشكال أو شيء مما يتصل بذلك، فيكتب إليها بالرأي لتبلغه في منشور عام إلى كل المحاكم الأهلية.
وكان عليه كل العبء من هذه الناحية في محكمة طنطا، وقد طلب أكثر من مرة أن «يحال إلى المعاش»؛ ليتفرغ لفنه، فما كان يمنعه من المضي في طلبه إلا رجاء موظفي المحكمة وإلحاحهم عليه أن يبقى؛ لئلا يخلو موضعه.
وكان في صلته بموظفي المحكمة الذين يشركونه في عمله نبيلا كريم الخلق إلى حد بعيد ، فكان يتطوع ليحمل عنهم تبعة كل خطأ يقع فيه واحد منهم مهما كان الخطأ ونتيجته، وقد رأيته مرة في صيف سنة 1934 وقد لزمه مفتش من مفتشي وزارة العدل ثلاثة أشهر أو أكثر، يستجوبه عن خطأ في تقدير الرسوم لأكثر من مائة وعشرين قضية، بلغ النقص في الرسوم المتحصلة عنها بضعة وتسعين جنيها، والرافعي يرد المفتش ويدافعه ويرى له الرأي ويصف العلاج، والمفتش دائب على الحضور كل يوم يبحث ويفتش ويستقصي وما ضاقت به أخلاق الرافعي، على حين لم يكن على الرافعي في هذه القضايا المائة والعشرين خطأ واحد، وما كانت إلا أخطاء زملائه في المكتب حمل عنهم تبعتها؛ حتى لا يتعرضوا لشر هو أقدر منهم على الخلاص منه.
وكان من اعتداده بنفسه وحفاظه على كرامته بحيث لا يسمح لرئيس مهما علا منصبه وارتفع مكانه أن يجحد منزلته أو ينال منه أي نيل، وكان يسرف في ذلك إسرافا يدعو إلى الشك أحيانا في تواضع الرافعي وكرم خلقه وحسن تصرفه.
ومن ذلك أنه لما كان هذا المفتش يؤدي عمله في المحكمة - وعمله أن يحقق أخطاء الرافعي - كان الرافعي يلزم المفتش أحيانا أن يحضر هو نفسه إلى مكتبه في حجرته الغاصة بالموظفين ليسأله وهو جالس إلى مكتبه والمفتش واقف أو جالس على كرسيه إلى الطرف الثاني من المكتب، وكنت في إحدى هذه المرات جالسا إلى جانب الرافعي - وكان يستدنيني إليه ويشركني في عمله حين أذهب لزيارته في الديوان - فلما جاء المفتش هممت بالانصراف، فشد الرافعي ذراعي بعنف وهو يقول: اجلس يا أخي ... ووجه إليه المفتش سؤالا، فالتفت الرافعي إلي قائلا: «من فضلك، تول عني جوابه؛ فإنه في حاجة إلى معلم مثلك!»
لم يكن اعتداد الرافعي بنفسه يبلغ به مثل هذا الشذوذ في كل أحواله، وإنما كان كذلك مع هذا المفتش بخاصته، لأسباب يأتي تفصيلها.
وكان من تقاليد المحكمة كلما نقل إليها قاض أو نائب جديد، أن يهرع إلى مكتبه موظفو المحكمة يهنئونه ويتمنون له، ولكن الرافعي كان يتخلف عن وفد الموظفين ويظل وحده في مكتبه، فإذا فرغ القاضي أو النائب من استقبالهم مضى إلى مكتب الرافعي في حجرته، فيقفان لحظة يتبادلان الشكر والتهنئة على هذا الاتفاق الذي هيأ لهما هذا التعارف ... ثم يذهب إليه الرافعي بعد ذلك في مكتبه؛ ليشكر له ويكرر التهنئة.
Unknown page
حتى مدير المديرية - ومحكمة طنطا هي جزء من ديوان المديرية - لم تكن صلته بالرافعي صلة المدير الحاكم بموظف صغير، فكانت بين الرافعي وكثير من المديرين صلات من الود والصداقة فوق ما يعرف من الصلات بين الموظفين، ولكن منهم رجلا واحدا كان أقرب قرابة إلى الرافعي من أهله ومن خاصته ومن تلامذته ... وهو المرحوم «محمد محب باشا» أقدر مدير عرفته مديرية الغربية منذ كانت مديرية، وكان للصلة بين الرافعي ومحب باشا أثر كبير في أدبه سنتحدث عنه فيما بعد.
