وكان فحوى مقال النديم أننا نطلب الاستقلال، وندعي أننا والأوروبيين أشباه وأمثال، ولكن الأوروبيين ينكرون هذه الدعوى، ولا يكلفون أنفسهم غير دليل واحد يثبتون به الفارق البعيد بيننا وبينهم، فإذا قلنا لهم: نحن مثلكم قالوا لنا: تلك دعواكم، ولو كنتم مثلنا لفعلتم مثلنا ...
واستغرقت مقالة النديم أكثر من عشرين صفحة ختمها بقوله:
إن آخر الدواء الكي وقد بلغ السيل الزبى، فإن رفأنا هذا الخرق وشددنا أزر بعضنا ... أمكننا أن نقول لأوروبا: نحن نحن وأنتم أنتم، وإن بقينا على هذا التضاد والتخاذل واللياذ بالأجانب فريقا بعد فريق، حق لأوروبا أن تطردنا من بلادنا إلى رءوس الجبال؛ لتلحقنا بالبهيم الوحشي وتصدق في قولها: لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا.
وتناولت في مقالي فقرات النديم واحدة واحدة بردود لا أذكرها الآن، ولكني أذكر منها ما يدل عليه العنوان، وفحواه أننا - نحن الشرقيين - لو كنا مثلكم - أيها الغربيون - فاتحين منتصرين لما فعلنا فعلكم من نهب الأموال، واستباحة الحقوق وافتراء الأكاذيب والتعلل بالمواعيد، ولكننا لسنا مثلكم ولا نريد أن نفعل فعلكم، وسترون فعلنا عما قريب ...
ثم أصدرت من صحيفة التلميذ المخطوطة بضعة أعداد لم يكن لها من قراء غير زملائي في المدرسة، وأقاربي المشجعين أو المتندرين المتفكهين، ولم يكن لها من اشتراك غير تعب النسخ لمن يراها مستحقة لهذا الثمن ...
عادة ... من أيامها!
إخالني الآن على حق إذا قلت: إن هذا السر - سر دولاب المنظرة - هو كذلك سر الاتجاه الأول عندي إلى صناعة القلم، ويؤيد هذا الظن الراجح أنني تعودت من أيامها عادة لم تفارقني إلى اليوم في تجهيز ورق الكتابة الصحفية بصفة خاصة ... فهذه الورقة التي أكتب عليها الآن مقصوصة على النحو الذي اخترته لصفحات مجلة «التلميذ» ... ومتى كتبتها طويتها طولا كما تطوى المجلة، ووضعتها في غلاف مستطيل كالغلاف الذي توضع فيه المجلات، وقد اتخذت من هذه الأوراق ومن ذلك الغلاف ذخيرة حاضرة أوصي بصنعها إذا نفدت من السوق، كما تنفد أحيانا في بعض أيام الحروب العالمية. •••
وعلى هذا النحو من التخمين نعرف أنفسنا باحثين مترددين، قبل أن نصل إلى اليقين، إن وصلنا إلى يقين ...
لكنني لا تفوتني كلمة سمعتها من صديق كان يناقشني كلما تساءلت عن سر اتجاهي إلى صناعة القلم، فيقول: وهل من حاجة إلى البحث عن سر لهذا الاتجاه؟ ألا يكفي أنك أنست من نفسك القدرة على الكتابة، فاتجهت إلى صناعة الكتابة؟ ...
ولست على رأي الصديق في هذا التعليل لاتجاهاتنا النفسية، فإن الملكة النفسية تخلق فينا قبل أن تخلق لها أدواتها، وربما كانت سهولة الكتابة عندي نتيجة مستفادة من سهولة القراءة، ولم أكن قارئا إلا لأنني سأكون كاتبا يوما من الأيام متى تيسرت الأداة.
Unknown page