لم يكن للرافعي ميعاد محدود يذهب فيه إلى مكتبه أو يغادره، فأحيانا كان يذهب في التاسعة أو في العاشرة، أو فيما بين ذلك، فلا يجلس إلى مكتبه إلا ريثما يتم ما أمامه من عمل على الوجه الذي يرضيه، ثم يخرج فيدور على حاجته، فيجلس في هذا المتجر وقتا ما، وعند هذا الصديق وقتا آخر، ثم يعود إلى مكتبه قبيل ميعاد الانصراف؛ لينظر فيما اجتمع عليه من العمل في غيبته، وقد لا يعود ...
وكان هذا منه يغضب زملاءه في العمل، فكانوا ينفسون عليه ويأكلون لحمه، ويبلغه ما يتحدثون به فيهز كتفه ويسكت، ثم لا يمنعه ذلك من بعد أن يأخذ بيدهم عند الأزمة، وكان كتبة المحامين وأصحاب المصالح في المحكمة يسمونه بذلك عمدة المحكمة ...!
وحدث ذات مرة والرافعي في صدر شبابه، أن جاء إلى محكمة طنطا رئيس شديد الحول، فلما صعد إليه موظفو المحكمة للتهنئة، لم يجد بينهم الرافعي، فلما سأل عنه تحدث الموظفون في شأنه ما تحدثوا، فاستاء الرئيس وأرسل يدعوه إليه، فلم يجده الرسول في مكتبه، فغضب الرئيس وثارت ثائرته، وأمر باستجوابه عن الاستهانة بنظام المحكمة ومواعيد العمل الرسمي، وجاء الرافعي فبلغه ما كان، فهز منكبه وجلس إلى مكتبه يمزح ويتحدث على عادته كأن لم يحدث شيء، ورفع الرئيس كتابا إلى وزارة العدل يبلغها أن في محكمة طنطا كاتبا أطرش، لا يحسن التفاهم مع أصحاب المصالح، على شدة اتصال عمله بالجمهور، وهو مع ذلك كثير التهاون بنظام المحكمة ومواعيد العمل، ولا يخضع للرأي ... وطلب الرئيس في آخر كتابه إقالة الرافعي من الخدمة!
وأرسلت وزارة العدل مفتشها لتحقيق هذه الشكوى، ليري رأيه فيما طلبته محكمة طنطا، وكان المفتش المندوب لذلك هو الشاعر اللبق الظريف المرحوم حفني ناصف بك، ولم تكن بين الرافعي وحفني ناصف صلة ما إلي هذا الوقت، إلا ذلك النسب البعيد الذي يجمع بينهما في أسرة أبولون ... وإلا ... وإلا كلمة قاسية كان الرافعي كتبها بأسلوبه اللاذع عن «شعراء العصر» في سنة 1905 ونشرها في مجلة الثريا وجعل فيها حفني ناصف ذيل الشعراء ...
وجاء حفني ناصف إلى الرافعي فحيا وجلس، وبسط أوراقه ليحقق ... وقال الرافعي: «قل لهم في الوزارة: إن كانت وظيفتي هنا للعمل، فليؤاخذوني بالتقصير والخطأ فيما يسند إلي من عمل، وإن كانت الوظيفة: تعال في الساعة الثامنة، واجلس على الكرسي كأنك مشدود إليه بحبل حتى يحين موعد الانصراف، فلا علي إن تمردت على هذا التعبد ... قل لهم في الوزارة: إنكم لا تملكون من الرافعي إلا هاتين الإصبعين ساعات من النهار ...!»
واستمع الأديب الشاعر إلى حجة الأديب الشاعر ثم طوى أوراقه وحيا صاحبه ومضى، فلما كان في خلوته، كتب تقريره إلى وزارة العدل يقول: إن الرافعي ليس من طبقة الموظفين الذين تعنيهم الوزارة بهذه القيود ... إن للرافعي حقا على الأمة أن يعيش في أمن ودعة وحرية، إن فيه قناعة ورضى، وما كان هذا مكانه ولا موضعه لو لم يسكن إليه، دعوه يعيش كما يشتهي أن يعيش، واتركوه يعمل ويفتن ويبدع لهذه الأمة في آدابها ما يشاء أن يبدع، وإلا فاكفلوا له العيش الرخي في غير هذا المكان ...!
وبلغ التقرير وزارة العدل، وانطوت القضية، وصار تقليدا من تقاليد المحكمة من بعد أن يغدو الرافعي ويروح لا سلطان لأحد عليه وله الخيرة في أمره، ولكنه مع ذلك لم يهمل في واجبه قط، ولم ينس يوما واحدا أنه في موضعه ذلك بحيث يرتبط به كثير من مصالح الجمهور.
قلت: إن الرافعي لم تكن بينه وبين حفني ناصف صلة ما، ولكن حفني تولى القضاء بعد ذلك مرة أو مرتين في محكمة طنطا، فتقاربا وتوثقت بينهما أواصر الود، وكانت طنطا في ذلك الوقت حلبة من حلبات الشعر والأدب، فلا يمضي أسبوع حتى يقدم إليها أديب أو شاعر لزيارة الشاعرين: حفني والرافعي، فيقوم للشعر سوق ومهرجان، وكان بين الرافعي وحفني من التقارب في الصفات ما يؤكد هذه الصلة ويوثق هذا الود؛ فكلاهما شاعر، وكلاهما من دعاة القديم، وكلاهما أديب مرح يجيد الدعابة ويستجيد النكتة البكر، وإن كانت فكاهة حفني أظهر وأبعث على الضحك وتكشف عن فراغ القلب، وفكاهة الرافعي أعمق وأدل على قصد العبث والسخرية وامتلاء النفس، ولعل روح الفكاهة في الرافعي كان لها شأنها فيما كان بينه وبين المرحوم حافظ إبراهيم من صلة الود والإخاء.
حدثني المرحوم جورج إبراهيم - صديق الرافعي وصفيه منذ حداثته - قال: لقد كانت الصلة بين الرافعي وحفني أكثر مما يكون بين الأصدقاء، وكانا يتزاوران كثيرا، أو يجتمعان في قهوة «اللوفر» بميدان الساعة، وكنت أغشى مجلسهما أحيانا، فكنت أرى حفني يتواضع للرافعي ويتصاغر في مجلسه، على مقدار ما يتشامخ الرافعي ويتكبر ويدعي الأستاذية، حتى ليرى له الرأي في القضايا التي لم يدرسها حفني بعد، فلا يحكم فيها إلا بما حكم الرافعي!
Unknown page
ظل الرافعي في وظيفته تلك، موزع الجهد بين أعماله الرسمية وأعماله الأدبية، وما تقتضيه شئون الأدب وشئون رب الدار، على المورد المحدود والبساط الممدود ... وما زاد مرتب الرافعي الشاعر الكاتب الأديب الذائع الصيت في الشرق والغرب، الموظف الصغير في محكمة طنطا الكلية الأهلية، على بضعة وعشرين جنيها في الدرجة السادسة، بعد خدمة ثمان وثلاثين سنة في وظائف الحكومة ...
على أن الرافعي كان له مرتب آخر من عمله في المحكمة، هو ثمن ما كان يبيع من كتبه للموظفين والمحامين وأصحاب القضايا الذين يقصدون إليه في مكتبه لعمل رسمي، وكانت ضريبة فرضها الرافعي من طريق الحق الذي يدعيه كل شاعر على الناس، أو فرضها أصحاب الحاجات على أنفسهم التماسا لرضاه!
ليت شعري! أكان على الرافعي ملام أو معتبة أن يفعل ذلك ...؟
شاعر الحسن
كلف الرافعي بالشعر من أول نشأته، فما كان له هوى إلا أن يكون شاعرا كبعض من يعرف من شعراء العربية، أو خيرا ممن يعرف من شعراء العربية ... وكان واسع الأمل، كبير الثقة، عظيم الطموح، كثير الاعتداد بالنفس، فمن ثم نشأ حبارا عريض الدعوى طويل اللسان من أول يوم ... وبهذه الكبرياء الأدبية الطاغية، وبما فيه من الاستعداد الأدبي الكبير، وبما في أعصابه من دقة الحس وسرعة الاستجابة لما تنفعل به؛ بكل أولئك تهيأ لأن يكون كما أراد، وأن يبلغ بنفسه هذا المكان بين أدباء العربية.
وإذا كان الرافعي قد بدأ شاعرا كما أراد، فما كانت له خيرة في المذهب الذي آل إليه من بعد، ولكنها نوازع الوراثة، وعوامل البيئة، ودوافع الحياة التي كانت تضطرب به وتذهب به مذاهبها.
لم يكن الرافعي يقدر في أيام نشأته الأولى أنه سينتهي من الأدب إلى هذه الغاية، وأن الحياة سترده من الهدف الذي يسعى إليه في إمارة الشعر إلى هذا الهدف الذي انتهى إليه في ديوان الأدب والإنشاء، وما كان أحد من خاصته وأصدقائه ليعرف أن الرافعي الشاعر الشاب الذي توزعته الصبابة، وفتنته الحياة، وتقاسمته لذات الصبا، وتعناه الهوى، وتصباه الحب والشعر والشباب، سيكون مكانه في غده هذا المكان في الدفاع عن الدين والذود عن العربية والصيال في سبيل الله، وما كان هو يأمل في مستقبله إلا أن يكون شاعرا تصير إليه في إمارة الشعر منزلة تخمل ذكر فلان وفلان من شعراء عصره.
ومضى الرافعي يسعى إلى غايته في الشعر وقد تزود زاده من الأدب القديم، ووعى ما وعى من تراث شعراء العربية، وكان أمامه مثلان من شعراء عصره يمتد إليهما طرفه ويتعلق بهما أمله، هما: البارودي، وحافظ. أما أولهما فكانت له زعامة الشعر، على مفرقة تاجه وفي يده صولجانه، قد قوي واستحصد واستوى على عرشه بعد جهاد السنين ومكابدة الأيام، وأما الثاني فكان في الشباب والحداثة، وكان جديدا في السوق، قد فتنته الشهرة وفتنت به من حوله، فأخذ الرافعي ينظر إليه وإلى نفسه، ويوازن بين حال وحال، ويقايس بين شعر وشعر، فقر في نفسه أنه هو وهو ... وأنهما في منزلة سواء، وأنه مستطيع أن يبلغ مبلغه ويصير إلى مكانه إذا أراد، فسار على سنته وجرى في ميدانه، لا يكاد حافظ يقول: أنا ... حتى يقول الرافعي: أنا وأنت ... وما فاته أن حافظا يغالبه بالشهرة السابقة، ويطاوله بالجاه والأنصار، ويفاخره بمكانته من الأستاذ الإمام، وبمنزلته عند البارودي زعيم الشعراء، وبحظوته عند الشعب، فراح الرافعي يستكمل أسباب الكفاح ويستتم النقص، فأكد صلته بالبارودي، وعقد آصرة بينه وبين الأستاذ الإمام، ومضى يتحدث في المجالس وينشر في الصحف، ويذيع اسمه بين الناس، وانتهز نهزة فذهب يستطيل بأنه «شاعر الحسن» وبأن حافظا لا يقول في الغزل والنسيب ...!
كانت المنافسة بينه وبين حافظ منافسة مؤدبة كريمة، لم تعكر ما بينهما من صفو المودات، ولم تجن على صداقتهما القوية، فظل الرافعي وحافظ صديقين حميمين، منذ تعارفا في سنة 1900 إلى أن قضى حافظ - رحمه الله - في سنة 1932.
ليس من همي أن أتحدث عن شعر الشاعرين، أو أقايس بين فن وفن، وشاعرية وشاعرية، فقد يبدو لي هنا بعد ما بين المنزلتين في الموازنة بين الرافعي وحافظ في الشعر، وما يهمني في هذا الحديث إلا إثبات الصلة بين الرجلين، فمن أراد شيئا وراء هذا فسيجد فيما أثبته هنا مقدمات البحث وهيكل البناء. •••
Unknown page
في إبان هذه المعركة الصامتة بين الرافعي وحافظ، قدم إلى مصر شاعر كبير لم يكن الرافعي يعرفه أو يسمع به أو قرأ شيئا من شعره، ذلك هو شاعر العراق الكبير المرحوم عبد المحسن الكاظمي، ونشرت له الصحف غداة مقدمه قصيدة عينية من بحر الطويل، قرأها الرافعي فاستجادها ورأى فيها فنا ليس من فن الشعراء المعاصرين الذين قرأ لهم، فملكت نفسه وبلغت منه مبلغا، وقرر لساعته أن يسعى إلى التعرف به؛ ليصل به حبله ويقتبس من أدبه، وكان الرافعي يومئذ كاتبا بمحكمة طلخا، ففارق عمله بغير إجازة، وسعى إلى لقاء الكاظمي في القاهرة وهو يمني نفسه بأن يكون بينهما من الود ما يرفع من شأن الرافعي ويجدي على أدبه، وكان في الكاظمي - رحمه الله - أنفة وكبر ... فأبى على الرافعي أن يلقاه ورده ردا غير جميل؛ إذ كان الرافعي يومئذ نكرة في الأدباء، وكان الكاظمي ما كان في علمه وأدبه وشهرته وكبريائه، مع خلته وفقره، واصطدمت كبرياء بكبرياء، وثار دم الرافعي وغلى غليانه، فذهب من فوره فأنشأ مقالة - أو قصيدة، لا أذكر - نال فيها من الكاظمي ما استطاع أن ينال بذمه والزراية عليه والغض من مكانته، وما كان الرافعي مؤمنا بما كتب، ولكنه قصد أن يلفت الشاعر إليه بالإنذار والتخويف، بعد ما عجز أن يبلغ إليه بالزلفى والكرامة.
وفعلت هذه الكلمة فعلها في التقريب بين الأديبين، فاتصل الرافعي بالكاظمي وصفا ما بينهما وأخلصا في الوداد والحب حتى لم يكن بينهما حجاب، وحتى صار الرافعي أصفى أصفياء الكاظمي، وصار الكاظمي أشعر الشعراء المعاصرين عند الرافعي، ثم ارتفعت الصلة بينهما عما يكون بين التلميذ والأستاذ، وتصادقا صداقة النظراء، حتى إنه لما هم الكاظمي أن يسافر إلى الأندلس في سنة 1905، كتب كتابا إلى الرافعي يقول فيه: ... ثق أني أسافر مطمئنا وأنت بقيتي في مصر.
هؤلاء الثلاثة: البارودي، وحافظ، والكاظمي، هم كل من أعرف ممن تأثر بهم الرافعي من شعراء عصره، أما شوقي، وصبري، ومطران، وغيرهم ممن نشئوا مع الرافعي في جيل واحد، فلا أعرف بينه وبين أحد منهم صلة تمتد إلى أيامه الأولى، وما سمعت منه - رحمه الله - حديثا يشعر بصلة خاصة كانت تربطه بواحد منهم في حداثته، فلعل عند غيري من أهل الأدب علما من العلم يكمل هذا النقص ويسد هذه الخلة. •••
بدأ الرافعي يقول الشعر ولما يبلغ العشرين من عمره، ينشره في الصحف وفي مجلات السوريين التي تصدر في مصر، وكانت المجلات الأدبية كلها إلى ذلك الوقت في أيديهم، فمجلة الضياء، والبيان، والثريا، والزهراء، والمقتطف، وسركيس، والهلال، وغيرها، كان يقوم عليها كلها جماعة من أدباء سورية: كالبستاني، واليازجي، وصروف، وجورج زيدان، وسليم سركيس، وغيرهم، وكانت إليهم الزعامة الأدبية في اللغة والأدب الوصفي والتاريخ، أما أدب الإنشاء فكان قسمة بينهم وبين أدباء مصر.
والآن أدع لصديقي الأديب المرحوم جورج إبراهيم حنا أن يتحدث عن الرافعي في أول عهده بالشعر، قال: «بدأت صلتي بالمرحوم الرافعي قريبا من سنة 1900، كنت يومئذ أقول الشعر، وكان اسمي معروفا لقراء مجلة الثريا، ولم أكن أعرف الرافعي أو أسمع به، وكان لأخيه الوجيه سعيد الرافعي متجر في شارع الخان بطنطا، يستورد إليه النقل والفواكه الجافة من الشام، وكنت زبونه، فذهبت يوما أشتري شيئا من فاكهة الشام؛ إذ كان له بها شهرة، فلما صرت إليه، لقيت هناك فتى نحيلا في العشرين من عمره، يلبس جلبابا، جالسا إلى مكتب في المتجر قريب من الباب، فما رآني الفتى حتى ناداني فدعاني إلى الجلوس، ثم قال لي: أتعرف أني شاعر؟ قلت: لا، لست أعرف، قال: أنا مصطفى صادق الرافعي، وهذه الكراسات كلها من شعري، وعرض علي بضعة دفاتر كانت على المكتب، ثم استأنف قائلا: ولكنه شعر الحداثة فهو لا يعجبني، سأختار أجوده وأمزق الباقي، وسأطبع ديواني بعد قليل فتعرفني ...!»
قال: «وعرفت الرافعي من يومئذ، وقويت بيننا الصلة حتى صرت أدنى أصدقائه إليه، يقرأ علي شعره، ويستمع إلى رأيي فيه، ويستشيرني في أمره، وقد كان أوله كآخره، فما لبثت حتى أعجبت به وأحللته من نفسي أرفع محل من الحب والتقدير.» •••
ظل الرافعي يقول الشعر لنفسه، أو ينشر منه في المجلات الأدبية، أو يقرؤه على أصدقائه، وأصدقاؤه يومئذ صفوة من شباب السوريين في طنطا، منهم: الأديب جورج إبراهيم، والصيدليان: نسيم يارد، وإلياس عجان، والطبيب تودري: وكانوا يتخذون مجلسهم عادة في وقت الفراغ في صيدلية «كوكب الشرق» بطنطا.
فلما كانت سنة 1903، وعمر الرافعي يومئذ ثلاث وعشرون سنة، نشر حافظ إبراهيم ديوانه، وقدم له بمقدمة بليغة كانت حديث الأدباء في حينها، وطال حولها الجدل حتى نسبها بعضهم إلى المويلحي، واستقبل الأدباء ديوان حافظ ومقدمة ديوانه استقبالا رائعا، وعقدوا له أكاليل الثناء، والرافعي غيور شموس، فما هو إلا أن رأى ما رأى حتى عقد العزم على إصدار ديوانه، وما دام حافظ قد صدر ديوانه بهذه المقدمة التي أحدثت كل هذا الدوي، فإن على الرافعي أن يحاول جهده ليبلغ بديوانه ما بلغ حافظ، وإن عليه أن يحمل الأدباء على أن ينسوا بمقدمته مقدمة ديوان حافظ!
وصدر الجزء الأول من ديوان الرافعي في الموعد الذي أراد بعيد ديوان حافظ بقليل، وقدم له بمقدمة بارعة فصل فيها معنى الشعر، وفنونه ومذاهبه وأوليته، وهي - وإن كانت أول ما نعرف مما كتب الرافعي - تدل بمعناها ومبناها على أن ذلك الشاب النحيل الضاوي الجسد، كان يعرف أين موضعه بين أدباء العربية في غد، وإذا كانت مقدمة ديوان حافظ قد ثار حولها من الجدل ما حمل بعض الأدباء على نسبتها إلى المويلحي، فقد حملت هذه المقدمة الأديب الناقد الكبير الشيخ إبراهيم اليازجي على الشك في أن يكون كاتبها من ذلك العصر، مما يخادع نفسه في قدرة الرافعي على كتابتها.
قال الأستاذ جورج إبراهيم: «لما هم الرافعي أن يكتب مقدمة ديوانه، جاء إلي في جلبابه والحر شديد، فحدثني من حديثه، ثم سألني أن أهيئ له مكانا رطبا يجلس فيه ليكتب المقدمة، فجلس في غرفة من الدار، ثم تخفف من لباسه ... واقتعد البلاط بلا فرش، وبسط أوراقه على الأرض وتهيأ للكتابة، فحذرته أن تنال منه رطوبة البلاط في مجلسه الطويل، فقال: لا عليك يا جورج، إني لأحب أن أحس الرطوبة من تحتي ... فينشط رأسي ... ثم استمر في مجلسه يكتب وليس معه ولا حواليه من وسائل العلم إلا قلمه وأوراقه، حتى فرغ من المقدمة في ساعات ...»
Unknown page
قال: «فلما تم طبع الديوان أهدى نسخة منه فيما أهدى إلى العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي، والشيخ اليازجي يومئذ أديب العصر وأبلغ منشئ في العالم العربي، وكان الرافعي حريصا على أن يسمع رأي اليازجي في شعره وأدبه، ومضى زمان ولم يكتب اليازجي، على حين تناولت كل الصحف والمجلات ديوان الرافعي ومقدمته بالنقد أو التقريظ، واحتفل به «المؤيد» احتفالا كبيرا فنشر مقدمته في صدره، والمؤيد يومئذ جريدة العالم العربي كله.»
قال: «واستعجبت أن يهمل أستاذنا اليازجي هذا الديوان فلا يكتب عنه، واغتم الرافعي غما شديدا؛ إذ كان كل ما يكتب الأدباء في النقد لا يغني عن كلمة يقولها اليازجي، فذهبت أسأله، فقال لي: أنت على ثقة أن هذه المقدمة من إنشاء الرافعي؟ قلت: هو كتبها بعيني فما أشك في ذلك، قال اليازجي: وأنا ما أبطأت في الكتابة عن الديوان إلا من الشك في قدرة هذا الشيخ على إنشاء مثل هذه المقدمة، فأنا منذ أسبوعين أبحث عنها في مظانها من كتب العربية ... قلت: يا سيدي، إنه ليس بشيخ، إنه فتى لم يبلغ الثالثة والعشرين ...»
وكتب اليازحي بعد ذلك في عدد يونيو سنة 1903 من مجلة الضياء في تقريظ الجزء الأول من ديوان الرافعي ما يأتي: ... وقد صدره الناظم بمقدمة طويلة في تعريف الشعر، ذهب فيها مذهبا عزيزا في البلاغة، وتبسط ما شاء في وصف الشعر وتقسيمه وبيان مزيته، في كلام تضمن من فنون المجاز وضروب الخيال ما إذا تدبرته وجدته هو الشعر بعينه ...
ثم انتقد اليازجي بعض ألفاظ في الديوان، وعقب عليها بقوله: «... على أن هذا لا ينزل من قدر الديوان وإن كان يستحب أن يخلو منه؛ لأن المرآة النقية لا تستر أدنى غبار، ومن كملت محاسنه ظهر في جنبها أقل العيوب، وما انتقدنا هذه المواضع إلا ضنا بمثل هذا النظم أن تتعلق به هذه الشوائب، ورجاء أن يتنبه إلى مثلها في المنتظر، فإن الناظم كما بلغنا لم يتجاوز الثالثة والعشرين من سنيه، ولا ريب أن من أدرك هذه المنزلة في مثل هذه السن، سيكون من الأفراد المجلين في هذا العصر، وممن سيحلون جيد البلاغة بقلائد النظم والنثر.»
1
بلغ الرافعي بالجزء الأول من ديوانه مبلغه الذي أراد، واستطاع بغير عناء كبير أن يلفت إليه أنظار أدباء عصره ، ثم استمر على دأبه ، فأصدر في سنة 1904 الجزء الثاني من الديوان، وفي سنة 1906 أخرج الجزء الثالث، وفي سنة 1908 الجزء الأول من ديوان النظرات، ومضى على سنته، معنيا بالشعر، متصرفا في فنونه، ذاهبا فيه مذاهبه، لا يرى له هدفا إلا أن يبلغ منزلة من الشعر تخلد اسمه بين الشعراء العربية.
وتألق نجم الرافعي الشاعر، وبرز اسمه بين عشرات الأسماء من شعراء عصره براقا تلتمع أضواؤه وترمى أشعتها إلى بعيد، ولقي من حفاوة الأدباء ما لم يلقه إلا الأقلون من أدباء هذه الأمة، فكتب إليه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده يقول: «... أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفا يمحق به الباطل، وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان في الأوائل.»
وكتب المرحوم الزعيم مصطفى كامل باشا يقول: «... وسيأتي يوم إذا ذكر فيه الرافعي، قال الناس: هو الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالب من البيان.»
وكتب حافظ، وقال البارودي، ونظم الكاظمي، وتحدث الأدباء والشعراء ما تحدثوا عن الرافعي الشاعر، وظل هو على مذهبه ذاك حتى سنة 1911، ثم تطورت به الحياة، وانفعلت أعصابه بأحداث الأيام، فانحرف عن الهدف الذي كان يرمي إليه من الشعر، وتوجه وجهة جديدة في الأدب سنتحدث عنها بعد.
ليس كل شعر الرافعي في دواوينه، وليس كل ما في دواوينه يدل على فنه وشاعريته، فالجيد الذي لم ينشر من شعر الرافعي أكثر مما نشر، وقد كان في نية الرافعي لو أمهلته المنية أن يتبرع لشعراء اليوم بأكثر ما في دواوينه، ثم يخرج منها ومما لم ينشر ديوانا واحدا مهذبا مصقولا، ليقدمه هدية منتقاة إلى الأدباء والمتأدبين، ولكن الموت غاله فبطل أمله وبقي عمله تراثا باقيا لمن يشاء أن يسدي يدا إلى العربية يتم بها صنيع الرافعي.
Unknown page